You are on page 1of 3

‫التدخين مرض‪ ...

‬و المدخن مصاب‬

‫الدكتور محمد عزام فريد سخيطة‬


‫‪Dr. Mohamad Azzam F. Sekheta‬‬

‫الباحث الدولي في االعتماد النفاسي والسلوكي‬


‫عضو مجلس إدارة الجمعية الخيرية لمعالجة األمراض النفسية و اإلدمان )االعتماد( بحلب‬

‫أما آن األوان أن تتغير الصورة السلوكية "النمطية" عن‪ ‬الشخص الذي يسير حامالً سيجارته يدخنھا بشراھة في‬
‫كل مكان‪ ،‬غير مكترث بأبسط القواعد و المفاھيم الصحية و السلوكية و االجتماعية السائدة في ھذا البلد‬
‫الحضاري العريق‪ .‬إلى متى سنشاھد المقاھي و المطاعم و الشوارع و الساحات العامة في محيط البلدات و‬
‫المدن السورية تعج بالفتيات و الشبان و ھم يدخنون المعسَّل و التبغ في أجواء ضبابية عطرة‪.‬‬
‫يبدو لي وكأن الكثير من المفاھيم الشائعة بين العامة حول التدخين و المخاطر الناجمة عنه ھي في معظمھا‬
‫مفاھيم مغلوطة و بعيدة كل البعد عن آخر مستجدات العلم في ھذا المجال و ھذا في رأيي يعود إلى سببين‬
‫أساسيين‪ :‬األول و يعود إلى غياب التوعية و اإلرشاد الكافيين لتحذير المدخنين بشكل منھجي من المخاطر‬
‫المستجدة كتلك الناجمة عن استخدام الوسائل الحديثة في زراعة التبغ و ما يرافقھا من استخدام للمبيدات و‬
‫األسمدة التي تترك بقاياھا على أوراق التبغ ناھيكم عن استخدام المواد المختلفة األخرى التي على الرغم من‬
‫شدة خطورة بعضھا إال أنھا تستخدم لغايات ترويجية بحتة‪ .‬و لعل السبب الثاني ال يقل خطورة عن األول و‬
‫يكمن في الدعاية المكثفة ‪ ‬من قبل الشركات المصنعة للتبغ والتي ما لبثت تروج آلفة التدخين بشتى الوسائل‬
‫ضاربة عرض الحائط بصحة الناس و البيئة و المجتمع سعيا منھا وراء الربح وال شيء سواه‪ .‬صحيح أن‬
‫شركات التبغ تتحدث دائما عن "حرية االختيار" بالنسبة للبالغين‪ ،‬لكنھا تتناسى أنھا تبيع مادة مخدرة قوامھا‬
‫النيكوتين وأن الناس يستھلكونھا ألنھم مدمنون عليھا وليس ألنھم راغبون في ذلك‪.‬‬
‫ھناك الكثير من المخاطر المتعلقة بالتدخين و التي باتت معروفة لدى الكثيرين و مع ذلك تجد القلة القليلة تنجح‬
‫في اإلقالع عنه و ذلك بسبب المفاھيم المغلوطة السائدة حول التدخين و الدخان و التي أرى أنه من واجبنا‬
‫كبحاثة و عاملين في مجال معالجة اإلدمان المرضي السلوكي ضرورة إيضاحھا و شرح ما طرأ من جديد في‬
‫ھذا المجال كي يدركھا الناس و نبدأ سويا بعالج ھذه اآلفة‪ .‬لعل أبرز المستجدات ھي‪  :‬‬
‫أن تعاطي التدخين لم يعد مجرد عادة أو إدمان بل بات يعتبر اليوم مرضا و ذلك وفقا للتصنيف‬ ‫‪-‬‬
‫العالمي لألمراض ‪ ‬المعتمد من ‪ ‬قبل منظمة الصحة العالمية ‪ICD‐10  /  WHO ‬حيث يصنف مرض‬
‫تعاطي التبغ تحت الرمز )الكود( رقم‪ Z72.0 :‬من الفصل الخامس المتعلق باالضطرابات العقلية و‬
‫السلوكية الناجمة عن استخدام مواد ذات تأثير نفاسي‪  .‬كما ت َّم تصنيف األمراض الناجمة عن استخدام‬
‫التبغ و النيكوتين تحت الرمز )الكود( رقم‪ T65.2 :‬من الفصل التاسع عشر‪.‬‬
‫أما الدخان المستنشق من ‪ ‬السجائر و األركيلة و "أخواتھما"‪ ،‬فقد أصبح يعتبر من العقاقير الكيميائية‬ ‫‪-‬‬
‫السامة يؤثر سلبا على سالمة و صحة المصاب بداء التدخين و له أعراضه المباشرة وأعراضه‬
‫الجانبية وله ‪ ‬مضاعفاته المختلفة قريبة األجل وبعيدة األجل كما ھو الحال مع معظم العقاقير الكيميائية‬
‫األخرى‪ .‬ليس ھذا فحسب‪ ،‬إذ أن ھذه المخاطر تؤثر سلبا على كل من‪ ‬ھم حول المدخن المصاب أيضا‬
‫أي أولئك ممن يسمون بالمدخنين الثانويين )السلبيين(‪.‬‬
‫يعتبر ھذا المرض سببا رئيسيا في اضطرابات النوم كما أنه يزيد من حدة الشخير عند المصابين‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يعتبر مرض التدخين بمثابة البوابة التي تقود ‪ ‬إلى المزيد من اإلدمان لمواد أخرى مثل المشروبات‬ ‫‪-‬‬
‫الكحولية والمخدرات‪.‬‬
‫لقد برھنا في األبحاث التي قمنا بھا في الثمانينيات من القرن المنصرم في مص ّح معالجة اإلدمان‬ ‫‪-‬‬
‫بضاحية "الديدينيا" في مدينة بلغراد على أن مادة النيكوتين في تبغ السجائر و األركيلة ال تقل في ‪ ‬‬
‫قدرتھا على اإلصابة باإلدمان عن الكوكايين والھيروين و المورفين و الكودئين‪ .‬و ھذا ما جعلنا نفھم‬
‫سبب صعوبة التعافي من مرض التدخين متمثلة باإلقالع عند الكثير من المصابين‪.‬‬
‫أكثر من ‪ ٩٠‬نوع من منتجات التبغ الموجودة في األسواق العالمية وخصوصا المھربة منھا ال تحمل‬ ‫‪-‬‬
‫معلومات دقيقة عن محتويات العبوات من التبغ و السجائر‪ .‬كما ال يكاد يخلو المعسَّل مھما كان نوعه‬
‫من مادة النيكوتين التي تحقن بداخله حتى و لو كتب على بعض ھذه المنتجات بأنھا خالية من‬
‫النيكوتين‪.‬‬
‫السجائر الحلوة و الخفيفة و المنكھة بالمنثول و النعنع و التبغ المعطر و المعسَّل بأنواعه العطرة و‬ ‫‪-‬‬
‫السجائر "البيئية" و غيرھا ما ھي في واقع األمر إال أوھام يقصد بھا الترويج غير المباشر ألدوات‬
‫القتل ھذه و اإلمعان في ترسيخ ھذا المرض عند أوسع شريحة ممكنة‪.‬‬
‫مرض التدخين ھو المسبب الرئيسي لسرطان ‪ ‬الرئة والفم والمري والمعدة واألمعاء الغليظة‬ ‫‪-‬‬
‫والبنكرياس والمثانة والرحم وبعض‪ ‬أنواع سرطان الدم‪.‬‬
‫كما انه مسبّب رئيسي لإلصابة بالتھابات الشعب الھوائية‪ ‬المزمنة‪ ،‬وأمراض القلب والشرايين‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يشوه األسنان و يفقد البشرة نضارتھا و حيويتھا بحيث تبدو ھرمة و كثيرة التجاعيد‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يزيد من ھشاشة العظام )الترقق( و يبطئ تعافي الكسور عند المصابين بنسبة ‪ %٧٠‬تقريبا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تبين الدراسات بأن التدخين يقصر من عمر المصاب بحيث أن أعمار المرضى تقل في المعدل بنحو‬ ‫‪-‬‬
‫‪ ١٠‬سنوات عن أعمار نظرائھم من األصحاء غير‪ ‬المدخنين‪.‬‬
‫ّ‬
‫تعتبر آفة التدخين من أھم األمراض المؤدية للموت المفاجئ أو المبكر‪ .‬و يعتبر الدخان بمثابة القاتل‬ ‫‪-‬‬
‫المتربص الذي يفتك بأرواح البشر بمعدل ضحية كل ستة ثوان أو ما يعادل الخمسة ماليين ضحية‬
‫سنويا‪.‬‬
‫ھناك تأثير قوي آلفة التدخين عند األم الحامل على سالمة نمو الجنين كما أنه سبب للوفاة المفاجئة‬ ‫‪-‬‬
‫للخ َّدج و الرضَّع‪ .‬كما أنَّ الحوامل المصابات ينجبن أطفاال أقل ذكاء‪ ، ‬لما للدخان من تأثير على الخاليا‬
‫الدماغية عند األطفال بحيث يمكن أن يكون سببا في تخلفھم عن أقرانھم في الدراسة و االستيعاب في‬
‫المراحل‬ ‫‪http://www.aljazeera.net/news/archive/archive?ArchiveId=110675‬‬
‫الدراسية الحقا‪  .‬‬
‫لقد برھنت الدراسات التجريبية التي قمنا بھا على أن الطفل الذي يولد و يعيش في بيت فيه أحد‬ ‫‪-‬‬
‫األبوين مصابا‪ ،‬يستنشق على اقل تقدير دخان ما يقارب الـ ‪ ٣٠٠٠‬سيجارة و ذلك حتى بلوغه السابعة‬
‫من عمره‪ .‬ال شك فإن ھذا الرقم يتضاعف فيما لو ازداد عدد المصابين القاطنين في نفس البيت أو‬
‫حين يكون البيت صغيرا و غير مستوف للشروط الصحية‪ .‬‬
‫توصل الباحثون إلى ربط مادة النيكوتين باالنقباضات المعوية المؤلمة )مغص األطفال الرضع( التي‬ ‫‪-‬‬
‫يعاني منھا‪ ‬قرابة ‪ %٢٠‬من الرضع وحديثي الوالدة‪ ،‬ممن ولدوا ألمھات مدخنات‪  .‬‬
‫يعتبر التدخين السلبي بدخان السجائر و األركيلة أكثر خطورة على األصحاء غير المدخنين بحيث‬ ‫‪-‬‬
‫تكون اآلثار‪ ‬السلبية للنيكوتين أكثر حدة عليھم‪ ،‬كما أنھم يصابون بالتھيج‪ ‬في العينين واألنف بشكل أكبر‬
‫من األشخاص المصابين‪. ‬‬
‫إن اإلدعاء بأن التدخين يساعد المصاب على التركيز و إيجاد الحلول أو في الترويح عن النفس ما‬ ‫‪-‬‬
‫ھي إال مجرد أوھام و الحقيقة أن التدخين يزيد الطين بلَّة و يترك آثارا نفسية و سلوكية سلبية على‬
‫المصاب بحيث يزيد من التوتر النفسي و الضيق مع نقص األكسجين و زيادة غاز الكربون المنحل في‬
‫الدم‪.‬‬
‫ً‬
‫تد َّل األبحاث على وجود عالقة بين المصابين الذين يدخنون يوميا واإلقبال على سلوكيات ‪ ‬االنتحار‬ ‫‪-‬‬
‫لديھم في حين لم تظھر مثل ھذه العالقة عند المدخنين السابقين الذين تعافوا من ھذا المرض‪.‬‬
‫المصابون أكثر عرضة لفقدان البصر في مرحلة متقدمة من العمر بمقدار الضعف عن نظرائھم من‬ ‫‪-‬‬
‫األصحاء‪.‬‬
‫أكدت الدراسات على زيادة نسبة العقم بين المصابات و زيادة نسبة اإلجھاض المبكر بنسبة أكبر من‬ ‫‪-‬‬
‫‪ %٤٠‬بين الحوامل المصابات و زيادة في حاالت نزيف ما قبل الوالدة باإلضافة إلى انخفاض تدفق‬
‫الدم بدرجة ملموسة في الجنين أثناء تدخين األم الحامل‪.‬‬
‫لقد وجدنا أن أكثر من ‪ %٧٠‬من المصابين يرغبون في اإلقالع عن التدخين إال أن الكثير منھم يعجز‬ ‫‪-‬‬
‫عن تحقيق ذلك من المحاولة األولى‪ ،‬كان البعض يقلع لفترة معينة قد تطول أو تقصر ليعودوا بعدھا‬
‫محبطين للتدخين‪ ‬ثانية و بكميات غالبا ما تكون أكبر من السابق‪.‬‬
‫الالفت لالنتباه ھو أن المصابين الذين ينجحون في اإلقالع عن التدخين من أول محاولة ودون‬ ‫‪-‬‬
‫مساعدة ‪ ‬طبية أو اجتماعية ھم و لألسف قلة قليلة‪ ...‬كل ھذه الحقائق جعلتنا نفكر في ضرورة تصنيف‬
‫المصابين ضمن شرائح متباينة و تمييزھم بشكل نتعامل فيه مع كل شريحة بالسبل المناسبة بما يضمن‬
‫تحقيق أفضل النتائج في مساعدتھم على التعافي و اإلقالع عن التدخين‪.‬‬
‫‪ -‬أھم الشرائح ھي‪ -١ :‬األصحاء من المدخنين الثانويين )التدخين السلبي(‪ -٢ ،‬المصابون من األطفال‬
‫والمراھقين دون سنّ الـ ‪ ١٥‬عام‪ -٣ ،‬المصابون من الشباب و متوسطي العمر‪ -٤ ،‬المصابون من‬
‫كبار السن و الكھول‪ -٥ ،‬المصابون "المكتومون" )الذين ال يعترفون بأنھم مدخنين أو يخفون ذلك‬
‫ألسباب تتعلق بھم( و غيرھا‪.‬‬
‫ليس ھذا فحسب‪ ،‬بل إن لمرض التدخين أبعاداً اقتصادية وتنموية وصحية وأخالقية واجتماعية ‪ ‬ونفسية‪ ،‬وال‬
‫يمكن فصل ھذه األبعاد بعضھا عن البعض اآلخر وذلك بسبب التداخل الوثيق ‪ ‬بينھا‪ .‬ومن ھنا ال بد من أن‬
‫تتضافر الجھود المكثفة للوزارات المختلفة المعنية بالتنسيق مع مثيالتھا من الدول المحيطة و بعض المنظمات‬
‫الدولية و على رأسھا منظمة الصحة العالمية ‪ WHO‬مستفيدين من تجارب اآلخرين في دول الجوار وأماكن‬
‫أخرى من العالم‪ .‬إن تجنيد جيش كامل من الخبراء و األطباء المحليين من مختلف االختصاصات و عقد‬
‫الندوات و المؤتمرات و تدريب الكوادر و إصدار ما يلزم من تشريعات كتلك التي تسھل أعمال الترخيص‬
‫للعيادات التخصصية لإلقالع و توفير العقاقير المستخدمة في ھذا المجال ھي من األمور الملحة التي ال يمكن‬
‫بدونھا تحقيق النجاح إلدارة ھذه األزمة التي يمر بھا قطاع واسع من الشرائح الھامة في المجتمع السوري و‬
‫التي تحمل في طياتھا الكثير من المخاطر المتربصة باألجيال اليافعة من أبناء وطننا الحبيب‪.‬‬

‫تمت ‪-‬‬ ‫‪-‬‬

You might also like