Professional Documents
Culture Documents
و المدخن مصاب
أما آن األوان أن تتغير الصورة السلوكية "النمطية" عن الشخص الذي يسير حامالً سيجارته يدخنھا بشراھة في
كل مكان ،غير مكترث بأبسط القواعد و المفاھيم الصحية و السلوكية و االجتماعية السائدة في ھذا البلد
الحضاري العريق .إلى متى سنشاھد المقاھي و المطاعم و الشوارع و الساحات العامة في محيط البلدات و
المدن السورية تعج بالفتيات و الشبان و ھم يدخنون المعسَّل و التبغ في أجواء ضبابية عطرة.
يبدو لي وكأن الكثير من المفاھيم الشائعة بين العامة حول التدخين و المخاطر الناجمة عنه ھي في معظمھا
مفاھيم مغلوطة و بعيدة كل البعد عن آخر مستجدات العلم في ھذا المجال و ھذا في رأيي يعود إلى سببين
أساسيين :األول و يعود إلى غياب التوعية و اإلرشاد الكافيين لتحذير المدخنين بشكل منھجي من المخاطر
المستجدة كتلك الناجمة عن استخدام الوسائل الحديثة في زراعة التبغ و ما يرافقھا من استخدام للمبيدات و
األسمدة التي تترك بقاياھا على أوراق التبغ ناھيكم عن استخدام المواد المختلفة األخرى التي على الرغم من
شدة خطورة بعضھا إال أنھا تستخدم لغايات ترويجية بحتة .و لعل السبب الثاني ال يقل خطورة عن األول و
يكمن في الدعاية المكثفة من قبل الشركات المصنعة للتبغ والتي ما لبثت تروج آلفة التدخين بشتى الوسائل
ضاربة عرض الحائط بصحة الناس و البيئة و المجتمع سعيا منھا وراء الربح وال شيء سواه .صحيح أن
شركات التبغ تتحدث دائما عن "حرية االختيار" بالنسبة للبالغين ،لكنھا تتناسى أنھا تبيع مادة مخدرة قوامھا
النيكوتين وأن الناس يستھلكونھا ألنھم مدمنون عليھا وليس ألنھم راغبون في ذلك.
ھناك الكثير من المخاطر المتعلقة بالتدخين و التي باتت معروفة لدى الكثيرين و مع ذلك تجد القلة القليلة تنجح
في اإلقالع عنه و ذلك بسبب المفاھيم المغلوطة السائدة حول التدخين و الدخان و التي أرى أنه من واجبنا
كبحاثة و عاملين في مجال معالجة اإلدمان المرضي السلوكي ضرورة إيضاحھا و شرح ما طرأ من جديد في
ھذا المجال كي يدركھا الناس و نبدأ سويا بعالج ھذه اآلفة .لعل أبرز المستجدات ھي :
أن تعاطي التدخين لم يعد مجرد عادة أو إدمان بل بات يعتبر اليوم مرضا و ذلك وفقا للتصنيف -
العالمي لألمراض المعتمد من قبل منظمة الصحة العالمية ICD‐10 / WHO حيث يصنف مرض
تعاطي التبغ تحت الرمز )الكود( رقم Z72.0 :من الفصل الخامس المتعلق باالضطرابات العقلية و
السلوكية الناجمة عن استخدام مواد ذات تأثير نفاسي .كما ت َّم تصنيف األمراض الناجمة عن استخدام
التبغ و النيكوتين تحت الرمز )الكود( رقم T65.2 :من الفصل التاسع عشر.
أما الدخان المستنشق من السجائر و األركيلة و "أخواتھما" ،فقد أصبح يعتبر من العقاقير الكيميائية -
السامة يؤثر سلبا على سالمة و صحة المصاب بداء التدخين و له أعراضه المباشرة وأعراضه
الجانبية وله مضاعفاته المختلفة قريبة األجل وبعيدة األجل كما ھو الحال مع معظم العقاقير الكيميائية
األخرى .ليس ھذا فحسب ،إذ أن ھذه المخاطر تؤثر سلبا على كل من ھم حول المدخن المصاب أيضا
أي أولئك ممن يسمون بالمدخنين الثانويين )السلبيين(.
يعتبر ھذا المرض سببا رئيسيا في اضطرابات النوم كما أنه يزيد من حدة الشخير عند المصابين. -
يعتبر مرض التدخين بمثابة البوابة التي تقود إلى المزيد من اإلدمان لمواد أخرى مثل المشروبات -
الكحولية والمخدرات.
لقد برھنا في األبحاث التي قمنا بھا في الثمانينيات من القرن المنصرم في مص ّح معالجة اإلدمان -
بضاحية "الديدينيا" في مدينة بلغراد على أن مادة النيكوتين في تبغ السجائر و األركيلة ال تقل في
قدرتھا على اإلصابة باإلدمان عن الكوكايين والھيروين و المورفين و الكودئين .و ھذا ما جعلنا نفھم
سبب صعوبة التعافي من مرض التدخين متمثلة باإلقالع عند الكثير من المصابين.
أكثر من ٩٠نوع من منتجات التبغ الموجودة في األسواق العالمية وخصوصا المھربة منھا ال تحمل -
معلومات دقيقة عن محتويات العبوات من التبغ و السجائر .كما ال يكاد يخلو المعسَّل مھما كان نوعه
من مادة النيكوتين التي تحقن بداخله حتى و لو كتب على بعض ھذه المنتجات بأنھا خالية من
النيكوتين.
السجائر الحلوة و الخفيفة و المنكھة بالمنثول و النعنع و التبغ المعطر و المعسَّل بأنواعه العطرة و -
السجائر "البيئية" و غيرھا ما ھي في واقع األمر إال أوھام يقصد بھا الترويج غير المباشر ألدوات
القتل ھذه و اإلمعان في ترسيخ ھذا المرض عند أوسع شريحة ممكنة.
مرض التدخين ھو المسبب الرئيسي لسرطان الرئة والفم والمري والمعدة واألمعاء الغليظة -
والبنكرياس والمثانة والرحم وبعض أنواع سرطان الدم.
كما انه مسبّب رئيسي لإلصابة بالتھابات الشعب الھوائية المزمنة ،وأمراض القلب والشرايين. -
يشوه األسنان و يفقد البشرة نضارتھا و حيويتھا بحيث تبدو ھرمة و كثيرة التجاعيد. -
يزيد من ھشاشة العظام )الترقق( و يبطئ تعافي الكسور عند المصابين بنسبة %٧٠تقريبا. -
تبين الدراسات بأن التدخين يقصر من عمر المصاب بحيث أن أعمار المرضى تقل في المعدل بنحو -
١٠سنوات عن أعمار نظرائھم من األصحاء غير المدخنين.
ّ
تعتبر آفة التدخين من أھم األمراض المؤدية للموت المفاجئ أو المبكر .و يعتبر الدخان بمثابة القاتل -
المتربص الذي يفتك بأرواح البشر بمعدل ضحية كل ستة ثوان أو ما يعادل الخمسة ماليين ضحية
سنويا.
ھناك تأثير قوي آلفة التدخين عند األم الحامل على سالمة نمو الجنين كما أنه سبب للوفاة المفاجئة -
للخ َّدج و الرضَّع .كما أنَّ الحوامل المصابات ينجبن أطفاال أقل ذكاء ، لما للدخان من تأثير على الخاليا
الدماغية عند األطفال بحيث يمكن أن يكون سببا في تخلفھم عن أقرانھم في الدراسة و االستيعاب في
المراحل http://www.aljazeera.net/news/archive/archive?ArchiveId=110675
الدراسية الحقا .
لقد برھنت الدراسات التجريبية التي قمنا بھا على أن الطفل الذي يولد و يعيش في بيت فيه أحد -
األبوين مصابا ،يستنشق على اقل تقدير دخان ما يقارب الـ ٣٠٠٠سيجارة و ذلك حتى بلوغه السابعة
من عمره .ال شك فإن ھذا الرقم يتضاعف فيما لو ازداد عدد المصابين القاطنين في نفس البيت أو
حين يكون البيت صغيرا و غير مستوف للشروط الصحية .
توصل الباحثون إلى ربط مادة النيكوتين باالنقباضات المعوية المؤلمة )مغص األطفال الرضع( التي -
يعاني منھا قرابة %٢٠من الرضع وحديثي الوالدة ،ممن ولدوا ألمھات مدخنات .
يعتبر التدخين السلبي بدخان السجائر و األركيلة أكثر خطورة على األصحاء غير المدخنين بحيث -
تكون اآلثار السلبية للنيكوتين أكثر حدة عليھم ،كما أنھم يصابون بالتھيج في العينين واألنف بشكل أكبر
من األشخاص المصابين.
إن اإلدعاء بأن التدخين يساعد المصاب على التركيز و إيجاد الحلول أو في الترويح عن النفس ما -
ھي إال مجرد أوھام و الحقيقة أن التدخين يزيد الطين بلَّة و يترك آثارا نفسية و سلوكية سلبية على
المصاب بحيث يزيد من التوتر النفسي و الضيق مع نقص األكسجين و زيادة غاز الكربون المنحل في
الدم.
ً
تد َّل األبحاث على وجود عالقة بين المصابين الذين يدخنون يوميا واإلقبال على سلوكيات االنتحار -
لديھم في حين لم تظھر مثل ھذه العالقة عند المدخنين السابقين الذين تعافوا من ھذا المرض.
المصابون أكثر عرضة لفقدان البصر في مرحلة متقدمة من العمر بمقدار الضعف عن نظرائھم من -
األصحاء.
أكدت الدراسات على زيادة نسبة العقم بين المصابات و زيادة نسبة اإلجھاض المبكر بنسبة أكبر من -
%٤٠بين الحوامل المصابات و زيادة في حاالت نزيف ما قبل الوالدة باإلضافة إلى انخفاض تدفق
الدم بدرجة ملموسة في الجنين أثناء تدخين األم الحامل.
لقد وجدنا أن أكثر من %٧٠من المصابين يرغبون في اإلقالع عن التدخين إال أن الكثير منھم يعجز -
عن تحقيق ذلك من المحاولة األولى ،كان البعض يقلع لفترة معينة قد تطول أو تقصر ليعودوا بعدھا
محبطين للتدخين ثانية و بكميات غالبا ما تكون أكبر من السابق.
الالفت لالنتباه ھو أن المصابين الذين ينجحون في اإلقالع عن التدخين من أول محاولة ودون -
مساعدة طبية أو اجتماعية ھم و لألسف قلة قليلة ...كل ھذه الحقائق جعلتنا نفكر في ضرورة تصنيف
المصابين ضمن شرائح متباينة و تمييزھم بشكل نتعامل فيه مع كل شريحة بالسبل المناسبة بما يضمن
تحقيق أفضل النتائج في مساعدتھم على التعافي و اإلقالع عن التدخين.
-أھم الشرائح ھي -١ :األصحاء من المدخنين الثانويين )التدخين السلبي( -٢ ،المصابون من األطفال
والمراھقين دون سنّ الـ ١٥عام -٣ ،المصابون من الشباب و متوسطي العمر -٤ ،المصابون من
كبار السن و الكھول -٥ ،المصابون "المكتومون" )الذين ال يعترفون بأنھم مدخنين أو يخفون ذلك
ألسباب تتعلق بھم( و غيرھا.
ليس ھذا فحسب ،بل إن لمرض التدخين أبعاداً اقتصادية وتنموية وصحية وأخالقية واجتماعية ونفسية ،وال
يمكن فصل ھذه األبعاد بعضھا عن البعض اآلخر وذلك بسبب التداخل الوثيق بينھا .ومن ھنا ال بد من أن
تتضافر الجھود المكثفة للوزارات المختلفة المعنية بالتنسيق مع مثيالتھا من الدول المحيطة و بعض المنظمات
الدولية و على رأسھا منظمة الصحة العالمية WHOمستفيدين من تجارب اآلخرين في دول الجوار وأماكن
أخرى من العالم .إن تجنيد جيش كامل من الخبراء و األطباء المحليين من مختلف االختصاصات و عقد
الندوات و المؤتمرات و تدريب الكوادر و إصدار ما يلزم من تشريعات كتلك التي تسھل أعمال الترخيص
للعيادات التخصصية لإلقالع و توفير العقاقير المستخدمة في ھذا المجال ھي من األمور الملحة التي ال يمكن
بدونھا تحقيق النجاح إلدارة ھذه األزمة التي يمر بھا قطاع واسع من الشرائح الھامة في المجتمع السوري و
التي تحمل في طياتھا الكثير من المخاطر المتربصة باألجيال اليافعة من أبناء وطننا الحبيب.