Professional Documents
Culture Documents
ﺃﺭﺽ ﺍﳌﺮﻳﺦ؟
0
محتوى الكتاب
-1تقديم احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي
-2دفاعا عن الذات
-3دفاعا عن ج ّدي
-4دفاعا عن لغتي
-5بين لعنة المتنبّي وقھقھة موليار
-6جيل النّفي
-7لمــاذا نحن متخلفون ؟
-8المبتذالت العشر وردّي عليھا
-9التراث بين التمجيد وسلة المھمالت
-10من اجل نظرة موضوعيّة لظاھرة التخلّف
-11األمم وصراع البـقاء
-12من أجل نظرة موضوعيّة لمفھوم التطور
-13لماذا ستطأ األقدام العربيّة سطح الم ّريخ
-14ردود القراء
1
ھو الموت إن نحيا شياھا وديعة
و قد صار كل الناس من حولنا أسدا
و أن نكتفي باألرض نسرح فوقھا
و قد ملكوا من فوقنا البرق و الرعدا
و إن ينشروا في كل أفق بنودھم
و إن ال نرى فوق السمــك لنـا بنــدا
تأملت ماضينا المجيد الذي انقضى
فزلزل نفسي أنــــه انـــھار و انــــھدا
كيف ا ّمحت تلك الحضارات كلـھا
و صـارت بـالد أنبـتـتـھا لـھا لحـــــدا
و صرنا على الدنيا عياال و طالما
تعلم مــنا أھلــھا الـبــذل و الرفـــــــدا
إيليا أبو ماضي
2
تقديم
احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي
شجرة غرست بذرتھا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا .نبتت و أينعت و اشتد عودھا,
ثم ذبلت و تساقطت أوراقھا و جفت فروعھا كما جفت تربتھا ,و توالت العواصف
تلفحھا لفحا ,و كانت أحيانا من الريح السموم التي ما انقطعت يوما عن األرض و
قد قضت فيما سبق على أشجار كثيرة و غابات كثيرة ...لكن شجرتنا ھذه ,رغم
ھزالھا ,رغم انجرادھا ,رغم جفاف فروعھا ,و رغم الفؤوس التي ھوت عليھا
الجتثاثھا ,رغم ذلك ,صمدت في وجه العواصف المتتالية و صدت " الحطابين".
و بعد قرون طويلة ,بدأت براعم تظھر على ھذه الشجرة .ھي إذن لم تمت .و ألن
القرون الماضية لم تأت عليھا ,فإن القرون القادمة لن تأتي عليھا ,بل ستشھد نمو
تلك البراعم ,و ستستعيد الشجرة أوراقھا و نضارتھا ,و سيرتاح الناس إلى ظاللھا.
ھذه الشجرة المباركة ھي شجرة العروبة .سر صمودھا في أصلھا الثابت الذي لم
يجف ألن عروقه ضاربة في أعماق األعماق .أما فروعھا فسوف تصل ...المريخ !
تلك ھي الصورة التي أوحاھا إلى ھذا الكتاب الذي جمع بين الموضوعية العلمية "
الطبية" و التشريح " الجراحي" القاسي المثير و اإليمان القطعي بالتشافي و
استرجاع الصحة.
ھو إذن عمل فكري ,لكنه الفكر الذي يرفض أن سنحبس ليصبح مجرد آلة
كمبيوتر .و ھل يعيش اإلنسان بالفكر و المادة فحسب ؟ و المنصف المر زوقي,
بصفته طبيبا باشر طب األعصاب سنين طويلة يدرك ربما أكثر من غيره قيمة
الروح و الحس ليتجاھلھما عمل كھذا ...و كان الكتاب شحنة قوية من األلم و التأليم
3
عندما يتعلق األمر بتحليل الواقع الراھن و التاريخ ,و من اإليمان " الديني"
بالقدرة على االنطالق عندما يتعلق األمر باستكشاف اآلفاق.
و حبذا أن كان ھذا الكتاب نضالي أكثر منه أكاديميا .ألن الذي يھم المؤلف ليس أن
تلصق به صفة " العلمية األكاديمية" و ھو الذي بلغ أسمى الرتب في مھنته .إن
الذي يھمه ھو أن ينھض العرب كأمة و أن يحتلوا مكانھم تحت الشمس كما يقال و
أن يشعوا على اإلنسانية من جديد كما أشعوا عليھا فيما مضى.
و ھذا " المھم" ليس ھذيان عنده و أال حشر مع المرضى الكثيرين الذين تشتبه
عليھم الرؤية بالرؤى و يجعلون أحالمھم حقيقة و ھي وھم ,أو الذين أغشت
بصيرتھم رغبة البقاء في الحكم و اإلبقاء على األوضاع خشية أن يزيحھم التغيير
فباتوا يلوكون الشعارات العربية قوال و يأتون نقيضھا عمال.
من أين جاءت إذن واقعية تفاؤل المؤلف؟
بسيط !
* كل عوامل االضمحالل توفرت لتزول ھذه األم العربية .و مع ذلك فھي باقية .
السر ؟ لغة القرآن ! أو إن شئت لغة الضاد و ثورة محمد بن عبد ﷲ ! ھذا فيما
يتعلق بسر البقاء.
* أما ما يتعلق بالمصير الباسم أو حتى الضاحك ,فإنه يكمن في ...ألم اليوم الذي
ھو ليس إال " ألم المخاض" .
و ھذا الكتاب محاولة .و ككل محاولة ,ھو مغامرة فكرية ,ھو ...إبداع .و ھو
مساھمة ثمينة ثرية في الحوار القائم اليوم عن أوضاع ھذه األمة العربية و
مصيرھا .و التحاليل الواردة فيه ليست ذات خط مستقيم ,بل ھي خاضعة لــ /نابعة
من أحسن أداة للتحليل اإلجماعي ,و أعني :الجدلية .
و قد يجد البعض في ھذا الكتاب ما ال يروق له .من جانب الملتفتين إلى الوراء أو
من جانب المتنكرين لماضيھم لكن الكتاب يستھدف النوعية و يستھدف إثارة
النقاش .و جريدة " الرأي" ترحب بكل ما سيثيره ھذا الكتاب من ردود فعل يرغب
أصحابھا ابلغھا إلى الرأي العام .
4
و لقد سبق أن أثارت مقاالت المنصف المرزوقي ردودا عديدة كنا وأوليناھا ما
تستحق من العناية .و قد أضيفت لتلك المقاالت المنشودة مقاالت أخرى لم يسبق
نشرھا .و ھي التي شكلت جميعھا ھذا الكتاب المتكامل.
أحمد الكرفاعي
5
ّ
الــــــذات دفــــاعــا عـــن
الذات و االزدراء
مجلة بيلوت الفرنسية – عدد سبتمبر ,1976تعريف العرب حسب النظرة الغربية
السائدة ,في قالب السخرية التي تمتاز بھا المجلة:
" يلبسون األغطية ,يضعون أكياس على رؤوس نسائھم ,يتشجؤون و يضطرون
خالل األكل ,يغتسلون بالرمل و يضاجعون األطفال ,يمارسون ديانة بليدة يحاولون
إلى سود العالم كله ,جبناء حقيقيون عندما يحاربون البيض و رغم ذلك ال يترددون
في نحر بعضھم البعض و في قطع أيادي السارقين منھم ,يضعون القنابل في كل
مكان يمرون به .و يمتلكون كل نفط األرض ,يكرھون اليھود ألنھم الوحيدون في
العالم الذين يمتلكون أنوفا أبشع من أنوفھم".
و يكتوي اإلنسان العربي بعمق ھذا االزدراء فيصرخ من أعماقه " :ال ھذا من
صورتي عندھم و واجب علي أن أحفر ھذا الغزل في ذاكرة األطفال مھما شعروا
باأللم لعلھم يصبحون على غير ھذا القبح".
لكن مأساة العربي اليوم ليست في ازدراء الغير له و إنما في عمق احتقاره لنفسه.
إنه لمن الغريب أن تعود إلى بلدك بعد تغرب طال أكثر من عشر سنوات في بلد
أوروبي تلفظ فيه كلمة عربي كسبة لتواجه على أرض الوطن بنفس االزدراء.
تسمع في الطريق كلمات نابية عن مترجل لم يحترم الضوء األحمر " :العربي ,
عربي " و يواجھك أحدھم و ھو يتحدث عن مظاھر العمل تردئ ":خدمة عرب"
و تسمع إلى درجة الغثيان المتھكمين على جبن العرب ,و اتفاق العرب على أن ال
يتفقوا ,و أموال العرب التي تصرف في المواخير ,و يقول لك العربي مدافعا عن
نفسه و بلھجة المتحدي " :و ماله ...سيدي النبي عربي" و لو اقتصر احتقار
العرب على الطبقة البرجوازية المتفرنسة التي ترعرعت كسرطان خبيث في بلدنا
6
لھان األمر باعتبار أنھا ليست أكثر من الوجه اآلخر للعنصرية االستعمارية
المضادة للعرب من قديم الزمن ,لكن ازدراء العرب للعرب يطبع حياتنا اليومية و
في كل ميدان :نحن ال نشتري صناعة عربية ,ال نؤمن بسياسة عربية ,ال نصدق
حرفا عربيا ,نحن ال نتكلم العربية – ھل ھناك أمة على األرض تعد مائة و خمسين
ملين نسمة و لھا من العمر خمسة عشر قرنا و تحتل وطنا مساحته تسعة ماليين
كيلومتر مربع و ترفض استعمال لغتھا في تدريس أبنائھا بجامعاتھا اعتقادا منھا أن
لغتھا غير قادرة على مواكبة العلم...
و تقرأ أدب الشباب و يزداد إيمانك بفظاعة و استثراء ھذه الحالة المرضية:
سوداوية مطلقة ,شك مطلق ,احتقار مطلق للنفس ة الغير ,و عندما يصل العربي
إلى الذروة القصوى من ھذا المرض الخبيث فانك ستراه يبصق بملء فمه على أمته
,كنزار القباني في قصيدة بلقيس:
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب
و يأكل لحمنا عرب
و يبقر بطننا عرب
و يفتح قبرنا عرب
فكيف تف ّر من ھذا القضاء
فالخنجر العربي ليس يقيم فرقا
بين أعناق الرجال و بين أعناق النساء
..........
لن أقرأ التاريخ بعد اليوم
إن أصابعي اشتعلت و أثوابي تغطيھا الدماء ..ھا نحن
ندخل عصرنا الحجري
نرجع كل يوم ألف عام للوراء
..........
سأقول في التحقيق أني أعرف األسماء و األشياء
7
و السجناء ...و الشھداء ..و الفقراء ..و المستضعفين
و أقول ..أن عفافنا عھر ..و تقوانا قذارة
و أقول ..أن نضالنا كذب
و أن ال فرق بين السياسة و الدعارة
سأقول في التحقيق أني قد عرفت القاتلين
و أقول أن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين
و بقتل كل األنبياء ..و قتل كل المرسلين
.............
حتى العيون الخضر ..يأكلھا العرب
حتى الضفائر ..و الخواتم ..و األساور ..و المرايا و اللعب
حتى النجوم تخاف من وطني ...و ال أدري السبب
حتى الطيور تف ّر من وطني ..و ال أدري السبب
حتى المواكب ..و المراكب ..و السحب
حتى الدفاتر ..و الكتب
و جميع أشياء الجمال ..جميعھا ضد العرب
و يكتب الشاعر القصيدة بخط يده ,و تنشرھا مجلة عربية ذائعة الصيت و يتلقفھا
العرب بإعجاب شديد.
و احتقار العربي لنفسه عارض المرض المزمن ,و الجرح المتقيح ,الذي ينھش
قواه النفسية و يش ّل طاقاته المكبوتة ,لكنه أيضا ألم الشفاء من المرض المزمن.
فالعربي ال يحتقر نفسه أي واقعه إال أنه يعلم أن ھذا الواقع ھو نسج من األكاذيب .
أكاذيب السياسية ,و اإلعالم ,و الفكر العميل المأجور .و العربي ال يحتقر نفسه إال
أنه يعلم أن إنجازاته دون طموحاته ,دون طاقاته ,دون مسؤولياته العظمى تجاه
تاريخه وتجاه مصير اإلنسانية .ويغيب عن عقل العربي وعن وجدانه أنه ظالم
لنفسه ,ومشدد عليھا وأن آالمه ھي غبار األرض الذي ستترعرع في أديمھا
شجرة الحضارة المتجددة الشباب ,وعندما تقوى آالمه وتشتد ,وعندما يعوزه
8
الصمود أمام ازدرائه لنفسه وازدراء أعدائه له ,فإنه ستراه يقفز بصفة سحرية
من فوق ھذا الواقع ,ليدعى أنه خير من مشت به قدم .وبازدياد االزدراء ستراه
يزايد في أمجاده الحقيقية والوھمية ,وتشبث بھا تشبث الغريق بالقش الطافي على
بحر الفشل والتقصير.
فمن عقدة النقص إلى عقدة التفوق أكان دينية أو شوفينية الصبغة ومن بالبصق
على الوجه في المرآة إلى النرجسية العصابية ,ويبقى رقاص االضطراب النفسي
يقفز من حالة قصوى إلى عكسھا حسب الظروف .ومصيبة العربي ليست في
احتقاره لنفسه ,بقدر ما ھي في وعيه الدائم المؤلم بعجزه ,بتقصيره في حق نفسه
وحق الحضارة .ومصيبة العربي ليست في ادعاء ما ليس له ,ما ھي في عجزه عن
تجاوز عقدة النقص التي أصلتھا قرون التخلف في نفسه .
عقدة النقص وعقدة التفوق ) وھما وجھا نفس القطعة النقدية ( ھما نتيجة خيار
أحالھما مر ,فرض على اإلنسان العربي .فھو مطالب باجترار أمجاد ذھبت مع
الريح ,وتصديق أجھزة إعالم ضربت أرقاما قياسية في الغباء و االستغباء ,تصور
له واقعه اليومي كسلسلة من االنتصارات المتتابعة ,فإن صدّق ضحية عقدة التفوق
الوھمي و أن كذب و احتقر ھذه األجھزة التي تحتقره وقع ضحية عقدة نقص ال تقل
خطورة و وھمية عن العقدة األولى .و ھذا الخيار بين األمرين الذي يجبر عليه
اإلنسان العربي ناتج عن فقدان المادة -الخام األولى -الحرية -حرية التفكير ,حرية
التقييم ,حرية النقد الموضوعي ,حرية االختيار.
وبغياب الحرية تفشى المرض و استثرى و أصبحنا أمة بال بوصلة نفسية.
و ھالني استثراء المرض و عنف و خطورة أعراضه و أنا أعود إلى أرض الوطن
بعد أعوام طويلة قضيتھا في تلك البلدان الغريبة التي تنطق فيھا لفظة عربي و
كأنھا شتيمة.
وقال لي يوم زميل فرنسي :ال تغضب عندما أقول أنك عربي فأنا ال أقصد اإلساءة
إليك .وكان فعال ال يقصد إھانتي .لكنني ,ووجھت في بلدي ببرجوازية متفرنسة
لم تأخذ عن الغرب شجاعة جيوردانو برونو ومنھجية فرنسيس بايكون وإنسانية
9
بينال ولم تأخذ عن الغرب حب العمل المتقن والنظام والديمقراطية وإنما أخذت عنه
أحمر الشفاه والكعب العالي وتعاطي الويسكي واألفالم الخليعة والسيارات الفخمة
وكانت ھذه البرجوازية اللقيطة الجاھلة تبغي اإلساءة إل ّي وھي تصفني بأنني عربي
.
ومن ثمة كانت المقاالت األولى كتبتھا ألدافع عن الوطن الفقير عن اللغة المقدسة
المحتقرة ,عن جدي الراعي البدوي الفقير رمز األبطال المغمورين " المحتقرين "
الذين صنعوا ويصنعون مصير ھذه األمة .لكن الدفاع عن الذات ,وعن القيم التي
تتجذر فيھا ھذه الذات :األرض والتاريخ واللغة ال يمكن أن يشكل ھدفا في حد ذاته.
فھو مجرد ردة فعل ,ويبقى الموضوع بعده مطروحا لماذا أصبحنا نزدري أنفسنا
ولماذا أصبح اآلخرون يزدروننا .
ونحن بأمس الحاجة لطرح الموضوع ولطرحه بھذا الشكل بعيد عن مازوشية عقدة
النقص ,والتشنجات العصبية لعقدة التفوق .نعم لماذا أصبحنا نزدري أنفسنا لھذه
الدرجة ,أو باألحرى ماذا صنعنا بأنفسنا و بواقعنا ليصبح مصدر ازدراء؟ ثم يصبح
السؤال ,لماذا أصبح واقعنا محكوم بھذا اإلعالم ,بھذه الثقافة ,بھذه السياسة ,
بھذه الصناعة ,التي نعرف كلنا أنھا أسباب ازدراءنا ألنفسنا وازدراء اآلخرين لنا
بعبارة أخرى ما الذي حدث حتى أصبحنا على ما نحن عليه .لماذا نحن متخلفون ؟
وقد حاولت أن أجيب عن ھذا السؤال بعيدا كل البعد عن ازدراء الذات ,وبعيدا كل
البعد عن المبتذالت التي تروجھا األبواق المأجورة وھي أخطر أعراض مرض
التخلف الفكري واالنحطاط الحضاري واألخالقي الذي نعاني من آثاره .
والموضوع من األھمية بمكان ,ألن حقيقة التخلف تستعصي على اإلنكار .نحن
مجتمعات متخلفة .وقد نتخاصم في تقييم معايير التقدم والتخلف .وقد نقرر أن في
ھذه المجتمعات الغربية التي نعتبرھا والمقاييس كل النواقص والعيوب ,لكن ھذا
لن يغير شيء من الواقع :نحن متخلفون .أجھزة إعالمنا متخلفة ,تفكيرنا متخلف
,جامعاتنا متخلفة
10
) مساھمتھا في الثورة العلمية والتكنولوجية التي تعصف باألرض تساوى صفرا (
سياستنا متخلفة ,اقتصادنا متخلف ,إنسان الشارع متخلف ,نسبة وفيات أطفالنا
تتراوح بين 80و 200في األلف والنسبة عندھم من 1إلى 11في األلف ,معدل
الحياة عندنا خمسون سنة وعندھن 74سنة ..واألمثلة والظواھر ال تحصى وال
تعدى .
يبق أننا في إطار اإليديولوجيات السياسية السائدة مطالبون بغض الطرف عن
الظاھرة بإلغائھا سحريا بعدم التعرض ألسبابھا الخفيفة الفكرية والسياسية,
وبتصديق التعالت السطحية التي تقدمھا ھذه اإليديولوجيات .ويزداد ازدراء العربي
لنفسه وھو يعاني من تخلفه ومن إنكار ساسته لھذا التخلف ,أي من الفشل ومن
تخطيه السحرية .وأقول :يكفي من التدجيل ,من الكذب على النفس والغير ,يكفي
من االنتصارات الوھمية .لنطرح كل المشاكل التي تعترضنا بكل استثناء ,وبدون
تحفظ لتكون محل نقاش ال ينتھي ,وليكن رائدنا في ھذا النقاش النقد الھادئ
الصارم الموضوعي ألنفسنا ,لمنجزاتنا ,ولتكن الراجعة الدائمة ألنفسنا ,ألعمالنا ,
لحقائقنا ومذاھبنا ,واختيارنا ,ديدننا حتى ال نعرف من جديد مأزق التحجر الفكري
والتخلف السياسي واالقتصادي .
لنكف عن الموت من أجل الشعارات ولتمت الشعارات من أجل أن يح ّي اإلنسان
العربي ,لنخضع كل شيء للعقل والمنطق ,لنتنقل من مصافي التفكير البدائي
العاطفي السحري الذي يعتقد أن كلمة شمس تحرق إلى مصافي التفكير العقالني
الناقد ,الشاك ,الموضوعي ,الحر ,الذي ال يفتر لحظة واحدة عن البحث والتنقيب
,لنتخلص من التنظيم الھرمي للفكر والمجتمع الذي يشل طاقات األدمغة الخالقة
ولنستبدله بنظام أفقي يعطي حق الكالم وحق التفكير ألكبر عدد ممكن من ھذه
األدمغة التي ستجد في تكاتفھا وتعاضدھا القوة الالزمة ال للخروج من التخلف
فحسب بل لتحقيق المعجزات ذلك ألن قدر اإلنسان وھدف وجوده ھو أن يكون خالق
ھذه المعجزات .
11
وألنني أؤمن بأن ھذا ھو قدر اإلنسان ,وألنني أؤمن أن اإلنسان العربي ) وأن
أقصاه مؤقتا التخلف ( قادر ھو اآلخر على المساھمة في صنعھا فإنني أقول وأدعي
أنه لن يمضي قرن إال وتطأ األقدام العربية أرض المريخ .وقد يستغرب البعض ھذه
المقولة خاصة بعد اإلطالع على المقاالت النقدية ,وقد يجدون فيھا ) أي قد تجد
فيھا عقدة النقص ( مصدرا للتھكم ,لكن استغرابھم لن يكون في محله وتھكمھم )
على أنفسھم ( سيبدو يوما ما ھو الداعي إلى التھكم .
من أي لي ھذه الثقة وأنا إنسان مثلكم ال يتكھن بالغيب وال يدعي معرفة ما تخبئ
لنا األقدار ؟
وأقول :األمل ھو القاعدة العامة في الكون .ووجدنا سلسلة ال تنتھي من المعجزات
,وكل شيء موجود في ھذا الكون محكوم بقانون االرتقاء والتطور ونحن ال نح ّي
وال نواجه معضالت الحياة إال بھذا األمل المتمترس في أعماقنا .
أنا وأنت ,نمر يوميا عبر آالف األخطار والمطبات التي علمني الطب عددھا الھائل ,
أنا وأنت نواجه الصعوبات وتتابع المشاكل ,نبوء بالفشل ,ونخفق في كثير مما
نحاوله .ومع ذلك فنحن ننھض صباح كل يوم نعيد الكرة من جديد ,نكافح ,نتقدم
خطوة بعد خطوة .فنحن ال نستسلم أبدا ألن طبيعة الحياة أمل والشعوب ھي
األخرى حاملة راية ھذا األمل على مستواھا بالطبع والشعوب مثلي ومثلك تتعلم من
أخطائھا وما أكثر أخطاء العرب – تنظر إلى واقعنا ,فنقول واقع التخلف والفقر,
والتشتت والعمل الرديء وضياع الكرامة وأقول حقا ذلك ھو واقعنا ,ومن التفاھة
إنكار ھذه الحقيقة ,فتعال نكتشف سر المرض الذي نعاني منه ألن التشخيص
الصحيح ھو بداية العالج الصحيح ,وأضيف :إياك أن تخلط بين اللحظة وبين
الزمن الذي تشكل اللحظة نقطة منه ,وھذا الخط يمتد من نشأة حمير ولن يتقطع إال
يوم تلفظ اإلنسانية بأجمعھا أنفاسھا ,نحن أمة تاريخية والتاريخ وحده ھو ساحة
مھازلنا ومآسينا ,
12
وألننا متشتتون سنتوحد وألننا فقراء سننعم بالثروة ,وألننا ضعفاء سنعرف القوة ,
وألننا ال ننتج علما سننتج علما وتكنولوجيا القرون اآلتية ,وألننا مازالنا عقليا في
عصر الحمير والجمال ستطأ من ھنا إلى قرن أقدامنا أرض المريخ.
كيف ,وبسحر أي ساحر ؟ باألمل الذي يشكل عصب الحياة ,بقانون المؤرخ توينبي
:إن الحضارة ال تكون إال أين تكون التحديات .والتحديات أمامنا ھائلة لذلك سنخلق
حضارة على مستوى التحديات التي تواجھنا أي حضارة عظمى.
الدفاع عن الذات ,النقد الھادئ الموضوعي والمطلق للواقع واإلسراع بتطويره,
الثقة المطلقة في مستقبل اإلنسان ومستقبل ھذه األمة ھي محاور ھذا الكتاب ,
محاور حياة كاتب ھذه السطور .وألن شيئا في النفس يجزم بأنھا محاور حياتكم
الخفية أقدم لكم ھذه الخواطر ألنني أعرف أنني عندما أتكلم عن نفسي فإنني أتكلم
عنكم .
***
13
دفـــــاعــــــــا عـــــن بلــــــــدي
قال :كيف وجدت البلد بعد طول ت ّغرب
قالت :الرحيل عذاب والعودة عذاب ونحن جيل النفي قاسينا ونقاسي من العذابين .
عقلي ال ينفك يقارن وأحاول أن أثنيه فال ينثني .في عيني بريق الغرب ومفاھيم
الغرب متمترسة داخل كياني وأنا أريد أن ال أنظر إلى وطني ال يعيني الغربي وال
بمفاھيمه ومع ذلك ...ومع ذلك ...
قال :ھات ما عندك وكفّ عن اللف والدوران
قالت :فضاضة الجمارك في المطار .عنفوانية سائق التاكسي .عصبية الناس وال
أقل شراستھم ...انطباعات خاطفة لكنھا األولى .وألنھا األولى فإنھا الباقية ...ثم
تصفعك مظاھر نسيتھا :ھذه القذارة المستثرية في كل مكان قذى في عين تونس,
وھذه الالمباالة التي يظھرھا الكل تجاھھا .
وتحاول أن تنسى .لكن مظاھر الفقر المشين لك بالمرصاد أينما ذھبت والفقر كما
يقول المثل العامي كفر .ويؤلمني ويذلني أن أرى شعبي فقيرا وتزداد تعاستي وأنا
أعايش كل مظاھر الفوضى ورداءة العمل وقلة االنضباط وانعدام حس المواطنية
واستثراء الجھوية والعشائرية و حاجتك البن العم و ابن الجھة الستخالص حق لك
النش و
ّ الكش و
ّ و أنا كما تعلم أعاني األمرين من ھذه اإلدارة التي تتسم بأسلوب
التي جعلت شعارھا " ارجع غدوة".
و صدمتني مظاھر التحجر الفكري و السياسي و قد عودني الغرب على صراع
األفكار و النقاش الذي ال يفتر أي على كل مظاھر الحرية الفكرية و السياسية.
قال ماطّا شفتيه يحاول اختفاء امتعاضه:
" الظاھر أنك أنت اآلخر مصاب بمرض االنبتات و ھو مرض ال عالج له سوى
الھجرة"
قلت :أنت لم تفھمني أو باألحرى وقفت عند " ويل للمصلين" .منذ رجوعي من
الغربة و أنا إنسان آخر ،فأنا بتونس مغرم ,متيم ,عاشق ولھان و لست أدري كيف
14
أشرح لك مشاعري و أنت لم تعرف مرارة الغربة و بالتالي لم تعرف مرضا اسمه
مرض الحرمان من الوطن.
إن الوطن كالفيتامين أو األوكسجين .ال تشعر بخطورته إال عندما تحرم منه ,يؤدي
النقص منه إلى ظھور داء عضال أعرفه جيدا كطبيب و أعرفه كمريض .أتريد أن
أعدد لك أعراضه و أن أصف لك حالتك إن أصبت به ؟
تغادر قومك و جال تقدم رجال و تؤخر أخرى ,تصفعك نظرة احتقار شرطي المواني
) بالمقلوب( يحرجك ترحيبه الساخر " الور محمد و ھو يتصفح جواز سفرك
بن محمد ال باس؟ ".
تدخل جامعاتھم فيشعرونك طال الزمن أو قصر أنھم " عاملين عليك مزية" .
تعترف بفضلھم إلى أن تسمع يوما رئيسھم يقول بمنتھى الصراحة و االحتقار" :
علموھم لغتنا ليشتروا بضائعنا" فتفھم أنك لعبة بين أيديھم تبحث عن شغل
فيتھمونك بأنك تست ّل الخبز من أفواھھم حتى و إن كنت أنت الخباز تتغلغل فيك
أفكارھم ,أذواقھم ,مقاييسھم ,فتضطر يوما للتوقف لتسأل نفسك " من أنا؟ " .
تمشي في شوارعھم النظيفة الجميلة فيستھجنونك ,سمعتك سيئة مھما كنت و
مھما فعلت ,فأنت منھم ككل عربي بأخر عملية اغتصاب وقعت في المدينة .بمضي
الوقت تفقد من دون أن تشعر طابعك ,شخصيتك ,تلقائيتك ,بساطتك ,تصبح إنسانا
حذرا معقدا ,قلقا .يتمكن منك الضيق ,يجثم على صدرك كجلمود الصخر الذي
تحدث عنه ,تشعر باالختناق ,تشعر بأنك على وشك االنفجار من أقاربك و أبناء
عمك و اخوتك في المنفى من ينفجر,يدخل معھم في معركة خاسرة ,يقع في الفخ
الذي أعدوه له :أليس العربي عنيفا بطبعه ثم أال يدل العنف المتھم به على صحة
توقعاتھم و نظرياتھم ؟
أما أنت فستبحث عن الكرامة و االحترام بكيفية معاكسة .تغالي في التعقل و التأدب
,تتمكن من إجادة لغتھم أحسن منھم ,تبزھم في العلم و الطب في الموسيقى
الكالسيكية ,تعتلي يوما المنصة لتد ّرس في جامعاتھم فينظرون إليك باستغراب
مشاب باإلعجاب ,ليضيفوا :ھذا من فضلنا عليه -لقد يخيل إليك في بعض األحيان
15
أنك اندمجت فتضع تب ّرمك ,قلقك ,ضيقك ,كرامتك المجروحة بين قوسين ,إلى أن
يأتي يوم تفتح فيه الجريدة فتقرأ أن " القھوجي" استقبل زبونا غربيا برصاصة
أردته قتيال ,و أن المحكمة حكمت عليه بثالثة أشھر سجنا مع إيقاف التنفيذ ,و أن
البوليس لم يكتشف إلى حد اآلن ھوية قتلة علي و أحمد ...و بلقاسم ...فتغلق
الجريدة ,تذھل عن الوجود ,تغيب في دوامة من المشاعر المبھمة ثم تعود إلى
رشدك و تفھم أنك كنت تحلم بالوطن.
يحاول أوالد الحالل منھم ) و ما أكثرھم( الدفاع عن كرامتك ,عن شخصيتك ,عن
حقوقك بمنتھى اإلخالص و التفاني و اإلنسانية ,فتقبل منھم بامتنان في البداية
لكنك ستستثقل إن كنت مثلي سليل أجالف البدو و أشرافھم .ھذا الفضل ,ستضيق
به ذرعا ,ستفضل عليه عنصرية أعتى العنصريين إذ ال شيء أكره إلي من إثارة
العطف و الشفقة .فأنا " من بقلبه شمم " حتى و إن لم يعرف " الخيل و الليل و
البيداء و السيف و القرطاس و القلم"
تلك ھي بعض أعراض المرض و لكنھا في حالتك أنت الجامعي المحظوظ خفيفة و
نفسانية بحتة ,بل و بإمكانك التخلص منھا بأتم السھولة أن أعرضت نھائيا عن
ھاته المفاھيم و القيم التي تربيت عليھا :الكرامة ,األصالة,العروبة الخ...
لكن للمرض أبعادا رھيبة عند بعض قومك من العمال و كثير منھم من بموت به .
علمتّني تجربة طويلة في مستشفيات الغرب أن أعراضه عندھم أخطر بكثير مما
تقاسي ,يدخل العربي يوما المستشفى بعد أن أنھكت قواه معركة غير متكافئة ضد
الفقر و ضد العمل المضني ,ضد الخوف ضد الذل ضد العزلة ,يعتصم بالمستشفى
كآخر مھرب ,كآخر مالذ يتشبث به كغريق بقشة تطفو على سطح البحر.
يسألونه بتجرد يتجرد العلماء عن أعراضه فال يقول " أنا مريض بعملي ,أنا
مريض بغربتي ,أنا مريض بعزلتي ,أنا مريض بغياب الشمس ,بانعدام الحب ,
بقلة االحترام " ألنه ھو نفسه ال يعرف أسباب مرضه .لذلك تراه يترجم " ظھري
يؤلمني ,مفاصلي ,بطني ,رأسي ,وأخمص قدمي " فيضحكون منه ألنه قاموس
األمراض ال يعرف وال يعترف باألعراض التي يصفھا العربي ,ويقولون أنھا "
16
ھستيريا النور أفريكان " وأقول لھم وفي فؤادي لوعة :ال إنھا أعراض مرض
الحرمان من الوطن .
قال :أشفيت من ھذا الداء ؟
قلت :ال ,الحياة في ھاته البالد الصعبة ,لكني أمشي في شوارعھا وقد انزاح عن
صدري كل ثقل ,أمشي فيھا كريما ,مرفوع الرأس ,بال خجل ,بال تكلف ,بال حرج,
بال عقد .أمشي فيھا بنفسية المالك .فھذه شوارعي وأنا أعمل في مستشفياتھا
المتواضعة بفرح ,أتعامل مع إدارتھا " الكافكائية " بصبر أيوب ,أستعمل وسائل
نقلھا الجھنمية واعيا بأن ھذا أحسن ما قدرنا عليه ,طلقت الرفاھة والسھولة بال
حسرت وال ندم ألني أشعر بلذة وأنا أقاسم مواطنيھا شظف العيش ,وأنا أقاسمھم
األمل في الغد األفضل ,أتحمل صراخھم وعصبيتھم وعنفوانيتھم وكل عيوبھم
الصغيرة والكبيرة بتفلسف ,,أليسوا أھلي ؟ نعم وألف نعم ! ھم أھلي وإن ضنوا بي
كرام .
منذ رجوعي وأنا أشعر رغم كل المصاعب براحة نفسية ال تتصورھا .أأقول لك
السبب ؟ أنا مرتاح ألني أعلم أصدق العلم أني إن ضربة يوما على المائدة بقبضة
يدي صارخا كفى ,فلم يواجھني أحد بتلك الجملة المشھورة التي سمعھا كل العرب
" :إن لم يعجبك ھذا تفضل على بلدك " .
تريدني أن أحب تونس على منجزاتھا ومناخھا وشواطئھا الخ ...لكن الفضائل
الحقة بال فضائل كما يقول " الوتسو" والحب الحقيقي بال دوافع أو أسباب .وغن
كان البد من سبب موضوعي لحب تونس فاعلم أنني أحبھا ال لشيء إال ألنھا بلدي,
وطني ,أرضي ,ملكي أنا .
حب إلي ألف مرة من قصر أنا خادم فيه أو ضيف ثقيل الظل
رب كوخ أنا صاحبه ال ّ
ّ
على أصحابه .
إيه يا تونس ! !
يا مسقط الرأس ,يا مثوى األجداد ,يا مستقبل األبناء واألحفاد ,يا ضمان الكرامة
ومصدر الحياة ,يا قاسية يا حنيّنة ,يا أم الجميع ,يا ست الحبايب يا حبيبة " .
17
" أشرح الشوق كله أم من الشوق أختصر " .
دفاعا عن جدّي
في ربوع ھذا البلد الطيب ,في قراه ومدنه في أزقته القذرة ,في بيوت القصدير
المحيطة بعاصمته يوجد منذ وجد الوطن آالف من األبطال المغمورين صنعوا وال
يزالون ھذا البلد األمين ,بعروقھم ودمھم وتضحياتھم الجسمية .خلت من ذاكرتھم
كتب التاريخ وغضت التلفزة عنھم الطرف وتناست الصحف أن تذكر يوميا بمآثرھم
ومناقبھم .لكنني أعلم وتعلمون أنھم عماد الوطن وقوامه .وحتى ال ننسى وحتى ال
نتھم بالعقوق يجب أن ننتشل من أعماق النسيان بطوالتھم الصامتة .وألن جدي
حمد البدوي أحدھم فإنني أريد أن أكتب عنه ألنني بكتابتي عنه أعيد إلى السطح
ذكراھم وھو الذين أخاف أن تنساھم ذاكرة تونس ؟
كان جدّي فقيرا .فھو لم يمتلك في أحسن أيامه أكثر من جمل واحد وأربعة رؤوس
من الماعز وحوشا متداعيا في دوز وعشرة نخالت عجاف .وكان يبيت على
الطوى ويظله أياما إبان السنوات الصعبة وما أكثرھا في حياة حمد البدوي .
وكان وھو في الستين ينھض مع الفجر ليقطع عشرة كيلو مترات يضرب صلب
األرض ساعات طويلة بمسحاته القصيرة المحدودبة وكأنه ينقّب عن كنز وعدته به
الحياة و أخلفت ,لكنني لم أعرف في حياتي رجال أكثر أرستقراطية منه .كان يمشي
ببطء مرفوع الرأس ,واثق الخطوة صامتا كسماء الصحراء منطويا على نفسه .
وكنت تحسبه وھو يمشي سيد قوم جمعوا الفخر من أطرافه
لم يكن يضيره أن يلبس األسمال وأن تدمى قدماه من المشي ,يوم يجفّ ضرع الناقة
والماعز .
كانت أنفته خلة طبيعية فيه وكانت أرستقراطيته ال ترتبط بثراء زائل ومجد بقدر ما
كانت مرتبطة بشيء اسمه الشرف .ھذه القيمة التي ال تصرف في البنوك والتي ال
تحتكر أو تشكل مادة للمضاربة في البورصة ,وكان شرف حمد البدوي في حفظه
للطود الشامخ القرآن ,فكان شرفه في قوله الشعر وفي حفاظه على اللغة الدرية
18
وكان شرفه في شعوره بأنه حلقة من سلسلة تضرب في غور الزمان .كان يقول
عن االقتناع " بيني وبينه ثالثة وثالثون جدا " يقصد محمد بن عبد ﷲ القرشي )
ص ( وكان إيمانه بھذا االنتساب فطريا ال تشوبه شائبة وال يخالطه الشك وال ربما
شكل سر تلك المشية الملكية التي طالما أثارت إعجابي واستغرابي .وتھورت مرة
ألقول له بحماقة المراھقة وطيشھا " :كل العربي يدعون أنھم حفدته ونحن
المرازيق كما يقول التاريخ مرابطون ولسنا أشراف " وندمت لحظة نطقي بالجملة
وأنا أقدر فظاعة حرمان الرجل من ھذا الخيط الوھمي الذي يربطه بالجد األعظم ,
ومن ھذا اإليمان الذي يشكل سر ھذه األرستقراطية الفكرية التي ال تنضح بھا كل
حركات الراعي البدوي الفقير ,ولم يصدقني حمد البدوي .ألم يكن حقا سلسله وھو
الذي يحفظ تعاليمه ويدافع عنھا وينقلھا لألجيال القادمة بدون مشقة أو تكلف.
لم يعرف جدي الراحة يوما .فالنخالت العجاف ال تؤتي أكلھا إال بالجھد الجھيد
وكذلك الحل والترحال في صحاري الجنوب .لكن مأساة حمد البدوي لم تكن ال الفقر
وال موت الزوجة وال دخول الحرب القرية السالمة بقدر ما كانت حرمانه من االبن
األوحد ومن الحفيد .فقد طرد الفقر االبن من القرية وھو لم يبلغ الخامسة عشرة
من العمر فحمل رحله ھو اآلخر باحثا عن الخبز والكرامة وجريا وراء المغامرة
الدائمة التي لم يكن حبھا الفطري يترك البدوي يستقر في مكان واحد مدة طويلة
من الزمن .وبذھابه ذھبت فرحت الحياة إلى غير رجعت وقضى حمد البدوي حياته
ينتظر عودت االبن الشريد وعاد االبن لكن لكي يعاود حله وترحاله في األرض
تاركا كل مرة الرجل على حزنا مستديم .
كانت فترة حالكة في حياة الوطن والجنوب وحمد البدوي علي حد السواء ,فالوطن
رازح تحت نير االستعمار والجنوب منطقة عسكرية تتحكم فيھا حثاالت ضباط
فرنسا وحمد البدوي مشبوه فيه ألن االبن مخرب دستوري يتآمر على األمن العام .
وبتعقب السلطات لالبن المتمرد زادت مخاوف وأحزان الرجل الطيب المسالم ال
ينقص من مرارتھا سوى فخره الصامت به وإليمانه بأنه خادم الوطن وقائم بواجب
ال يمكن للبدوي أن يتقاعس عنه .وبلغت المأساة أوجھا في بداية الخمسينات يوم
19
فرضت علينا السلطة العسكرية اإلقامة الجبرية بدوز إلى أن يسلم األب المتمرد
نفسه وكنا ّ
إذاك في عطلة الصيف نأتي من قرمبالية ل''دوز'' في زيارة عائلية فإذا
بنا رھائن القبطان قبلي .
وجن جنون أمي وخافت أن يسلم أبي نفسه لكي يطلق سراحنا وخاف محمد البدوي
علي الزوجة و األطفال الصغار أكثر من خوفه على نفسه أو على ابنه .
كان الرجل يستيقظ مع الفجر يقطع على القدمين أربع وعشرون كيلو مترا الفاصلة
بين دوز وقبلي يستعطف القبطان الفرنسي ليطلق سراح عائلة بريئة مقدما نفسه
بديال عن االبن وكان يعود كئيبا وقد دميت رجاله من المشي ليقول ألمي :لقد
وعدوني خيرا فال تقلقي .ومرت شھور ثالثة وحمد البدوي يقطع الطريق يوما إلى
أن ضاقوا به وضاقوا بنا فأخلوا لنما الطريق ولن أنس يوما أن قدمي حمد البدوي
دميت لتعبد لي طريق الحرية .
ورحل االستعمار عن الوطن وظن حمد البدوي أن حلمه سيتحقق وأنه سينعم باالبن
والحفيد .لكن الحياة قست عليه وكانت قسوتھا ظلما مجحفا متعديا ال تفسير وال
مبرر له .فقد ولى ابنه الوحيد إلى غير رجعة تارك الشيخ على حزنه األزلي وزاد
في حسرته الناس الذين عيروه وقت الكفاح بابنه المخرب أعادوا الكرة يعيرونه
بابنه المھاجر وتالشت إلى األبد ابتسامة الرجل الطيب وماتت فيه كل فرحت ولم
يجد غير الشعر يبثه لوا عج نفسه الكئيبة وثورتھا الصامت .
ننشد الزمان وينبينا
رجعش واال بالعدم جافينا
وفراق الكبيدة مر من يطيقه
ال بنت عندي وال ولد من غيره
كل من فرقنا يرزقه بطليقه
من حال بين البو وضنينه ...إلى آخره .
ومرت العشرية األولى وحمد البدوي يأمل أن تتحقق المعجزة ولم تتحقق ودخلت
حسرت الفراق عقدھا الثاني وقلت األخبار من بالد المنفى فبعث يعاتب
20
بعث جواب سلم على أحبابه وزاد اصحابه
من غير على باباه ضاع صوابه
ال سالم منه ال عاد جوابه يجينا
ومن فرقته كبدي غدت مرجينة
وكبر الشيخ وكبر معه حزنه وحفرة الدموع في العينين أخاديد يوم ھاجر الحفيد
بدوره وكان خيط رفيعا يشده باالبن التائه وتحالف عليه في آخر حياته الفقر
والمرض وھذه الخصومات الرھيبة التي ال تكون إال بين أفراد العائلة الوحيدة
فخفت أناته وضعفت صرخاته وكان بھا مكتوما .
وألتھمتني دوامة الحياة وكنت أتذكره بين الفينة واألخرى ببعض المال من المھجر
الفرنسي شأني في ذلك شأن عشرات آالف من شبان ھذا البلد الذين كانوا يقتطعون
من المنحة الدراسية أومن أجرة الشھر المتواضعة ما يقي العائلة الرابضة على
األرض المقدسة شبح الجوع لكنه كان يقول "" ال يبعث ماال وإنما تعال فأنا أذكرك
طفال يمتطى صھوة جواده من مطھم سعف النخل ,شاھرا سيفه الخشبي على
أعداء الصحراء وأريد أن أراك رجال أشرف على التخرج فتعال وأسرع ألنني أخاف
أن تأتي وقد انطفأ النور من عيني وال أراك ..وكنت أعده وأخلف المرة بعد األخرى
معتقدا بأن ھناك أشياء أھم من تلبية آخر أمنية لحمد البدوي .وانطفأ النور من
عينيه ثم انطفأت الحياة نفسھا من بين الضلوع وأنا مشغول عنه وعن مأساته
بمقارعة كواسر الطير وذئاب ھذه الغابات التي نسميھا الدنيا .
مات الشيخ بغصته وحيدا فقيرا وفي قلبه آخر أمنية ,أمنية ما وراء القنوط ما بعد
اليأس " نحساب في األلحاد ما تنساني توتي عشاي وتعتني باكفاني " .
وحز في نفسي أن يموت حمد البدوي بھذه الكيفية ,أن يموت وھو يعتقد نفسه
مھزوما وھو يظن أننا نسيناه ,أنني نسيته .
لم أنسى حمد البدوي يوما .حملت صورته وأفرغت لقدميه الداميتين شعبا كاملة
من فؤادي وحملت بصماته على لساني من حيث أدري وال أدري .فقد تغربت في
فرنسا خمسة عشر عام ال ادرس إال العلم وبلغة أصحابه لكنني لن أتخلى يوما عن
21
العربي وھي لغة حمد البدوي أخذتھا عنه تكاد تكون فصحى أخذھا ھو عن أجداده
منذ أربعة عشر قرن نتوارثھا أبا عن جد زمردة ياقوتة إكليل غار ,سيدة اللغات
أشرفھا ,أقدسھا لغة القرآن ,لغة جدنا األعظم محمد ابن عبد ﷲ العربي .لم أنسه
ولم يمت حمد البدوي مھزوما .مات وھو ال يقدر مدى انتصاره .لكن أصحيح أنه لم
يكن يدري ؟
يوم دخلت المدرج الجامعي المكتظ ال لقي أول درس لي في أمراض األعصاب
بجامعة سترازبورع خلت روحه حاضرة ومسحت السبورة وأنا ابتسم بمرارة .
أترى ھل كان قبطان قبلي يتصور أن حفيد ذلك البدوي الفقير سيقف يوما على ھذه
المنصة وتصورت ذھوله لو علم .
واستدرت أواجه مئات الرؤوس الشقراء وھي تحدق باستھجان في األستاذ العربي
الشاب األسمر .وكنت ال أدري كيف أخفي اضطرابي ووجلي من ھذا المدرج المكتظ
الذي كان الزمالء يسمنه الكوريدا ويخشون ولوجه إذ قل من كانت أعصابه تصمد
أمام لجان التشويش وكوماندوس النكتة ومغاوير الصراخ والتصفير .واستنجدت
بروح الشيخ لتجد من أزري في أول مواجھة لي مع الكوريدا وتراءت لي فجأة
صورة القرية الرابضة على ضفاف الزمان قلعة للفقر حصنا للمرض تتحدى الدھر
بأنفتھا وعبرت ذاكرتي كلمح البرق صورة حمد البدوي دامي القدمين يضرب
األرض العاقر وھو في السبعين بمسحاته الحدباء فتملكتني صورة من الغضب
البدوي العاتي .
أحسست بكل جوارحي أن علي أن أثأر للقرية ,أن أثأر لحمد البدوي من المسحاة
من القبطان من الوحدة ومن الفقر ,وأن أثأر لھما على ھذه المنصة بالضبط
وتعالي الصوت آمرا قاطعا كحد السيف بليغا يشرح العلم ألھله ولم يكن الصوت
بالطبع صوتي بقدر ما كان صوت أنفة البدو وبالغة البدو وأرستقراطية البدو
ذكائھم الفطري .واستسلم كوماندوس النكتة وأعلنت لجان التشويش وقف إطالق
النار وتبخر وجلى وأنا أشعر بروح الشيخ تصفق طربا .وانتھى الدرس ودوى
22
التصفيق طويال ملحا وكانوا يصفقون لروح راع بدوي من صحارى إفريقيا وھم ال
يعلمون .
كانت مأساة حمد البدوي مأساة عشرات اآلالف من أبا وأمھات ھذا البلد .
كان فقره فقر تونس ,كانت آالمه وه يعاني من البرج وجنوده وقبطانه آالم تونس
وھي تنتھك يوميا .كان حزنه وھو يشاھد األفق يلتھم االبن ثم الحفيد حزن تونس
وھي ترى أبناءھا يھاجرون شرقا وغربا بحثا عن خبز أو علم لم تكن قادرة على
توفيره لھم .كان تمزقه بعد االستقالل تمزق تونس وھي أمام خيارات صعبة .كان
انتظاره الطويل انتظار تونس ألبنائھا المغتربين ,انتظار األم لفلذات أكبادھا
التائھين في الضباب .لكن حمد البدوي لم يكن ألم تونس فحسب .كان أملھا أيضا .
فسليل رعاة ابل يجوبون البوادي منذ قرون ال يملكون من الدنيا سوى أسمالھم
البالية وحيوانات عجفاء وھذه األنفة التي كانوا يتحدون بھا أسياد األرض
وأصحابھا وھو منعطف في تاريخ البدو .فھو جد لستة جامعين وھبھم لتونس
مشاركة منه في بزوغ الفجر .
نعم لم يھزم حمد البدوي وكم يحز في نفسي أنه لم يقدر مدى انتصاره .فقد عدنا
نتدفق في شرايين ھذا الشعب وھذه األمة العظمى دما حيّا وثابتا نساھم في عودة
الروح إلى الجسد الذي حنطته قرون مظلمة من التخلف .
نعم تنكر منا من تنكر وفر من فر وتبجحوا يتھكمون على األرض المقدسة
فأنشدتھم أبيات ايليا أبو ماضي :
قالوا رأيناھا فلم نر طيبا * وال ّ صباھا والجمال مع الصبا
فأجبتھم لتكن بالدي سبسبا * قفرا فلست أحب غير بالدي
الكوكب الوضاح يبقى كوكبا * ولئن تستر بالدجى وتنقبا
ليس الضباب بسالب حسن الربي * والبؤس ال يمحو جمال بالدي
نعم عدنا .عاد منا من عاد و ھو ال يحمل من رحلة الشتاء و الصيف إال بعض
العفش من سقط متاع أوروبا و عاد منا البعض يتبخترون بسيارة معطبة و عاد
آخرون مثلي تغلي مراجلھم بالغضب من انحطاط ھذه األمة يطالبون بإعادة فحص
23
دفاتر الحسابات لمعرفة المسؤولين عن ھذه الكارثة الحضارية التي أسميناھا
التخلف و عاد منا من عاد مثقال بالشھادات الجامعية أو بشيء من المال ادخار حياة
كاملة من العذاب و القھر و التمرد.
نعم عدنا بمختلف أھوائنا و مشاربنا بخفي حنين أن بمعارف ال تقدر بثمن لكن
بفؤاد يطفح حبا لألم تونس و الجد حمد البدوي .عدنا نسابق الزمن كي ال يموت
الجد المھيب بغصته .عدنا لنقول أن التضحيات لم تذھب سدى ,إن حثاالت ضباط
الصف يترنحون سكرا على قارعة الطرقات في بالدھم .إن قبطان قبلي يجتر
ذكرياته في مأوى العجز أن أبناء الفقراء تعلموا أنھم مصممون العزم على الدفاع
عن تونس حتى ال تعرف من جديد ذل التخلف و عار التبعية حتى ال يھاجر ابن أو
حفيد ,حتى ال تحفر الدموع أخاديد في عين جد عربي .نعم عدت و عادوا كلھم و
وجدنا الطريق إلى القرية المنسية و كم من واحد منھم يجوب مثل ھذه الليلة
المقابر بحثا عن رفات الجد ,بحثا عن منبع كل شيء بحثا عن الجذور.
ھا ھو قبر حمد البدوي تضيئه النجوم المتألقة التي طالما اھتدى بنورھا الراعي
البدوي وھذا القمر الشاحب الكئيب كآبتي ليلة ھذا الموعد الذي وصلته متأخرا
أجس الرمال التي تغطيه ,ھذه الرمال التي
ّ سنوات عديدة .ھا أنا أجلس إلى القبر
حملت خطانا و أعمت أعيننا وتسللت إلى أفواھنا مع كل لقمة منذ فجر التاريخ و
التي قال في حبّنا لھا نور الدين فارس أحد شعراء جنوبنا األبي المعطاء:
ھذى الرمــــال كخلــــــجان مجـمدة * يمتد عبر الفيافي موجھا كثبــا
نمشي عليھا كمــا نمشي على بسط * مفروشة و نرى ذراتھا ذھبـــا
ھذه ھي البيـــد أحــالم مجنحـــــــة * ھيــھات تدركھا ركضا و ال خببا
مھما أدعي الوصف فالصحراء أبلغ * مما قيل في وصفھا شعرا و ما كتبا
و أمد يدي إلى القبر و كأنني أريد أن أجد منفذا أللمس اليد الطاھرة التي بقيت
ممدودة سنوات طويلة ال تجد يدا تعانقھا و أجيل نظري أقيس المكان :ھناك سيرقد
االبن الشريد يوم تجمعه الموت بأبيه حمد و أمه األرض و ھنا يساره سأرقد أنا
يوما أخرج من المدينة الھمجية بال رجعة يومئذ .سنتدثر بالرمال الدافئة .سيلفّنا
24
الكون بصمت ال يتخلله إال حفيف نخالتنا العشرة و سيھدھدنا في رقدتنا األبدية
إعصار صحرائنا الخالدة و كأنني بعضالت حمد البدوي المتشنجة تتراخى أذاك و قد
تالقت األيدي تحت أديم األرض و كأنني بجراحه قد التأمت فجأة و كأنني به يتنفس
الصعداء و قد جمع الرمل أخيرا ما فرقه الدھر.
***
25
دفـــــاعـــا عـــن لغـــتي
تسمع حواليك في المقھى ,في الحافلة ,في اإلدارة ,في صحن الجامعة ,ھذه
األحاديث و خاصة بھذه اللغة:
.Alors je lui ai dit , moi tu comprends, ça peut pas durer par
exemple-
-أنا ,قلت له ça va pasعاد قالي pas content, tu va voir le chef . et
Si tu n' es tu lui errapot
-و أنت ؟
-و ﷲ les affairesو كنت مفكنص ) من فعل فنكص أي ذھب في
. (Vacances
-ما زلت كي شفت accidentواحد ماشي كرازاته كميونات رمساوه مورصو
مورصو.
ھذه عينات من لغتنا اليومية الفرانكو أراب ) وتنطق فغانكو أي إن كنت أنثى أو
سكان األحياء الراقية( نسمعھا في كل مكان ولم نعد نلتفت إليھا أو نعيرھا أدنى
اھتمام إذ غدت من األمور المسلم بھا ,من البديھيات .
في مركز األعصاب الذي أمارس فيه مھنتي اللغة الشائعة ھي ألفرانكو أراب ,ومع
ذلك فقد تجاسرت يوما وكتبت نصا باللغة التي يقول عنھا الدستور أنھا لغة البالد ,
ال شرح فيه للمرضى المصابين بالصرع سبب المرض وأھمية وطريقة تعاطي
الدواء بانتظام وطلبت من األطباء المتمرنين الذين يعملون تحت إشراف شرحه
للمرضى وإعطاءھم نسخة منه لتكون دليلھم في العالج .
لم يفھم جلھم ما ورد في النص من مصطلحات بسيطة والبارحة كانت القشة التي
قصمت ظھر البعير ,أتتني مقيمة ألفسر لھا النص الغامض ,على شفتيھا ابتسامة
صخرية :
Vous croy -للي باش يفھموا les malades؟
26
-المفروض أنھم توانسة يعرفون العربية !
Vous avez traduitالتاكست ؟
-بل كتبته يا آنسة
-آه بون بالعربي Vous parlezو Vous savezالكتيبة به زادة ) وضحكت
( لكن أما كان علي أن أبكي ؟ ,,أيه يا لغة المتنبي ماذا فعل بك أھلي .
الظاھرة :
ينص دستورنا بصراحة أن ديننا اإلسالم ولغتنا العربية لكن الواقع المرير يكذب ھذا
فديننا المادة في أحط معانيھا و لغتنا ألفرانكو أراب وما أدراك ما ألفرانكو أراب ,
لغة ھجينة ,لغة القبح والبشاعة والتغرب واالضطراب الفكري والنفسي المؤشر
على تقدمنا المزعوم وتخلفنا المريع .
لو اقتصر الحديث بھا على بعض البورجوازيين مثل ما ھو الحال في بعض
المجتمعات الشرقية لھان األمر ,لكنھا لغة تالمذة الثانوي وطلبة الجامعة وموظفي
اإلدارة وممرضي المستشفيات الخ ,,أي أنھا لغة التخاطب اليومي لقطاعات كبيرة
من شعبنا .واألخطر من ھذا أن الظاھرة في تفاقم واستفحال مطرد وھي كسرطان
ينمو باستمرار ينشب مخالبه عاجال أو أجال في ما بقي سليم من لغتنا الوطنية فما
أن يصل التعليم إلى قطاع من الشعب إال وداھمه ألفرانكو أراب ليسلبه ھو اآلخر
فصاحة األجداد وسالمة نطقھم بلغة نتوارثھا أبا عن جد منذ خمسة عشرة سنة .
بصراحة أنا أحتقر ألفرانكو أراب وارثي للمتكلمين به وقد كدت أن أظلم يوما طالبا
بصفر رنان ألنه تجاسر ,وكلمني بلغة المسخ ھذه .وأنا ال أدخل في نقاش مع أحد
إال وخيرته منذ البداية بين الكالم بلغة الضاد أو بلغة موليار ,وقل من يصمد أكثر
من خمس دقائق بإحدى اللغتين .
لماذا أكره ھذه اللغة ؟ ألنني أراء فيھا إحدى المظاھر الرئيسية لتخلفنا وإحدى
المؤشرات الھامة الدالة على ضعفنا ,ال تخاذلنا ,على انھيار أنفتنا وثقتنا بالنفس
,,على تخلفنا الحضاري وتبعيتنا المھولة .
27
لما كنت طالبا في فرنسا قرأت كتابا ألديب فرنسي كبير اسمه اتيامبل بعنوان " ھل
تتكلم الفرانجلية " Parler vous Franglaisوكان حملت شعواء على دخول
بعض االصطالحات اإلنجليزية إلى اللغة الفرنسية وعددھا ال يتجاوز المائة ووقف
يوما نائب برلماني فرنسي في السبعينات يخطب في الجمعية الوطنية محتجا
بصرامة االستعمال المضيفات على متن طائرا فرنسا الجوية لبضع االصطالحات
اإلنجليزية ,ومن ثمة ال غرابة في اعتناء القوم بنقاء لغتھم إذ تقوم األكاديميات
بحمالت دورية لترجمة آخر المصطلحات العلمية من اإلنجليزية والروسية الخ ,,
حتى ال تشوب نقاء اللغة شائبة .
تعال يا اتياميل لتقدر قداحة الكارثة اللغوية التي نعيشھا وسترى الفرق الھائل بين
دخول بعض الكلمات العلمية للغتكم والزلزال الذي ھشم دعائم لغتنا وجعلھا حطاما
وأنقاضا ,ونحن شعب يلم األفعال الفرنسية ,ونصرف فعال " فكنص" ونسحق
مفاصل الكلمات ,ونمزق أوصالھا ونخلطھا ونحورھا ونرصھا داخل جمل تتحدى
أعقد قواعد النحو وأبسط قواعد الذوق والجمال .
ومرحى لك يا اتيامبل وللنائب الذي قام خطبا في البرلمان ألن مضيفات فرنسا
الجوية تطاولن على لغة موليير وھنيئا لكما باللغة التي دافعتما عنھا فقد غزتنا في
عقر دارنا وغزت العالم ألن لھا من يحميھا مثلكما .
أبعاد الظاھرة :
ليست اللغة كما يظن البعض مجرد أداة للتعبير والتخاطب ,ھي باألول ثقافة أمة ,
ومرآة شخصيتھا ,ھي خالصة تجربتھا التاريخية ھي فلسفتھا وتصورھا للوجود,
وطريقة تعامله معه .ھي قوام وجوده وضمانه ,لذلك تحافظ كل األمم على لغاتھا
وتقدسھا أشد التقديس ألنھا ال تفعل بھذا إال تقديس وجودھا ودوامھا .أن أردت
احتواء شعب فال تستعمر أرضه وال تستبدل نظامه وإنما أضربه في الصميم :في
لغته في اعتقاداته .بھذا وبھذا فقط ستستطيع األجھزة عليه بالضربة القاضية أنظر
إلى تاريخ األمم المنقرضة ,لم تختف جسديا ,لم تبتلعھا األرض وإنما زالت بزوال
لغتھا أو دينھا .األمة قادرة على استيعاب كل المخاطر التي تتھددھا لكنھا تموت إن
28
فشلت في الحفاظ على لغتھا.أين الفراعنة والھنود الحمر الخ ...ھل الحظت أيضا
أن الشعوب تبادر عندما تبدأ حربھا الشاقة الطويلة الستعادة الذات والشخصية
باستعادة لغتھا أو ما بقى منھا ,ھل تعلم مثال أن في فرنسا نفسھا حركات ثقافية –
سياسية تجاھد الحياء اللغات المحلية في مقاطعات الباسك والبروفانس وااللزاس .
ونحن؟ أترى سنصل يوما إلى درجة المطالبة بأحياء العربية في تونس وھل حكم
علينا لغة ھجينة كلغة جزر الكراييب .السؤال مطروح للبحث فھل من مجيب لكن
على اإلجابة عن السؤال أن تأخذ بعين االعتبار األبعاد الخطيرة للموضوع.
فالمسألة ال تتعلق ببشاعة شكل لغوي ھجين بقدر ما تتعلق بخلفيات الفرانكو آراب
واإليديولوجية السياسية والفكرية التي تشكل المعظلة :
– 1التبعية :
كثيرا ما يستغرب بعض الناس من تعصبي للعربية والحال أن األطباء معروفون
بنفوسھم بل وحتى باإلفراط فيه والسبب بسيط .لما ذھبت ألدرس في كلية الطب
سترازبورغ بفرنسا في أواسط الستينات كنت ال أؤمن إال باللغة والثقافة الفرنسية
وبھرتني الجامعة وكدت أن أضيع فيھا عن نفسي وعن تراثي وأصولي وكنت
أقارن طول الوقت ,وفي الفؤاد لوعة ,بين ثقافة حية عميقة وبين تراث جامد
متحجر ,وآمنت سنوات طويلة بأنه ال خالص لنا إال بالتفرنس السريع فكريا أن لم
يكن لغويا واضعا الحضارة عندھم والجھل والتأخر عندنا .والمضحك أنني كنت
أشعر بنوع من االمتنان تجاه ھؤالء الفرنسيين الكرام الذي فتحوا لنا أبواب
جامعاتھم لنغرف من عملھم وأدبھم وأساليبھم في الحياة .
وتداعت كل ھذه التصورات الساذجة يوم قرأت جملة لجورج بومبيدو رئيس
الجمھورية آنذاك في معرض حديثه عن دور فرنسا الثقافي وأھدافه البعيدة .قال
الرجل عنا نحن الطلبة األجانب " :علموھم فرنسي ليشتروا فرنسي "’
Apprenez leur le français pour qu' ils achètent françaisھكذا
بمنتھى الفصاحة جرحتني الجملة ,فتحت عيني اتضحت لي الحقيقة المرة ,,لم
يفتحوا لنا أبواب جامعاتھم إال لنشتري فرنسي ) سياسيا اقتصاديا ,ثقافيا ( ونروج
29
بضاعتھم ليجنوا ھم األرباح .وبقيت يوما كامال أزفر من الغيظ ,وخرجت أبحث
عن الجرائد العربية حتى ال أترك بومبيدو يستعمرني فكريا بعد أن طرده أبي من
أرضي وكتبت للعائلة أقول لھم ال تبعثوا البقالوة والعصبان والغطاء لمقاومة البرد
الرھيب ابعثوا إلي الكتب العربية فأنا في حالة خطر ,سيجعلوا مني بائعا متجوال
للروبافيكا األجنبية وقد بدأت أرطن .
لم يجرفني التيار ألن جملة بومبيدو بما تكنّه من مكيافيلية واحتقار فتحت عيني
بالقوة ,بل ورددت كيد الرجل عندما جعلت شعاري :تعلم الفرنسية لتبيعھم ) يوما
( عربي .لكن الواقع الحالي لألسف الشديد يحقق ما تمناه وما خطط له بدھاء
بومبيدو وأمثاله فنحن بتشبعنا باللغة األجنبية ,وبمفاھيمھا وقيمھا واقعون تحت
سيطرتھا شعوريا أو ال شعوريا شئنا أم أبينا ذلك ,وبالتالي فإن سيادتنا على أنفسنا
في كل الميادين ناقصة .خذ مثال الناحية الفكرية للتبعية :
نحن ال ننتج علما ,نحن نقلد ,نحاكي ,ننقل ونستھلك ما يأتي جاھزا ,ال نكلف
أنفسنا حتى عناء الترجمة واالنتقاء ,وھذا ليس تفتحا أو ھو تفتح من نوع فتح
باب منزلك ليدخل من يشاء ,وكذلك في الميدان األدبي واإلنتاج السينمائي ,كثيرا ما
ننطق باصطالحات ومفاھيم ال جذور لھا عندنا ,لم نعتن ولم نواكب بروزھا
وتطورھا .ننطق الكلمة ,لكننا قلما نتمكن من معناھا العميق الذي يفھمه صاحب
اللغة تلقائيا ,ومن ثمة التذبذب الفكري والسطحية والخلط بين المستويات .
من البديھي أن ھذا الفكر المضطرب المذبذب ال يمكن أن يكون مبدعا خالقا ,ألن
الخلق واإلبداع يتطلبان التجذر ,كما يتطلبان روح المبادرة والفرانكو آراب كلغة
سلبية ,تتراكم فيھا المصطلحات وتتابع وفق ظروف ال تتدخل فيھا أبعد ما يكون
عن تمكين اإلنسان التونسي من التعبير عن قدراته الخالقة .المضحك أن ھناك من
يعتقد أن ھذا ثمن التقدم بينما ھو ضريبة التأخر .فلو كنا متقدمين حقا لفعلنا مثل
الصينيين واليابانيين والكوريين الذين ترجموا ونقلوا كل العلم الحديث إلى لغاتھم
المعقدة الصعبة ,مع الحفاظ عليھا ومن ثمة على شخصيتھم واستقاللھم الفكري
والسياسي .
30
تصور أن شعوبا ال يزداد تعدادھا على بضعة ماليين نسمة كالشعب الدانماركي
والنرويجي واالسلندي الخ ...تستعمل لغتھا المحلية في الجامعة ونحن عرب
المغرب بلغتنا التي ينطق بھا 150مليون نسمة ,عاجزون عن فرض العربية في
تعليمنا العالي ومعامالتنا اليومية وفينا من يناقش في جدوى استعمالھا متذرعا بأننا
,,,سنتأخر عن الركب .
اجمع إذن السطحية ,والتذبذب ,والتبعية الفكرية والبشاعة الشكلية التي تشكل
أبعاد وخلفيات الفرانكو آراب يكون الحاصل حالة ثقافية رديئة ,مع إمكانية الوقوع
في تبعية سياسية واعية أو ال شعورية .إنّ بومبيدو على حق عندما يفترض أن
المتكلم بالفرنسية سيشتري تلقائيا فرنسي ,,واالستقالل كما ھو معلوم ال يتم عندما
يرفع العلم ويعزف النشيد الرسمي وإنما ھو ثمرة كفاح شاق وطويل اختيارات
األمة النابعة من أعمق حاجياتنا وخصائصھا ,فھل يمكننا الفرانكو آراب من القيام
بھذا
– 2األسباب :
أسباب تغلغل الفرانكو آراب معروفة بما فيه الكفاية إذ ھي وليدة تضافر عوامل
موضوعية نتجت عن تخلفنا عن ركب األمم المتقدمة وعن تبعيتنا المطلقة في يوم
ما .واألھم من التذكير بدور االستعمار سابقا التركيز على الوسائل التي الزالت إلى
يومنا ھذا تھشم دعائم لغتنا القومية ,مواصلة بذلك ال شعوريا العمل التخريبي الذي
خطط له المستعمر لما كان يتحكم مباشرة ومن المؤسف أن التعليم ھو إحدى
الوسائل الرئيسية إلشاعة اللغة البشعة وذلك لألھمية القصوى التي تحتلھا
الفرنسية في سائر مراحل التعليم .أنا ال أطالب بطبيعة الحال باستئصال جذور
الفرنسية من برامج تعليمنا في أي مرحلة ألننا بأمس الحاجة إلى لغة ثانية ,لكن
المطلوب ھو متابعة الجھود المكثفة التي بدأھا السيد محمد مزالي إلحالل العربية
في المركز األول خاصة في التعليم الثانوي وفي المواد العلمية .
ومن البديھي أن تفرنس جل المواد في التعليم العالي يزيد الطين بلة إذ أصبحت ھذه
اللغة مرادفا للعلمانية والتقدم ,مما يجعل نخبة البلد المثقفة مضطرة إلى ممارسة
31
الفرنسية والتمكن منھا وھذا يؤدي أوتوماتيكيا إلى الحطّ من قيمة العربية كأداة
تفتح على العالم المعاصر وتمكن من نتاجات العلم ,ومن ثمة الخلط اإلجباري
والتذبذب الحتمي بين لغة يفرضھا الواقع وأخرى ترتكز على العاطفة .
والظاھرة الخطيرة التي أدت إليھا حالة االنقسام ھي سيطرة معادلة ال شعورية
غالبا تجعل من العربية لغة الماضي ولغة الجياشة ,بينما يعھد إلى الفرنسية بأن
تكون لغة التفتح والموضوعية ,أي أن العربية ضحية مؤامرة خطيرة للغاية حيث
أنھا أصبحت مرادفا للفكر القديم وربما األجوف ومن المھم جدا أن ننتبه إلى ھذه
الظاھرة قبل أن تستثري وأن تستفحل والحق أننا نتحمل كلنا ھذه الخطيئة في حق
لغتنا المقدسة .الحظ مثال دور الصحافة :بصراحة أنا ال أقرأ الجرائد العربية إال
بكثير من التحفظ والحذر فقد ع ّودتني الصحافة العربية على كثير من األخطاء التي
أصبحنا ال نقبلھا وأنا كأغلب مثقفي ھذا البلد مدمن على قراءة لوموند ,لماذا ؟
ألنني أجد في ھذه الجريدة ما أبحث عنه :معلومات ,تحاليل ,أبحاث ,نقاش حر
الخ … أنا ال أجھل بالطبع كما يقول المثل العامي " ما ثماش قطوس يصطاد لربي
" وإن لھذه الجريدة مصالحھا وخلفياتھا اإليديولوجية ,لكني مضطر إلى اللجوء
إليھا ألني ال أجد جريدة عربية في نفس المستوى .لماذا تكون لنا لوموند عربية
تغذي أجياال كاملة وقطاعات كبيرة من شعبنا ,ھل العربية عاجزة ,أال تستطيع ھي
األخرى أن تكون لغة التجرد والموضوعية والنزاھة الفكرية والحوار الحر البناء ؟
ال طبعا ,أليس لنا صحافيون من أعلى المستويات .ال طبعا ؟ ھل تنقصنا المادة ؟ ال
طبعا .السبب إذن :غياب الحرية في أغلب األقطار العربية ,وتشبث كل قطر بطرق
تفكيره الضيقة وانغالقه على نفسه
ھكذا ھجرت نخبة المغرب العربي إحدى مظاھر الثقافة العصرية :الصحافة العربية
.وھكذا اضطرت الجرائد الصادرة في تونس والجزائر والمغرب إلى البروز بثوبين
:العربي لعامة الناس والفرنسي للخاصة .وھكذا أصبحت العربية لغة فئة دون
أخرى تتميز بخصائصھا الثقافية واختياراتھا السياسية بينما ضاعت أقلية في لغة
أجنبية وسجنت نفسھا فيھا واضطرت كال الفئتين ,كلما أجيرت على التعامل مع
32
بعضھا البعض ,إلى استعمال لغة الجمھورية وسط :الفرانكو آراب .ھذا وتكتسب
ظاھرة االنقسام والتذبذب أبعادا مخيفة مع ظھور عامل خطير جدا آخر ھو التلفزة .
ھل الحظت مدى التذبذب في البرمجة .نحن البلد الوحيد الذي يختلط فيه الحابل
بالنابل بھذه الكيفية المدھشة .يبدأ البرامج بالقرآن ثم تليه األلعاب التلفزية
بالفرنسية ويكون برنامج األطفال بالعربية والفيلم الوثائقي عن أعماق البحار
بالفرنسية وھكذا إلى نھاية السھرة .
المفروض من المشاھد التونسي أن يكون إذن ملما باللغتين وأن يغير بين دقيقة
وأخرى من مستوى حضاري ثقافي معين لالنتقال إلى مستوى آخر ,واألھم من ھذا
ثبوت وتكرار ما رأيناه في الصحافة أي معادلة الفرنسية عادة من مستوى أرقى من
البرامج العربية .خذ مثال المسلسالت الشرقية – لقد عافتھا حتى خادمات المنازل
وأصبحت تثير قرف كل الناس .لقد رأيت أمي وھي امرأة ال تترك صالة تنفجر
ضاحكة أمام تفاھة إحدى الحلقات الدينية وتعلق عليھا بسخرية ملحد من مالحدة
الجامعات التقدمية .خذ نشرة األخبار باستقباالتھا ,وجوالتھا وخطبھا الخ ...
أنا شخصيا ال أسمع نشرة األخبار التلفزية فأعصابي ال تتحمل األصوات الجوھرية
والبالغة الجوفاء وتكبير الصغيرة وتصغير الكبيرة ) ,آه لو نعلم الدولة بمدى
األذى تلحقه بمصداقيتھا وسائل إعالمھا البدائية وعمق القطعية الذي تحدثه بينھا
وبين النخبة المثقفة وحتى عامة الناس ( والنتيجة تذبذب المفاھيم والقيم وتداخلھا
في عقول الناس ومن ثمة اضطراب النطق يضاف إليه نفور األغلبية المثقفة من
البرامج العربية التافھة للتعلق بالبرامج الفرنسية وأود اغتنام الفرصة لتنبيه
المسؤولين عن السياسية الثقافية في بلدنا إلى خطر ما حق يتھددنا :ستصل
البرامج الفرنسية بعد 5سنوات إلى بلدنا وسنستطيع التقاطھا بسھولة التقاط
البرامج اإليطالية وفرنسا مصممة العزم مع ألمانيا على استعمال قمر صناعي لبث
البرامج التلفزية وتغطية مناطق واسعة في أوروبا الغربية ومن المقرر أن يقع
أتوماتيكيا رش جزء ال بأس به من أفريقيا الشمالية ھل تتصور معنى ھذا ,
وترتبابه على األمد البعيد وعلى المستوى الثقافي واالقتصادي .سنتفتح كلنا
33
تلفزتنا اللتقاط البرامج المالية ,المستوى أو التافھة ,سنتشبع باإلشھار التجاري
الفرنسي ,ستغزونا قيم المجتمع الغربي ,سننسى أنا لنا تلفزة قومية ولن تلتفت
إليھا وإلى مسلسالتھا الحقيرة ونشرات أخبارھا البدائية إال أجھل وأفقر قطاعات
الشعب وبذلك ستزداد قوة القطيعة عمقا بين قطاعات الشعب وستزداد التبعية لغتنا
,ولن نجد للفرانكو آراب بديال وتصدق نفس المالحظة على السينما .لقد بلغ
استخفاف المنتجين األجانب بنا أنھم ال يكلفون أنفسھم عناء ترجمة أفالمھم مثلما
يفعلون عند تصدير إنتاجھم إلى شعوب صغيرة ولكنھا معتزة بلغتھا أما عن
مستوى ما تنتجه السينما العربية وما تنتجه السينما الغربية فقارن وال تمثل ؟
ھل فات االوان ؟
لو بدأنا اليوم سياسة حازمة للدفاع عن لغتنا وتراثنا لتطلب وقف التيار الھدام
وإصالح الوضعية جيال أو جيلين ,أما إذا تركنا الحبل على الغارب فمن المؤكد أننا
لن نتكلم بعد قرن إال الفرانكو آراب تاركين العربية للمناسبات وللكتابة في الجرائد
والمجالت ولمذيع التلفزة وخطبه اإلخبارية التي قد لن يفھمھا ولن يسمعھا إال
بعض األشخاص .والمشكل المطروح حاليا ھو :ھل نحن على استعداد لمواجھة
ھذا الخطر وخاصة ھل نحن واعون بما فيه الكفاية إن ھناك خطرا يتھددنا .أنا
أعلم أن مجھودات جبارة تجري إلعطاء العربية مكانتھا ) كما أعلم أن ھناك
مقاومات عنيفة ضد ھذه المجھودات ( وأعلم أيضا أن للعربية في تونس أنصارا
من الطراز األول لن يسمحوا أبدا بالتطاول على لغتنا المقدسة ,يبد أنني رغم ھذا
متشائم ألنني أرى الفرانكو آراب يستشري يوما بعد يوم ,كما أالحظ في إطار عملي
بالجامعة ضعف الطلبة المشين باللغتين وفساد نطقھم وتذبذب أفكارھم وسطحية
استعمالھم للفرنسية والعربية على حد السواء .
وأرى أن الوضعية الحالية سيئة للغاية وإننا إن لم تتكاتف نحن أنصار و محبى
العربية في ھذا البلد فإنھا قد تزداد سوءا.
إن كسر شوكة الفرانكو آراب والحد من آثامه الشكلية واإليديولوجية يتطلب
مواصلة وتكثيف المجھودات .
34
– 1على الصعيد اإلداري :
أنا مضطر للتعامل مع وزارة الصحة بالفرنسية ,لماذا ؟ يجب أن يدخل التعريب
كافة اإلدارة .
– 2على الصعيد التربوي :
يجب تعريب التعليم وحتى التعليم العالي والعذر القائل بأن ھذا سيؤدي إلى االنغالق
وتدھور المستوى مرفوض جملة وتفصيال .فالتجربة تثبت أن التذبذب اللغوي ھو
الذي يؤدي إلى تدھور المستوى .ھذا ال يعني أنه يجب التخلي عن لغة أجنبية بل
بالعكس فأنا شخصيا من أنصار إدخال أكبر عدد ممكن من اللغات .مثال يمكن أن
نبدأ في االبتدائية تدريس االنقليزية كلغة أجنبية رئيسية بدل الفرنسية .أو األلمانية
أو الروسية حتى تكون لنا نوافذ متعددة على العالم الخارجي لكن مع إعطاء
األولوية المطلقة للعربية ,في كل مراحل التعليم ,كما يمكن تعريب كل التعليم العالي
في ظرف عشر سنوات إن تواجدت االدراة السياسية ,ولن يمنع التعريب مستوانا
العلمي من التطور والتعمق ,فالتبعية الثقافية لم تكن أبدا مرادفا للخلق واإلبداع .
– 3على الصعيد اإلعالمي :
يجب وضع حد لھاته البلبلة الغربية في برامج التلفزة ,وإن وجب األمر فما على
الدولة إال أن تخلق قناة ثانية للبرامج األجنبية ) على شرط أن ال تكون فرنسية
محضة ,بل أن تعرض فيھا برامج انقليزية وألمانية الخ ...لتكون أداة لتعلم اللغة
والتفتح على العالم الخارجي ( أما القناة األساسية فعليھا أن تكون عربية ,تنتھج
سياسة التوعية والتفتح الموضوعي والرصين على مشاكل المجتمع ال أن تكون
أداة تسلية رخيصة .بھذا وبھذا فقط ستستطيع مقاومة الغزو الثقافي الجارف الذي
سنتعرض له بعد بضع سنوات .
– 4على الصعيد النفسي :
يجب أن نخلق مناخا نفسانيا جديدا أساسه االعتزاز والثقة بأنفسنا ,بلغتنا ,وأن
تجعل من التفرنس الفرانكو آراب عالمات الفشل الحضاري والتبعية الثقافية .وھذا
لن يكون إن لم نجند كلنا أقالمنا وأنفسنا لبث النخوة التونسية والعربية في نفوس
35
الشباب ,وھذا يقتضي منا أن نحارب الفرانكواراب في المستقبل وأن تدافع في كل
مكان وفي كل فرصة عن لغتنا ,وما تحمل من قيم ومفاھيم .
وفي األخير فإنني مضطر إلى اإلضافة حتى ال يفسر موقفي خطأ بأنني حاصل على
الباكالوريا الفرنسية وأنني عشت خمسة عشر عاما في فرنسا وأنني درست
طب وكتبت الكتب والمقاالت باللغة الفرنسية وبأن أم أطفالي
ومارست في كلية ّ
فرنسية وأنني اضطررت اضطرارا نظرا لرجوعي إلى الوطن في منتصف سنة
دراسية إلى ترك ابنتي الكبرى تتابع الدراسة التي بدأتھا في فرنسا ,في مدرسة
فرنسية ھنا في تونس ) مما جعلني أمارس مھنة الطب صباحا ومھنة معلم عربية
مساء ( وبالتالي فإني أبعد الناس عن التعصب الديني والشوفينية العرقية .وأنا ال
أضمر للثقافة واللغة الفرنسية ) رغم جملة بومبيدو ( إال أطيب المشاعر ,لكنني ال
ولن أساوم في حق العربية ودورھا في التمكن من كافة مرافق الحياة الفكرية
واإلدارية واالجتماعية في ھذا البلد ,كما ال أستطيع قبول الحالة المزرية التي آلت
إليھا والتطور الخطير الذي يھددھا في شكل ھذه اللغة المسخ التي نسميھا
الفرانكواراب ,وموقفي ھذا يمليه علّي نوعان من االعتبارات :االعتبارات
العاطفية :صدق الشاعر العربي لما قال :إنما الحب للحبيب األول ,والحبيب األول
ھو الشعوب األخرى ؟ أنفرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة ھذه
اللغة التي رضعتھا مع حليب أمي والتي قرأت بھا أول كتاب ,والتي علمني
أساتذتي بالصادقية ) جزاھم ﷲ ألف خير ( تذوقھا وعشقھا كما يتذوق اإلنسان
ويعشق عمال فنيا رائعا .
االعتبارات الموضوعية :
لقد أسعفني الحظ بالتمكن من ثالث لغات أجنبية أي أن لي إمكانية المقارنة ونتيجة
ھذه المقارنة كاآلتي :بصراحة العربية لغة فريدة من نوعھا لم يعرف ولن يعرف
لھا التاريخ مثيال .قل لي أي لغة في العالم تحافظ على نفسھا وتتطور بدون أدنى
انقطاع منذ خمسة عشر قرنا كالعربية .نحن نقرأ ونفھم ما كتبه على ابن أبي طالب
,حتى الشنفرى وھم عاجزون عن فھم ما كتب بلغتھم ألربعة قرون خلت .
36
أمن المعقول أن ال نحب وال نقدس لغة كھذه حبانا ﷲ بھا دون سائر الشعوب
األخرى ,انف ّرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة علينا فرضھا
علينا االستعمار في احلك واتعس فترات تاريخنا
انھجر القصر لتسكن الكوخ ؟
***
37
بيـــــــن لعنـــة المتنبّي وقھقھــــة موليـــــار
ظاھرة الفرانكواراب كدولة إسرائيل :نحن ال نعترف بوجودھا ,لكنھا موجودة :
حجة دامغة على فشلنا الحضاري ,على ضعفنا وتبعيتنا ,والظاھرة معروفة بما فيه
الكفاية ,لكن لنتوقف عند بعض عيناتھا .
* نفتعل التسلي نقول :
" ھا االيامأنا مفكنص " أي أنا في فترة Vacancesلمن ال يفھم الفرانكواراب
يعني :أنا في عطلة .
* نقول :تكونسيت أي وقعت في ورطة ,وتكونسيت ھو تصريف فعل coîncer
والمثال ليس أبشع مما يوجد في القائمة .
* نقول :مشيت لل Facultéنلقى des étudiantsمتكونسين في بقار مع
البوب ,أي ذھبت للكلية فإذا بالطلبة في مشكل مع الشرطة .
* نقول " :شفت أكسيدان واحد مباسي كرازه كميون رمساه مورصو مورصو "
أي رأيت حادثا وقتل عابر صدمته شاحنة فالتقطت أطرافه الواحد بعد اآلخر .
ونقول ونقول ...أصيغوا السمع وسيھالكم ما تسمعون :ألفاظ عربية وأفعال عربية
تتداخل في فوضى تتحدّى أعقد قواعد النحو والصرف مع أفعال وألفاظ فرنسية
لتشكل ھذه اللغة الھجينة التي نسميھا الفرانكواراب والتي ھي اليوم بمثابة اللغة
الثالثة لھذه البالد .
إحقاقا للحق نحن ال نقول " :أن ﷲ على كل شيء كابابل " .ونحن ال نقول " :
وإنا إليه ديرتور " لكن ال تعجبوا أن سمعتم يوما ابنا أو قريبا يرتل القرآن إنا
بالفرانكواراب ألنه لن يقول اآليات تھكما وإنما ألن السرطان في اللغة كالسرطان
في الجسم ,ال يقف عند حد ابتداء من اللحظة التي تنشب فيه المخالب في الضحية .
* خصائص الظاھرة :
االنتشار :الفرانكواراب لغة اإلدارة ,لغة الجامعة ,لغة المدارس ,لغة
المستشفيات .تسمعھا أين تذھب فيخيل إليك أنك تسمع " أنات األلم " تتصاعد من
38
لغة المتنبي وصرير أسنان لغة موليار وھي تحشر حشرا وتمزق تمزيقا ,وتھشم
تھشيما ,حتى يستطيع مخاطبك الكريم أن يعبر عن مقصوده .
السطوة :
أنت أيضا إنسان تونسي مثقف وشاب ,تعصبك لتونس والعربية أعمق من تعصبي.
إيمانك بھما أقوى من إيماني ,أين ھيامك بھما من ھيامي ؟ ال تنھى يومك الشاق
الطويل إال وقصائد ايليا أبو ماضي بين يديك تطرب لھا روحك وتنتشي تعيد
التحامك باللغة األزلية ,وبالمعاني األزلية التي طالما ترجمت لھا ھذه اللغة الفريدة
.اآلن أدخل في نقاش مع زميلك في المھنة أو تلميذك الشاب وقل لي بصراحة كم
من وقت ستصمد ..لقد قمت شخصيا بالتجربة واكتشفت أنني إذا دخلت النقاش وأنا
مصمم العزم على أن ال أنطق بكلمة واحدة من اللغة البشعة فإني أستطيع الصمود
عادة عشرين دقيقة ,ھذا أن كان اآلخر ملما بالعربية .أما إذا دخلت النقاش مع
متفرنس وبدون استعداد للنضال ,فإنني أكثر من دقيقة وأبدأ أنا اآلخر في "
التغفيص " وتتعالى أنات األلم من اللغتين ,ويخيل إلى أنني أسمع لعنات المتنبي
وقھقھة موليار .
التفاقم :
الفرانكواراب حاليا لغة المثقفين وخاصة أصناف وأرباع وأخماس وأسداس
المثقفين ,ومنھم عملية نشره وإشاعته بين شتى قطاعات الشعب متواصلة تقوم
بھا مشكورة أجھزة اإلذاعة والتلفزة ,والتعليم واإلدارة ,والصحافة ,وبالتالي فإن
القطاعات التي ما تزال محافظة على سالمة اللغة ,في مأمن نسبي مؤقت وحالتھا
شبيھة بحالة القبائل البدائية المحاصرة بالحضارة الغربية من الجھات األربع والتي
يتوقع سقوط قالعھا بين اللحظة واألخرى .فالسؤال المطروح ليس ھل سنتكلم كلنا
اليوم الفرانكواراب ألن األمر مفروغ منه ,ولكنه :متى ستتم العملية ,ومتى
ستنشر لنا دور النشر أول عمل أدبي قومي يكون عنوانه :أنا مدمبريمي ) لكنه
مشتقة من فعل دبرم يدبرم أي أصابه دبريم أي انھيار عصبي باللغة القديمة( واآلن
39
تعال نتساءل عن معنى الظاھرة ,فالحكم المعياري ال يجب أن يحتكم إلى العاطفة
وحدھا ,وإنما عليه أيضا الرضوخ إلى حكم العقل ,ومن ثمة سؤالي :
ماذا لو كان الفرانكواراب ظاھرة طبيعية ,إن دلت على شيء فعلى حيوية اللغة
وتطورھا الحتمي ؟ ماذا لو كان اشمئزازنا منه ,ومحاولة التصدي له ,كمحاولة
التصدي لقانون من قوانين الطبيعة ؟ وأھمية الرد الموضوعي على ھذا السؤال
واضحة .فنحن أمام تفسيرين وأمام خيارين .
* الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا ,ومن ثمة ال مجال للتصدي لھا ,بل
بالعكس .فما علينا إال مجاراة األحداث ألن العاقل ال يتصدى للحتميات .
* الفرانكواراب لغة دخيلة ھجينة ,ال طبيعية يجب محاربتھا مع األمل بأننا نستطيع
القضاء عليھا ألنھا حقّا ظاھرة ال طبيعية .
لندرس اإلمكانية األولى ولندرسھا بعقلية " محامي الشيطان " :مثال نستطيع
مواجھة أنفسنا ببعض الحقائق التاريخية كأن نذكر بأن تطعيم لغة بعدد ال بأس به
من اصطالحات لغة أجنبية أمر معھود ,بل ونستطيع التذكير بأن لغتنا المغزوة في
عقر دارھا ,ھي ضحية انقالب موازين القوى – ألم تغز لغة الفرس والترك
والھنود و اإلسبان الخ ...أليس صحيحا أن % 25من كلمات اللغة اإلسبانية
عربية األصل ؟ ومع ذلك فقط ھضمتھا ھذه اللغة وأصبحت جزءا منھا ,بل وربما
مثلت مرحلة عليا من تطورھا .لماذا تسيل اليوم دموعنا ونحن نعاني مما شكا منه
الفرس والترك و اإلسبان ؟ أو ليس ھذا التداخل اللغوي ثمن التقارب والتعاون بين
الحضارات والبشر ؟ باإلضافة إلى ھذا ,كيف تتجاسر على محاولة حصر اللغة في
قالب تاريخي ؟ أليست اللغة كائنا حيا تتطور بتطور المجتمعات ؟ أال نحكم علي
أنفسنا بالتحجر والجمود ,إن نحن حاولنا رفض ھذا التطور الحتمي – أال نعلم أن
التاريخ حسم دائما الجدل والخصام بين المجددين والمحافظين لصالح التجدد ؟
أقول ردا على ھذه التساؤالت :
إذا ثبت أن الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا ,فمرحبا به بين ربوعنا ,
وإلى الجحيم اللغة الكالسيكية ,فأنا مع التجدد والتطور والحركة وضد الجمود
40
والتحجر ألن الحركة والتطور ھما سنة الحياة والجمود والتحجر بداية الموت .لكن
أن ثبت أنه مرحلة ال طبيعية فأنا محق في رفضه ومحاربته ! فأي الرأيين أصوب ؟
وأجيب بكل موضوعية :الفرانكواراب ظاھرة مرضية وليست طبيعية وھذه حججي
وبراھيني :
السنة الطبيعية
صحيح أن اللغة كائن حي ,وإن بقاءھا في تطورھا ,أي في أدائھا لمھمتھا على
أحسن وجه ,وصحيح أن لغتنا تتطور ھي األخرى وأن كل المحاوالت التي قامت
بھا بعض العقول المتحجرة للتعرض لھذا التط ّور قد باءت بالفشل .لكن غير
الطب
ّ صحيح أن الفرانكواراب ھو مظھر من مظاھر حياة اللغة العربية .ھو بلغة
مرض خطير ألم بھا وھي تتابع نموھا الطبيعي .
من البديھي أنني ال أكتب كما كتب الجاحظ يوما ,ومن البديھي أن باستطاعة لغوي
متشدد ,أن يقرأ ھذا النص فيستجھن كلماته وتركيب الجمل فيه وأن يستشف منه
تأثير لغة أجنبية وأقول :ھذا تطور حتمي ال مناص منه .
ومن البديھي كذلك أنني ال استحي من استعمال مصطلحات علمية مثل النترون
والبروتون أو عبارات الحوامض األمينية ,واألكسجين والھيدروجين الخ ...وكلھا
كلمات أجنبية ,ورأيي أنه من السخف إضاعة الوقت والجھد في محاولة اكتشاف
كلمات عربية األصل لتعبر عن ھذه الظواھر العلمية التي غزت في شكلھا الالتيني
كل لغات العالم ,لذلك أنا ال أتحرج من استعمالھا وال أجد في ذلك حطّا من قيمة
العربية مثلما ال أجد حطا من قيمة الفرنسية أن تستعمل كلمة Alcoolالعربية
األصل ) الكحول ( – أقول إذن من جديد :ھذا تط ّور حتمي ال مناص منه ويجب
قبوله .
كذلك ھناك مفاھيم جديدة ال بد أن نعبر عنھا بلغة وبلھجة العصر .مثال حركة العلم
دائبة ال تفتر ومن ثمة فالعالم الحقيقي ھو الذي يط ّور ويغيّر وينقّح مفاھيمه لذلك
41
ظھرت في الغرب كلمة Recyclageوترجمناھا فقلنا " الرسكلة " والكلمة حسب
رأيي أنيقة واختيارھا ناجح ...
أقول إذن :ھذا التطور حتمي وھو أمر طبيعي ال مناص منه .
* مثال آخر على مستوى آخر :
كنا نتناقش مع بعضنا البعض في مقاھي أوروبا ونحن طلبة ,وكان منا المشارقة
والمغاربة ,وكان منا الثوريون والمحافظون ,وكنا نتبادل التھم والشتائم بسخاء
فنسمي المخالف في الملّة خائنا عميال مرتزقا ,وكنا نغضب ونتصالح بحماس
الشباب وصدق الشباب وسذاجة الشباب وكان القاسم المشترك بيننا حب الوطن
وحب أقطارنا الصغيرة ,ولم يكن زعيقنا إال تعبيرا عن
ّ األكبر :دار العروبة ,
عشرات وأخطاء ومحاوالت الفكر العربي وھو يجدّد عھده ويحدّد مفاھيمه ويبحث
عن أرضية تنطلق منھا نھضته ,وكنا في مقاھينا ونحن نعيد بناء العالم ,إحدى
األصوات الناشزة وإحدى أبواق ھذا الفكر العربي التائه ,واألھم من ھذا أننا كنا
كلنا نتحدث لغة واحدة :لغة وسط بين العربية الفصحى ولھجاتنا المحلية ,وكان
الشامي يضحك من التونسي ويطالبه باسم الفصاحة أن يقول جمل ال اجمل ,وكان
القاھري ينكت على " ميوعة " الشامي وكنا ننتھر الزميل القادم من البصرة :
اسكت عيني " ماكو أوامر للكالم " وكان البغدادي يغضب ويدخل في مشادة حادة
مع الوھراني وكانت مشادة أشقاء .
كان لكل واحد منا لھجته ,وكان يحذف منھا تلقائيا الكلمات العامية التي يعرف
بالسليقة أنھا خاصة بمنطقته ,وكنا نفھم بعضنا البعض ,ألن قدرنا أن نفھم بعضنا
البعض ,وقدرنا أن نكون أمة واحدة ذات لغة واحدة ,وھذه اللغة الوسط أي اللغة
العصرية المتطورة نتكلمھا حتى ھنا في بلدنا خاصة في بعض المناطق المتشبثة
بتونسيتھا وعروبتھا ,لغة تجمع بين حيوية الدارجة وجمال الفصحى لغة أنيقة ال
يضيرني شخصيا أن أكتب بھا .المھم أن الفرانكواراب في بلدان المغرب العربي
دخل ليفسد ھذا التطور ,واللغة ككل كائن حي معرضة للمرض ...وھي تعاني في
42
بلدنا من مرض عضال يمكن مقارنته باألمراض الطفيلية التي يعرفھا الجسم وحتى
النبات .
تنظر مثال إلى شجرة باسقة وارفة األغصان ,وتكتشف في بعض األحيان إن دققت
النظر أن أليافا قاتلة تحيط ببعض األغصان فتح ّد من تطورھا إذ تمتص منھا كل
السوائل المغذية ,أو يأتيك يوما في المستشفة مريض يھذي فنكتشف أن ديدان
البلھارسيا قد أصابت الكليتين والمثاتة ودمرت الكبد .
الفرانكواراب ھو المرض الطفيلي الذي تعاني منه لغتنا ,ھو تطور سرطاني ال
طبيعي ,ينھش جسما غضا لم يكتسب مناعة كافية ضده .
فالفرق واضح بين تعريب كلمات ومفاھيم عصرية وبين تطور الفصحى إلى لغة
وسط تكون لغة الجھات داخل القطر والعروة الوثقى بين مختلف أقطار الوطن
األكبر وبين ھذه اللغة ,الھجينة المفروضة فرضا ,والتي لم تھضم أو تدمج في
قالب .لكن األخطر من ھذا أننا ال نعاني من شكل بشع ھجين وإنما من آثاره
وترتباته الحضارية .
اللغة ھي قبل كل شيء أداة تخاطب ,وفعاليتھا في مدى أدائھا للمھمة .صحيح أن
الفرانكواراب يمكن المتفرنسين من التفاھم ,لكن أطلب من أحدھم التخاطب مع
خادمته األمية ,مع أمه ,وسترى الرجل يتعثر ألن عقله يبحث عن الجمل والكلمات
,يترجم من الفرانكواراب إلى ...العربية ,واآلن ضع ھذا الشخص في مجمع عربي
,كالذي كان يجمعنا نحن طلبة العرب في مقاھي أوروبا أو على مدارج جامعاتھا
تأخذ من علم نام عنه أجدادنا وآباؤنا ,وقل له تفاھم مع مواطنك في المنامة
وطنطا وأم درمان وفاس سترى فعالية الفرانكوراب في التخاطب والتفاھم ودوره
في التفريق والتجزئة .
الحل إذا أمام الفرانكواراب كالحل أمام السرطان أو الطفيليات :توسيع مكانه
بالقضاء على الجسم ,أو االندثار .فأي االحتمالين سيتحقق .ھذا ما أجھله بالطبع
ألنني ال أستقرى الغيب لكنني أظن المرض قاتال .
43
سر لماذا استطاع الفرانكواراب المتطفل على شجرة العربية وھي تنمو
لكننا لم نف ّ
ولماذا ھشمت أليافه الغصن التونسي مھددة غصنيه الجزائري والمغربي وھما
ليسا في أحسن حالة .أقول :السبب تخلف المجتمعات المغربية ورضوخھا
للنموذج الغربي للتقدم ,تقليدھا السطحي ,الشك في األصالة ,والتفتح السلبي .
كثيرا ما أطيل النظر لبعض فتياتنا وھن يلثغن بالغاء الفغرنسية الباغيزية ال
للصلصة وإنما للضحك ولو إن ضحكي ھذا حزين .كل شيء في لباسھن
وتصرفھن يذكرني بنفس نمط فتيات مراھقتي وشبابي في مدارج جامعات فرنسا ,
لكني ال ألبث أن أكتشف العيب ...فالتقليد ليس ناحجا مائة في المائة ,ھناك دائما
وأبدا شيء ما يصعب تحديده يفرض عليك ھذه الفكرة المزعجة :
رغم كل محاوالت التقليد فمازال ھناك شوط بين النموذج المقلد وأنا شخصيا إنسان
يفضل دائما فروة " الفيزون " األصيل على فروة األرنب التي تحكي " انتفاخا
صولة الفيزون " كذلك أنا أكره الشعر األسود المصبوغ باألصفر وال أعرف إلى حد
اآلن أي النوعين أفضل :الشعر األشقر الذھبي الطبيعي ,أم الشعر الحالك السواد
الطبيعي كذلك ...
بصراحة :حضاريا نحن نقوم سود الشعر ,مع صبغة من الصفرة االصطناعية
نتعھدھا ونعتقد مخلصين أنھا تجعل منا الفرع الجنوبي لجنس الفيكنغ .
تجول في المدينة وستالحظ محاوالت الناس اليائسة للتشبه بالنموذج الغربي وفشل
ّ
صل وفشل التفتح .
المحاولة الفشل الذريع .ستشاھد فشل التأ ّ
فھذا جالس خلف مقود المرسيديس الفخمة والسيجار الغليظ في فمه ينبئك بأن
السيد رجل ھام ,وستكتشف أن الرجل يحسب نفسه على صھوة جواد عنترة بن
شداد .
اسكن العمارات الفخمة ,وستكتشف أن المصعد ال يعمل ثلثي الوقت وإن جارتك ال
تحب استعمال المھراس إال ابتداء من العاشرة مساء .اذھب إلى اإلدارة الفالنية
وستكتشف أن نصف الطاقم من عشيرة واحدة :عشيرة السيد المدير .
44
المصيبة ليست أننا نتكلم الفرانكواراب بل اختالط المفاھيم والقيم الحضارية في
عقول الناس والنطق ليس إال الظاھرة المرضية .أما المرض فھو التخلف
الحضاري والتقليد الحضاري و االلينة الحضارية .
تتعثر االلسن ألن األفكار ھوجاء ,ألن األرضية الصلبة مفقودة ,ألن التجذر ضاع ,
ألن العقل يستھلك وال ينتج ,ألننا سلبيون .الفرق بيننا وبين أمم العالم الثالث
العظمى كاليابان والصين وكوريا ,ھو أنھا نجحت أين فشلنا .ھضمت معطيات
الحضارة المعاصرة .حقا فوجئت بھا كما فوجئنا بھا وتوقف نمو شجرة حضارتھم
فترة من الزمن نظرا للمرض الذي ألم بھا .لكنھا استوعبت الصدمة وأفرزت
األجسام المضادة وواصلت نموھا .لذلك فاق الياباني سيده الغربي ومعمله وغزاه
ببضائعه ولم يتكلم يوما واحدا ياباني واحد الفرانكوا – ياباني .
كذلك توقفت شجرة الحضارة الصينية فترة من الزمن .لكنھا نھضت بعد سنوات
فقضت على األلياف الطفيلية وانطلقت الصواريخ إلى الفضاء وتفجرت قنبلة
الھيدروجين والناس صينيون يشقون طريقھم ال يتكلمون إال لغتھم .
ونحن ,العرب ؟ وعلى وجه التحديد المغاربة .ارتضينا التقليد ولم نجدد طردنا
المستعمر السياسي من النافذة وأدخلناه ثقافيا من الباب ,فتحنا له الباب على
مصراعيه وتمسحنا به تذلال وانبطاحا وأصبحنا نحتقر من يتكلم العربية ونتصور
أن الحضارة ليست شجرة متجذرة تنمو باطراد وتستمد من ثراھا ومن عروقھا
الحياة و القوة " تكونسا " وقلنا تقدمنا ونمت شجرة حضارتنا ال زيتونة وإنما "
سابان " عليھا شيء من القطن ,ال شرقية وال غربية وال يوقد منھا كوكب
حضاري وال يضيء زيتھا ولو مسھا ألف نور .صحيح أن ھناك فرقا ھائال بيننا
وبين أھل الصين واليابان فھم واجھوا الطفيليات والسرطان أمما ونحن واجھناه
عشائر وأفخاذا وعائالت وأفرادا أو قبائل في أحسن الحاالت .
ھذا تشخيص الطبيب ؟ فما ھو بالفرنكوآراب الفصيح " البرونوستيك " قبل أن
يقضى الطفيلي على المصاب وأرد :الدواء بيد أھل االختصاص وأنا لست منھم
والوصفة كما يلي :
45
* تعريب التعليم العالي وخاصة الشعب العلمية منه في ظرف أقصاه عشر سنوات
* تعريب كامل اإلدارة في أسرع وقت
* تعميم وتعميق التعريب في كافة قطاعات التعليم
* نشر لغات ثانوية أخرى كاالنجليزية واأللمانية للخروج من الفلك الفرنسي
* تعريب التلفزة ووقف ھذه اللخبطة في البرمجة
* عدم التصريح لألفالم بدخول البالد بدون ترجمة عربية
* تكثيف التبادل الثقافي على أعلى المستويات وليس على مستوى المسلسل بين
األقطار العربية
* فتح جامعة الشعب السمعية – المرئية ,لتكون منبرا نعلم فيه بعضنا البعض
بلغتنا وعقليتنا .
* فتح معاھد عربية للبحث العلمي تكون في إطار قومي .
لماذا ال يكون لنا معھد عربي للصحراء ومعھد عربي للعلوم البحرية ,ومعھد
عربي للفضاء ,ومعھد عربي للفيزياء النووية ومعھد عربي لبيولوجيا الخاليا
لنعيد للعربية دورھا ومكانتھا كلغة علمية عالمية .
بصراحة عندما أسمع بوزارة البحث العلمي في تونس وموريطانيا ودبي أضحك .
ھل تعلمون أن ميزانية جامعة ستاندفورد أو بركلي ,في كاليفورنيا تفوق ميزانية
الدولة التونسية .
كفى ھزال يا عرب – الرھان الحضاري اليوم يربح في مختبرات جبارة ,والسبق
فيھا لألمم الكبرى – أال يكفي ما ضيعنا من الوقت ,أال نستطيع اعتبار الجامعات
والمخابر العلمية التي ستجدد ثقتنا في أنفسنا وتعيد للغتنا دورھا الخالد ,مناطق
منزوعة من السالح ,نضع خالفاتنا في مدخل الباب عندما نطأ أرضنا لنعد ألحفادنا
مستقبال وحضارة ولغة مشرفة .
وتسألني من جديد :وماذا سيحصل إن لم يأخذ أھل االختصاص بتشخيص الطبيب
ووصفته المؤلمة ,وارد ...إذن بأي الراب مون فرار وال حول وال قوة إال بالبون
ديو .
46
على كل حال فقد قررت أن أفوز بقصب السباق بانتھازيتي المعروقة حتى يقال عني
كاتب جرئ – مبدع – طالئعي – يتكلم ويكتب بلغة الشعب :نعم سأكتب أنا رائعة
األدب التونسي المعاصر والمستقبلي " أنا مدبريمي " خاصة وأنني فعال مصاب
بانھيار عصبي ھذه األيام أي أنني بالفصحى الفرانكو أرابية مدبرم دبرمة ما بعدھا
من تدبرم .
***
47
جيــــــــــــــل النّفـــــــــــــي
الزمان :يوم من أيام أعوام الھجرة ما بين الخمسينات والسبعينات .ھجرة أكثر
من مليون ونصف شاب من خيرة شباب المغرب العربي ,ھجرة الباحثين عن الخبز
وھجرة الباحثين عن العلم .
المكان :سطح باخرة من عشرات البواخر التي تمخر البحر األبيض المتوسط
متجھة من موانئ تونس وعنابة ووھران والجزائر والدار البيضاء إلى موانئ
أوروبا .
وأدرت ظھري للساحل أريد أن أزيل من ذاكرتي صورة األھل الباكين ,صورة
فضاضة رجال البوليس والجمارك ...أريد أن أمح من ذاكرتي صور الوطن القاسي
,الفقير ,الرازح تحت كلكل قرون ال عد لھا وال حصر من التخلف .و كنت ساذجا
لكنھم كانوا يعرفون .ھم عمال المصانع الموحشة وسكان مدن القصدير .وكانوا
بالمئات على ظھر الباخرة .
كان واحد منھم .عرفته ألنه كان زري الھندام .ألنه كان يلبس الحذاء بال جوارب ,
ألنه كان وحيدا كئيبا .مؤكد أن إدارتنا الفيحاء أعطته عيّنة من االحتقار الذي
سيلقاه طوال رحلة الشتاء والصيف في بالد الحرية ,واتجھت إليه تلقائيا .قلت :
نتحدث .
قال ببساطة :أسمعت قصيدة الھادي قلة
قلت :ال ,لكنني سأسمعھا منك اآلن
وانشدني قصيدة العامل المھاجر الھادي قلة ,ھذه القصيدة التي أصبحت النشيد
الرسمي لجيل الھجرة ,لجيل النفي .
بابور ) ( 1ز ّمر خش البحر
عطى بالظھر
ألرض الوطن عز الوكر
***
بابور ز ّمر خش الغريق
48
سالك طريق
قدا أرض غربة تشيّح الريق
عاطي بظھرو لوجه الصديق
وقلب الرفيق
وجوه األھالي طافية صفر
ھ ّم وكدر
***
بابور ز ّمر بالصوت عالي
ع الوطن جالي
يحمل شباب ع الشعب غالي
قداه االدين ترتعش تشالي
دمع األھالي
يلذع و يخرج شبح النظر
حرق الشفر
***
بابور ز ّمر خاشش لبحره
قدا أرض بره
لسما صافيه عاطي ظھره
يحمل شباب من أرض خضره
الحياة م ّره
كما يحمل الواد وقت المطر
عتوق الشجر
***
49
ھج من الوطن
بابور ز ّمر ّ
في مثيل سن
يقص الموج قص الجبن
ع البحر أزرق خلّف كفن
خلّى السفن
ع الشط ترعش خايفة الخطر
ھاج البحر
***
بابور سافر ع العين غاب
تحت الضباب
محشي ,معبّي بخير الشباب
وسقوه لألجنبي بال حساب
وسق الدواب
الفرق بينو وبين البقر
جواز السفر
جواز السفر
وتحدثنا ليلة كاملة عن الوطن وكان حديثا ذو شجون ,ووصلت بنا الباخرة إلى
مرفأ الجنة المزعومة ,ونزلنا منه
" قطيع بقر " بجواز سفر ,وعاملنا أصحاب القبعة معاملة أكثر إنسانية من
معاملة رجال الشرطة والجمارك في بلدنا ولم يزدني ذلك إال ألما ومرارة .
نظرت إلى قطيع البقر العربي .فجأة تراءت لي صورة عبرت خاطرتي كلمح البرق
,صورة طارق ابن زياد وھو ينزل بشواطئ إسبانيا مختاال على رأس فيالق من
األسود ,وبدأ مخي يقارن بسرعة وأنا ال أدري أعلي أن أضحك أم أبكي .قلت له
ساخرا :
-إيه يا طارق ! ھات لنا خطبة بليغة في ھذا النزول ...
50
-قال وجال :امش بسرعة وال تغضب أصحاب القبعات وإال أرجعونا .
قلت :إذن سأكون أنا طارق ,وھاك د ّون خطبتي حتى يحفظھا الصغار والكبار
فنحن شعب يعشق الخطب " :الفقر وراءكم والفقر أمامكم ,الكيب وراءكم
والبيدوندفيل أمامكم ,الرمضاء وراءكم والصقيع أمامكم ,القمع وراءكم والقمع
أمامكم .
وضحك وضحكت ,وكانت ضحكة صفراء ثم افترقنا ,ل ّم شعثه وأحكم رباط الحبل
حول حقيبته المھشمة ومشى إلى مستقبل مظلم وكان رمزا صارخا لفشل ھذا
الشعب ,وفشل ھذه األمة ,كان اتھاما حيا لھا ...ألم يكن يشكل الحجة الدامغة أمام
شعوب األرض قاطبة على فشل المجموعة التي ينتمي إليھا في تأمين الخبز
والكرامة ألبنائھا ,وكنت أنا أيضا رمز الفشل اآلخر ,فشل ھذا الشعب ,وھذه األمة
في توفير الغذاء اآلخر :المعرفة .كنا االثنين متسولين نجوب األسواق المكتظة ,
ھو يتعيش على القمامات وأنا أتلصلص على الباعة والمشترين لمعرفة سر رخائھم
وكنا نصلى تحت نظرات االحتقار وكانت النظرات تتجاوز شخصينا لتشمل الشعب
واألمة .
وضاع في خصم معركة ال تفتر ,معركة من أجل لقمة العيش ,معركة من أجل
الكرامة المھدورة ,ولم أنسه يوما .وأنّى لي أن أنساه وأنا أشاھد يوميا مأساته في
عيني آالف المھاجرين ,رأيته سنوات ينھض مع الفجر في مدن الضباب ,يعمل
كالدابة طوال اليوم إلى أن يرخي عليه الليل سدوله بأنواعه من الھم ليبتلى ,
ورأيته يحفر األرض ودرجة الحرارة أقل من الصفر ,ورأيته يرجع إلى الفندق
الحقير مرتجفا من البرد ومن خوف عصابات العنصريين التي كانت تترصده
سنوات حرب التحرير الجزائرية لترمي به في نھر السين ,ورأيته في المستشفيات
يتھم بالكسل والتحايل ومحاولة العيش على حساب الضمان االجتماعي ,ورأيته
حطاما في المستشفيات العقلية ورأيته بين أيدي رجال جمارك بلدي يدققون في
سقط المتاع الذي رجع به من رحلة العمر ,يفرشون عفشه على األرض ,
يصرخون في وجھه تحت الفتة " تونس ترحب بأبنائھا المھاجرين " .
51
أكنا أوفر منه حظا نحن الذين ذھبنا نبحث عن العلم بدال من الخبز ؟ قد يبدو الرد
بديھيا ,لكن حذار من البديھيات ,فرحيل العامل ألم ورحيل المثقف ألم أعمق .ذلك
ألن العامل لن يعرف التغرب الروحي الذي سيصبح المرض العضال للمثقف الشاب
.
حقا يتألم العامل من قسوة الطقس ,ومن ساعات العمل الشاق الطويلة ,ومن
الوحدة ,لكن شخصيته تبقى كال متماسكا ال تتداعى بسھولة وذلك لجھله باللغة ,
لتمسكه بقيمه وعاداته ,إليمانه العميق الذي يفرضه عليه الواقع بأنه جسم دخيل
على حضارة أجنبية ال تريد إدماجه وال يريد ھو االنصھار في بوتقتھا .
ويعود العالم محطم الجسم منھك القوى ولكنه عربي تونسي ال جدال في عروبته
وتونستيه ,لكن ماذا عن طالب العلم والمعرفة ؟
أقول عن تجربة :مصيره أتعس ألنه مھدد بمرض خطير اسمه االنفصام الحضاري
أو انقسام السريرة إلى شطرين ال توفيق بينھما .يسافر طالب العلم وھو يعلم
أصدق العلم أن سفره دليل فشل ,أنه متطفل على سوق الحضارة شحاذ فيھا ومع
ذلك فھو مطالب بأن ال يرفض برمتھا تلك الحضارة العجفاء الذابلة التي ينتمي إليھا
والتي يمنعھا غرورھا عن اكتشاف مدى قبحھا وتطالبه حضارة المنتصرين أن
ينظر إلى نفسه إلى قومه وإلى تاريخه عبر منظارھا لكنه ال يبقى لوجوده من معنى
إذ يكون االستسالم كليا بدون قيد وال شرط .ويضيع المغترب .فھو يحاول خدمة
سيدين في نفس الوقت ,سيدين يختلفان في كل شيء إال في العجرفة والصلف
والغرور .وتتفاقم التناقضات داخل المنفى فيضيع في بعض األحيان في خضمھا
وتختفي مالمح الطريق وتتقطع أنفاسه وھو يحاول الجري وراء المستحيل :إيجاد
المخرج الذي يحمي الشخصية ويلحق بالركب أي بناء شخصية جديدة على دعامة
أثبتت ضعفھا في تكوين الشخصية .
ويجد المغترب نفسه في طريق مسدود وأمام اختيارات صعبة وھي على ثالثة
أصناف :
52
– 1االستسالم :يعتبر المنفي الغرب نبراس الحضارة والقدوة والمثال مع التعامي
عن كافة عيوبه وھي كثيرة ويستسلم له المنفي عقال وروحا ومن ثمة ازدراؤه
لقومه وللغته ولحضارته ) الذي يشكل في الواقع ازدراء الغرب المھضوم والمتنبي
من قبل ھذا العربي السحنة والغربي الوجدان ( ويؤدي ھذا االستسالم إلى التفريط
في كل مقومات الشخصية القديمة باعتبارھا تعبيرا عن التخلف بأجلى معانيه .
وعندما يصل ھذا االستسالم ذروته ,فإن المغترب سيختار أبسط الحلول :الھجرة أو
االندماج في أرض الغربة مع العلم أنه يبقى دائما وأبدا يعاني من عقدة االغتراب .
-2الرفض :يشكل الرفض المطلق الحل اآلخر للخروج من االنفصام .يقع ھنا
رفض الغرب برمته باعتباره مصدر كل الشرور واآلثام كما يقع التراجع داخل
المعاقل العقائدية الكالسيكية التي تشكل حصونا يصعب النيل منھا ,وتكون تلك
القناعات المطلقة بأفضليتنا وبأفضلية الحلول السلفية التي انتھجناھا .
– 3التوفيق :يحاول أصحاب ھذا المنھج الخروج من التناقض ومن االنفصام
بالجمع بين الحسنين .فھناك إيجابيات
) مادية ( وعلوم وتكنولوجيا تأخذھا من الغرب مع االحتفاظ بمقومات شخصيتنا
وبذلك يمكننا اللحاق بركب األمم التي تأخرنا عنھا ردحا من الزمن الخ ...
على ضوء ھذه المواقف الثالثة المتضاربة ترى جيل النفي يحاول تجاوز انفصامه
وعلى أسسھا ستراه يحاول بناء حضارة أو إعادة بناء تلك التي عصف بھا التاريخ
.
أقول جيل النفي ألنه من البديھي أن جيل النفي ليس مكونا من المغتربين ومن
المغتربين وحدھم ؟ فظاھرة النفي أعمق وأشمل بكثير ,ومن األصح القول بأن
ظاھرة االغتراب وانفصام الشخصية قد غزت كل قطاعات المجتمع حتى وأن تحمل
المغتربون جل عذابھا ألن اغترابھم كان اغتراب الروح والجسد والحال أن القابعين
على أرض الوطن ال يعرفون إال االغتراب األول .
تج ّول في المدينة وستالحظ عمق التغرب وانتشاره وسيھالك انفصام السريرة إلى
شطرين ال توفيق بينھما :اضطراب األفكار ,تشوش اللغة وذلك أينما ذھبت مظاھر
53
تدلك على أن جيل النفي ال يشمل المغتربين ,فالقروي منفي في المدينة والشاب
منفي في شبابه والمرأة منفية في عالم الرجال ,والفقير منفي في عالم ال يحترم إال
أصحاب الثروات ,والمثقف منفي في دنيا المسلمين .واآلن خذ ھؤالء المغتربين
في الداخل واحدا واحدا وستجدھم يعانون من نفس الصعوبات التي يعاني منھا
المغتربون في الخارج :التوفيق بين اللغة القديمة واللغة الغازية ,بين قيم اإلسالم
وقيم العصر ,بين متطلبات الشھامة وقسوة الحياة ,بين أحالم الحرية وواقع الكبت
.ال غرابة أن يعاني جيل النفي من تفشّي اآلفات العصبية وأن تن ّم كل تصرفاته وكل
نظرياته عن تغلغل العصاب فيه ومن ثمة يطرح السؤال :أسيخرج ھذا الجيل الذي
حكمت عليه األقدار بأن يكون ھمزة الوصل بين حضارتين ) الغربية والشرقية (
وبين لحظتين لنفس الحضارة )التراث والمعاصرة ( من العصاب ؟ أي ھل يستطيع
ھضم الصدمة الحضارية التي تعرض لھا ,وأن يكون الجيل الذي سيوفر ما عجز
عن توفيره الجيل األسبق :الكرامة ,والعلم ,والخبز ؟ أقول نعم .لكن من شروط
النجاح أن نعلم لماذا وقعت الكارثة الحضارية التي كادت أن تؤدي باألمة وأن
تضعھا في مصاف حضارات الھنود الحمر من أنكا وأزتاك ...
واجبنا أن ال نكف عن التساؤل :لماذا اضطررنا إلى الھجرة نحن المليون ونصف
عربي ,لماذا استعمرنا ,لماذا أصبحنا ال ننتج علما أو فكرا منذ قرون ,بعبارة
أخرى لماذا تخلفنا ,لماذا نحن متخلفون ؟
***
54
واقــــــــــــــــــع التخلــــــــــف
55
لمــاذا نحـــن متخلفــــون ؟
* قال :سبب تخلفنا الفقر – قلت :يسمى ھذا في لغة المنطق ) (Tautologieأي
كالم يدور في حلقة مفرغة وال يفسر شيئا .أال يمكن أن نقول :نحن فقراء ألننا
متخلفون .على كل أنت تخلط مثل األغلبية بين الفقر والتخلف أو بين الثروة
والتقدم .ھل أبو ظبي بلد متقدم وھل ھو أكثر تقدما من السويد ألن دخله القومي
أرفع .
ليشيان 500 ,كلم جنوب شرقي بيكين .قلت لمرافقي تشانج
وأنا أنظر مشدوھا إلى قنال العلم األحمر األسطوري :كيف
حققتم ھذا ؟ قال يغلب زھوه :المنطقة جبلية وعرة تعاني من
الجفاف منذ قرون .فكر الفالحون يوما بربطھا بنھر تشانجو .
لكن كيف والنھر يقع 70كلم وراء جبال التايخان الشاھقة .
قالوا :بسيطة .ند ّمر 1250ق ّمة ,نحفر 134نفقا ,نبني 150
جسرا ,نشق قناة طولھا 70كلم ,نبني 1500كلم من القنوات
الصغيرة كي يصل الماء كل شبر من األرض العطشى .نبني
الطرق والسدود ,نضاعف 40مرة المساحة المزروعة .وشمر
فالحو ليشيان عن سواعدھم من 1960إلى 1969وتحققت
المعجزة .أغرب ما في القصة ليس البطوالت الخارقة
والتضحيات الجسمية وإنما اعتماد الناس على أنفسھم .الدولة
مشغولة بمشاريع أخرى ؟ ال بأس .نحفر بابسط اآلالت وحتى
بأظافرنا .نصنع كل شيء الزم حتى المتفجرات .لم تتكلف
الدولة إال بــ % 20من المصروفات .الدولة عندھم ليست
التكية .وصدق من قال :إذا الشعب يوما ...
سن القانون :
قال :سبب تخلفنا االستعمار واإلمبريالية .قلت :ي ّ
ال يستعمر إال من كان قابال لالستعمار وال تسلب إال أرض
56
الضعفاء .االستعمار ليس سبب التخلف بل ھو تتويجه وخاتمته
الحتمية .حاول أن تستعمر اليابان أو أن تبني لك وطنا قوميا
في كندا
ستراسبورغ ,فرنسا .ھذا أول يوم في فرع أشعة أمراض
األعصاب .
وصلت كالعادة إلى المستشفى حوالي الثامنة وكنت وجال شيئا
ما .األستاذ مشھور بعصبيته ,وجدته ينتظرني في مدخل قاعة
الفحوصات .قال ببرودة :ما ھي الساعة اآلن يا دكتور ؟ قلت :
الثامنة ,ودقيقتين .انفجر في وجھي وكأنه جنّ :الساعة اآلن
الثامنة ودقيقة والعمل يبدأ الثامنة .لم أفھم إال بعض الجمل :
سارق دقيقة في حياة المريض و من خزينة فرنسا .ال بد انه
مجنون أو أنه وجد عربيا البارحة في فراش زوجته .كل ھذه
الفضيحة من أجل دقيقة .وﷲ ال نتقمن منك يا ابن الكلب طال
الزمن أو قصر .
وصلت من الغد الثامنة إال ربع ألتحاشى شره فوجدته يعمل .حيّاني بلطف .ومر
اليوم بسالم .
عرفت الرجل بالممارسة وأحببته .علمني كل ما أعرف عن المخ وأمراضه .كان
يصل السابعة صباحا وينصرف العاشرة مساء .كنا بعد انتھاء أوقات العمل
الرسمي نجتمع به إلى ساعة متأخرة من الليل لنكتب أول كتاب في استعمال العقل
اإللكتروني للكشف على المخ .كان يتفقد األضواء قبل مبارحة المكان مطفئا ما
نسي منھا قائال :ادخار الطاقة في ھذه األيام العصبية واجب على كل فرنسي .
عندما أدخل على موظف فأجده يرتشف القھوة ويقرأ صدى المحاكم أتذكر ھذه
القصة ,وعندما أشاھد الزميل فالنا يصل التاسعة وينصرف العاشرة ونصف )
صباحا( أتنكر .
57
* قال :سبب تخلفنا نظام الحكم ولواله ال تينا بما لم يستطعه األوائل .قلت :لما
انھزمنا سنة 1967بالصفة المخزية التي تعرفھا ,قالوا :انتظرناھم من الشرق
فجاءوا من الغرب .وخرج الشعب من الغد بالماليين لكي يبقوا في الحكم .أما
حلفاؤه الشاميون فقالوا :ضاعت األرض وضاع الشرف ,ولكن المؤامرة لم تنجح
في إنزالنا من كراسينا التقدمية .قالوا ھذا ولم يعدمھم الشعب رميا بالبصاق .
الحقيقة أن الحكومة المتخلفة مثل االستعمار تزيد طينة التخلف بلة ولكنھا ال تخلقه
.نظام الحكم في أي بلد ھو الشاھد على نضج الحكام والمحكومين أي على نضج
الشعب .ھل تتصور بوكاسا إمبراطور على السويد أو ھل تعتقد أن الشعب
اإلنجليزي يمكن أن يفرز حاكما مثل عيدي أمين ؟
ھولن ,النرويج .ماذا يفعل طالب عربي فقير إبان العطلة ؟
يعمل في الصيف ليأكل في الشتاء .محسوبكم ھذا الصيف "
خدام حزام " في مزرعة جبلية بالنرويج .طلبتني يوما
''عرفتي '' :ضاقت سلة المھمالت فأحمل ھذه العلبة الفارغة
إلى منزل مسز اريكسن لترميھا في سلتھا .أخذت العلبة وأنا ال
أعرف ھل المرأة تمزح أم تتحدث بجد .منزل اريكسن يبعد
كيلومتر والمنطقة جبلية خالية .
أخذت العلبة وأنا أخفي ضحكي .شوارعنا في قلب العاصمة مزبلة .الولية عندنا
تفتح الشباك وترمي بزبلتھا على رؤوس المارة ويا ويل من يحتج وھذه " القاورية
" ...روادتني عروبتي .فكرت بأن أرمي العلبة في منتصف الطريق وكفى ﷲ
المؤمنين ..خفت أن تقوم مظاھرة .قررت أن أحفر لھا ضريحا لكن خفت أن ينبشه
الكلب .سلمت أمري .مشيت نصف الكيلومتر والعلبة في يدي وأنا ألعن إلى أن
وصلت دار المرأة ولم تستغرب كانت " عرفتي " لما تخرج في نزھة يوم األحد
تحمل معھا شكارة بالستيك للفضالت ألنھا تعلم بالسليقة أن القذارة قبح والقبح قذى
في عين النرويج وكانت تلك وطنيتھا ,ھل الحظت مدى وطنية سكان بلدنا ؟
58
يوم 10جوان انتخب األوروبيون أول برلمان لھم .كنت طيلة
دراستي اسمع واقرأ عن مناقشاتھم الصاخبة ومعاركم الطاحنة
حول توحيد سعر الزبدة والبطاطا ولحم الخنزير .وكنت أعرف
أنھم يضعون الحجر فوق الحجر لبناء وحدتھم .عندما أقرأ عن
اجتماع زيد بعمرو واتفاقھما على قيام وحدة عربية فورية
ومدروسة أقلب الصفحة بسرعة .لكن أعدكم :سأقرأ بكل انتباه
كل خبر عن مشروع توحيد سعر الطماطم العربية .
اإلعالم في كل بلدان العالم مؤشر على نضج الحكام والمحكومين
.افتح أي إذاعة عربية أو انظر إلى تلفزيوننا العظيم ساعة نشر
األخبار " :استقبل في المطار – ودّع في المطار – بعث برقية
تھنئة – وصلت برقية تاييد .ألقى كلمة نوه فيھا بالمجھودات
الجبارة وأشاد فيھا وعبر فيھا ومدح فيھا ازدانت المدينة بحلة
قشيبة من الزينة .بحت الحناجر من الھتاف .الخ ...بصراحة
أنا أكره أجھزة اإلعالم الرسمية العربية .
ليلة 10جوان . 1967نحن منفيون مرتين :في عار الغربة
وعار الھزيمة .سرى خبر استسالم العرب في المدينة كالبرق .
كل أوروبا تعلم أننا منينا بأبشع ھزيمة منذ سحقتنا ايزابال
الكاثوليكية أمام أسوار غرناطة .راديوا القاھرة :عوض أن
يقولوا انھزمنا لكن تاريخنا حافل بالھزائم واالنتصارات ,حان
وقت النقد الذاتي لنجعل من الھزيمة نصرا .قالوا :بعث تيتو
برقية تأييد .شجبت صحيفة نبالية العدوان )الغاشم( ,وھكذا
طيلة نصف ساعة وفي األخير قبلت مصر قرارات األمم المتحدة
وقواتنا تنسحب بانتظام إلى ما وراء خط الدفاع الثاني )القتال(.
صديق لي كان ينتحل كالثكلى ,أما أنا فكنت أضحك بازدراء .
من يتطوع للقيام بعملية جمع بسيطة للخسائر الھائلة في
59
األرواح و العتاد التي كبتھا اإلذاعات العربية العدو ؟ من يراھن
معي على أن الجنس اليھودي بأسره قد انقرض منذ بداية
الستينات حسب ھذه المصادر المطلعة ؟
اغلب أعالمھم يضيع ھباء منثورا وھم ال يعلموا .وصفة لوموند أو اإلذاعة
البريطانية فعالة للغاية وبسيطة للغاية :
% 90من الصدق والنزاھة والموضوعية واإلبداع عن اإلسفاف والمبالغة
والتفاھة والتمسح الذليل بأعتاب الحكام لتغليف وتمرير %10من األفكار العقائدية
– الطبقية – االستعمارية الثقافية .الفرق بين اإلعالمي ھو الفرق بين موسيقى
شوبرت وقرع الطبول .ھل تعلم أنني حلمت يوما بأن برقيات التأييد تقع في كمين
أعدته برقيات التھنئة وتصاب بخسائر ھائلة في األرواح والعتاد .أفقت مذعورا
على صوت أمي وھي تصرخ من المطبخ " بدأ المسلسل أو مازالت األخبار" ؟
عندما تصبح وسائل اإلعالم أمضى سالح لتعميق التخلف ونشره ...
ھجرة األدمغة :إحصائيات األمم المتحدة تقول أن % 25من
كل األدمغة المھاجرة في العالم عربية .أما من عالم اجتماعي
كبير يقدر باألرقام الخسارة الھائلة التي تمنى بھا العروبة نظرا
لھجرة الطبيب والمھندس والعامل الماھر أما ھل أنه ھو اآلخر
ھاجر ؟
خبر استرع انتباھي إبان أحداث إيران .لما انھار نظام الشاه برزت إلى الوجود
مئات الكتب .لم تكتب بطبيعة الحال بين عشية وضحاھا .كانت نائمة في األدراج
خوفا من القمع .قلت :أتتصور العدد الھائل من األبحاث في شتى الميادين النائمة
في أدراج العرب .قال :الناشرون عندنا أصيلون .ال ينشرون إال شرح الشرح
لألمام الخشفقندي وديوان غزل ابن الركيك ومن القصص الصغيرة من نوع أحبته
وأحبھا ورفض أبوھا تزويجھا ألنه فقير فأصيب بالحصباء ومات ضحية التقاليد
البالية ولم يمت معه الناشر بالمناسبة مشكورا .
60
قلت " :يصورا في خبزتھم " أما بعث الفكر المعاصر فليس من اختصاصھم .تعال
نقف دقيقة صمت حدادا على كل الكتب التي أجھضوھا .وقفنا وسط الشارع نتمتم
بالفاتحة .ضاقت " منوبة " عن مجانين تونس .
* لماذا ھاجرت األدمغة ؟ لضعف األجور ؟ لسطوة الروتين ؟ النعدام جائزة نوبل
عربية تشجع البحث ؟ ربما ! لكن السبب أعمق من ھذا .ھاجرت إلى بالد الحرية .
أين ال توجد الحرية تبور القرائح .تضمر خاليا المخ .يستسلم العقل .ھناك في
الغرب انھزمت محاكم التفتيش ,حرقت جيوردا نوبرونو ,نكلت بقاليلي ,لعنت
كوبرنيك شردت ديكارت ,لكنھا انھزمت في األخير فكانت النھضة وغزو القمر .
عندما مثلت نفس العقول بالحالج ,قتلت ابن المقفع,نكلت بعيد الحميد الكاتب ,
وقفت العلم على دراسة اإلعجاز للباقالني ومقامات الحريري وغزل ابن الشمقمق
والزالت تتحكم .المصيبة أننا دخلنا االبتدائي والثانوي وتخرجنا من العالي بمئات
اآلالف وبامتياز والرقيب ال زال يحلم بالفلقة ويھجي في سورة عم .
لما رجعت من الغربة قضيت شھرا أبحث عن شقة يقدر عليھا
طبيب جامعي مثلي ) ذو راتب متخلف ( .كنت أشده لالثمان
الخيالية التي كانوا يطالبونھا .بالممارسة عرفتھم .كمشة من
المرابين المحتكرين الطفيليين .البرجوازي عندما يمأل جيوبه ال
يستثمر في صناعات تخلق الثروة ومواطن الشغل بل يسارع إلى
مزاحمة الفالح على األرض ,ووضع يده على أكبر عدد ممكن
لمص دم أمثالي وشراء 'كالكسون'' جديد وأقوى
ّ من الشقق
للمرسيدس .المصيبة ليست أن برجوازية بل أن لنا برجوازية
عاقرة .
لو سألتني عن أعظم فيلسوف قرأت له لقلت بدون تردد :
اإلنجليزي فرانسيس بايكون ألنه قال " :ال يمكنك إمالء إرادتك
على الطبيعة طالما لم تخضع لقوانينھا " كل الحضارة الغربية
مبنية على تطبيق قانون بايكون .منذ النھضة وھم يقومون
61
بجرد كامل لقوانين الطبيعة حتى يخضعوھا إلرادتھم .ھم
يعرفون أن كل شيء سواء في عالم الطبيعة أو اإلنسان محكوم
بقوانين :الطائرة ال تطير في المساء ضد قوانين الفيزياء بل
بفضلھا .منتھى السطوة في منتھى الخضوع .حتى في عالم
السياسة تراھم يحاولون فھم القوانين لتطبيقھا .ھل الماركسين
أو وضعية أوقست كومت شيء آخر .و نحن ؟ نحن أصحاب
عقلية خيالية .يكفي أن تتكلم عن المشاكل لتختفي .قل أربعة
أبيات شعرية تبنى مجدك .نرفض قوانين الكون .نجھلھا .
نتجاھلھا .نتحايل عليھا .نحاول تطويقھا ,إجھاضھا ,كسر
شوكتھا بالعنف ..عبثا .
نحن نعاني من العطش في حمام األنف منذ أيام .قطعوا عنا
الماء .ھكذا بكل بساطة .أين الماء ؟ في مسابح السواح ؟ أين
المسؤول ؟ ال مسؤول ھناك .أين الالمسؤول ؟ يستحم في
المسابح اآلنفة الذكر .قطعوا الماء عن 60ألف نسمة بال شرح
.لنفرض أن ھناك نقصا في الماء .لماذا لم تجند البلدية أجھزة
اإلعالم للتوعية والشرح واالعتذار ؟ ألن الحاكم المتخلف ال
يشعر تجاه المحكوم المتخلف إال باالحتقار .سنخرج من التخلف
)أن خرجنا ( يوم يضطرون إلى احترامنا .على كل طالما لم
يقطعوا عنا التلفزة ...
فرانكفورت – ألمانيا :كنت مكلفا في ذلك المصنع اللعين بكبس
نفس " الروشكة " على نفس القطعة عشرة ساعات في اليوم .
اضطھدني عرفي طيلة الصيف :باقي ميلمتر .باقي نصف
ميليمتر .باقي ربع ميليمتر .صرخ يوما في وجھي :أنتم
العرب ال تعرفون العمل .لما كنت في إسبانيا مع فرانكو ابان
الحرب سمعت مثال يقول :طراباخو مورو مالواي بوكو ) العمل
62
العربي رديء وقليل ( .قلت بلھجة التحدّي :والحمراء ؟ )أقصد
قصر الحمراء ( ضحك بشماته مشيرا إلى حفنة من الطليان
جمعني التخلف وإياھم إلى نفس اآللة األلمانية :عالقتكم ببناة
الحمراء كعالقة ھؤالء برومان بوليوس قيصر .نازي .ابن كلب
.لكن ميزان القوة لصالحك فأنت من شعب يجيد كبس
''الرواشك'' وأنا من شعب يجيد نظم القوافي .بيني وبينك,
الرجل على حق .ينوا مجدھم ورخاءھم على الدقة واإلتقان في
كل شيء .نحن ؟ درج مكتبي ال يفتح إال بصعوبة ربما من أجل
ربع ميلمتر عمل .تقرأ :انفجرت الطائرة ومات كل الركاب ألن
زرا حقيرا لم يكبس كما ينبغي أحمد ﷲ أننا نصنع الطائرات وإال
لتساقطت كحجارة من سجيل .
كنت ال أخشى إبان االجتماعات الصاخبة التي كنا نعقدھا ونحن
طلبة لشرح أبعاد القضية للغربيين إال تدخل الصھاينة المعروف
:نحن زرعنا الصحراء .كانت الحجة تفحمني وكنت أتذكر
صيف . 53نحن في إقامة جبرية بدوز .كثبان الرمل تحيط بنا )
أحاطة السوار بالمعصم كما يضيف أتوماتيكيا المتخلفون ذھنيا
من تالمذة االبتدائي وأجھزة اإلعالم الرسمية ( .جفت العين .
مرض حمار جدي .ذبلت نخالت الحوش .عرفت العطش وفن
المشي الراقص على الرمضاء .حملت معي الذكرى أينما
توجھت ركائبي .كنت أنتقي لدوز األنھار في الصين والشالالت
والبحيرات في أمريكا والغابات في سكندنافيا وكان ضريحي
الغوث والمحجوب يختفيان تحت ھضاب ورود ھولندا .كانت
القرية الجزيرة تتمطط بسحر الخيال فتتراجع الصحراء لتصبح
قارة بأكملھا .قارة خضراء .كنت أحلم وكانوا يعلمون .كان
زمالئي اليھود يقولون بعد نھاية العطلة :كنا في الكيبوتز .في
63
النقب .نزرع زيتونة والكروم فأشعر بأنني أحقر من قملة .
سنتقدم يوم يصبح زرع الصحراء شرفا يتھالك عليه الناس .
إن أردت الدعاء ألحد قل :رزقك ﷲ بأبناء العم والخال ) على
شرط أن يكونوا من أصحاب النفوذ ( ووفر لك المعارف
واألكتاف وال حرمك من " البيستون " ) صرف فعل بستن –
يبستن على وزن بزنس -يبزنس ( نحن شعوب قبلية بالفطرة .
أنصر أخاك ظالما أو مظلوما .األقربون أولى بالمعروف .نحن
ال نعرف – حكاما ومحكومين -إال شيئيين " :تدبير الرأس "
وقانون القوة .والويل لضعيف !
* كم يحز في نفسي أنني لن أرى اليوم الذي ينعم فيه كل العرب بدون استثناء
بحقھم في الخبز والكرامة كم يحز في نفسي أن لن أقرأ أن التونسية ال يخرج في
نزھة إال ويحمل معه شكارة الفضالت .إنه يصل الثامنة إلى العمل ويبقى بعد الوقت
القانوني ,إنه ) يقيم الدنيا ( على ريع مليمتر ,إنه ال يلقي عود ثقاب في الشارع
وأن خالي يعتبر من الطبيعي أن ينتظر دوره في المستشفى أربع ساعات حتى ولو
كان الطبيب ابن أخته أو ربما لھذا السبب بالضبط.
منذ زمانا طويال وأنا أكره ھذه األغاني البليدة في الحب التي
تذيعھا إذاعتنا آناء الليل وأطراف النھار .كنت وال أزال أستثقل
بالخصوص طولھا .وكنت أعزوه إلى أننا ورثة الحدائين وشعب
من العاطلين ال يضيره ضياع الوقت .لكني فھمت السبب
الحقيقي :كتبت الصباحة تقول إن اإلنجليز لما اضطروا في
بداية العشرينات إلى فتح أول إذاعة عربية خافوا أن تكون
مصدر وعي ومشاكل فإشطرتوا أن ال تبث إال األغاني في الحب
على شرط أن تتميز بالرتابة والطول .والخالص بالساعة .منذ
نصف قرن وإذاعتنا ضحية أخبث مؤامرة ألدھى المستعمرين .
منذ نصف قرن ونحن ضحية إذاعتنا .الدين ھو أفيون الشعب
64
ي
كما قال ماركس ؟ ال .أم كلثوم ) وكرة القدم ( ,قال أبي ودو ّ
الصفعة يرن في أذنه ثالثين سنة بعد الحادث :صفعني جندي
االستعمار في مدخل قابس بال سبب – بال سبب ؟ أنت واثق ؟
ألم يصفعك ألنك متخلف وابن متخلف وعصارة عشرة قرون من
التخلف ؟ نسي .ولم أنس .و ال تنسوا حتى ال يصفعوكم من
جديد في مدخل قابس .كان يقول بالعلم والعمل تثأر لي ونغلبھم
.أقول بالعلم والعمل نغلب أنفسنا وھذا أھم بكثير لكن العلم بماذا
؟ بالقانون ,بقانون بايكون ,بالمغزى العميق العلمي المقدس
لالصطالح .
قانون الحكم الفعال ؟ أمركم شورى بينكم – سيد القوم خادمھم :الحكم ما يكون
جداال ) خليل مطران ( اإلعالم الفعال ؟ الصدق أوال وأخيرا .
قانون تفجر الخلق واإلبداع :الحرية فالحرية ثم الحرية .
قانون الحياة االجتماعية السليمة ؟ الوسيلة الوحيدة لكي أضمن حقي في
الكرامة والخبز ھو أن يتمتع كل فرد من أفراد المجتمع بحقه في الكرامة والخبز
ويسن ھذا القانون أيضا :بناء الثروة على الفقر والسلطة على القھر كبناء قصر
على رمال متحركة أو تشيد فرح على فوھة بركان ) آخر من جرب مفعول ھذا
القانون ولد البھلوي ( قانون المناعة في ھذا العالم الخطير ؟ وأعدوا لھم ...
كالبنيان المرصوص ..وال تفرقوا .
قانون التقدم االقتصادي ؟
وأعملوا ...
قانون القوانين ؟ ال سلطة فوق سلطة القانون .
آخر نكتة ضحكة لھا مدة :ضبطت قوى الغدر والعدوان) الغاشم طبعا ( عربيا جيبه
منتفغ بشكل مثير ومشبوه .إرھابي خطير ؟ استنفرت قوات الطيران والبحرية
وأعلنت حالة الطوارئ القصوى .إحاطة الدبابات بالرجل ) إحاطة الخ ( – انتصب
المظليون والمغاوير – اقتربوا منه زحفا على البطون شاھرين مدفعھم الرشاش
65
وأسنانھم تصطك من الرعب .م ّد مھندسو األلغام أيديھم إلى الجيب المشبوه وھم
يتصببون عرقا .ماذا أخرجوا ؟ " كانون وبراد و كأسي شاي " .
يا عرب اجمعوا نكتنا قبل أن تضيع فھي الشاھد الوحيد على أننا رغم التخلف
شعوب ذكية – واعية ,تجيد نقد نفسھا وتعرف حقيقة وضعيتھا وأننا أذكى بكثير
مما تصور اإلذاعات " كل شيء على ما يرام يا مدام الماركيزة "
* قال ضاحكا :الحل أن نؤجر ھذا الوطن إلى من ھم بحق أجدر به منّا نتقاسم ثمنه
ونھاجر ويطفئ آخر من يخرج من أضواء المطار .
قلت :ال .يكفي أن نحبّه وسيتقدم .
***
66
المبتذالت العشر وردّي عليھا
في أعقاب الھزيمة المر ّوعة التي منينا بھا سنة 1967قال نزار القباني ,يصف
حالة العرب الفكرية التي أدت بنا إلى الكارثة :
نجلس القرفصاء .
نبيع الشعارات لألغبياء
ونحشو الجماھير قشا وتبنا
ونتركھم يعلكون الھواء
وبھذا األبيات يكون الشاعر قد شخص مرضنا العضال :مرض الشعارات :أخبارنا
في اإلذاعة شعارات .كتبنا في الدين ,في الفلسفة في التاريخ ,شعارات .أبحاثنا
العلمية أو على وجه التدقيق المتعلمنة شعارات .نظرتنا إلى أنفسنا وإلى اآلخرين
محكومة بالشعارات .والشعارات ھي نقيض الفكر ,ھي تكريس فشله ,ھي دورانه
في حلقة مفرغة ,ھي فكر من ال فكر له ,وجملة القناعات المبتذلة التي تجترھا
حضارة ذابلة .ومھمة الشعارات تغطية الفشل إذ ھي مرھم الف ّعال نضعه على
جروحنا الدامية المتقيحة ,نجد فيھا العزاء والسلوى واألعذار المختلفة التي نبرز
بھا أننا لم نعد خير أمة أخرجت للناس .
لكننا اليوم أمة بصدد االبالل من ذلك المرض العضال الذي أسميناه التخلف – وقد
بدا جسم الحضارة يستعيد شيئا فشيئا الحياة ومقومات القوة .و من مظاھر الشفاء
أننا أصبحنا نواجه أنفسنا بالحقائق التي تجرح وتؤلم وأننا نترك شيئا فشيئا
الشعارات لنوعين من العقول :الذليلة والمكيافلية .
نعم آن األوان ألن نواجه أنفسنا بالحقائق التي تجرح والتي تؤلم ألن ألمنا سيكون
الدليل على أن المشاعر التي خدرھا التخلف والمحاوالت اليائسة إلنكاره قد عادت
إلى العمل ...إلى الحياة ...
67
والشعارات في عالم الفكر عديدة ولو أن تغليفھا أذكى ,لكنھا مجرد شعارات وقد
أسميتھا المبتذالت .أردت إحصائھا يوما فوجدتھا كالوصايا :عشرة .وأردت أن
أر ّد عليھا باختصار فكانت ھذه الخواطر :
المبتذلة األولى
اإلسالم دين بحث على العدالة واإلنصاف وھو دين حق وفضيلة وتسامح واخاء الخ
...
* الرد :
-1من قال العكس ؟ فلماذا اإلصرار على فتح األبواب المفتوحة ؟
-2وھل البوذية والھندوسية والمجوسية واليھودية والماركسية والمسيحية عقائد
وديانات تحت على الرذيلة والجريمة وتنادي بالظلم وتنتصر للشر وتنادي بالتعرض
للحق والخير .
-3أليس صحيحا أن نجاح ھذه العقائد والديانات في تحقيق عالم المساواة واإلخاء
والفضيلة الخ ..كنجاح اإلسالم أي متواضع إلى أبعد حدود التواضع
المبتذلة الثانية
كان الماضي العصر الذھبي لألمة العربية .
* الرد :
صلة الحلقات من الفتن والحروب بدأت
-1غير صحيح .كان الماضي سلسلة مت ّ
بمقتل عمر مرورا بمقتل عثمان وعلي والحسين وسلطنة األمويين كان فترة
عبودية وظلم وحرب واقطاع
-2لم يعرف اإلنسان العربي عبر تاريخه الطويل فترة أحسن من التي يعيش فيھا
حاليا .فقد اختفى الرق ,وساد التعليم وسھلت المعيشة وطالت مدة الحياة وأصبح
السلطان يحسب ألف حساب للرعية .
-3العصر الذھبي إن كان لھذا المفھوم معنى ,أمامنا وليس وراءنا .
المبتذلة الثالثة
68
كنّا أمة واحدة وتشتّتنا وعملية التوحيد ھي رجوع إلى الحالة المثالية للعصر
الذھبي .
(1غير صحيح أننا كنا أمة واحدة .فقد كنّا وال نزال أناسا والؤھا للقبلية وللدين .
والقبلية ھي المرض العضال الذي لم يستطع حتى اإلسالم مداواته .على سبيل
المثال :أدرس حرب بكر وتغلب مائة سنة بعد ظھور اإلسالم ومدى بشاعتھا.
(2لم نعرف في تاريخنا الطويل قدرا مماثال لما نعرفه اليوم من وحدة سواء داخل
أقطارنا الصغيرة أو حتى بين مختلف األقطار .فالعربية الفصحى لم تعرف في يوم
من األيام انتشارا كالذي تعرفه ودور المسلسالت العاطفية التي تعرضھا التلفزة في
بناء األرضية الثقافية الموحدة أھم بكثير من ألف قمة وألف اجتماع وزاري يعقد
لوضع برامج وخطط " وحدوية "
المبتذلة الرابعة
تاريخنا سلسلة من االنتصارات واألمجاد العسكرية والثقافية والسياسية ,ولكي
نعيد ھذه االنتصارات يجب أن نخرف منه ومن محتواه ) التراث ( أسباب النھضة
والعزة والمناعة .
* الرد :
-1تاريخيا ھو رواية المنتصرين إلحداث التاريخ ونحن نكاد نجھل كل شيء تقريبا
عن تاريخ عربي يعطي الكلمة للزنج والقرامطة وللحالج وابن المقفع وسائر الذين
قمعوا وصلبوا وقتلوا حتى ال يكشفوا الوجه اآلخر للحقيقة .
-2تاريخيا ككل تاريخ حافل باالنتصارات وبالھزائم ومن ثمة فإن تراثنا ھو اآلخر
حافل بالغث والسمين
-3التراث ھو جملة تصورات جيل معين للعالم وجملة التكنولوجيات التي يتعامل
بھا مع العالم إلخضاعه وتغييره .ومن البديھي أن كل جيل يأخذ بتجربة من سبقه ,
لكن ھناك في تاريخ األجيال فترات عصبية تفرض التغيير الجذري ألن العالم يشھد
بدوره " تغييرات جذرية " لم تعد تتماشى مع تصورات األجيال السابقة ,وال
تخضع لتكنولوجياته .نحن عرب القرن العشرين نعيش مثل ھذه الفترات .
69
المبتذلة الخامسة
فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية كبير .فلوال صفرنا لما طلعوا إلى
سطح القمر وقد كنا السباقين في سائر الميادين كالطب والفلك والحساب .الخ ...
يوم كانوا يتخبطون في ظلمات جھل عصورھم الوسطى
* الرد :
-1صحيح أن فضل العرب كبير ,لكن أليس من اإلنصاف أن نعترف أيضا بفضل
الھنود والفرس واإلغريق الذين أخذنا عنھم ھذه العلوم .
-2غير صحيح أن نھضة الغرب كانت نتيجة وتتمة النھضة العربية ) األولى ( .فقد
تقدم الغرب بفضل عبقريته الذاتية وكان تقدمه في بعض األحيان رھين تمرده على
التراث العربي اإلسالمي وتجاوزه له .
-3إن الفتى من قال ھأنذا – ليس الفتى من قال كان أبي
المبتذلة السادسة
تلقى تبعة التخلف على االستعمار واإلمبريالية والقضاء والقدر الخ ..أما نحن
ومؤسساتنا الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية ,فمنه براء
* الرد :
-1إن تخلف مجتمع ما ليس إال مؤشرا إن دل على شيء فعلى ھشاشة مؤسساته
الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية ,وبالتالي فالتخلف ليس مرضا طالما
يصيب جسما يافعا وإنما أعراض مرض تسبب فيه المجتمع نفسه واألمراض من
نوعين :الزائدة الدودية ومضاعفات اإلدمان على المخدرات – التخلف مرض من
النوع الثاني .
-2أسباب التخلف عديدة ومتشابكة .ولكل مؤسساتنا ضلع فيه :الفكر ,الدين ,
السياسة ,بصفة عامة اإلنسان العربي.
-3عملية الخروج من التخلف متصاعدة السرعة – كل الحركات الفكرية
واالجتماعية والسياسية التي تشھدھا مجتمعاتنا تشھد بعمق التغييرات الجذرية
70
الذاتية التي تعرفھا أعماق جسم األمة والويل لمن يتأخر مرة أخرى عن الركب أو
يحاول الوقوف في وجه التيار العاتي .
المبتذلة السابعة
نحن شعب كافح وجاھد وصبر وثابر للحصول على االستقالل الذي أصبحنا نتمتع
به عن جدارة واستحقاق ) وھات من الخطب والدراسات واألناشيد واالحتفاالت الخ
( ..
* الرد :
-1نحن لسنا مستقلين ال على الصعيد االقتصادي وال على الصعيد الثقافي ومن ثمة
نحن لسنا مستقلين على الصعيد السياسي .
-2مفھوم االستقالل في عصر كھذا بال معنى وھو شعار فارغ من كل محتوى فكل
الشعوب مرتبطة ببعضھا البعض وصالت الترابط والتالحم والتبعية المتبادلة تزداد
قوة يوما بعد يوم وذلك على كل المستويات ومن ثمة ال وجود لدولة مستقلة مھما
عظمت .
-3المشكلة المطروحة أمام كل األمم والدول ليست االستقالل وإنما اكتساب وزن
كاف يجعلھا تأخذ بقدر ما تعطي وتؤثر بقدر ما تتأثر في إطار عالقات التبعية
المتبادلة بطبيعة الحال نحن العرب نعطى حاليا تجاريا أكثر مما نأخذ ,نتأثر ثقافيا
أكثر مما نؤثر ,نستھلك العلم والتكنولوجيا وال ننتج منھما شيئا وتبعيتنا السياسية
ھي النتيجة الحتمية لوزننا الحقيقي أي الھش .وبھذا تكون الخطب واألناشيد
واالحتفاالت مجرد تقنيات دعائية ھدفھا التغطية والتمويه والكذب على النفس
والغير .
سب االستعمار واإلمبريالية والشكوى الدائمة من تجاوزاتھا وإنما
-4المھم ليس ّ
الوعى الدائم بأننا في إطار عالقات القوة التي تحكم تعامل األمم ,شعوب مشتتة ,
ضعيفة فقيرة متخلفة ثقافيا وتكنولوجيا ,أي أننا قابلون لالستعمار من جديد إذا
اقتضت ذلك مصلحة العمالقة نحن قطط تحكي انتفاخا صولة األسد تحت مراقبة
السباع الحقيقية .فحذار !
71
المبتذلة الثامنة
االستعمار واإلمبريالية ھما ألد أعداء األمة العربية ,وھما مشكلتنا األولى وكل
مصائبنا نتيجة عنھا
* الرد :
(1كان االستعمار تتويج تخلفنا العلمي والتقني والتنظيمي واألخالقي ,وكان
الخاتمة الحتمية النحطاطنا وانھيارنا الحضاري ولم يكن سببه – فأنت ال تستطيع
أن تستعمر اليوم شعب عظيما كالشعب الياباني أو األمريكي إذ ال تستعمر إال
الشعوب القابلة لالستعمار وقد كنا تلك الشعوب .
(2إن االستعمار لم يزيد الطين بلة ,بل بالعكس شكل عامال إيجابيا في تاريخنا .
فبإذالله لنا وبابتزازه لخيراتنا وبإھداره لكرامتنا قد وضعنا أمام خيارين :الموت
واالنقراض أو رفع التحدي بشحذ ھممنا وبإثبات ذاتنا – وكان رفعنا لتحدي ملحمتنا
التاريخية ,وفرصتنا لنھوض من نوم ثقيل – صحيح أن االستعمار آفاقنا بركلنا
بالرجل ولكنه آفاقنا ,شكرا جزيال له إذن .
(3كل أمة عظمى بطبيعتھا إمبريالية تريد فرض مفاھيمھا وعقيدتھا واستغالل
الشعوب الضعيفة المحيطة بھا .أنلوم األمريكان والروس على إمبرياليتھم ؟ نحن
أعرق األمم اإلمبريالية – أنسيتم أننا أخضعنا اإلسبان سبعة قرون وأننا حكمنا
إيران ثالثة قرون وأننا قضينا على لغة الفراعنة ودفعنا البربر نحو الجبال وأن
وطننا الممتد من الخليج إلى المحيط ھو كل ما بقي لنا من فتوحات األجداد .
المبتذلة التاسعة
إسرائيل دولة غاصبة ,استولت على أراضينا وحقوقنا المشروعة ظلما وعدوانا –
والحق معنا وھي تجسيد للظلم والطغيان والشر ) إلى آخر النواح ( .
الرد :
(1من المؤكد أن إسرائيل استولت على أراض لنا وأھدرت حقوقنا وشردت شعبنا
من شعوبنا ,لكن ماذا تنفع الشكوى من ظلم ال نستطيع له دفعا .
72
(2متى كان العدل مقياس تعامل الشعوب مع بعضھا البعض :أال يالحظ التاريخ أن
الحرب سجال منذ وجد اإلنسان بين شعوب غازية وشعوب مغزوة وأن مصير
النزاع ال يتقرر وفق مقاييس أخالقية وإنما حسب ميزان القوى ؟ ألم نغز شعوبا في
الماضي ؟ أھذه أول وآخر غزوة عرفھا وسيعرفھا تاريخنا الحافل بالكر و الفر .
(3وجود إسرائيل نقمة ونعمة في نفس األواني – راجعوا نظرية المؤرخ البريطاني
توينبي TOYNBEEفي دور التحدي كحافز جبار تمخضت عنه كل الحضارات
العظيمة .
وإسرائيل اليوم ھي تحدينا األكبر – إسرائيل قوة علمية – تكنولوجية سياسية ثم
عسكرية -السؤال ھل سنعرف بفضل إسرائيل وما تفرضه علينا إلى مستوى
التحدي المطلوب أي ھل سنخلق عوامل التفوق العلمي التكنولوجي االقتصادي
السياسي ثم العسكري فتزول إسرائيل أو تقلم أظافرھا أم ھل سنبقى دون التحدي
فتترعرع إسرائيل كسرطان خبيث يقضي عاجال أم آجال على ھذه األمة .
رجاء كفوا عن التشدق بالحقوق المشروعة – ھل منعت حقوقھم المشروعة الھنود
الحمر من االنقراض ؟
المبتذلة الرئيسية ) ومكمن كل الداء (
أنا :المنتمي إلى العقيدة الفالنية والمذھب العالني والحزب كذا على حقا وبقية
الناس خونة ,في قلوبھم مرض – كفار مالحدة ,عمالء االستعمار واإلمبريالية إلى
آخر التفاھات التي يمكن أن تسجل منھا عشرات العينات عند استماعك إلى نشرات
أخبار اإلذاعة العربية .
الرد :
* قال أذكى من جادت به قريحة الحضارة العربية عبد ﷲ ابن المقفع " :وأردت
الدين فلم وقع ذلك في نفسي اشتبه على أمر الدين .أما كتب الطب فلم أجد فيھا
لشيء من األديان ذكرا يدلني على أھداھا وأصوبھا .وأم الملل فكثيرة ومختلة ليس
منھا شيء أال وھو على ثالثة أصناف :قوم ورثوا دينھم عم آبائھم وآخرون أكره
عليه حتى و لجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا وكلھم يزعمون أنه على صواب
73
وھدى وأن من خالفه على خطأ وضاللة واالختالف بينھم كثير في أمر الخالق
والخلق ومبتدأ األمر ومنتھاه وما سوى ذلك وكل على كل زار وله عدون وعليه
عاتب فرأيت أن أراجع علماء أھل كل ملة وأناظرھم وأنظر فيما يصفون ولعلي
أعرف بذلك الحق من الباطن فاختاره وألزمه على ثقة اليقين غير مصدق بما ال
أعرف وال تابع ما ال يبلغه عقلي ففعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد أحدا من
األوائل يزيد عن مدح يدنه وثم ما يخالفه ...فاستبان لي أنھم بالھوى يستجيبون
ويتكلمون ال بالعدل وأجد عن أحد منھم صفة تكون عدال ويعرفھا العقل ويرضى بھا
فلم رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منھم سبيل .
وقال ذلك الذي كان يقال عنه أنه أعمى وھو نافذ البصر والبصيرة أبو العالء
المعري :
غسل الوجوه ببول البقر عجبت لكسرى واشياعه
ويظلم حيا وال ينتصر وقول النصارى آله يضام
رسيس النساء وريح القتر وقول اليھود آله يحب
لرمي الجمار ولثم الحجر وقوم أتوا من أقاصي البالد
أيعمى عن الحق كل البشر فوعجبا من مقاالتھم
وقال أنبل من جادت به قريحة الحضارة العربية ابن عربي يترفق ويتلطف بالجھال
الذي مرغھم أبو العالء في الوحل :
فمرعى لغزالن ودير لرھبان لقد صار قلبي قابال كل صورة
وألواح توراة ومصحف قرآن وبيت ألوثان وكعبة طائف
ركائبي فالحب ديني وإيماني أدين بدين الحب أين توجھت
وقال أشعر من جادت به قرحة الحضارة العربية ايليا أبو ماضي :
وإن جل إال كان في عنقه غال فقلت لھا ال يقتني المرء مذھب
تقيده خمرا وتضبطه خال فما مذھب اإلنسان إال زجاجة
فلقنني غيا وعلمني جھال تتلمذت لإلنسان في الدھر حقبة
رأى غرة مني تعلم بي القتال نھاني عن قتل النفوس وعندما
74
وصور ظلما فيه تمجيده عدال وذم إلى الرق ثم استرقني
وكل نظام غير ما سنّ مختال وكاد يريني اإلثم في كل ما أرى
لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذلى إلى أن رأيت النجم يطلع في الدجى
وأقبحه شكال كأحسنه شكال وكيف تغذي األرض آالم نبتھا
وأصبحت لي دين سوى مذھبي قبال فأصبح رأيي في الحياة كرأيھا
وصار كتابي الكون ال صحف تتلى وصار نبي كلما يطلق العقال
ويقول كاتب ھذه السطور
ما أجمل اإليمان وما أحبه إلى النفس وما أقبح الشك وعذابه .لكن اإليمان إن أدى
إلى التعصب والعنف والبغضاء فھو رذيلة الرذائل وإن شكل حاجزا مانعا يقف حجر
عثرت في وجه الفكر الخالق فھو مصيبة المصائب .والتعصب الديني والسياسي
والعرقي والمذھبي ,غذاء نوعين من العقول :المكيافيلية والذليلة :
أما المكيافيلية فتستعمل المبتذالت لتركيز سلطانھا باسم قيم ال تؤمن بحرف منھا .
أما الذليلة فھي تصفد أيديھا باألغالل وتتصور كما يقول أبو ماضي ظلما تمجيده
عدال .
والتعصب المذھبي والديني والسياسي يلعب عندھا دور الخرقة التي توضع على
عين الجمل وھو يدور حمل البئر يضخ الماء ألصحابه تمنعه من " الدوخة " وھو
يدور إلى األبد في تلك الحلقة المفرغة.
وأضيف :
قوة الغرب الضاربة ليست سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وإنما ھي قوة فكرية
تمخضت عنھا سائر مظاھر التفوق والسيطرة .
وسبب وجودھا أن الفكر الغربي كسر وھشم كل األطر األحادية دينية أو سياسية أو
مذھبية أرادت احتواءه وأن الفكر ال يحترم إال الحقيقة وإنه في بحثه الدائم عنھا
شك متصل ,ونقد دائم ,وحركة ھدم وبناء ال تفتقر .إنه ال يقف خاشعا أمام اسم أو
نظرية – إنه يجھل المبتھالت .إنه تجاوزھا .إن كل الحركات السياسية والفكرية
في خدمته وليس ھو في خدمتھا .
75
تعصبنا ومحاوالتنا احتواء الفكر في إطار جامد ,أكان دينيا أو فكريا أو سياسيا ,
ھو سبب التخلف االجتماعي والفردي.
وحتى ال تكون جمال يدور في حلقة مفرغة ,وحتى ال تكون بخال يمشي في الخط
المرسوم ,وحتى ال تكون شاة تساق إلى المذبح والمسلخ والمطبخ وھي تسبح
بحمد ذابحھا وسالخھا وآكلھا ,وان كنت رغم كل ما قلت ھاويا للشعارات مرغما
بھا ,فال تتخذ لك شعارا غير قول ذلك الذي اعتزل في المعرة ثالثين سنة ترفعا و
ابتعادا عن العقول الذليلة العقول المكيافيلية.
كذب الناس ال أمام سوى العقل
مشيرا لصبحه والمساء
أيھا الغر إن خصصت بعقل
فأسأله فكل عقل نبي
ويوم يصبح ھذا القول شعار كل عربي فستتألق في سماء الفكر ألف نجمة تضيء
ظلمات ھذه الحضارة بأجمل نور وستورق أغصان شجرة ھذه الحضارة وستنوء
بحمل ألف ثمرة وسنتقدم يومھا سننشد بنشوة قول ذلك الذي تتعقبه أجھزة
المخابرات أحمد فؤاد نجم :
دور يا كالم على كيفك دور
خلي بلدنا تعوم في النور
نرمي الكلمة في وسط الظلمة
تولد سلمى وتحبل نور
***
76
التراث بين التمجيد وسلة المھمالت
أول سؤال يطرحه التفكير الموضوعي عند تعامله مع مشكلة التراث ھو :لماذا
يشكل ھذا التراث مشكلة ؟ فالنقاش محتدم منذ قرابة قرن وبال نتيجة حول ماھيته
وقيمته ودوره في انحطاطنا أو في نھضتنا الحاضرة والمرتقبة .فھذا يمجده
واآلخر يرى فيه ترك بغيضة يجب التخلص منھا بأسرع وقت لاللتحاق بركب األمم
الخالقة " وكل يزعم أنه على صدق وأن من خالفه على خطأ وظاللة " كما يقول
ابن المقفع .
ثم تتزايد حيرة المفكر وھو يبحث عن رد منطقي وسط ھذه الزوبعة الفكرية فإذا به
يتساءل :أترى المشكلة حقيقية أم ھي مفتعلة " شعوريا أو ال شعوريا " .وإن
كانت تعلة فما معنى افتعالھا .ثم تتتابع األسئلة وتتضارب :ماذا وراء كالمي ھذا
وذاك ,أي وظيفة تؤديھا النظرية الفالنية والنظرية العالمية ,ھل من الممكن الحكم
عليھما موضوعيا ومن أي زاوية و تتلخص كل ھذه التساؤالت في سؤال :واحد ما
معنى ھذا النقاش .
و الفكر الموضوعي كما ھو معلوم ال يبدأ بالحكم المعياري وإنما ينتھي به و من
ثمة وجب أن نبدأ بالبداية أي باالستماع مليا و بمنتھى االحترام إلى القائل بموجب
تمجيد التراث و إلى القائل بلزومية رميه في سلة المھمالت...
-1النظرية التمجيدية:خالصة النظرية معروفة :كل شئ موجود في التراث خاصة
إن كان الدين )آالف الكتب( – نحن نجد فيه جل قواعد التعامل الصحيح مع العالم
للتمكن منه و التحكم في خيراته )مئات الكتب (سبب نجاح السلف الصالح تشبثه
بالوصفة الكاملة)آالف الرسائل( سبب فشل الخلف الطالح ابتعاده عن الوصفة
الكاملة)آالف المقاالت( و من ثمة فان العودة إلى نجاح السلف الصالح تتطلب
الرجوع إلى الوصفة الكاملة أو التراث )آالف الخطب( .يسدل ھنا الستار على
77
الخاتمة السعيدة لمغامرة اإلنسان العربي,الذي أضاع حبيبه عن غباء ثم ثاب إلى
رشده و عاد إليه ووجد بين ذراعيه السعادة و الكثير من البنين و البنات.
تبقى بطبيعة الحال بعض التساؤالت الھامشية :سر ھيمنة ھذه الحضارات السائدة
التي تتحكم فينا و التي ال تستمد نجاحھا من وصفتنا السحرية ؟ استحالة إيجاد
تطابق بين ما آمن به السلف الصالح وما نراه حوالينا ؟ والردود بطبيعة الحال
مفحم وجاھز :أما الغرب فقد أخذ منا كل شيء ) عدد في آالف المقاالت والكتب (
االختراعات الحقيقية والكاذبة التي سرقھا منا – وذ ّكر بتضلعنا في الحساب أيام
الخوارزمي والطب أيام ابن سينا وال ننسى التركيز على أھمية اكتشاف الصفر الذي
أصبح فيما بعد العالقة المميزة لحضارتنا .أما إذا كنت مشطا في تراثيتك فحاول في
دراسة كاملة إثبات عروبة شكسبير واسمه العراقي ابن سبير .
-2النظرية النقدية :
تقول ھذه النظرية بأن التراث ھو أكبر عائق ضد التطور الطبيعي لألمة العربية .
فھو على شكله الديني تكريس األبنية الميتافيزيقية ) الخضوع لقوة غيبية تھدد
اإلنسان وتكيل له التھم وتتعامل معه بأسلوب إن خضعت فلك قطعة سكر وإن لم
تخضع فمآلك جھنم ( وتكريس نظم اجتماعية مجحفة ) بعض الكتب ( .
كذلك في شكله األدبي فھو تعبير عن قيم ومفاھيم إقطاعية لمجتمع عبودي ) بعض
الدراسات ( .أم في شكله العلمي فھو تاريخ أو تأتآت للعلم الذي لم يأخذ أبعاده
الحقيقية إال بنھضة الغرب ) مقاالت لم تطبع ( ومن ثمة فإن علينا رمي التراث إلى
سلة المھمالت والبحث عن قيم عقائدية عصرية ) الماركسية أو الليبرالية الغربية (
وإدارة الظھر ألدب الباكين على األطالل و االلتحاق بركب األمم التي تصنع العلم
والتكنولوجيا .
يبقى بعد االستماع إلى وجھتي النظر) وخاصة وجھة النظر األولى التي استطاعت
تسخير كل وسائل الدعاية واإلعالم وقمع النظرية المخالفة ( إن تتساءل عن مدى
صدقھما والتصاقھما بالواقع وخاصة عن معنى قولھما ھذا أو باألحرى عن
الوظيفة المبھمة التي تؤديھا كل نظرية .
78
من البديھي أن وظيفة النظرية التمجيدية التركيز على إيجابيات التراث وتناسي
سلبياته .فھي تتناسى مثال أن الوصف الديني لم تحقق في أي عصر ما أنتظره منه
اإلنسان العربي من عدل وسالم الخ ...بل إنھا تمخضت في أغلب الحاالت عن
أنظمة قمعية حكمته باسم الدين ونقضت أبسط تعاليمه .
كذلك نالحظ أن تسقط من حسابھا أجزاء كاملة من التراث شكلت حصون مقاومة
فكرية ضد اإليديولوجية السائدة الخ...
أن من الناحية األدبية فھي تسلم تسليما مطلقا بھذا األدب الذي غرھا منه الشكل
متغافلة عن حقيقة بديھية إال وھي إن العرب أغزر الشعوب شعرا ھم أقلھم شاعرية
.فربع شعرنا تملق ) مدح ( وربعه الثاني شتم ) ھجاء ( وربعه الثالث استعراض
عضالت من نوع " أنا الذي قرأ األعمى أدبي " ...أو " وإني إن كنت األخير
زمانه " أما ربعه األخير فخاص بالجواري والغلمان ...كذلك تتناسى أننا لو غربلنا
أربعة عشرة قرن من األدبي لما وجدنا فيه إال القليل النادر الذي نستطيع أن
نضاھي به قرنا من القصة الروسية أو الشعر اإلنجليزي أو الفلسفة األلمانية أو
الصينية .
لكن المغالطة تأخذ أبعادا مخيفة في تقيمھا لتراث فھي تركز على تبعية الغرب لنا
في العصور الوسطى وھذا صحيح .لكنھا تنسى أن تقول أننا أخذنا ھذا العلم عن
أصحاب له أقدم منا ھم اإلغريق والفرس والھنود ,وخاصة أن الغرب تتطور بھذه
العلوم إلى مدى ثم لم يتطور إال لما ثار عليه .من الممجدين يعرف قصة
''باراسلز'' الذي وقف فوق منصة جامعة بال في بداية القرن الخامس عشر
يحاضر في الطب وبدا درسه بحرق كتاب القانون البن سينا قائال لطلبة :ھذا العلم
قد انتھى ومن ھنا نبدأ .
أيعنى ھذا أن النظرة الموضوعية تتنصر للقائلين بقابلية سلة المھمالت لتلقف ھذا
التراث ؟ ال طبعا .ألن نفس النظرة ستكتشف في النظرية النقدية تناقضات صارخة
وتحامالت تاريخية ال يجوز السكوت عليھا .لماذا يريد المتمردون على التراث
إلقاءه في سلة المھمالت ؟ الرد البديھي :لتحرير اإلنسان العربي من الدجل الفكري
79
) الديني واألدبي واالجتماعي ( الذي يشكل التراث أرضيته ودعامته – شكرا
للمتمردين على نواياھم الطيبة لكن المشكلة تتعقد عندما نكتشف أن اإلنسان العربي
متشبع بتعاليم دينه وعاداته الخ ...وخاصة أنه بأمس الحاجة إليه .معنى ھذا أن
اإلنسان ھو حصيلة التراث وأن التراث ھو حصيلة اإلنسان عبر التاريخ ,والعالقة
عالقة المرء بولده أو بأحشائه وليست عالقة اإلنسان بثوب بلي فيخلعه ويستبدل
به ثوبا آخر أقرب إلى الموضة .صحيح أن الجلد قد يكون بحاجة إلى شيء من
الصابون أو إلى مرھم إن تقيح أو إلى مبضع الجراح الستئصال ورم خبيث ,لكن
استبدال جلد كامل عملية شائكة إن لم نقل مستحيلة .حقا سنقتل المرض لكن الثمن
حياة المريض والشعوب تقاوم عادت عملية السلخ ھذه والويل لمن يحاول تحريرھا
عن طريقة شاه إيران .
لنغلق مؤقتا موضوع التقييم لنتساءل عن وظيفة النظريتين وسنكتشف أنھا واحدة .
فكالھما تطرح موضوع مصير اإلنسان العربي إذ يالحظ تخلفه وفقره وجھله
وتبعيته للحضارات مھيمنة غريبة عنه ,تمتص خيراته وتسخره لمصالحھا
وتتطاول على شخصيته ودعاماتھا .
التشخيص إذا ھو واحد لكن العالج مختلف :فالنظرية التمجيدية تتضح لحكم
التاريخ األليم – ترفض بعنجھية أننا شحاذون في سوق الحضارة – تحاول تجاوز
عقدة النقص التي نعاني منھا أفراد وجماعات ) أسلوب التذكير الممل بأيادينا
البيضاء على الغرب ( -تتشنج في ادعاءاتھا بأننا خير أمة أخرجت لناس والحال أن
نسبة األمية فينا % 80
) %1في الغرب ( .أي دعامة لھذا االدعاء وحاضرنا تعيس ومستقبلنا مجھول ؟
الماضي طبعا .ھنا يقع تخييل ھذا الماضي ) ( Mythisationفتسقط منه أبعاده
الحقيقية من ظلم وعبودية وحروب واضطھاد فكري ليصبح جنة عدن التي طردت
منھا األمة العربية .
80
الحظ أن تخيل الماضي كعصر ذھبي عملية شائعة في كل الحضارات وفسرھا فرويد
بأنه تصعيد حنين اإلنسان – الطفل إلى عصر الطفولة .
يبقى األھم .بما أن الماضي ھو العصر المثالي وبما أن تقھقر ھو نتيجة عدم
تطبيق الوصفة المثالية ,فالحل إحياء الوصفة والعودة إلى ھذه الجنة المفقودة .
مجمل القول أن وطن الممجدين ھو الماضي ومن ثمة فأنا أسميھم بالزمانيين .ما
الفرق بينھم وبين المتمردين ؟ الفرق بسيط .فھؤالء يبحثون في الحل ال في الزمان
ولكن في المكان .في الوصفة السحرية بالنسبة إليه موجودة مثال في روسيا أو
الصين أو كوبا أو أمريكا أو فرنسا – لنسميھم إذا المكانين ولنتركھم في نقاشھم
العقيم مع الزمانيين مع تمنياتنا لكال الطرفين باكتشاف حلول المجتمع العربي من
خالل تجربة طريقة حكم الخلفاء الراشدين أو التنظيم الروسي للكولكوز .
آن األوان لنطرح السؤال الحقيقي :ما ھو التراث ؟ فربما يكون الرد اآلن
موضوعيا بعد أبعادنا عن النقاش العواطف المتضاربة للممجدين و للرافضين .
لنطرح تعريفا للنقاش :التراث ھو تجربة جيل و ذاكرة األجيال التي تليه .
لنحلل :لكل مجتمع ما في زمن ما ومكان ما طريقة لتعامل مع واقعه ,يمكن
تقسيمھا إلى ثالثة ميادين.
) ( 1التطور الديني أو الفلسفي للوجود ولمكانة اإلنسان فيه أي عالقتھا بالكون .
) ( 2التنظيم االجتماعي للعالقات البشرية داخل المجموعة وبين مختلف الجماعات
المنظمة .
) ( 3التكنولوجيا ومستواھا القدرة الحضارة على السيطرة على المحيط إلخضاعه
لمصالحھا .
ھذا إذن تفسير الجزء األول لتعريف ,لكنني قلت أيضا إن التراث ھو ذاكرة األجيال
التي تتتابع .فمن البديھي أن كل جيل مرتبط لتجربة الجيل الذي سبقه وأنه ال يعيد
اختراع تصور للوجود وتنظيم للمجتمع وتكنولوجيا جديدة كل مرة – فھناك ترابط
بين تجارب األجيال لكنه كما علمنا التاريخ ترابط نسبي .
وتاريخ التجربة الحضارية يتطور وفق إمكانيتين :
81
-1يستطيع الجيل ب أن يأخذ عن الجيل أ طريقة في التعامل مع الكون
فيفسرھا ويتعمق فيھا ) أدب شرح شرح الشرح( وإن يقبل تنظيمه إلى
المجتمع وإن يطور التكنولوجيا التي ورثھا عنه فيكون التغيير ھنا كميا
وليس نوعيا ...وھذا يحصل عادة طيلة قرون في كل الحضارات خاصة
في أعقاب تجديد جذري.
-2يستطيع الجيل ب إعادة النظر في تجربة الجيل أ فيكون التجديد في
الميادين الثالثة أو في أحدھا جذريا أي التغيير ھنا ھو نوعي و ليس كميا
.كيف يختار الجيل ب بين الجيلين ؟ الواقع أنه ال يختار بقدر ما تجبره
ظروفه الموضوعية على االختيار .فالجيل ب يتعامل مع حركة تاريخية ال
تتوقف ,قوامھا الصراع الدائم مع الطبيعة و الحضارة و ھو مطالب
بالتأقلم الدائم مع عالم كل شئ فيه حركة و تطور و تجدد.ومن ثمة فانه
سيفضل التعيش عل حساب تجربة الجيل أ ) كما يعيش ابن على مال
ورثه عن أبه وجده ,يقيه الحاجة ومتاعب الكبد ( كلما أمكن ,لكنه
سيجبر على مراجعة الحسابات إن تغيرت البيئة بفعل تطورھا الطبيعي
فإن نجح التأقلم أي إن استطاع تطوير تكنولوجيته ) الحربية -الصناعية-
الزراعية أو التجارية ( ومفاھيمه ) للعلم كدعامة التكنولوجية النظرية (
ونظامه ) إشراك عدد أكبر ممكن من األدمغة والسواعد في معركة البقاء
والتطور ( فإنه سيثبت ويعمق تجربته وستصبح ھذه التجربة الفنية ثروة
األجيال القادمة .أما أن فشل فإنه سيصاب بما يمكن أن نسميه بالفقر
الحضاري إذ تتجاوز األحداث – أي تجارب الحضارة األخرى بمفاھيمه
الكونية وتنظيمه االجتماعي وتكنولوجيته .الحظ أن تماسك الحضارة
يتطلب من األجيال المحافظة على حد أدنى من الوحدة في العقيدة والتنظيم
,لكن تطورھا يتطلب على العكس إعادة الراجعة الجذرية من حين آلخر .
كيف ولدت األمة العربية ؟ كيف أرسى الجيل األول دعائم حضارته بتمرد محمد ابن
عبد ﷲ القريشي على مفاھيم وتنظيم مكة ؟
82
كيف وقعت النھضة الغربية ؟ بتمرد جيل النھضة على تجربة األجيال السابقة .ال
حظ ھنا عمق ھذه الثورة :
-ھاھو قليلى يسخر من أرسطو وأتباعه وينفد تصور اإلنجيل للكون ) أي تصور
جيل اإلنجيل للكون (
-ھاھو باراسليز يحرق كتب ابن سينا وجالينوس ألن وصفتھما الطبية أظھرت قلة
فعاليتھا .
-ھاھو داروين يقضي على ما بقي من التصور الديني الخرافي لألجيال السابقة .
-وھاھو ماركس ينظر لألنظمة الشيوعية بينما ينظر غيره لألنظمة البرجوازية .
بطبيعة الحال ارتباط الثورة الفكرية وثيق بالثورة التكنولوجية التي تشكل امتدادا
لھا والتي تأتي بدورھا إلى ظھور تنظيم اجتماعي و سياسي جديد .
ال حظ أيضا أن نھضة شعوب كالشعب الروسي والصيني والياباني أي مجمل
الشعوب العظمى التي تتحكم في األرض بدأت بثورة داخلية على تجارب األجيال
السابقة ,وكأن ھناك قانونا يقضي بأن على جيل من األجيال إعادة تقيم تراثه
وتجديده فتطلب األمر قطع الصلة بتجربة من سبقوه وأن ھذا التجديد الدوري
ضمان دوام الحضارة .
من البديھي أن قطع الصلة مھما كان مھما ال يستطيع التخليص من ذكرى سلبيات
أو إيجابيات تجربة األجيال الماضية ,وذلك بفضل اللغة التي تشكل صدى تلك
التجربة عبر القرون ,ومن ثمة قلت إن محاولة المجددين رمي التراث في سلة
المھمالت محاولة فاشلة ألنك قد تطور التكنولوجيا والتنظيم االجتماعي وحتى
المفاھيم العقائدية ,ولكنك لن تستطيع إلغاء اللغة ما تحمله في طياتھا من تصورات
مبھمة ھي في الواقع خالصة تجربة كل ھذه األجيال المتتابعة .لنستخلص اآلن
بعض االستنتاجات المنطقية التي تمليھا ھذه النظرة الموضوعية .
) ( 1التمجيد الذي يغالي فيه البض لتراثنا مقبول طالما اكتفى بالثناء على نجاح
األجيال العربية الثالثة أو األربعة بعد الھجرة ,ولكنه مرفوض إن كان ھدفه التغطية
83
على فشل المتابعة وخاصة جيلنا ھذا .ومرفوض مرتين إن ادعى إمكانية تطبيق
ھذه التجربة الناجحة في زمانه ومكانه لحل مشاكل جيلنا ھذا .
) ( 2انحطاط الحضارة العربية ناتج عن عدم تجديد تجربته العقائدية واالجتماعية
والعلمية ) لتغلب نزعة المحافظة على نزعة الخلق ( حيث اعتبرت األجيال
المتتابعة أن تجربة الجيل األول أزلية صالحة في كل زمان ومكان والحال أنه ال
وجود لشيء من ھذا القبيل في كون قانون التطور والتجدد والخلق الدائم -وقد أدى
ھذا الفشل إلى تجميد حركة الفكر في كل الميادين فكان العجز في ميدان التنظيم
االجتماعي واإلبداع التكنولوجي .
) ( 3معاناة جيلنا وجيل آبائنا من شتى أنواع االستعمار ھي ضريبة باھضة لعجزنا
عن التجدد والتطور الداخلي .وقد اضطررنا لكي نواكب عصرنا أن ننھل ال من
تجربة ذاتية خالقة وحية بل من تجارب أجيال أجنبية عنا فأخذنا عنھم الكثير في
ميدان التنظيم االجتماعي والتكنولوجي ,مما أدى إلى تشبع بطئ وال شعوري
بعقائد ھذه األجيال األجنبية .
) ( 4التخلص من التراث عملية مستحيلة ألنه ذاكرة أمتنا بغض النظر على كونه
تجربة ناجحة لجيل وتجربة فاشلة ألجيال .واألمم ال يمكن أن تستغني عن ذاكرته
سواء كانت الذكريات مؤلمة أو سارة .
) ( 5مشكلة الحضارة العربية حاليا ھي ظاھرة االنفصام .فذكر أن مرتبطة بتجربة
ذاتية تتحكم فينا سلبياته ) ثقل العادات السيئة ( لكن فعاليتھا في تغيير الكون
وتنظيم المجتمع وإخضاع الطبيعة قليلة ,ومرتبطة بتجارب حضارات وأجيال
أجنبية ,ومن ثمة ھذه االزدواجية في الشخصية ولغة التخاطب ,والعادات الجديدة
الخ ...
واالزدواجية حالة صعبة الھضم لذلك كان وسيبقى النقاش حول التراث محتدما ,
يقول الممجد :سنتخلص من النشاز بالرجوع إلى األصل .ويقول المتمرد :
سنخرج منه إن محونا الذاكرة .
84
لكنني أقول :النقاش عقيم ألن االزدواجية موجودة والتاريخ قال كلمته ونحن لن
نغير شيئا من وظيفة التراث ومھامه و خصائصه بشتمه أو بمدحه .
أما الموضوع فإنه ال يتعلق بتقييم تجربة من سبقونا بقدر ما يتعلق بإثراء تجربة
من سيبتعدون ,أي أن التحدي المطروح أمام جيلنا ھو ھل ستنجح في زماننا
ومكاننا تجربة حضارية أخرى .
ھل ستنجح في إيجاد تصور منظور للكون ولمكانة اإلنسان فيه ؟
ھل ستنجح في اكتشاف نظم اجتماعية متطورة ؟
ھل ستنجح في إثراء و تقدم التكنولوجيا المعاصرة ؟
بعبارة أخرى ھل سنصبح خالقين ,أم أننا سنكتفي بالتغني وبالتعيش على حساب
صانعي الحضارات أكانوا من ماضينا أم من حاضرھم
يواجه البحث الموضوعي كلما تطرق إلى تاريخ الطب االجتماعي اإلسالمي سؤالين
رئيسيين أولھما مكانة ھذا التراث ودوره في تطور األفكار التي مكنت الطب
المعاصر من الوصول إلى المصاف الذي وصل إليه ,وثانيھما نوعية المساھمة
التي أداھا الطب اإلسالمي في إطار كفاح اإلنسانية ضد المرض .
وقلما يكون الرد على السؤالين ھادئا موضوعيا إذ يدخل ال شعوريا في نطاق حرب
قائمة منذ القديم بين العالم اإلسالمي والعالم الغربي ساخنة تارة وباردة أخرى على
ھذا الصعيد أو ذاك ولكنھا لألسف الكبير لم تضع أوزارھا إلٮحد اآلن .
ويمكن الرد على السؤالين من زوايا مختلفة وقد اخترنا من جھتنا المساھمة في
النقاش بالتركيز على استقالل األطباء المسلمين الفكري تجاه الممثل الرئيسي
للتراث القديم :الطبيب الروماني جالينوس ) 201-151م ( الشيء الذي مكنھم من
بلورة المنھجية العلمية الصحيحة .ترجم جالينوس إلى العربية في القرن التاسع
ميالدي وأعجب به المسلمون وأخذوا عنه الكثير ,وھو رغم إعجابه بنفسه خالفا
85
البوقراط وثقته بأن لكالمه صدق القوانين الموضوعية حقيقة علم من أعالم الطب
,فھو أحد آباء الفيزيولوجيا إذ كان أول من اكتشف دور المخ في الحركة اإلرادية
وأول من وصف سبعة أعصاب قحفية كما عرف بعض خصائص األعصاب
والعضالت واحتواء الشرايين على الدم .أما دوره في دراسة النباتات واستعمالھا
الصيدلي فمعروف بما فيه الكفاية لكن جالينوس رغم سعت علمه بالقياس للعصر
أخطأ في كثيرا من المواضيع فقد أكد أن الدم يتولد في كبدي الذي يلعب دور ضخه
وإن ھناك اتصاال مباشرا بين بطيني القلب مما جعله ال يفھم الدورة الدموية ,أو أن
أعظم الفك األسفلي عظميني ,واألھم من ھذا منھجيته العقيمة إذ كان يشرح
الحيوان ويطبق على اإلنسان وكأن ال اختالف بينھما ومن ثمة كثرة أخطائه
العضوية والفيزيولوجيا .كما نعلم أن تبويبه لألمراض كان خاطئ إذ كان تصنيف
وجمع األعراض يخفي األمراض حيث يقع الخلط بينھما .أما وصفاته في العالج
فكانت عادة على قدر كبير من الطرافة ومن الغرابة وكان جالينوس ال يتراجع أمام
استعمال التعاويذ والطقوس السحرية التي تدل على تمازج العقلية العلمية عنده
بالعقلية الخرافية .ونحن ال نستطيع فھم طبيعة موقف أطباء المسلمين منھم
وتقديره حق قدره إن لم نركز على الشھرة الكبيرة التي كان جالينوس يتمتع بھا
على مر العصور .فقد اعتبره الكثير من أطباء الشرق والغرب إلى بداية النھضة
الغربية المرجع األول واألخير ألغلب المسائل الطبية فأصبح اسمه وحده حجة
وذريعة وبالتالي فإنه لعب نفس الدور الذي لعبه أرسطو في الفلسفة ,أي أنه ناء
بكلكل صيته على مقدرات الطب ,فشل من حركية البحث والتنقيب لتشبث أتباعه
بكل ما كتب وصنف ,وإليمانھم األعمى بأن فيه كل الحقيقة وھذا الصيت الذائع ھو
الذي جعل ابن أصيبعة في طبقات األطباء يسمى الرازي بجالينوس العرب مثبتا
أھمية الرجل القصوى .
ومن النوادر التي تعطينا فكرة عن طغيانه الفكري قول بعض أتباعه بأن بنية
اإلنسان تغيرت منذ عھده لم اضطروا لتفسير أخطائه المتعددة في علم األعضاء .
كما يحفظ التاريخ صرخت شھيرة ألحد أطباء األنقيليز في بداية القرن السابع عشر
86
لما وجه بنظرية الدورة الدموية المنسوبة للطبيب ''ھارفي'' تعبر عن مدى التحجر
الفكري الذي بلغه األطباء الدوغمائيون من تالمذته
" إنني أفضل أن أخطأ مع جالينوس على أن أصيب مع ھذا األفاق المدعو ھارفي "
الشيء الھام أن المتتبع لتاريخ اإلسالمي فالطب يكتشف بسرعة أن األطباء
المسلمين وإن أعجبوا بجالينوس وأخذوا عنه فإنھم لم يماشوه في كل ما قال بل
نجدوا عند الكثير منھم نقدا حاد له وتجاوزا ألقواله ولنظرياته ونحن قل ما نجد ذلك
اإليمان األعمى بكل ما يصدر عن أصحاب األسماء الھائلة عند األطباء المسلمين
ھذا اإليمان الذي أصبح بديال للمنھجية العلمية بالنسبة ألغلب مفكري الغرب عھد
قاليلي ) الذي جعل من الحرب ضد التحجر الفكري ھدف كفاحه ( وھذا التحرر من
الدغمائية في الفكرة ھو الذي نستشفه من قول الرازي " إن الحقيقة في الطب ال
تدرك والعالج بما تصفه الكتب دون أعمال الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد
بالطبع كتب جالينوس خاصة ,كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف
عنده ھذا التمازج الغريب بين العقلية الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد
بالطبع كتب جالينوس خاصة ,كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف
عنده ھذا التمازج الغريب بين العقلية العلمية والعقلية الخرافية الذي نجده عند
الطبيب الروماني فھو ال يقول إال بالتجربة وھو من األوائل الذين جربوا العقاقير
على الحيوان قبل إعطائھا للمرضى فال طقوس عنده وال تعاويذ وال خلط عجيب
وعشوائي بين كل المواد الممكنة وإنما التفكير الموضوعي الذي يحاول الربط بين
علة ودواء محتمل يؤثر على الجسم بصفة مباشرة .فھو خالفا لجالينوس ال يخلط
بين األعراض واألمراض بل يحاول إثبات خاصيات واستقالل كل مرض رغم تشابه
األعراض وذلك واضح في دراسته التفريقية الشھيرة بين الجدري والحصبى .
وكان ابن سينا الذي نقل كثيرا من أخطاء جالينوس ال يخشى ھو اآلخر من
االستقالل برأيه فيدلي برأي المعلم في القانون مضيفا عند الحاجة " يقول
جالينوس وأقول " ونحن نجد نفس االستقالل والمنھجية العلمية عند ابن زھر الذي
كان أول من حاول الربط بين مرض معين وإصابة محددة في الجسم وذلك واضح
87
في دراسته لرطوبة غشاء القلب وأورام الصدر .ھذا وقد أكد المرار على أھمية
التجربة والمالحظة وتفوقھما على اآلراء الدوغمائية التي ترتكز على صيت
جالينوس .
وأحسن من ركز بقوة على ھذه النقطة عبد اللطيف البغدادي ) بداية القرن الثاني
عشر ميالدي ( الذي لم يكن يرضى عن التجربة بديال ) الحس حسب تعبيره (
ساخرا من كل العقول الذليلة التي تكتفي بما في كتب جالينوس بدال من االلتجاء إلى
حكم الواقع وھذا ما يتضح من خالل نص له :
" ومن عجيب ما شاھدناه أن جماعة ممن يتعاطون الطب وصلوا إلى كتاب
التشريح لجالينوس فكان يعسر إفھامھم لقصور القول عن العيان ,فأخبرنا أن في
المقس تالّ عليه رمم كثيرة فخرجنا إليه فشاھدنا من شكل العظام ومفاصلھا وكيفية
اتصالھا وتناسبھا وأوضاعھا ما أفادنا علما ال نستفيده من الكتب أما أنھا سكنت
عنھا أو ال بقي لفظھا بالداللة عليه أو يكون ما شھدناه مخالفا لما قيل فيھا والحس
أقوى دليال من السمع فإن جالينوس وإن كان في الدرجة العليا من التحري والتحفظ
في ما يباشره ويحكيه فإن الحس أصدق منه "
وھذا التحرر الفكري و االعتماد باألول على التجربة والمالحظة ھو الذي مكن عبد
اللطيف البغدادي من إثبات بعض أخطاء جالينوس كالقول بأن عظم الفك األسفل
عظمان جمعا بمفصل وثيق عند الحنك .
فقد رفض البغدادي االستكانة إلى ھذا الرأي بدون التثبت من صحته وھو أمر
نعتبره بديھيا في عصرنا الذي سادت فيه المنھجية العلمية إال أنه لم يكن كذلك في
عصور كثر فيه الخشوع أمام األسماء الھائلة والتشبث األعمى بأقوال القدماء
وتفضيل النظرية على التجربة والخلط بين المستوى الخرافي لألمور ومستواھا
الواقعي .
فالبغدادي ال يخشى من تسفيه رأي المعلم الكبير بأن الحس أصدق منه كما نرى في
قوله .
88
" والذي شاھدناه في حال ھذا العظم أنه عظم واحد ليس فيه مفصل وال درز أصال
في أشخاص كثيرين تزيد على ألفي جمجمة في أصناف من االعتبارات فلم نجده إال
عظما واحدا من كل ما شاھدناه وما اعتبرناه ما شاء ﷲ من المرات وما حكيناه "
وقد ماشاه ابن نفيس في نفس االتجاه إذ يقول :
" أما منافع األعضاء فيعتمد في تعريفھا على ما يقتضيه النظر المحقق والبحث
المستقيم وال علينا وافق ذلك رأي من تقدمنا أو خالفه" .ونحن نعلم أن رفض ابن
نفيس المبدئي آلراء جالينوس حول وظيفة الكبد والقلب والرئتين ھو الذي كان
بداية اكتشاف الدورة الدموية الصغرى إذ لم يؤمن بنظريته القائلة بأن الدم ينساب
من البطين األيمن إلى البطين األيسر عبر ثقوب وأن وظيفة الرئتين الرفرفة فوق
القلب لتبريده .
فالمالحظة الموضوعية التي أمن بدورھا الرئيسي كل األطباء المسلمون ال تثبت
وجود ھذه الثقوب و من ثمة وجب إعادة النظر في وظيفة القلب والرئتين وفي ھذا
يقول ابن نفيسة :
" فإن في جرم القلب ھنالك مصمت ليس فيه منفذ ظاھر كما ظنه جماعة ) أي
جالينوس وجماعته ( .فال بد أن يكون ھذا الدم إذا لطف نفذ في الوريد الشرياني
لينبث في جرمھا ويخالط الھواء ويتصفى الطف ما فيه وينتھي إلى الشريان
الوريدي ليصل إلى التجويف األيسر من تجويفي القلب "
وھكذا يظھر من خالل تعامل أكبر األطباء المسلمين مع جالينوس نبراس التراث
اإلغريقي الروماني تحامل الدعوى المبتذلة التي يروج لھا بصفة دورية البعض من
مؤرخي الغرب .فالطب اإلسالمي لم يكن مجرد ثالجة أودع فيھا التراث إلى أن
تلقته العقول النيرة إبان النھضة األوروبية ,بل بالعكس إذ شكل مرحلة عمل
إيجابي خالق واألھم من ھذا أننا نرى بجلية من خالل ھاته العالقة نوعية مساھمته
.فمن المغاالة مثال أن نقول أن الطب اإلسالمي عرف كل شيء أو كان السباق في
كل الميادين وھذا ما يدعيه بعض المؤرخين المسلمين الذين يرتكبون الخطأ
89
المعاكس لمؤرخي الغرب وھذه المساھمة تمثلت في تكريس المنھجية العلمية
الصحيحة أي :
-رفض االعتماد على صيت األسماء الھائلة في تتبع الحقيقة
-الدعوة إلى أعمال الماھر الحكيم برأيه كما يقول الرازي
-تفضيل التجربة ألن الحس أصدق من السمع كما يقول عبد اللطيف
البغدادي
-رفض تعميم المعارف المشتقة من الحيوان إلى اإلنسان ومحاولة دراسة
الجسم اإلنساني مباشرة .
-إخضاع النظرية للمعاينة العلمية فإن حصل التوافق قبلت وإن لم يحصل
لفظت كما فعل ابن نفيس باإلضافة إلى فكرة التفرغ للطب وحده كما فعل
ابن زھر ,والتركيز على أھمية ونبل الممارسة الجراحية المرتكزة على
معرفة حقيقية لعلم األعضاء كما فعل الزھراوي .
إن األفكار التي تبدو لنا من البديھيات كانت ثورية وجديدة وخالقة ,وقد شكلت
بدون أدنى شك مساھمة الطب اإلسالمي الحقيقية ورافدا للنھضة األوروبية التي
مھدت النفجار المعازف الطبية .
فنحن نجد خطا غير متقطع يربط بين دعوة الرازي إلى أعمال الحكيم الماھر برأيه
وثورة باراسلز ) ( 1541الذي أحرق كتب جالينوس وابن سينا في أول درس له
معلمنا بھذا وصول التمرد ضد التحجر والدغمائية الذي جمد الفكر في الغرب إلى
جامعات أوروبا وذلك بعد خمسة قرون من ظھور ھذا التمرد في الفكر اإلسالمي .
كما أننا نجد صلة واضحة بين تعطش عبد اللطيف البغدادي إلى المعرفة الصحيحة
في علم األعضاء ورفضه لتشريح جالينوس والعالم اإليطالي الكبير فيزال ) .
( 1514 -1564الذي ترك كتب جالينوس ليبحث وينقب ويشرح بنفسه كذلك
نكتشفنفس الصلة بين ابن زھر وبين مورقاني ) ( 1711– 1682الذي جعل من
المقارنة الدائمة ركيزة الطب لمدة قرون وإخضاع النظرية إلى خصائص األعضاء
ومحاولة اكتشاف الصلة الموضوعية التي تربط بينھما .
90
وفي الختام أود التذكير بأنه من الغريب أن ھاته المنھجية العلمية الصحيحة التي
تشكل المساھمة الحقيقية للطب اإلسالمي ,لم تظھر في الغرب إال لتختفي في
عالمنا إذ تالشت الحرية الفكرية إبان عصور االنحطاط وعاد األطباء المسلمون إلى
كل تراث جامد إلى عودة الفكر الخرافي إلى الساحة ...أي أنه حصلت ردة خطيرة
تماشت مع كل مظاھر االنحطاط األخرى أدت بنا إلى الوضعية الحالية التي ال يجب
أن تغفل عنھا لحظة والتي نحاول أن نضع لھا حدا .وھذه الوضعية تتلخص في
المستوى المتردي للحالة الصحية ألغلب الشعوب اإلسالمية والناتجة عن تخلف
المجتمع ككل وتخلف القطاع الطبي على وجه الخصوص والغياب الكلي لألطباء
المسلمين من ساحة البحث والتنقيب إبان ھذا القرن الذي مھد له األجداد ولم
يسايره األحقاد .
لذلك أنا أتمنى أن ال تركز على الماضي إال لكي نتعامل مع الحاضر والمستقبل
بفاعلية أكثر وما أحوجنا إلى ملتقى يكون موضوعه مستقبل الطب اإلسالمي وكيف
نستطيع التعجيل بعودته إلى ساحة البحث والتنقيب لكي يقع الربط بين ماضي
مش ّرف ومستقبل أشرف ,ونحن إذ نتطلع إلى تحقيق ھذا الھدف فليس من باب
الصراع العقائدي مع ھذا أو ذاك وإنما لكي ال نشعر تجاه من سبقونا بأننا قصرنا
في الرسالة ,وخاصة من باب المساھمة الالئقة بنا في مغامرة الفكر البشري
وصراعه ضد الجھل واأللم والمرض .
***
91
من اجل نظرة موضوعيّة لظاھرة التخلّف
عودة أخرى إلى ھذه المشكلة التي ھي شغلي الشاغل وكيف ال تكون والتخلف ھو
المرض العضال الذي يعاني منه مجتمعنا .
من البديھي أن علينا أن نحدد المقياس الذي نقيس به تقدمنا أو تخلفنا .والمقياس
ھذا بطبيعة الحال ھو المستوى الذي توصل إليه الغرب .وقد يقول القائل أن الغرب
ھو اآلخر يتخبط في مشاكل ال عد لھا وال حصر .وبالتالي أنه ال يمكن أن يشكل
نموذجا .واالعتراض صحيح ,لكن إلى مدى .فالمجتمع الغربي يعرف مشاكل
عويصة ولكن من مستوى أرفع بكثير من مستوانا ,والمھم أننا متخلفون بالنسبة
لتحقيق الھدفين الرئيسيين لكل جماعة بشرية :توفير الحد األقصى من الكرامة
والخبز فعلى الصعيد المادي مازال عدد كبير من أبناء ھذا الشعب يعانون من
الخصاصة والحرمان ,وھذا أمر ال يقبل ألنه يشكل إھانة جماعية ودليل قصورا في
عمل المجتمع ,باإلضافة إلى أنه خطر على تماسك وأمن المجموعة .فمن البديھي
أن الضمان األوحد لكرامة ورخاء الفرد ھو كرامة ورخاء المجموعة أما مشكلة
الكرامة ونوعية العالقات البشرية في مجتمعنا فھي اآلخر قائمة وبحدة متزايدة .
فعالقاتنا مع بعضنا البعض مطبوعة بطابع الغلظة والقسوة والفضاضة واالحتقار ,
إال مع ابن العم والخال والميسور وصاحب )البستون ( ومن بين الخرافات الجميلة
التي نلھي بھا أنفسنا القول بأن المجتمع الغربي مادي بحت والحال أن نسبة
التعاضد واالحترام المتبادل والتأدب والضمير المھني أرفع بكثير من مستوى ھذه
الفضائل االجتماعية في بلدنا وجود الفقر إذ وانحطاط العالقات االجتماعية ھما
الظاھرتان الرئيسيتان للمرض االجتماعي والدليل على خلل في عمله .يبقى أن
نحدد األسباب الموضوعية التي ال تجعلنا في مصاف الشعوب الدانمركي أو
السويسري مثال .والتحليل الموضوعي ھو دائما المدخل اإلجباري لحل كافة
المشاكل .بيد أنه يتطلب شجاعة أدبية قلما ترضى خاصة وأنه يبتع إجباريا عن
المواقف الفكرية المبتذلة التي تشكل بدورھا ظواھر وعوامل التخلف .ما ھي ھذه
الظواھر التي يجب نقد وشجب دورھا في نشر التخلف الفكري والمادي ؟
92
-1التفكير التطبيلي – التزميري
مھمة ھذا التفكير الذي تحمل لوائه أجھزة اإلعالم الرسمية التغطية على واقع
التخلف بالتھريج إلنجازاتنا الحقيقية والخيالية وھو يعمل على مستويين .
المستوي التاريخي :
كلكم تعرفون ھذه األبحاث الطويلة العريضة في أمجادا أجدادنا وفضلھم على الغرب
وھمة ھذه األبحاث بطبيعة ھذا الحال تجاوز عقدة نقص متأصلة تجاه الغرب وتجاه
واقعنا المخزي .أنا أشجب شخصيا ھذه الدراسات لألسباب اآلتية:
-المطلوب أن نشعر بالخجل والعار ألننا صعاليك في سوق الحضارة بعد أن كان
األجداد أسيادا فيھا .ھل لشحاذ فضل ألن جدّه كان ثريا .وھل التذكير بالثورة يعين
على الفقر .
-إنھا تغالط وتكذب عندما تصور الماضي كجنة عدن التي طردنا منھا اقرأ وأكتب
أحمد أمين وستتضح لكم حقيقتان بديھيتان :إن عصور الحضارة الزاھرة من
الناحية العلمية واألدبية والفلسفية واكبت انحطاط الدولة العباسية وأن ظروف حياة
العربي أو المسلم طيلة ھذه العصور الذھبية المزعومة كانت غاية في القسوة
الشيء الذي يجعلني أقول أنه من الممكن أن العربي لم يعرف طوال تاريخه مماثال
لما نعرفه اآلن من العيش الكريم واألمان وحتى الوحدة .
المستوى المعاصر :
يقع على ھذا المستوى التعتيم على المشاكل وتسليط األضواء على اإلنجازات مع
تضخيمھا والمبالغة فيھا .والقاعدة ھنا ھي المبالغة و اإلسفاف وحتى الكذب
الصارخ .فعندما تسمع األبواق الرسمية في كل بلدان العرب يخيل لك أن التأخر
يلفظ أنفاسه ,وقد وصل ھذا النوع من التفكير إلى قمم منقطعة النظير في الغباء و
االستغباء .والمضحك أنه يحاول بكل الصور إقناع المواطن بصحة مبالغاته ,لذلك
تراه يعمد إلى إحدى الحيل الرخيصة :االستشھاد بأقوال " الرجل األبيض " مثال :
طلعت علينا صحفنا وتلفزتنا باستشھادات من ھذا النوع كإعجاب نفر من السواح
93
بأثاث غرفتھم الجملية أو كتابة جريدة غريبة مغمورة في إحدى صفحاتھا الداخلية
عن تقدمنا الباھر .
التفكير التبريري :
ھنا يقع االعتراف بالتخلف المادي و الفكري واألخالقي ,لكن مھمة ھذا التفكير
إلصاق التھمة بعدو رئيسي واحد يحمل وزره أي أنه يتنصل من تبعاتة باعتبار
المجتمع ضحية بشاعة األقالم الرخيصة .يبقى تحديد ھذه البشاعة .ھنا تتضارب
االجتھادات .
-االستعمار :لكن لماذا استعمرونا ؟ ھل تستعمر الشعوب العظيمة ؟
-اإلمبريالية :لكن لماذا وقعنا فريسة اإلمبريالية ؟
-نظام الحكم ! لكن كيف سمحنا لنظام الحكم بإجھاض طاقاتنا العظيمة إن كانت
موجودة
-التخلي عن الدين ! طيب لكن عن أي دين تتحدثون :إسالم أبو ذر الغفاري أم
إسالم المتحجرين ؟ وعلى كل بماذا تفسرون االبتعاد عن الدين ؟ فالقول أن االبتعاد
عنه سبب التخلف ھو كالقول بأنه لوال المرض لكانت الصحة أي أنه كالم ال يقول
شيئا وزال يفسر شيئا إنما يصف ظاھرة بدون فھم معطياتھا
-3التفكير العنصري :
نحن متخلفون ألننا عرقيا الشعب من طراز أدنى وال أمل يرجى منا ويقول بھذا
الرأي عنصريو الغرب وأذيالھم المحليون وھو رأي ال يتطلب ردا وال يستحق تحيال
أو دخوال في نقاش مع أصحابه سكان األحياء الراقية الذين يسموننا بتقزز )
ليزاغاب (
المھم أن كل ھذه المنھجيات ال تفسر شيئا وال تقول شيئا ألن مھمتنا التغطية
والتبرير والثلب .والمنھجية الوحيدة الممكنة ھي النقد الذاتي على شرط أن ال
نجعل منه وسيلة للبكاء والنحيب عل تعاسة حالنا مع يفعل العديد من شعرائنا
المتخلفين بل مدخال موضوعيا إلى التعامل مع واقع نريد تغيره بأسرع وقت ممكن .
لھذا النقد الذاتي إذا شروط أھمھا حسب رأي التقييم الموضوعي الھادئ الرصين
94
األمر الذي يتطلب إدارة الظھر لنظريات العقائدية وخاصة الغوغائية منھا وتتطلب
ھذه المنھجية أيضا عدم الدخول في حوار مع التفكير التطبيلي التزميري أو التفكير
العنصري أو التبريدي وإنما اعتباره مظھرا من مظاھر التخلف .واألھم من ھذا أن
نعي بأن العلم عندما يتعامل مع ظاھرة ما ,فإنه يحاول اكتشاف أكبر عدد ممكن من
عواملھا وخلفياتھا وأسبابھا – أي أنه ال يتوقف عند سبب واحد ليقول ھنا مكمن
الداء ولكنه يتوغل إلى أبعد من ھذا .فالخاصية المالزمة لطرق التفكير التي
تعرضت لھا ھي أنھا ذات بعد واحد :فالتخلف ھو حتميا نتيجة دناءة عنصرنا أو
غلطة النظام أو االبتعاد عن الدين فأنت لن تجد فيھا مھما حاولت ال ديناميكية وال
ترابط أسباب وال تعدد مستويات الخ ..ومن ثمة فجاجة تحليلھا وبدائيته .
ھل من بديل ؟ الواقع إن عملية تقييم مرض اجتماعي خطير كالتخلف أمر فوق
طاقاتي المحدودة .لذلك فإنني أقدم ھذه األفكار كاجتھادات ,أمال أن ينتبه إلى
خطورة الموضوع الباحثون ممن ھم أوفر مني علما ومقدرة ,وأن يساھموا
بقسطھم في الرد على السؤال الھام الذي يواجھه مجتمعنا :لماذا نحن متخلفون .
مستويات التخلف وعوامله
– 1البعد التاريخي :
يتحمل مجتمعنا الحالي ثقل عدة قرون من التخلف المادي والفكري .فقد بدأت
نھضة الغرب منذ أربعة قرون على األقل في حين أننا لم نبدأ الحركة إال منذ قرن
تقريبا ) والحق أم جيل آبائنا قد لعب دورا ھائال في إخراج مجتمعنا من التبعية
والتخلف ألنه تحمل جل العبء في المعركة ضد االستعمار فليتقبل ھذا الجيل امتنان
واعتراف شاب يدرك أھمية تضحياته ويقدر مجھوداته حق قدرھا ( .يبقى أننا إلى
حد اآلن لم تقوم أبعاد التركة الفادحة التي تركھا لنا جيل األجداد .كيف ولماذا
تحجر الدين ؟ من المسؤول عن ركود الفكر وخموله ؟ ھل اختفت عوامل التحجر
والركود التي كادت تقضي على حضارتنا ,ما ھي أسباب انحطاطنا الحضاري ؟
غياب الشورى ) أفضل ھذه الكلمة العميقة المعنى والفصيحة على كلمة ديمقراطية
(.
95
خنق الفكر الحر باسم الدين ؟ طبيعة العالقات اإلقطاعية في المجتمع ؟ إجھاض
العلم ؟ نحن بحاجة ماسة إلى قراءة جديدة لتاريخنا تكون نقيض القراءة التطبيلية
التزميرية تغنينا ألف مرة وتدعم قوتنا وتفتح أعيننا .
المھم أن دخولنا متأخرين إلى ميدان الحضاري ليس إال ظاھرة يجب أن نكتشف
أسبابھا .
– 2البعد البيولوجي :
دخلت مجتمعاتنا حلبة الصراع مع المجتمعات المتقدمة وھي تعاني من نقص فادح
في ميدان الطاقات وذلك على مستويين :
إخراج نصف المجتمع من ساحة اإلنتاج والخلق واإلبداع .بماذا يحتج السلفيون
من كل حدب وصوب إن اتھمتھم إنھم بتضييقھم على المرأة وإھدار حقوقھا قد
شلوا نصف طاقاتنا .ليتفضلوا بحججھم الخرافية عن كرامة المرأة النظرية
وليفسروا لي فضلھم على المرأة – عندما أقرأ أن في السعودية ,بنوكا مخصصة
للنساء أقول :مھما أخذنا على النظام من مآخذ ,فسابقي له مدينا بوقفته الحضارية
في تحرير نصف المجتمع من ربقة عبودية أربعة عشر قرنا .والتحرير ھذا بطبيعة
الحال نسبي لكن ذلك ناتج عن الثقل التاريخي والتركة البغيضة التي ورثناھا
والمھم تعميق ھذا التح ّرر وإعطاؤه كل أبعاد التطبيق الممكنة .فال حرية لإلنسان
إن لم تحرر المرأة كامرأة ثم كعاملة
ضعف المستوى الصحي لشعبنا :
عانى مجتمعنا وال يزال من العديد من األمراض الفتاكة وقد انتبھت إلى خطورة ھذه
الظاھرة وإمكانية دورھا في انحطاطنا الحضاري عبر ممارستي الطبية اليومية .
فمن البديھي أن مجتمعنا يعاني من األمراض الفتاكة ال يمكن أن يتحمل بكفاءة
عبء تغييرات جذرية وخاصة إن انتشرت فيه األمراض الوراثية .فقد شھدت لكثرة
ھذه األمراض في بالدنا مما يجعل شعبنا " يتوفر " على نسبة ھائلة من القاصرين
والمعروف عن ھذه العاھات الوراثية ارتباطھا بزواج األقارب الناتج بدوره عن
القبلية الجھوية والعشائرية .مثال الحظت أن منطقة ) ق ( تبعث إلى مركز
96
األعصاب بعدد من المرضى المصابين بالعاھات الوراثية أكثر بكثير من منطقة
تونس التي تكبرھا مائتي مرة والمعروف أن ھذه المنطقة من أكثر المناطق تخلفا
وفقرا .إذن يلعب ھذا العامل دوره في تأصل التخلف الذي يزيد في انتشار المرض
وھكذا ترانا على ھذا الصعيد ندور في حلقة مفرغة ال خروج منھا إال بتغيير
العقليات والتوعية فالصحة كما رددت مرارا أخطر من أن يعھد له على األطباء
وحدھم .
– 3البعد االقتصادي :
أول ما يتبادر إلى الذھن ھو أننا متخلفون ألننا فقراء .لكنني ادعي أننا فقراء ألننا
متخلفون واألمثلة متوفرة في عالمنا على شعوب غنية بالموارد وھي متخلفة )
منھا كثير من البلدان الشقيقة ( وعلى بلدان فقيرة طبيعيا لكنھا خلقت الثروة
كاليابان وكوريا مثال .وقد خلقت ھذه األمم الثروة تقريبا من الشيء لكن بفضل
عامل أساسي :العمل .الواقع أنك تواجه عندما تريد أن تدرس أسباب تقدم
الشعوب العظمى التي تتحكم في العالم بظاھرة قارة تتشارك فيھا كلھا .فالحضارة
الغربية بشقيھا اليساري ) الماركسية ( واليميني ) الليبرالية ( ھي تقديس العمل
فالكلفينية مثال واللوثرية التي تشكل الخلفية العقائدية للمجتمعات السكندنافية و
االنجلو سكسونية تجعل من العمل واجبا دينيا وتعتبره إحدى الوسائل للخالص .وال
تختلف الماركسية اختالفا جذريا عن اللوثرية من ھذه الناحية إذ تجعل من العمل
القيمة األولى في المجتمع ,واألھمية التي تضيفھا على الطبقة الشغيلة معروفة ,
وقد عرفت عمق ھذا التمذھب العقائدي البعيد الجذور عند الشعوب الغربية التي
عايشتھا سنين طويلة .بطبيعة الحال ھم أيضا يعرفون العمل الرديء لكن ليس
بالدرجة التي نعرفھا نحن .
المواجھة مع العمل الرديء لإلنسان المتخلف تبدأ لحظة دخول الطائرة :المضيفة
التونسية ال ترى من واجبھا إعانة الراكبة المحملة بأربعة أطفال ورضيع .
تصل إلى تونس وكلك شوق ومحبة وفي قلبك حنان دافق للوطن المقدس فتواجه
بالنظرة الساخطة الغضبى في كل مكان .ليلة أول رمضان نزلت تونس وكنا ما
97
يقارب الخمسمائة مسافر إذ وصلت ثالث طائرات في نفس الوقت .انتظرنا طويال
في جو خانق .تعالى صراخ األطفال .أغمى على بعض النساء لم تخلص من
اإلجراءات الروتينية إال بعد ثالث ساعات .
تبدأ بعد ذلك قصتك المؤلمة المضحكة مع اإلدارة التونسية بشتى أصنافھا وأنواعھا
.الغريب ھو مدى الغلظة والفضاضة والخشونة واالحتقار في معاملة المواطنين
اللھم إال إذا كنت ابن عم ولد خالة جدة صديق الموظف المحترم .أما البطء فھو
أمر يكاد يكون طبيعيا – مثال استلمت مرتبي بعد ستة أشھر من العمل وكدت أفقد
أعصابي وأھاجر ووصلت بي الحاجة حدا ال يوصف إداريا ال ترى حرجا في ذلك بل
ھو شيء طبيعي في نظرھا .أما معضلة األوراق فال نھاية وال حل لھا لكي تأخذ
ورقة يجب أن تكون حاصال على ورقة أخرى تتطلب بدورھا شھادة ثالثة وھكذا ..
إلى حد اآلن لم أنجح في التحصل عل ورقة التعريف ألن شھادة الجنسية التي أتيت
بھا كانت ثبوت الجنسية
) أو العكس ( وكل مرة أضيع نصف نھار في " الصف " وعشرات المرضى في
ذمتي .والتعامل مع العمل الرديء ينبوع ال ينضب واألمثلة باآلالف وكلكم عشتم
عينات منھا .مصعد العمارة التي اضطرت إلى السكن فيھا عاطل ثالثة أرباع الوقت
.الماء بين الفينة واألخرى .الثالجة التي اشتريتھا ال تعمل مما يجعلني أرجعھا
لإلصالح وتعود كما كانت وأمل الجري و االحتجاج .حالة طرقاتنا يرثى لھا .
افتح التلفزة فتقھرني رداءتھا :رداءة البرامج المصرية ,رداءات البرامج الغربية
.رداءة النشرة :نزل عمرو وطلع زيد ,طبّل فالن وز ّمر فالن ,تقبل وصل إلى
المطار ,ألقى كلمة عبر فيھا بالمناسبة عن عميق شكره وبالغ تأثره ليلة سالت
خالتي وھي امرأة أمية عما فھمته ضحكت قالت ال شي ..رداءة في اإللقاء – رداءة
اللغة ) الفقھية التي ال يفھمھا ثالثة أرباع الشعب – تفاھة المواضيع رداءة
المونتاج –
أنا اآلن مثل آالف الناس أصبحت ال أفتح التلفزة – ال أستمع إلى نشرة األخبار – ال
أقرأ جريدة تونسية إال بألف احتراز ,ال أصدق ما يقوله مسؤول حتى ولو كان
98
صادقا .تلك ھي نتيجة أجھزة ) كيف تسمونھا ..اإلعالم ( بطبيعة الحال أمثلة
العمل الرديء ال تحصى وال تعد ,لذلك سأتوقف عن العد حتى ال يطالني القرف وال
يطالكم الوھن .
لماذا :المھم التساؤل عن سبب ھذا العمل الرديء الضارب أطنابه في كل
المستويات .ھنا أيضا تجد أن األسباب عديدة ومتشابكة .
تاريخيا وحضاريا نحن أمة ال تقدس العمل وال نمجده .بطل قصصنا الميثولوجية
تاجر ) ألف ليلة ( أو شاعر أو عسكري أو عالم في الفقه .
ھل رأيتم مرة مسلسال بطله فالح يزرع الصحراء أو عامل كفء يستعمل اآللة
بحنكة وذكاء .ال بالطبع .أبطال مسلسالتنا خريج كلية التجارة والورثة وشعراء
البالط وفرسان ﷲ .
حاليا ,مطمح الشاب المتخلف ليس العمل الخالق بل الوظيفة وھو على حق في ذلك
فھو يعمل بالمثل الفرنسي :إن كنت تريد أن تربح قوتك فأعمل وإن أردت أن
تستغني فأبحث عن حل آخر لذلك تتساءل عقليتنا لماذا التعب بما أن العمل الخالق
ال يضمن إال الكفاف .كل من يعمل شعاره " مكره أخاك ال بطل " سألت مرة عامال
وأنا أالحظه وھو
) يملغص ويبلبز ( في عمل بسيط في داري ) وكان عبوسا قمطريرا غاضبا ناقما (
عن ظاھرة العمل الرديء في بلدنا .قال بصراحة :الخالص قلت له :حسب رأيك
ھل العمل الرديء ھو " سابوتاج " مقصود ؟ ابتسم وصمت ...
أضف إذن إلى الثقل التاريخي شيئا من صعوبة استيعاب التكنولوجيا الحديثة وكثيرا
من الوضعية المادية والمعنوية المزرية للعامل تجد أن النتيجة ھي ھذا العمل
الرديء الذي يشكل مظھرا من مظاھر التخلف وسببا من أسباب بقائه ودوامه .
من البديھي إذن أن الصعوبات المادية وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه العامل
الخالق والشعور بالغبن واستحالة التعبير عنه بطرق قانونية يجعل من ھذا العمل
الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه ,لكن فداحة الخطب
واضحة والخسارة مكفولة للجميع .
99
مثال :مصنع كذا ال يعطي لعماله التقدير المادي والمعنوي المطلوب و من ثمة
سوء عمل ورداءة اإلنتاج – نفور المستھلك التونسي – تھالك على السلعة األجنبية
– خسارة للجميع :العرف والعامل والمستھلك والدولة .لذلك أقول أننا عندما
نعطي العامل في كل ميدان اعتباره وحقوقه الكاملة فإننا ال نتكرم وال نتفضل وال
نأتي بعمل أخالقي إنما نكفل لمجتمعنا كل حظوظه للخروج من التخلف .فمن المؤكد
أن مجتمع بال طبقة عاملة خالقة نشيطة يحكم على نفسه باالنتحار على األمد البعيد
.فأما العنف وإما " السابوتاج " وفي كالتا الحالتين قلة في اإلنتاج ورداءة في
المحصول الجماعي .
نحن مقدمون على سنوات صعبة جدا بل وأقول حتى على مجاعة عالمية قبل نھاية
القرن .يجب أن نضمن إن أردنا أن ال نأكل بعضنا البعض وإذا توخينا أقصى قدر
ممكن من الفعالية آللة اإلنتاج أن نجعل الھدف الشورى والمشاركة والتخطيط
الذكي لألمد البعيد وتقديس العامل والمنتج وخاصة الفالح .ففي ھذا إعادة الفعالية
لقوة اإلنتاج التي ستطعمني وتطعمكم .فالضمان األوحد لشعبي وشعبكم ,ھو أن
يتمتع أكبر عدد ممكن منا بالحرية والشبع .خارج ھذا الضمان ال شيء .أما العنف
البدائي فقد جرب مرارا عبر التاريخ ولم يظھر نجاعته .
– 4البعد األخالقي :
كلنا نعرف أن األمم باألخالق ..إن ذھبت أخالقھم ذھبوا .تعرض أحد قراء الرأي
لھزة كتف لھذا البعد جاھال أو متجاھال أھميته ..وتتضح مظاھر أخالق اإلنسان
المتخلف في كل تصرفاته وھذا بغض النظر عن وضعيته المادية والمعنوية .
مثال السياقة في تونس عملية شائكة وخطيرة ,آخر إحصائيات تظھر أن نسبة
الموتى في حوادث الطرقات ستة أضعاف ما ھو موجود بالغرب .ھل تتصوروا
فظاعة ھذا الرقم .لماذا ؟ السبب ھو اإلنسان المتخلف :عدم احترام األولوية ,
السرعة العنفوانية الخ ...ظاھرة الحظناھا كلنا :النرفزة الكالكسون وراء ظھرك
بعنف حال انتقال الضوء إلى األخضر ,تجاوز على اليسار والسائق يھددك بقبضة
يده ..سرعة مجنونة داخل المدينة ,عدم احترام المترجل الذي ال يحترم السائق .
100
من أغرب التصرفات التي شاھدتھا ) وفضل الغربة أنھا تعلم المالحظة وتمكن من
المقارنة ( إن السائق التونسي يتجاوز بكثير السرعة القانونية وإذا صادف شرطي
المرور تراه يخفض فجأة في السرعة ويمر أمامه بعشرة كيلومترات في الساعة .
ھذا التصرف دليل على نفسية المتخلف الذي ال يحترم القانون وإنما يھاب القوة .
فأي تفسير آخر لھذا التصرف الخانع الذليل .من البديھي أن اإلنسان المتحضر
يسوق بسرعة ثمانين كيلومتر في الطريق وكذلك أمام الشرطي بدون أن يتنبه إليه
أو يعيره أدنى اھتمام ناھيك عن الخوف منه .
مشكلة المشاكل من الناحية األخالقية انعدام حس المواطنية ومن ثمة كل التصرفات
المتخلفة " :الزبلة " في الشارع
" ألن الشارع ليس ألحد " عدم احترام قانون المرور ألن السائق اآلخر ليس
مواطنا بل خصما ,,انتشار القبلية والجھوية والعشائرية وسبب ھذه التصرفات
الفردية والالمباالة ھو انعدام المشاركة في تسيير شؤون الحياة اليومية.
إن أحسن وسيلة لرفع مستوى المواطنة ھو إفساح المجال لكل الطاقات الحية
للمشاركة ) ومن ثمة للشعور بالمسؤولية( في كل الميادين وعلى رأسھا الميدان
البلدي .فالمطلوب المسارعة إلى سحب الصبغة السياسية عن االنتخابات البلدية
وجعلھا شورية حقا تتداول عليھا الكفاءات والطاقات وتعميم المشاركة في كل
المستويات ) أطفال المدارس لتنظيم المرور ..الموظفون والطلبة والجنود لتنظيف
الشوارع في إطار حمالت ...حلقات درس في كل اإلدارات والمؤسسات للبحث عن
أحسن كيفية لتنظيم العمل ,سن نظام الموفق ''االمبودسمان '' السكندنافي ليتلقى
شكايات المواطنين والتوفيق بينھم وبين اإلدارة ..حلقات تفكير للمتثقفين حول
المشاكل المصيرية .تفتح الراديو وأجھزة اإلعالم على كل االتجاھات في إطار
نقاش حر بناء .
من البديھي أن اإلجراءات لتعميم المشاركة كثيرة وأنھا ستمكن من إنضاج الشعب
وخلق مناخ يقلل من كثافة ھذه الفظاظة وھذه الالأخالقية االجتماعية التي تجعلنا
نتعايش وكأننا أعداء وليس أبناء األم المقدسة ...تونس
101
– 5البعد السياسي :
ال أناقش أحدا في مشكلة التخلف إال ويقول كلھا مشكلة نظام الحكم .اسأل :ماذا
تقترح إذن ؟ وھنا تبدأ االختالفات :فلكل أحد وصفته السحرية التي ستجعل تونس
جنة الرخاء في أربعة أيام .فھناك الوصفة الحمراء ) الشيوعية ( والسوداء )
الدينية ( والبيضاء ) البرجوازية ( وبعض الوصفات الھجينة الباھتة اللون .وأنا
أالقى عادة صعوبة في إفھام أصحاب ھذا المنطق إن التخلف أعقد من مشكلة النظام
وأن احترازي من السياسة السياسية ليس نتيجة تواطؤ موضوعي مع نظام معين
بل نتيجة تحليل أعتقده موضوعيا ,ورأيي الشخصي يتخلص في النقاط التالية :
– 1إن نظام الحكم في أي بلد ھو إحدى المؤشرات على تقدم أو تأخر المجتمع
وليس أكثر من ھذا .فمن البديھي أن نظام الحكم في السويد ھو ديمقراطي ألن
حالة المجتمع السويدي ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن تقبل إال ھذا النظام وعلى
العكس فإن مجتمعنا أفريقيا متخلفا إلى أقصى درجة ال يمكن أن يتمتع أو أن يفرز
نظاما مثل ھذا بل ديكتاتورية عيدي أمين أو بوكاسا أو حكومات أقل تأخرا لكنھا
بعيدة كل البعد عن األنظمة المتقدمة .
– 2أن ھناك مغاالة ساذجة في تقييم دور النظام السياسي .خذ أحسن نظام ممكن
من أي ناحية وضعه في المجتمع بالغ التخلف ,لن يحقق أي معجزة وسيبقى زمن
تكوين الطبيب أو المھندس ھو نفس الزمن ,معنى ھذا أن مركز الثقل الحقيقي في
عملية التطور ھو المجتمع نفسه ال إحدى تشكيالته ومؤسساته مھما بلغت
خطورتھا كالنظام .فمن الواضح أن التقدم يكون ألن المجتمع يفرز عباقرة في
األدب والفن والعلم وعماال مھرة الخ ...وإن الطاقات الخالقة فيه ھي التي تحدد
االتجاه الذي يتخذه تطوره .
– 3صحيح أنه يقع في بعض المراحل من التطور تناقض بين مجتمع له خصائص
وحاجيات ونظام عاجز عن مواكبة الركب والحالة القارة دائما ھي غلبة المجتمع
وتمزيقه لقميص يضيق عنه ,معنى ھذا :خلوا ثقتكم في المجتمع ,عبئوه ,اشحنوه
102
بكل الطاقات ,فإن تبع النظام الحركة وقادھا وفر على نفسه وعلى المجتمع مصائب
,وإن أعوزه الذكاء فمصيره التغير أو االختفاء .
-4ال وجود لنظام مثالي فلكل نظام سياسي حدوده وتناقضاته .خذ مثال نظام
الحزب الواحد .أنت ال يمكن أن تحكم عليه إال إذا اعتبرت المرحلة التي يمر بھا
وھي إحدى ثالث :مرحلة األبطال ) الذي يخلقون الحركة والتاريخ ( ,مرحلة
اإلداريين ) الذين ينظمون اإلنجازات ( ,مرحلة االنتھازيين والمتحجرين ) الذين
يتسببون في موت الحزب ( .وھذه المراحل الثالث إجبارية ألن الحزب ليس كائنا
أزليا .
خذ اآلن الشورى أو الديمقراطية .من البديھي أنه يمكن ممارستھا على الطريقة
اللبنانية ) شراء أصوات وأحزاب مسلحة ( أو على الطريقة السويدية .
إن اعتبرنا كل ھذه التحفظات ,فإنه ال يسعنا إال أن نالحظ أن ھناك قانونا عاما
يقضي بأن البلدان المتقدمة ھي دائما بلدان الديمقراطية و إن البلدان الديمقراطية
ھي دائما متقدمة ) باستثناء حالة شاذة واحدة وھي الھند ( .
والجدير بالذكر أن كل ھذه البلدان لم تصل إلى مثل ھذه األنظمة المتقدمة إال بعد
تجارب ومحن وثورات ونزاعات دموية وال أعرف مثاال عن شعوب اختصرت
الطريق ووفرت على نفسھا المصاعب إال مثال الشعوب السكندنافية وذلك لذكاء
ومھارة وحتى خبث برجوازيتھا التي استطاعت التخطيط للمستقبل وقيادته مع
الحفاظ على مصالحھا ,الظاھرة القارة في مثل ھذه األنظمة التي تعايش سلمي بين
قطاعات اجتماعية ذات مصالح متشابكة ومتناقضة وقبولھا لفض نزاعاتھا بدون
لجوء إلى العنف المدّمر والالفعال ,في حال أن األنظمة المتأخرة ترفض سحريا
وجود مثل ھذه التناقضات أو تحاول اجتثاثھا بالعنف عبثا ألن التناقضات سواء بين
الطبقات أو األفراد أو الجھات ھي أمر حتمي مرتبط بتركيب المجتمع وحياته .من
الواضح إذن أن تخلفنا راجع منذ قديم الزمان إلى سيطرة العنف والسلطة الفردية
وكبت الطاقات المخالفة في الرأي الخ .ومن الواضح أيضا أن تقدمنا مرتبط ارتباطا
وثيقا بقبول التناقضات االجتماعية وتعلم حلھا بالحوار والنقاش واالحتكام إلى
103
صندوق االقتراع .بيد أن وصولنا إلى ھذه النتيجة مثل وصولنا إلى مرحلة التقدم
بصفة عامة ليس أمرا أوتوماتيكيا كما يظن البعض معتبرين أن المسألة مسألة
وقت .فنحن كقدر تغلي بطبخة شھية لكن مصيرھا مجھول إذ ھناك احتماالت عديدة
:
-يمكن أن تنفجر القدر لعدم نجانس المواد التي بداخلھا ) الصراعات
األھلية العنيفة (
-يمكن أن تدعسھا قدم جبار فتھشمھا وتھرق ما فيھا ) حرب عالمية (
-يمكن أن تفسد الطبخة ) فنبقى متخلفين وحتى نرجع القھقرى (
-يمكن أن تستقيم الطبخة ويطيب أكلھا ) نصبح دانمارك إفريقيا (
وقد يتساءل القارئ :إن كانت عوامل التخلف متشابكة ومترابطة ومعقدة إلى ھذا
الحد ,فكيف يمكن للفرد أن يؤثر على مصير الطبخة ؟ ومن البديھي أن الفرد ال
يمكن بجرة قلم أن يجعل تونس تتمخض عن آالف العباقرة في الفالحة والصناعة
والطب والھندسة المعمارية وغزو األسواق الخارجية ,وال يمكنه أن يھدي الحكام
إلى ممارسة المسؤوليات على الطريق السكندنافية أو يجعل المعارضة تعارض على
الطريقة البريطانية ألن ھذا النضج مرتبط بتجارب تاريخية مريرة قلما يمكن
تجاوزھا والقفز فوقھا ,كما ال يمكنه جعل بلدنا تتوفر على ثروات طائلة يمكن أن
تسھل التقدم وتختصر طريقه .
لكن كل ھذه االستحاالت ال تعني أن كل واحد منا عاجز عن لعب دورا ھاما في
محاربة التخلف بل العكس .فقد قلت أن المعركة الحقيقية ضد التخلف ستربح أو
تخسر في قلب المجتمع .فكلنا :أنا ,أنت ,نحن ,ھم ,مسؤولون عن عار التخلف
وقادرون على محاربته من مستوانا المتواضع .مثال أنا أعتقد أننا نستطيع كأفراد
محاربة التخلّف وإعطاء الطبخة بعض الحظوظ الزائدة ألن تستقيم ويطيب مذاقھا ,
على ثالث مستويات :
الوعي :كل ما يزيد الوعي يجعلنا نتقدم خطوة ,لذلك أنادي أقالمكم يا مفكري
تونس وليكون النقاش في أعلى مستوي
104
) ومن البديھي أنني ال أعني بالمفكرين نخبة المثقفين وإنما كل إنسان يقبل على
التفكير ( المھم أن نبتعد عن الكليشيھات واألفكار المتحجرة الضحلة الرتيبة التي
خدرنا بھا عقولنا سنوات وقرون .فتخلفنا أيضا فكري وسنتقدم يوم تتكاثر الكتب
واألبحاث واألفكار المتضاربة من كل حدب وصوب ,ورأيي أن نضرب عن البكاء
والنحيب والحماسة والبالغة وأن نرتقي إلى مصاف التفكير الموضوعي العقالني
وأن نجعل من المرح والفكاھة والسخرية وسيلة لمحاربة التخلف الفكري .فأنا
أستمج أسلوب الحزن واأللم واليأس الذي تنضج به كتابات أدبائنا الشبان ألنني ال
ّ
أراه فعاال أو إيجابيا ,فال سالح أمضى من الفكاھة للقضاء على عيوبنا الشخصية
واالجتماعية .
محاربة الرديء :لو أقنعت قارئا واحدا برفع مستوى عمله اليومي إلى أعلى
مستوى لما أضعت وقتي في كتابة ھذا الكتاب .فأنا أؤمن باألھمية القصوى لھذه
النقطة .فرفع مستوى الخدمات التي نقدمھا للمجتمع ھو أول واعظم واجب وكثيرا
ما رددت لشباب المتحمس أن التزامي السياسي ھو الوصول إلى المستشفى على
الساعة الثامنة كل يوم .والحرب ضد العمل الرديء ال يمكن أن تأتي من فوق
بقرارات وإنما ينبع من إرادة األشخاص .مثال يمكن للمكلفين بالمطار التساؤل عن
أحسن الوسائل لتسھيل مرور المواطنين والضيوف وإعطائھم فكرة مشرفة عن
البالد بحسن االستقبال كما يمكن المكلفين عن األخبار تقييم نتيجة عملھم والوعي
بأھمية وعمق أزمة الثقة التي يتسبب فيھا العمل االرتجالي ..كما يمكن للمكلفين
باإلدارات تقديم اقتراحات لتحسين عملھم وھكذا .ومن المھم أن ال نسكت على
العمل الرديء أن نشجبه بمنتھى الصرامة حتى تتحسن الخدمات التي نقدمھا
ونتلقاھا .مثال يجب تكوين جمعية الدفاع عن حقوق المستھلكين حتى يعرف المنتج
بسرعة أنه ال يمكن أن يغرق السوق القومية بالمنتوجات الخطرة أو الرديئة وھذا
ما يحملني إلى التعرض إلى النقطة الثالثة .
االلتزام الجماعي :قلت أن كثيرا من تصرفاتنا اليومية تتسم بالالمباالة وبانعدام
حس المواطنة ,ومن ثمة كثير من مظاھر التخلف .والظاھرة التي الحظتھا في
105
المجتمعات المتقدمة ھي أھمية حس المواطنة الذي يتجسد في كثرة الجمعيات
ونشاطاتھا المتخلفة .لذلك أقول أن علينا نحن أيضا أن ننمي حس المواطنة
بااللتزام االجتماعي أي بتنمية إحساسنا بدورنا ومكانتنا في المجموعة والعمل
داخل أي تنظيم فني أدبي اجتماعي –سياسي .فالمرء ال يمكن أن يعتبر دوره
منتھيا عندما يقصر ھمومه على نفسه ومشاغله الخاصة لذلك أقول :لنتقدم إلى
االنتخابات البلدية أو لننخرط أو لنكون مختلف الجمعيات لمحاربة التخلف على
جبھات معينة متواضعة عوض انتظار الفرج الفجائي والكامل من السماء .
العـــــــــــــــــرب والحــــــــــــــــريــــــــة
أسباب التخلف متعدّدة ومترابطة ومن ثمة يصعب الفصل بينھا أو تفضيل بعضھا
على البعض .لكن من ال ِمؤكد أن لغياب الحرية أو لندرتھا ضلع كبير في وجود
التخلف ,في تأصلّه وفي دوامه .والحرية في بالد العرب ھو المطلب العزيز األوحد
الذي ال زالت جماھيرنا تلھث وراءه منذ قرابة القرن على شكل التح ّرر من نير
األجنبي ,من الفقر ,من الجھل ,من المرض ,من بعض األنظمة التي تدّعي أنھا
نبراس الحرية .
والمالحظ لتاريخ الشعوب ال يمكنه إال أن يسجل أن أكثر الشعوب تقدما ھي التي
تتمتع بأوفر قسط من الحريات )حرية االختيار وحرية التفكير وحرية التعبير الخ
(...والعكس صحيح أي أن الشعوب التي تتخبط في التخلف ھي التي ال تنعم بشيء
منه ومن ثمة يطرح السؤال :ما ھو دور غياب الحرية في تخلف شعبنا وأمتنا أي
في بقائه في منزلة دون منزلة الشعوب واألمم المضاھية لنا .
لنالحظ أوال خصائص الحرية وطبيعتھا في المجتمعات الغربية المتقدمة .سنكتشف
بطبيعة الحال أنھا محدودة وأنھا تخضع في ميدان العمل الصناعي مثال إلى قيود
مجحفة ,كما سنكتشف أنھا ال تعمل إال في إطار محدّد ) الديمقراطية البرلمانية في
106
ما يخص النظام السياسي ( ومن ثمة فھي ليست الحرية المطلقة التي تصورھا
الفوضويون في بداية القرن التاسع عشر .باإلضافة إلى ھذا فإننا سنالحظ أن
توزيعھا ظالم .فالبرجوازي الغربي يتمتع بعدد من الحريات ال يعرفھا عامل المناجم
,كما أن المرأة رغم ما يقال عن تحررھا ال زالت تعرف قيودا يجھلھا الرجل .
الحرية إذن نسبية ونسبية جدّا في بعض األحيان ,وقد يدفع اإلنسان الغربي ثمنا
باھضا لھذه الحرية ,كالعزلة والوحدة وتفكك أواصر العائلة والعصبية الجھوية
والقبلية كما يعرفھا العربي .
يبقى رغم كل ھذه التحفظات أن المجتمع الغربي يعرف الحرية وينعم بھا أكثر منا
بكثير على شكلين رئيسيين )وارتباطھما وثيق في الحقيقة ( :حرية التفكير ,
وحرية العمل السياسي .
حرية التفكير ھي أول ظاھرة يشّده لھا العربي القادم من حضارة الفكر ذي البعد
الواحد وھي حرية ال تقف عند ح ّد .فكل موضوع مطروح للنقاش والجدل :
المقوالت الدينية ,والنظريات الفلسفية ,واالكتشافات العلمية ,والتنظيم السياسي
الخ ...ويخيل للعربي أن القوم جنوا فھم ال يأتون برأي إال ويوجد من يتصدى له
وقليل منھم من يؤمن بجدية أو أزلية ما يقول .فحركة التفكير ال تھدأ وال تفتر
والنقاش والصراع محتدم على صفحات الكتب ,على أعمدة الصحف ,في الراديو
والتلفزة الخ ...لكن العربي يخطئ في تقويمه لطبيعة ھذه الحرية إن لم يفھم أنھا
نتيجة صراع ھائل دام عدة قرون بين الحرية والفكر ذي البعد الواحد ,وتكفي عادة
نظرة خاطفة على تاريخ الغرب لتقدير أھمية ھذا الصراع .
فقد عرف الغرب ھو اآلخر إبان العصور الوسطى فترة الفكر ذي البعد الواحد الذي
كان يضع الحياة في إطار قالب جامد متحجر غير قابل للتجديد أو التحسين ,قالب
يرتكز على الفكر الكھنوتي الذي جعل من نفسه وصيا على الحاجة الدينية وعلى
سلطة الفالسفة األقدمين ) وعلى رأسھم أرسطو ( الذين أوقف الفكر المتحجر تطور
العلم عند مقوالتھم ,مع العلم بالطبع أن ھذا الفكر المتحجر كان في خدمة طبقة
107
معينة أخذت على عاتقھا مھمة الدفاع عن تصورات تتماشى مع مصالحھا أي مع
تمتعھا بسلطة تكاد تكون مطلقة في الميدان السياسي واالقتصادي والروحاني .
لكن كل محاوالت ھذه الطبقة لحشر مظاھر العالم وحياة المجتمع داخل إطارھا
الجامد لم تثبت أمام التغييرات الھائلة التي أخذت تعصف بالفكر الغربي تحت تأثير
عوامل متعددة منھا تأثير الفكر العربي اإلسالمي وانطالقة الطبقة البرجوازية
الرافضة لقيم ومفاھيم الطبقة األرستقراطية والكھنوتية السائدة .
وقد كانت معركة التحرر الفكري ضد الفكر المتحجر ذي البعد الواحد ملحمة قرون
النھضة ,وألجلھا وبھا كانت ھذه النھضة .فنحن نعلم أن أول معركة مصيرية في
إطار ھذا الصراع الجبار وقعت بين قاليلي والفكر الكھنوتي ) سنة ( 1616المتنطع
للنقص العلمي الصارخ للتصورات الدينية الواردة في اإلنجيل .وانتصر قاليلي على
البابا أوربان الثامن وغزت التصورات العلمية للكون الفكر وأصبحت بال شريك أو
منازع ,كما ھدم قاليلي ما بقي شامخا من صرخ أرسطو ووقف الطبيب باراسلز
يوما على منصة جامعة بال ليحرق كتب ابن سينا وقالينوس داعيا الطلبة إلى الكف
عن االجترار وحفظ علم األقدمين و االعتماد على الفكر والفكر وحده .ثم تتالت
الضربات القاضية يسدّدھا ھذا الفكر اليافع إلى اإلطار المتحجر فوضعت كل
التصورات الدينية والفلسفية والعلمية تحت مجھر المنھجية العلمية وسنّ
اإلنجليزي فرانسيس بايكون قانونه الشھير :ال يمكن إمالء إرادتنا على الطبيعة
طالما لم تخضع لقوانينھا .ومن ثمة أصبح الھاجس األوحد للفكر الغربي اكتشاف
القوانين الموضوعية للكون للتحكم فيھا بدون اعتبار ألي معيار غير معيار الحقيقة
الموضوعية .وغرق في خضم ھذه األبحاث التراث الكھنوتي وجبروت أرسطو
وجالينوس ,ولم يقف ھذا الفكر عند حاجز أو ح ّد فكانت نظرية النشوء واالرتقاء
لداروين التي نقضت ما بقى من تصورات اإلنجيل لإلنسان ثم جاء كارل ماركس
ليرفض بدوره اإليديولوجية البرجوازية السائدة وخالف اينشتاين آراء نيوتن في
الفيزياء وجاء فرويد بنظريته في علم النفس التي أدخلت تحويرا جذريا على
التصور المعاصر لإلنسان .وھكذا نجد أن األفكار والنظريات ما انفكت تتصارع
108
وتتالطم وكأنھا أمواج بحر ھائج ) في حين كان مستنفع الفكر العربي بعرف ھدوء
البحر الميت ( .
بطبيعة الحال ال ولن تفتر ھذه الحركة الفكرية المجنونة التي أطلقھا من عقالھا
جاليلي وكبلر وداروين وكارل ماركس وفرويد ,بل ومن المضحك أن ترى ھؤالء
العظام ضحية الحرية التي نادوا بھا وأعطوھا كل فرصھا ,فال يمر يوم إال ويوجد
من يكتب وينقد ويتجاوز آراءھم .
ومن الطبيعي كذلك أن ھذه الحركة المحمومة عرفت محنا كبرى وتجاوزتھا
بصعوبات كبيرة .فالفكر المتحجر ذو البعد الواحد ھو خاصية الزمة من خصائص
الفكر البشري ومن ثمة يستحيل التغلب عليه كليا أو تجاوزه بسھولة .فقد دفع
العلماء والفالسفة في الغرب ثمنا ھائال للحرية .فمن المعروف أن جاليلي قضى
آخر أيام حياته في السجون وأن جيوردانو برونو أحرق بروما سنة , 1600وأن
كوبرنيك اضطر إلى االنتظار أربعين سنة قبل نشر اكتشافاته العلمية التي كانت
تنقض آراء األقدمين في الكون ,كما ھاجر الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى ھولندا
خوفا من القمع وعانى داروين من تھجمات رجال الكنيسة ما عانى الخ ...ومع ذلك
فقد انتصرت الحرية الفكرية في الغرب وغدت من األشياء المسلم بھا وتراجع الفكر
المتحجر .ومن البديھي أن ھذه الحرة الفكرية لم تر النور في إطار صراع فكري
بحت بل في إطار سياسي اجتماعي ,إذ ال يجب أن ننسى مقولة لويس التوسر
الشھيرة إن الصراعات النظرية ما ھي في الواقع إال صراعات سياسية في الميدان
النظري ومن ثمة نفھم ارتباط الطبقة األرستقراطية بالتفكير الكھنوتي والقديم ,
وكذلك ارتباط الطبقة البرجوازية بالفكر المتحرر ألنه كان الضمان والحجة النظرية
لمطالبتنا بحرية التجارة ونصيبھا في السلطة الخ ...ومن ثمة نستطيع الربط من
جھة بين التفكير المتحجر وتركيبة اجتماعية سياسية لمجتمع محافظ يرفض
الحركة والتطور ,وبين التفكير المتحرر ومجتمع ال يقول إال بالحركة والتطور .
فلكل مجتمع إذن نظامه الفكري الذي يعكس اختياراته ومواقفه ولكل نوع من
التفكيرين المتحجر والمتحرر مجتمع يتماشى معه ويترجم اختياراته .ال غرابة إذن
109
أن يترجم المجتمع البرجوازي الغربي المبني على الحركية الدائمة نظامه أو بنيته
الفوقية الفكرية إلى تشكيالت سياسية متضاربة تتزاحم لقيادته .فديدن ھذا المجتمع
وشعاره :البقاء لألفضل .البقاء للنظريات التي تصمد أمام النقد العلمي والتي
تخضع لقانون فرانسيس بايكون ,البقاء لألحزاب التي تستطيع أن تقنع وأن تحكم
والشعب يصفى في عالم السياسة مثلما تصفى التجربة العلمية في عالم النظريات
ومن ثمة التتابع السريع ) والمتصاعد السرعة ( لألفكار ولألحزاب في مثل ھذه
المجتمعات .
ماذا عنا نحن العرب بالمقارنة
من الواضح أننا ال نعرف إال الضئيل من ھذه الحرية الفكرية والسياسية التي
يعرفھا المجتمع الغربي .فعلى صعيد الفكر نحن في بداية المعركة التي ربحھا الفكر
المتحرر ھناك ,نحن حاليا في سنة 1600من تاريخھم .فھناك جملة من المقوالت
الدينية والفلسفية والسياسية لھا كل صبغة القدسية ,وال يمكن التحرر إال في
إطارھا .والفكر الحر الذي يتحرك في ھذا اإلطار مجبر على التعامل معھا بمنتھى
الحذر ألن إمكانيات الحركة قليلة ,واألرضية ملغومة .فھناك برج مراقبة الفكر
الديني الرجعي المستعد لتتبع كل فكر ال يسبح بحمده وھناك عقبات التراث المقدس
الذي يجب أن تشحذ المھم إلثبات أولوية ال لنقده وتجاوزه ...
بطبيعة الحال نعكس نظمنا السياسية ھذه البيئة الفكرية فيما أنه ال وجود إال لحقيقة
واحدة أزلية ال يجوز الخوض فيھا ,وبما أنه ليس في اإلمكان أبدع مما كان ,وبما
أن خالص اإلنسان في التسليم واالستسالم ) حسب مقولة التيار الديني الرجعي (
فمن الطبيعي أن ال تكون لنا إال إيديولوجية سياسية واحدة وحزب واحد وزعيم
واحد الخ ...
وھنا يعھد إلى الفكر بمھمة التدليل والتبرير واإلثبات أي بحشر كل مظاھر العلم
والحياة في اإلطار المتحجر .مثال يسخر الفكر إلعادة قراءة التراث حسب المفاھيم
العصرية لتحميله ماال يطيق أو تأويل آيات قرآنية معينة حتى تبرز أسبقية القرآن
في التنبؤ بغزو القمر أو باكتشاف الذرة ,كما يقع تقييم كل االكتشافات العلمية التي
110
كانت حصيلة حركية الفكر المتحرر ,حسب النظرة القديمة ,أو يعھد للفكر بمھمة
التصدي لكل ھذه االكتشافات باسم مواقف وآراء ال دليل على فضيلتھا سوى
ادعائھا بذلك .
ومن البديھي أن ھذا التفكير السطحي السجين ال يمكن أن يشارك في تطور الحركة
العلمية ألن ھذه الحركة ال تكون إال بمطلق الحرية وھو نقيضھا ,ومما ال غرابة
فيه أن يتمخض ھذا الفكر أو أن يكون الحجة النظرية لألنظمة السياسية ذات البعد
الواحد .فالعقلية واحدة والترابط بديھي ووثيق .
خالصة القول أن مشكلة عالمنا العربي تتخلص في كون الفكر مقيدا وفي كون
محدودا بأحادية الفكر والتنفيذ .
والمشكلة بطبيعة الحال ال تتعلق بالأخالقية ھذا النوع من التفكير ومن التنظيم بقدر
ما ھي تتعلق بفعاليته .
قلت أن الفكر المتحجر والتنظيم السياسي الذي يترجم له ھما من خصائص مجتمع
ھدفه الحفاظ على تركيبته الفكرية الغيبية وعلى مكاسبه الخيالية وعلى توزيع
معين للسلطة والخيرات ,كما حاولت أن أظھر أن مجتمعا حركيا يتطور بسرعة ال
يمكن إال أن يمارس حرية التفكير وطريقة ديمقراطية في اتخاذ القرارات وتوزيعا
أكثر عدال للحقوق والواجبات .وھذه مالحظات موضوعية بديھية ال دخل فيھا
للحكم المعياري أي أن على التفكير الموضوعي مالحظة طبيعة المرحلة التي يمر
بھا المجتمع ووصف العالقة التي تربط بين تنظيمه وتفكيره ,معنى ھذا أن الفكر
الموضوعي غير مطالب باالنتصار لھذا التنظيم أو ذاك .وكل ما يسعه أن يقول ھو
أن مجتمعا متجمدا بحاجة إلى فكر متجمد أو أن الفكر المتجمد ال يكون إال أين يكون
المجتمع المتجمد .
ومشكلة العالم العربي ھو أنه يريد التقدم بفكر وتنظيم المجتمع المتحجر .ھو يريد
الربح على الصعيدين :االحتفاظ بالطمأنينة الفكرية التي يوفرھا الفكر المتحجر
واالنضباط المفروض من طرف نظام ھرمي مع الحصول على المكاسب الفكرية
والمادية التي يكلفھا الفكر المتحرر .والربح على الجبھتين بطبيعة الحال مستحيل .
111
وقد يقول قائل :لكننا نتقدم فعال يوما بعد يوم بتفكيرنا ذي البعد الواحد وبأنظمة
الحقيقة الواحدة والحزب الواحد والرجل الواحد الخ...
وھذا صحيح .لكنه تقدم بطئ صعب .نحن كمن يدخل سباقا وفي رجليه أغالل
ويتعجب لماذا يفوز خصومه بقصب السباق ولماذا تزداد الھوة اتساعا كلما زاد ھو
في سرعته .السبب واضح ھم يجرون بدون قيود ,نحن نجري بقيود .
ھم يضعون كل أفكارھم محل الشك والنقد ,ھم يراجعون مفاھيمھم دائما وأبدا ,ھم
ال يقدرون إال المجدد والخالق والمبدع ,نحن ال نقبل كلمة نقد واحدة نسارع إلى
اتھام كل مفكر حر بأنه كذا وكذا ) راجع قواميس الشتائم العربية ( نحن ال نقدر إال
من يسخر قلمه إلثبات أن القرآن أول كتاب علم وأن تراثنا ھو أعظم تراث وأن
أفضلنا على الدنيا كبير إلى آخره ,ھم يريدون اكتشاف القوانين للخضوع إليھا
ومن ثمة للتحكم فيھا ونحن نريد إخضاع قوانين الكون لتصورات أجدادنا ,ھم
يضعون تراثھم في خدمة القرن ,ونحن نخدم التراث باكتشاف القرن ومن ثمة ھذا
الفرق الشاسع المخيف بين ما يكتشفون وما نكتشف .
على الصعيد السياسي والتنظيمي نحن مضطرون للعيش في إطار نظام ھرمي يفكر
دماغ واحد فيه ثم يأمر فتنفذ القاعدة والدماغ األوحد مھما كان ھو دماغ واحد
معرض للخطأ .لذلك سترانا نجند الفكر لالدعاء بأنه جزء احتوى الكل ,أي لندعي
أنه يضاھي كل األدمغة الموجودة في إطار المجتمع .
خذ اآلن المجتمع الحركي .ھو يدرك بطبيعة الحال أن مثل ھذا التنظيم ال يصلح إال
للحفاظ على حالة جمود أما وقد اختار الحركة والفعالية ,فمن الطبيعي أن يعھد إلى
تنظيم أفقي لألدمغة .تقنية الحكم وتوزيع المسؤوليات في المجتمعات الحركية
تفترض وھي مصيبة في ھذا – أن األدمغة كالبطاريات :أضف دماغا ثان ثم ثالث
ورابع وھكذا يكون الحاصل قوة فكرية تفوق بكثير قوة كل دماغ معزول ,ومن ثمة
فإن ھذا المجتمع الباحث عن أقصى الفعالية يفرز تنظيمات تكفل إدماج أكبر عدد
ممكن من األدمغة للتفكير والتخطيط والتنفيذ .لذلك سترى توزيعا يجھله التنظيم
الھرمي للسلطات ) السلطة البلدية والجھوية والقضائية والصحفية ...الخ ( ...
112
ومن ثمة نجاعة وفعالية ھذه المجتمعات التي تجھل ثقل ومركزية وأخطاء )
وصعوبة التصحيح ( التنظيم الھرمي ...
الخيار إذن واضح :إذا أردنا ) وھو اختيار ممكن ( الجمود والتحجر فالوسائل
معروفة والمثل ھو يمن اإلمام أحمد ,أما إذا أردنا الدخول إلى حلبة السباق مع األمم
الكبرى التي تحكم العالم أي إذا أردنا أن يكون ألطفالنا نصيب في عالم القرن الواحد
والعشرين فالحل ھو :الحرية فالحرية ثم الحرية .
* حرية التفكير بدون قيد وال شرط واعتبار الحقيقة الموضوعية ھي الغربال الذي
سيصفي مختلف اآلراء والنظريات .
* حرية التنظيم السياسي واشراك أكبر عدد ممكن من األدمغة في عملية التخطيط
والتنفيذ ومن مظاھرھا :
-الحرية على الصعيد البلدي في اختيار الممثلين ومحاسبتھم .
-الحرية على الصعيد الجھوي والجھة ھي حسب رأيي الوحدة الطبيعية لكل
عمل إنمائي .
-الحرية على الصعيد الوطني :حرية الكالم واالجتماع واختيار رئيس
المجموعة .
-حرية تكوين الجمعيات بدون قيد أو شرط .
بحرية التفكير والتنظيم سنطلق إذن الطاقات الجبارة التي خنقھا ويخنقھا التفكير ذو
البعد الواحد والتنظيم الھرمي ,وبھذه الحرية التي مكنت الغرب من اللحاق بنا
وتركنا وراءه قرونا عديدة ,سنستعيد مكانتنا كأمة عظمى يكون لھا شرف
المساھمة في حضارة األجيال المقبلة .
وإن لم نتعض ؟ سنبقى نعاني من الكبت والعنف والرداءة وقد نضيف إلى أربعة
قرون من التخلف ...قرنا آخر ...لكن ھذا غير وارد ألن أصحاب التفكير المتحجر
والتنظيم الھرمي ال يستطيعون عزلنا في جزيرة .نحن لحسن الحظ في خضم عالم
متحرك وفي إطار إيديولوجية عالمية ال تقول إال بالحركة وقانون الحركة ...الحرية
ونحن منھا على قاب قوسين أو أدنى .
113
تعـــــــــــاليـــــــــــــق وردود
أثارت ھذه المقاالت التي نشرت في جريدة الرأي التونسية ردود فعل عديدة وفي
بعض األحيان عنيفة وكانت مصدر نقاش دام على صفحات ھذه الجريدة قرابة
العامين وقد انقسمت مواقف القراء إلى قسمين ,قسم يؤيد ما ذھبت إليه وقسم
يرفض ھذه التحاليل ألسباب متنوعة .وقد رأيت إثراء لنقاش أن أنشر في ھذا
تصحح
ّ الكتاب آراء القسم األخير ,أما ألنھا تعكس مواقف شائعة جدا وأما ألنھا
بعض أخطائي أو تعطي للنقاش بعدا أعمق .
يبقي أنني أود قبل إعطاء الكلمة للقراء األفاضل أن أعيد تحديد مواقفي بإيجاز وقد
وقع تفسير الكثير منھا غلطا .
(1التخلف بالنسبة لماذا ؟ :خالفا لما اعتقده البعض ,ال أعتبر أن الغرب نموذج
يحتذى به وقد ركزت على ھذا بما فيه الكفاية .نحن متخلفون حقا بالقياس إلى
اإلنجازات الموضوعية التي حققھا ھذا الغرب ) معدل الحياة المرتفع ,نسبة األميين
المنخفضة ,الخ ( ...لكننا متخلفون خاصة بالنسبة لألھداف التي لم ينجح حتى
الغرب في تحقيقھا ) المجتمع األخوى المسالم مثال ( .
(2السلطة :عاب عليه كثير من القراء القول بأن األنظمة السياسية ليست
المسؤولة األولى عن التخلف أو أن مسؤوليتھا ليست باھضة وأقول :أنا لست
مدافعا عن األنظمة لكنني ال أؤمن بأن ھناك سببا واحدا وراء كارثة حضارية مثل
التخلف .فاألسباب متشابكة :اقتصادية ,أخالقية ,فكرية الخ ...ومن ثمة فاألنظمة
نفسھا حصيلة ھذه العوامل الموضوعية تتأثر بھا وتأثر عليھا في إطار عالقات
جدلية بالغة التعقيد ,لذلك على كل نظرية موضوعية لتخلف أن تعتبر كل العوامل
ومن جملتھا األنظمة ,وان تحاول اكتشاف الصالت المعقدة والديناميكية التي
تربطھا ببعضھا البعض ومن الصحيح أن الشعوب المتخلفة تفرز أنظمة متخلفة
لكنھا ككل جسم حي تفرز أيضا أنظمة متحررة تحاول بھا تجاوز تخلفھا .
114
115
(3الدين :
ھو حقا قوام الشخصية العربية اإلسالمية وعمادھا ومن ثمة نحن ال نستطيع أن
نبني أي صرح طالما لم نعتبر ھذه الدعامة يبقى أن التيار الرجعي المحافظ الذي
قتل الحالج ونكل بعبد الحميد الكاتب وابن المقفع وشرد ابن رشد وفرض العبودية
على نصف المجتمع ,ووقف على نفسه تفسير الثورة المحمدية ,أقول أن ھذا
التيار ھو المسؤول عن انحطاط اإلسالم .ومن عالمات دھائه ھذا الخلط الذي
يفرضه علينا بينه وبين اإلسالم وھذا الفخ الذي يحاول أن يوقع فيه الفكر المتحرر
تتھجم علينا فتتھجم على اإلسالم .أنا بالطبع ال أخلط بين اإلسالم وشكله المتحجر
ّ :
ومقولتي تتلخص فيما يلي :لنّغلب االجتھاد على االجترار ,لنعد إلى النقاش أين
تركه المعتزلة .
(4التراث :ھل من المعقول أن نغالي في التعلق به إلى درجة االدعاء – كما فعل
أحدھم أننا اكتشفنا شيء وأن شكسبير عربي اسمه الحقيقي ابن الزبير .أنا ال أنقد
عقدة التراث ,وھي في الواقع عقدتان :عقدة نقص تجاه الغرب المنتصر
المتعجرف ومن ثمة المباھاة الطفالنية بأمجاد األجداد وبفضلھم العظيم على ھذا
الغرب .وعقدة نقص تجاه ھؤالء األجداد الذين نجحوا أين أخفقنا حيث فرضوا على
العالم احترامھم بينما نحن نعيش في عالم ال يقيم لنا وزنا ,ومن ثمة المغاالة في
تقييم التراث حتى أن البعض يقرأون كتب الطب القديم الكتشاف وصفات صالحة
لعصرنا ھذا وأقول حان الوقت للتخلص من عقدة النقص ومن عالمات تجاوز ھذه
العقدة التقييم الموضوعي واالبتعاد عن اإلسفاف وأخيرا وليس آخرا :مواجھة
الغرب في ھذا الزمان والدخول معه في منافسة شريفة من أجل تجديد تراث
البشرية خدمة لھا وللفكر .يبقي أن النقاش وإن كان حادّا أظھر جدواه وفعاليته
وش ّكل في حد ذاته ظاھرة إيجابية في إطار حياة فكرية تأبى صراع األفكار
وتتحاشاه أي في إطار حياة فكرية متخلفة .
***
116
117
المستقبــــــــــــــل المنثـــــــــــــود
118
األمــــم وصـــراع البقــــاء
الحرب في كل مكان ,في آسيا في إفريقيا في أمريكا الالتينية .ال تنطفئ نارھا في
أرض إال لتشتعل في أخرى .إبان العشرية األخيرة ) وصدى قنابل الحرب العالمية
الثانية الزال يرن في اآلذان والضمائر ( رأينا لبنان يحتضر .فيتنام تحت القنابل .
رمال الصحراء الغربية تتضرج بالدماء قوات الكومندوس الروديزية تسحق
مخيمات الالجئين في زمبيا .أثيوبيا في حالة صراع .القوات الروسية تتأھب على
الحدود الصينية .القوات الصينية تتأھب على الحدود الفيتنامية .ميزانيات التسلح
في كل بلدان العالم في تصاعد رھيب في حين أنه يمكن إطعام واسكان وتعليم
وعالج كل سكان العالم بنصف االعتمادات المخصصة له .قوى التدمير الذرية
المسلطة أربع وعشرين ساعة في اليوم على رؤوسنا كافية لتدمير األرض ومن
عليھا أربعين مرة .البشرية على فوھة بركان .
نقرأ ونسمع ھذه األخبار فنتعمد الالمباالة .نفتعل النسيان .نعتذر بالعجز .نرفض
تصور الكارثة .نسد آذاننا .نغلق أعيننا .ندير ظھورنا للواقع حتى ال نفكر .حتى
ال نعي بما تعنيه ھذه األخبار ,حتى ال يصيبنا مس من الجنون .
ھل السالم موجود على األقل أي ال توجد الحرب ؟ بالطبع ال .فالفئات االجتماعية
في حالة صراع حاد أو مزمن داخل الوطن الواحد .
محتشدات اليمينين مليئة بأھل اليسار في شيلي واألرجنتين ومحتشدات اليسار
مليئة بأھل اليمين في فيتنام وكمبوديا .أما القمع فواحد والشتابه مطلق بين
الجلديين و آالت التعذيب .
نعم السلم االجتماعية في أغلب األماكن ليست إال حالة مؤقتة مفروضة بقوة السالح
وتوازنا مھددا طول الوقت بالثورات واالنتفاضات .تضطرني ھذه الخواطر المقلقة
إلى مواجھة الحقيقة المخيفة والتساؤل ,ما الفائدة من الطب أو تعليم الناس
االحتراز من الجرائم والحماة والطفيليات وسموم التلوث والحال أننا مھددون كلنا
بالموت العنيف ؟
119
أليست الحرب وباء ال يماثله وباء ؟ ألم يمت خمسون مليون نسمة إبان الحرب
العالمية األخيرة في ظرف خمس سنوات بالرصاص وشظايا القنابل ؟
أال يتوقع أصحاب الحل والعقد من سياسيين وعسكريين أن الحرب المقبلة ستقضي
في األيام األولى على نصف البشرية ؟
أليس اإلنسان أكبر خطر يھدد ّ
صحة وحياة اإلنسان ؟
والرد بالنسبة لي على ھذه األسئلة أساسي لوضع األمور في نصابھا وليس مجرد
سفسطة .نعم أنا أؤمن بأن اإلنسان ھو حاليا أخطر العوامل التي تتھدد صحة
اإلنسان النفسية والجسمية أو على األصح أن غريزة الكنف المتمكنة من أعماقه
ھي مصدر خطر داھم يتھدد كل واحد منا .ھل فكرنا في معنى العنف ودوره كتعبير
عن أقوى غريزة :غريزة حب السيطرة والتملك ؟ ھل ندرك أنه بلغ في عصرنا ھذا
ذروته ؟
ماذا نستنتج من القانون التاريخي القائل بأن فترات السالم ھي فترات ال حرب أي
أنھا مجرد مراحل تعقب أو تسبق حربا ما وأن اإلنسان ما اكتشف سالحا إال
واستعمله مھما كانت النتائج ؟
ألسنا حاليا أمام خيار مصيري تفرضه علينا نوعية األسلحة الحديثة المدمرة التي
اخترعھا اإلنسان :القضاء على العنف أو قضاء العنف علينا ؟
ومن ثمة فأول سؤال يعترضنا ھو معنى تواجد ھذا العنف ,وأسبابه .ھل اإلنسان
عنيف بطبعه ,أما ھل ھو مجبر عليه نظرا لظروف قاھرة ؟
وال يكون الرد على مثل ھذا السؤال الحيوي إال إذا تعرضنا إلى ظروف اإلنسانية
الموضوعية .
فاإلنسان مضطر منذ البداية كما ھو معروف إلى االنصھار في بوتقة الجماعة التي
ال تكون الحياة بدونھا ,والجماعات اإلنسانية مضطرة منذ البداية نظرا لقلة الموارد
المترتبة عن الجھل والفقر والتخلف إلى التصارع المتالك أكبر مساحة ممكنة من
األرض لتنعم بخيرات أقل ما يقال عنھا أنھا ضرورية وحيوية .وقد تغيرت تركيبة
الجماعات عبر التاريخ إذ انتقلت من طور المجموعة الضيقة إلى طور القبيلة ثم
120
إلى طور الشعب فاألمة .لكن عالقة الصراع بين مختلف األطراف المتنازعة على
امتالك األرض لم تتغير بل ازدادت حدة ودموية بمر القرون .والمالحظ من دراسة
موضوعية لتاريخ أن ھناك بعض القوانين العامة التي يمكن للكل قبولھا بغض
النظر عن االنتماء إلى ھذه العقيدة أو تلك والتي تحدد كيفية عمل العنف وأھدافه
(1تتكون الجماعات البشرية قبائل أو شعوبا أو أمما بالحرب .ھل أنا بحاجة
إلى التذكير بأن صورة عالمنا المعاصر )أي التقسيم الحالي لألرض بين
الشعوب واألمم ( ھي نتيجة الحروب والصراعات السابقة وأنھا صورة
لتوازن القوى الحالي بين مختلف المجتمعات المتنازعة والمتناحرة وأن
الوضعية قابلة لتغير الجذري بالحرب .ألسنا محقين في تساؤلنا :ھل
ستقبل الصين بامتالك روسيا ألراضي سيبيريا الشاسعة والخالية تقريبا
من السكان بينما تعاني من الضغط السكني داخل حدودھا الحالية المتزايد
يوما بعد يوم ؟ ھل سيقبل الغرب بامتالك العرب لثروات البترولية الھائلة
التي ال يستطيع االستغناء عنھا ؟ ھل ستتعايش القوتان العظميان روسيا
وأمريكا بسالم أبد الدھر أم ھل سيحاول أحد البلدين تغيير الوضعية
لصالحه بالحرب ؟ أال يعلمنا التاريخ أن روما لم ترض بھزيمة قرطاج
بديال وإن فترات السلم بين الروم والفرس لم تكن إال فترات مؤقتة تتلو
حربا وتسبق أخر .من يضمن لنا أن السيناريو لن يتكرر؟ أال نشاھد
يوميا تفاقم التناقضات وتكاثر الحروب األھلية واإلقليمية وآثار الحرب
العالمية األخيرة لم تنمح بعد ؟
(2تطمح كل جماعة إلى توسيع الرقعة األرضية المسماة بالوطن بكيفية
مباشرة ) االحتالل ( أو بكيفية غير مباشرة ) االستعمار الثقافي أو
االقتصادي ( وال تقنع بما تملك إال عمال بالقول المأثور " مكره أخاك ال
بطل"
(3يشكل الغزو العسكري ظاھرة تاريخية قارة مارستھا كل الجماعات بدون
استثناء مما يجعلنا نقر بأن الحكم المعياري على الحرب كتحميل اآلخرين
121
وزرھا أو شجبھا بصفة عامة غير فعاال وال يعني شيئا ألن الحرب
كالموت واقع ال عالقة له بإرادة اإلنسان .ال أعني بالطبع أنھا عملية
أخالقية ومشروعة أو أنه يجب تبريرھا بل أقول أنھا قوة داھمة تفرضھا
عوامل بيولوجية اقتصادية قاھرة أي أنھا تنتمي في الواقع إلى منطقة ما
وراء األخالق .
(4يفصل الصراع بين الغزاة وضحايا الغزو ) وھم عادة غزاة قدامى ( على
امتالك أرض حسب ثالثة سيناريوھات :
أولھا إبادة الجماعة المغزوة عن بكرة أبيھا ) كإبادة األوروبيين للھنود الحمر
عند استعمارھم ألمريكا ( أو اندماج الغزاة المغزوين بعد فترة طويلة من
التعايش السلمي والالسلمي في قالب شعب واحد ) نشأة األمة العربية بھذه
الطريقة ( أو تغير ميزان القوة لصالح المغزوين وطردھم للغزاة عاجال أو آجال
) طرد العرب لصليبيين وطرد االسبان للعرب (
(5يتطلب الحفاظ على األرض المغزوة سابقا والمھددة دائما كثيرا من الحذر
واليقظة لذلك ترى الجماعات البشرية حتى في حالة السلم ,مضطرة إلى
تنظيم العنف وإدماجه في مؤسساته فتخصص الكثير من مواردھا البشرية
واالقتصادية لتنظيم الجيوش وتدريس فنون الحرب في مدارس خاصة
يتعلم فيھا الضباط الجنود وسائل الكر والفر وأحسن اإلمكانيات لقتل أكبر
عدد ممكن من األعداء ,كما تسخر عبقرية أبنائھا الكتشاف أمضى
األسلحة وأكثر فتكا وتدميرا في انتظار استعمالھا الحتمي يوما أو آخر .
وھكذا تعيش األمم قابعة وراء جيوش تحتمي بھا إذ لم تخضع لھا .
وتواجھه الجماعة البشرية بعد تمكنھا من مساحة معينة من األرض تضيق أو
تتسع بتغيير موازين القوى ,مشكلة الموارد التي تدرھا أرض الوطن .
والظاھرة القارة عبر التاريخ إذا استثنينا بعض القبائل البدائية ,ھي أن التوزيع
غير عادل بالمرة إذ تتمكن فئة قليلة من أغلبية الموارد في حين تضطر األغلبية إلى
التعيش على جزء ضئيل من اإلنتاج الجماعي .وترجع أسباب انقسام المجتمع إلى
122
طبقات ,إلى عدة عوامل منھا أنه ليس لفكرة العدالة االجتماعية جذور بيولوجية .
فنحن نالحظ مثال في كل المجتمعات الحيوانية بدون استثناء وجود تفاوت ھام بين
األفراد إذ تظھر التجربة والمالحظة العلمية الدقيقة إن ھناك أفرادا يتمتعون داخل
المجموعة بامتيازات جنسية وفي ميدان السلطة ,ال تشاركم فيھا األغلبية .
واإلنسان ھو حيوان وإن كان حيوانا عاقال " مع األسف" كما أضاف أحد الظرفاء .
كذلك ال ننسى أن الحضارة التي تشكل ھدف اإلنسانية ال تكون في البداية إال
بالتفاوت الطبقي .فمن البديھي أنه لوال العنف لما شيدت االھرامات ولوال العنف
لما بنيت القصور ولوال الظلم االجتماعي لما تفرغ بعض الناس للفن والعلم
والفلسفة بينما األغلبية تكد لكسب لقمة العيش .
وأخيرا تؤدي حالة الحرب الدائمة بين الجماعات البشرية إلى إفراز المجتمع
لتركيبات معينة كالدولة وما ينجر عنھا من جيوش وإدارات الخ تحمل على عاتقھا
مھمة توسيع رقعة األرض والدفاع عنھا ونعتبر أنه من الطبيعي أن تتمتع بأوفر
قسط من الخيرات التي تغزوھا وتدافع عنھا .ومن ثمة يولد العنف الموجه ضد
اآلخرين عنفا موجھا ضد األھل واألقارب من غير المتمكنين من ھذه السلطة أو
تلك .
بيد أن األغلبية ال تقبل ھذه القسمة الالمتعادلة للموارد االشتراكية التي تنتج أغلبھا
فتدخل في صراع مزمن أو حاد مع األقلية الحاكمة فتكون ھذه االنتفاضات والثورات
المتعددة التي يحفل بھا التاريخ .
العنف إذن عامل ھام في تاريخ الحضارة واإلنسانية لكنه ليس الممثّل الوحيد من
حسن الحظ وإال لدمر العالم منذ زمن بعيد .فھو مضطر دائما وأبدا للتعامل مع
الفكر الذي يخفف من خطر الغريزة وغلوائھا ويحاول ما استطاع التوفيق بين
متطلبات وحاجيات متناقضة .
فالفكر يخلق الخيرات أين ال تعرف الغريزة إال استھالكھا وتوزيعھما الظلم ,والفكر
يؤمن بالعقل أين ال تؤمن الغريزة إال بالقوة ,والفكر يقول بالحرية أين ال تعرف
الغريزة إال االنضباط أو الفوضى ,والفكر يؤمن بوحدة البشرية أين ال ترى الغريزة
123
إال قبائل وشعوبا وأجناسا ,والفكر يؤمن باستحالة تحقيق الرخاء والسعادة ما لم
يتوفر للكل الحد األدنى من الخبز والحرية والكرامة بينما ال تؤمن الغريزة إال
بإرضاء شھوات الجماعة الضيقة .
فتاريخ البشرية ھو إذن تاريخ تطور وصراع ھذين الممثلين الرئيسيين وأنا
أتصوره شخصيا كمفاعلة كيماوية تتوقف نتيجتھا على نسبة الفكر والغريزة وقوة
تأثير أحد العاملين إبان تطورھما عبر الزمن أي أن من الممكن وصف سيناريوھين
محتملين :انتصار الغريزة أو انتصار الفكر .
أي االحتمالين سيتحقق ؟ ھل ھناك احتمال ثالث كأن تبقى الحرب سجاال بين الفكر
والغريزة بدون حل جذري إلى نھاية التاريخ ؟
أنا ال أعرف الرد بالطبع وال أظن أنه يوجد إنسان واحد على سطح األرض يعرف
اإلجابة أو يستطيع التكھن بنتيجة المفاعلة .نحن لألسف نالحظ إخفاق اآلمال
العظيمة التي علقتھا البشرية منذ قرن على العلم والصناعة أو على ھذا النظام
السياسي أو ذاك ,وكذلك تبخر المطامح واألحالم في ساحات الوغى وفي محتشدات
اليمين واليسار على حد سواء .كما نشاھد تصاعد العنف يوما بعد يوم وخاصة
التصاعد الرھيب في خطر األسلحة المتوفرة .إال يعلمنا التاريخ أن اإلنسان لم
يكتشف سالحا إال واستعمله في يوم ما مھما كانت النتائج ؟
ھل معنى ھذا أننا ضحية قوى بيولوجية اقتصادية قاھرة تحركنا بمنتھى العنف
وإن اإلنسانية ھي وقود التاريخ أكثر مما ھي محركة ؟
ال أظن ! ألن المفاعلة جارية ومن الممكن التأثير على نتيجتھا حتى ولو اتخذت
االتجاه الذي نعايشه .
فمن البديھي أن تحقيق العالم األفضل رھين بارتفاع نسبة الفكر في المفاعلة أي
بارتفاع مستوى العمل الخالق ) للتغلب على الفقر ورديفه الظلم االجتماعي (
وارتفاع مستوى العقل ) بالعلم والثقافة ( وارتفاع مستوى األخالق ) باحترام اآلخر
واعتبار حريته وكرامته الضمان الوحيد لحريتي وكرامتي ( ومن البديھي كذلك أننا
124
لن نلجم الغريزة ولن نرفع نسبة الفكر ومستواه في العالم إن لم نركز فرديا
وجماعيا الجھود لتحقيق ھذا الھدف النبيل .
حقا ,حظوظ النجاح قليلة إن اعتبرنا الماضي والحاضر .لكن المغامرة البشرية
جارية واإلنسانية في حالة تطلع وشوق جارف إلى العالم األفضل ونحن كلنا
مسؤولين عن النتيجة أيا كانت .
يبقى أن األمة العربية ھي جزء من المفاعلة التي تغلي في قدر التاريخ .وإن
مصيرھا يتقرر حاليا داخل ھذه القدر في الوقت الذي تؤثر فيه بدورھا على مصير
الطبخة .والسؤال المطروح أمامھا ) أو باألحرى التحدي ( ھو ھل تساھم في رفع
نسبة الفكر في العالم أي ھل ستكون قوة سالم تدفع بالبشرية إلى ضفاف إنسانية
عليا ,أم ھل ستكون إحدى الروافد التي تصب في دنيا الغريزة لتقاسي منھا بدورھا
.
والمتأمل للوضعية الحالية لھذه األمة مضطر لمالحظة أنھا وضعية ال تحسد عليھا .
فانقسامھا إلى شعوب وأنظمة متناحرة وضعيفة ووجود إحدى شعوبھا تحت نير
االحتالل األجنبي وھشاشة قواھا العلمية واالقتصادية والسياسية ومن ثمة
العسكرية تجعلھا عرضة لكل الضربات القاتلة في كل لحظة .
والمستقبل بطبيعة الحال مجھول ,لكنه لن يكون لألمة غير طريقين :
(1يمكن أن تتزايد حدة الحرب األھلية بين األنظمة فتزيد من تعميق الھوة
بين الدول وحتى الشعوب ,ويمكن أن يتزايد عدد العرب القتلى بالرصاص
العربي وسيؤدي ھذا بصفة أوتوماتيكية إلى تزايد الثقل العسكري إلى
إسرائيل التي ستنخر في جسم األمة كسرطان يتزايد مفعوله بتزايد ضعف
جسم األمة وستكون نھاية ھذه المرحلة عودة االستعمار .فمن السذاجة
أن نتصور أننا أن نستعمر من جديد بصفة مباشرة إذا اضطرت األمم
األخرى القوية إلى استعمارنا لدفاع عن بقائھا ووجودھا .معنى ھذا أن
ضعفنا الذاتي ھو الذي يولد العنف بيننا وھو الذي يط ّمع فينا الشعوب
واألمم التي نتزاحم معھا على ركح مسرح التاريخ .
125
(2لنفترض أننا تعلمنا قبل فوات األوان من تجاربنا التاريخية – مع العلم بأنه
ليس في اإلمكان إبداع مما كان – )فاألمم ھي األخرى بحاجة إلى التجربة
والوقت الزم لنموھا ولنضجھا مثلما ھو الزم لنمو ونضج النبات
والحيوان واإلنسان ( لنفرض أن ھذه السلبيات التي نشاھدھا حولنا وفي
أعمق أعماقنا ليست إال المحرك الذي يدفع بنا إلى األمام .ستكون نتيجة
المفاعلة كاآلتي :
ستتغلب الشعوب واألنظمة على حزازاتھا لتنصھر في بوتقة أمة واحدة ودولة
واحدة أيا كان الشكل الذي ستتخذه ھذه الدولة ,وبتغلبھا على ضعفھا الداخلي
ستستطيع ھذه األمة العظمى أن تلجم إسرائيل وأن تقلم أظافرھا وأن تقبل بوجودھا
– إن قبلت – عن قوة ومناعة ال عن ضعف واستسالم .
ھل سيصيب ھذه األمة العظمى جنون العظمة اإلمبريالية بدورھا آنذاك وھل
ستستخدم قوتھا لتسحق الشعوب واألقليات التي تدور في فلكھا أو تعيش في كفنھا
أي ھل ستعيد من جديد سيناريو العنف والغريزة مع استبدال األدوار فتكون الجالد
بعد أن كانت الضحية وتفشل اإلنسانية مرة أخرى في فترة الخروج من فترة ما قبل
التاريخ ,أم ھل ستستعمل عظمتھا وقوتھا وبعد تجربتھا التاريخية لتدفع بالعلم
والفكر والفن والسياسة خطوة جبارة إلى األمام .
ذلك ھو السؤال ,ذلك ھو التحدي الماثل أمامنا ..والقول الفصل للمستقبل الذي
سيكافئ مجھوداتنا ,أو يحكم بال ھوادة على فشلك ..على فشلي ..على فشلنا .
طال الحديث بيننا وتشعب عن تونس ,عن مصاعبھا اليومية ,عن إمكانياتھا
المتواضعة .كأنه سئم الموضوع أو باألحرى واقعه المرير ,فغيّر مجرى النقاش
":تعال نتصور تونس بعد قرن ,كم أود أن أعلم إلى أي مآل ستؤول!"
126
قلت " :عملية التنبؤ بالمستقبل من الصعوبة بمكان لكنھا عملية مشروعة وواجبة
ألن التخطيط للمستقبل البعيد من واجبات الحاضر .ھل تعلم أنه توجد في الغرب
مؤسسات حكومية وخاصة تجمع خيرة علماء االجتماع واالقتصاد ونخبة من
المفكرين في شتى الميادين ,مھمتھا الوحيدة التكھن بالمستقبل البعيد وتصور كل
االحتماالت ووضع إستراتيجيات مختلفة ومتناقضة يمكن اللجوء إليھا عند الحاجة .
والھدف من ھذا التفكير المبني على المعلومات الموضوعية والنقاش الحر ,
والمخيلة المعقولة :التكھن بخطوط القوة للمستقبل حتى بمكن التحكم فيه وتوجيھه
وتفادي المفاجئات الناتجة عن قصر النظر .
الواقع أن مثل ھذا التفكير لم يثبت إلى حد اآلن فعاليته .أتذكر أن تقرير نادي روما
الشھير في بداية السبعينات تنبأ بكل شيء إال بزيادة أسعار البترول وبأزمة الغرب
االقتصادية ,وإن العقول اإللكترونية المكلفة بالسھر على نظام الشاه لم تتوقع
لحظة أن الخطر على الشاه سيأتي من عجوز متدين ال عالقة له ال بموسكو وال
ببكين وال بالضباط األحرار .
كل ھذا ال يمنع العرب والتوانسة من األخذ بھذه المنھجية وتطويرھا حتى نعرف
أين نضع أقدامنا .
ّ
يتمخض دائما قال :صحيح أن الحذر من التنبِؤات والتصورات مشروع وإن الواقع
عن مفاجئات مثيرة لم يتوقعھا أحد .لكنني سأحاول رسم صورة معقولة ,لمستقبل
معقول ألنني رغم كل الظواھر أعتقد أن لنا مستقبال .
نحن في الخلدونية ) تونس سابقا ( سنة . 2079البالد مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل
جمھورية العرب ,وجمھورية العرب ھذه مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل اتحاد األمم
المتحدة .خرجنا نھائيا من مرحلة التخلف الفكري واالقتصادي ,انتھت أزمة
السكن منذ أمد بعيد .
مستشفياتنا على ما يرام ,طرقاتنا أوتوروت ,سياراتنا كھربائية ,أصبحت
الديمقراطية من األمور البديھية وكذلك العدالة االجتماعية .
127
العالم في سالم ورخاء منذ ألغت اللجنة األممية العليا كل الجيوش باستثناء الجيش
األممي حارس السلم بين الشعوب :محور الحديث ھذه السنة في البالد ,موضوع
المفاعالت النووية التي ترد العاصمة الفيدرالية ) مكة الجديدة ( فرضھا على
المقاطعة .مفوض التوانسة للشؤون اإلدارية يجتمع اليم برئيس المعارضة التخاذ
قرار نھائي في ھذا الموضوع خاصة بعد رفض حكومات الناصرية ) القاھرة سابقا
( والعمرية ) القدس ( واإلدريسية ) الدار البيضاء ( إيواء ھذه المفاعالت الجبارة
الخطرة – بعبارة أخرى إني أرى آماال قد أينعت وطاب قطافھا .
انفجرت ضاحكا ,,
"نسيت حق السفر للجميع إلى القمر ,وارتفاع معدل الحيات إلى ثالثة قرون ,
مشكلة تغيير أوقات صاروخ جربة المريخ .
أجاب ممتعضا " :ولم ال ؟ ھل كان جدنا البدوي راعي اإلبل في دوز يتصور عالمنا
ھذا وإنجازاته ؟
قلت ,ھنا تكمن الغلطة المنھجية .نتصور المستقبل كتحسين للماضي .لو طلب من
جدنا رحمه ﷲ تصور تونس ھذا القرن في بداية شبابه لتصور في أحسن الحاالت
دوز عاصمة لتونس ,والرخاء على شكل امتالك كل تونسي لآلالف من البعير
والتقدم في تسلق النخل لھضاب عين دراھم ..وال أظن أنه كان يتصور أھوال
الحرب العالمية أو غزو الفضاء أو حلة بالدنا الحقيقية وتغيرھا الجذري .
المستقبل ليس االمتداد األوتوماتيكي للحاضر بل ھو شيء مغاير ومن ثمة صعوبة
التكھن به .أضف إلى ھذا أن تصورك غير موضوعي ألنك لم تأخذ بعين االعتبار
إال عاملين ھما عامل الشھوة واإلرادة ) وھو عامل الزم لصنع المستقبل لكنه غير
كافي ( وعامل قدرة العلم والتكنولوجيا ) وھو عامل ھام لكنه ليس على كل شيء
قدير ( .تعال نستعرض بضعة عوامل ستلعب دورا ھاما في تكوين صورة مستقبلنا
.
(1المناخ :السؤال الھام الذي أود طرحه على أھل االختصاص ھو :أسيكون
لتونس وجود بعد قرن أم ھل ستبتلعھا الرمال ؟ ھل صحيح أن كثبان الرمال تتقدم
128
سنة بعد سنة وإنھا قد تصل إلى البحر في يوم ما ؟ ھل يولي المسؤولون اھتمامھم
لھذا االحتمال الرھيب ؟ ھل توجد خريطة مفصلة لدى المسؤولين لتدلھم على
وضعية بلدنا الجيولوجية .ھل تخ ّرج معاھدنا علماء من الطراز األول لمراقبة
الصحراء وإيقاف تقدمھا ؟ لماذا ال نساھم مع إخواننا في الجزائر في مشروع
الحزام األخضر ؟ ھل ھناك اعتمادات كافية لدراسة المشكلة ومحاربتھا أم ھل أن
االتفاق على سفارة في الدانمارك والكونغو أھم ؟
الماء :أنت تعلم أننا بلد جاف وأننا نعرف من اآلن مشكلة مائية ,كما تعرف أن
أخوتنا الجغرافيين ما فتئوا يلفتون نظر الحكومة والشعب إلى خطورة المشكلة
واحتمال تفاقمھا .ترى ھل سنعرف يوما ما أھوال العطش الجماعي .ال تعجل عليا
بسخريتك وال تذكرني بقدرات العلم والتكنولوجيا ,فنحن في الوقت الحاضر أمام
مشكلة عويصة وخطرة ومن األحسن أن نعي الكل بأھميتھا قبل فوات األوان .
سأقص عليك قصة ليست طريفة في شيء تدل على عمق اإلھمال وانعدام الوعي
عند الناس بقلة الموارد وأھمية المحافظة على كنز أثمن من البترول .
منذ ثالثة أشھر وأنا أتناول طعام الغذاء في مطعم األطباء بمستشفى الرابطة ,
الحظت أول يوم حنفية القاعة معطوبة وإن الماء يسيل منھا وبدون انقطاع ,
نھضت من مكاني وكبست عليھا بمنتھى القوة فلم أنجح في إغالقھا ,قلت
سيصلحونھا ونسيتھا ,مرت أيام والماء يسيل من دون انقطاع .في األخير توترت
أعصابي ,ذھبت إلى الطباخ طالبا منه إصالح الحنفية فاعتذر بأنه أصلحھا وإنه
سيصلحھا وإنه ,وإنه الخ ...مرت األيام واألسابيع ولم تصلح الحنفية بطبيعة
الحال ,اتجھت إلى زميل طبيب مكلف ,فوعد وأخلف .بمضي األسابيع أصبحت
ھذه الحنفية اللعينة أصل عقدة نفسية أضفتھا إلى قائمة عقدي الطويلة وأطلقت
عليھا االسم العلمي الرنان ,عقدة حنيفة الرابطة ,والعقد كما تعلم مصدر إزعاج
نفسي ) كانت أعراضه عندي الغيظ والقھر ( ومصدر كوابيس .أذكر أنني حلمت
ليلة بھذه الحنفية تسيل منھا أنھار من الماء ,تضيع ھباء بينما أرض بلدي الجافة
العطشى تتشقق تحت شمس جھنمية .
129
تسأل ما عالقة ھذا بالمستقبل وأقول لك :حنفية الرابطة رمز لھذا المستقبل
الصعب :قلة الموارد وتبذير مجرم يسنده الوعي بھيمي .كل الدراسات العلمية
تثبت خطورة المشكلة .ونحن نبذر ھذا الكنز في غسل السيارات في مسابح الفنادق
الفخمة ) المتاخمة للبحر ايه وﷲ ( والحنفيات المعطوبة .يا حضرات المسؤولين
عن إدارة الرابطة لقد ألردت أن أدفع ثمن اإلصالح من جيبي فلم أحد أتجه إليه لذلك
أرجوكم أصلحوا ھذه الحنفية ألنني ) في حالة تقاعسكم ( لن أخجل من رفع قضية
إلى الرأي العام .فالمسألة خالفا لما تعتقدون ليست تافھة أو ھامشية بل ھي رمز
لقضية مصيرية وبالتالي فھي قضية مصيرية وشكرا لكم على تسرعكم بمعالجة
األمر باسم حفدتي وحفدتكم .
الغذاء :تتھدد المجاعة العالم الثالث نظرا لتزايد السكان المخيف ,وفشل الثورات
الخضراء ,وتقلبات الطقس ,وجشع تجار الحبوب من دول وشركات عالمية ,
واالحتياطي العالمي من الحبوب في زمن السلم ضعيف جدا ...ال يمكن أن يفي
بحاجة البشرية فما بالك إن نشبت حرب كبيرة أو أصيبت منطقة حساسة بجفاف ,
أضف إلى ھذا أن الدول التي تملك القمح ليست بشقيقة أو صديقة وبالتالي يمكنھا
تھديدنا بالتجويع في حالة قيام نزاع مصيري بيننا وبينھا .
معنى خذا أننا سنبقى عرضة لخطر الجوع إن لم نصل في أقرب وقت إلى مرحلة
االكتفاء الذاتي من الناحية الغذائية ولن يتيسر ھذا إال بإعطاء الحكومة األولوية
المطلقة لھذا االستقالل الحقيقي ووقف االعتمادات التي توفرھا لصناعة ظرفية
ومھددة كالسياحة لتحويلھا إلى ميدان الفالحة واألھم من ھذا تغيير عقلية الناس
ونظرتھم إليھا .إذ يجب على مجتمع ال يريد الموت جوعا أن يجعل من الفالحة
أشرف مھنة وأكثرھا ربحا ومن الضروري أن بكون بطل المسلسالت العاطفية
الھزيلة التي تقدمھا التلفزة فالحا عصريا يقوم بحرث الصحراء ويخلق منھا
الخيرات .على كل أنا شخصيا ال أطمح إلى جعل ابني طبيبا أو محاميا أو مھندسا
وإنما أتمنى أن أراه ينقب عن الماء في الصحراء ,ويزرع آالف الھكتارات منھا
130
بالقمح والذرة ويحصد من بساتين دوز وضواحيھا الموز والتفاح ,كما أعرف أنني
لن أزوج بناتي إال لرجال يزرعون ويحصدون وتكون الحياة بعرقھم وجھدھم ...
الطاقة :العالم كما تعرف مھدد عاجال أو آجال بنضوب البترول ,والبديل النووي
غير جاھز .فماذا أعددنا لمرحلة ما بعد البترول ؟ ال شيء على ما يظھر .صحيح
أننا ننتج القليل منه ,لكن صحيح أيضا أنه إلى زوال وأننا نبذر مواردنا القليلة في
خزانات السيارات .الطاقة ھي كل شيء ھي حركة التقدم ,وھي الكھرباء .ھي
عمل المصانع ھي الفالحة العصرية الخ ...والبترول أيضا اآلن ھو كل الطاقة
والسؤال الذي يجب طرحه ھو بماذا سنتنقل ,بماذا سنشغل مصانعنا ونضيء
طرقاتنا عندما ينضب البترول .
تستطيع التذرع بكل الجمل اللغوية ,لكنك لن تحل المشكلة فنحن نسير في طريق
مسدود .كل األخصائيين يعرفون الحقيقة والرأي العالمي واع خاصة في الغرب
بأھمية األمر .فھل سمعت مسؤوال واحدا في بلدنا يتحدث عن معضلة الطاقة وخطر
نضوبھا الحتمي ؟ العكس ھو الصحيح ,تصور أنني قرأت مؤخرا عن مشروع
صنع سيارة تونسية صغيرة ,فكدت أتميز من الغيض ) وأندب خدودي وأقطع
شعري ( ھذا ھو الالوعي بعينه والالمسؤولية بعينھا .
ال يمكن تفادي أزمة الطاقة أو باألحرى تأخير وقت مجيئھا إال باالعتماد تقتير
وبخل أبطال الجاحظ في أھراق البترول الثمين ,وسياسة المحافظة على المورد
تتطلب تغير عقلية سمجة ورثناھا من الغرب أ ي عقلية االستھالك المفرط واألحمق
والسيارات الفردية رمز لھذه العقلية .أغلب البترول يضيع في خزانات السيارات –
االستنتاج المنطقي المعقول إذن ھو سن سياسة طويلة النفس لتخلص من السيارة
كوسيلة نقال تبذر البترول وتلوث المدن وتقتل األبرياء والتركيز على سياسة النقل
الجماعية التي يجب تعصيرھا وتحسينھا من ناحية الكم والنوع وتقليل كلفتھا من
ناحية الطاقة .إن كان ال بد من مصانع ,أوصيكم يا حظرات المسؤولين لتشجيع
صنع دراجة تونسية يقبل عليھا الكل وتنفع في التنقل والتمتع .
131
نعم يا حضرات االخوة المسؤولين ,ستالقون صعوبات جمة ألن سياسة استبدال
السيارة الفردية ومحاربتھا حتى على األمد البعيد لن تكون شعبية بالمرة ) ألننا في
حالة إدمان على السيارات ( .لكنكم مسؤولون عن مستقبل البلد ال عن رضاء
الناس أم أنتم يا إخواني المواطنين من أصحاب السيارات وﷲ ليأتين يوم يصبح لتر
البنزين أغلى من لتر الويسكي فاحتاطوا وتعلموا المشي وركوب الدراجة وأسكنوا
المدن الصغرى ولقد أعذر من أنذر .
يبقى بعد ھذا علينا اكتشاف مصادر أخرى للطاقة .ھل تعلم أن الشمس التي تحرق
جلودنا طوال الصيف ,ھي حل ممكن .كل الدراسات العلمية تدل على إمكانية
استعمال الشمس لتوليد الكھرباء ,أو لخلق حاالت أخرى من الطاقة .ھل تولي
الحكومة أھمية قصوى لھذه الدراسات ؟ ھل لنا معھد عالي لتتبع األبحاث في ميدان
الطاقة الشمسية والمساھمة فيھا ؟ ھل لنا جواسيس وعيون ومخبرون يجمعون كل
المعلومات عن صناعة المرايا الشمسية ؟ متى نبدأ في تصنيعھا وتجربتھا خاصة
في الجنوب ؟
(3الحرب :ھناك قانون تاريخي يقول :السالم فترة تتلو حربا أو تسبق
أخرى .
وھناك قانون ثان يقول :ما اكتشف اإلنسان سالحا إال واستعمله مھما كانت
العواقب ,وقانون ثالث يسن :عندما تصل التناقضات بين مصالح الشعوب إلى
مرحلة خطرة تتفجر الحرب بالرغم من أنف الجميع .
نحن إذن مھددون بالحرب والذرية منھا على وجه الخصوص .وأنا واثق أن نھاية
ھذا القرن والقرن المقبل سيشھدان حروبا ضخمة في إفريقيا ,بين الصين واالتحاد
السوفيتي ,بين العرب وإسرائيل ,بين العرب والغرب الخ .
بطبيعة الحال نحن شعب صغير ,فقير ,ومسالم وبالتالي ال نثير طمع أحد أو ضغينة
أحد لكننا عرب وبالتالي مصيرنا مرتبط بمصير العرب المقدمين على صراعات
جذرية ضد الصھيونية وضد الغرب الذي سيحاول ) عندما يقترب سكين نضوب
الطاقة من عنقه ( االستيالء على ارض العرب وخيراتھا مھما كان الثمن .ھل نحن
132
مستعدون لمواجھة ھذا االحتمال الرھيب ؟ من البديھي أننا ال نستطيع بناء شبكة
صواريخ مضادة للطائرات أو الدخول في سباق التسلح مع زيد أو عمرو وإن أقصى
ما نستطيع عمله ھو االستعداد لحب دفاعية قليلة االحتمال حقا لبعدنا عن المواقع
الحساسة كحقول النفط لكنھا ممكنة في إطار مجابھة شاملة .كيف ؟ باالكتفاء
الذاتي في ميدان الغذاء وبالالمركزية .باالكتفاء الذاتي في ميدان األدوية
الضرورية واألجھزة الطبية الحيوية ,بوجود احتياطي من الوقود وغيره .ھل
ھناك مخططات إلفراغ المدن بنظام وشبكة الالسلكية مستقلة توفرھا الدولة ليكون
لھا وجود وفعالية حتى في أحلك
الظروف ؟ وھل لنا السيناريوھات المختلفة المعقولة منھا والغير المعقولة في
ميدان الدفاع المدني ؟ يحق لك أن تبتسم بسخرية لكن مستقبل الشعب وحياته
يتطلبان أن تحسب الحساب لكل شيء وخاصة للمجھول والتخطيط السليم ال يكون
إال باعتبار المدى البعيد .
قال وھو يغالب امتعاضه " يا شيخ فال ﷲ وال فالك .المستقبل إذن بالنسبة إليك
حرب ومجاعة وعطش وكثبان الرمل في شوارع قرمبالية تتأھب ليبتلع منزلنا
المتواضع في حمام األنف "
قلت :ھذا سيناريو ممكن خاصة إن تمادينا في عملنا وال مسؤوليتنا لمن المستقبل
" مساحة مفتوحة " ونحن صانعوه ,التحكم فيه للوصول إلى المدينة الفاضلة التي
تحلم بھا وأحلم بھا يتطلب :
أوال :الكثير من العزيمة والكثير من التضحيات .
ثانيا :التخطيط الحكيم والبعيد المدى للعوامل الموضوعية التي رأينا أھمھا .
ثالثا :محاولة التكھن ) بإجھاد المخيلة بالعوامل الطارئة والمجھولة التي يمكن أن
تفسد كافة حساباتنا .واعتبار السيئ لتفادي األسوأ .
على كل واجبنا واضح ,نعم أقول وأكرر إننا ال يجب أن نردع بوھج السراب وأن
علينا االستعداد لمستقبل صعب ,لنقم بواجبنا في ميدان التخطيط واإلنتاج والتفكير
والتخمين ,لنجند الذكاء والمخيلة والعضالت وكلھا مواد خام ال تنقص ھذه البالد
133
ثم لنقل بعدھا :حظ سعيد يا تونس ,حظ سعيد يا ديار العرب ,حظ سعيد يا
إنسانيتنا المسكينة .
يجب حاليا من المحيط إلى الخليج مليون عرب مصابون أو سيصابون في العشر
سنوات المقبلة بمرض السرطان وأملھم الوحيد في الشفاء من ھذا المرض الخطير
أن تكتشف العقول الغربية في جامعات برنستون وبركلي وستاند فورد بالواليات
المتحدة ,أو جامعات لندن وباريس وكوبنھاغن في أوروبا أو جامعات اليابان
واالتحاد السوفيتي ,سر انقسام الخاليا المجنون وعد إطاعتھا لقانون الحد من
االنقسام .كذلك يتركز أملھم على قدرة مختبرات المصانع الكيماوية الكبرى في
سويسرا على تحضير الدواء بسرعة وبيعه إلينا في أقرب اآلجال .
تجد حاليا فوق رؤوسنا العديد من األقمار الصناعية األمريكية السوفيتية والغربية
تحصى علينا أنفسنا وتعرف بالضبط كل شيء عن خيراتنا النجمية باإلضافة إلى
معرفتنا الكاملة لكل معداتنا العسكرية .واألھم من ھذا أن مواصالتنا الھاتفية
والتلفزية متعلقة بقدرة العقول الغربية على صنع األقمار التي سنحتاجھا عما قريب
لتقريب الشقة بينا وتبادل برامجنا التلفزية ,وبقدرة العقول الغربية أيضا على
اكتشاف أحس وأرخص الوسائل لبعث ھذه األقمار إلى الفضاء من صواريخ
ومكوكات .
صلنا على ھذه اإلمكانيات مرتبط بمدى خضوعنا لبعض القيود ,
ومن البديھي أنّ تح ّ
ومن البديھي كذلك أن مثل ھذه الوسائل ستبقى دائما وأبدا عرضة للمصادرة
والمراقبة .
تجد حاليا فوق رؤوسنا طاقة جبارة ھي طاقة الشمس التي تحرق جلودنا وتحرق
زرعنا وتجدب أراضينا وھي طاقة ال محدودة وسخية يمكن أن تكفل ألبنائنا
134
وأحفادنا عندما ينضب البترول ,ما يكفي حاجياتھم لالستنارة والتدفئة والتنقل الخ.
وأملنا األوحد في استغالل ھذه الطاقة الجبارة أن تكتشف العقول الغربية في
جامعات منبالي ومرسليا وأمستردام ,أحسن الوسائل العلمية والتقنية لصنع
المرايا أو الوسائل األخرى ,حتى نستطيع نحن العرب بإذن منھم التمتع بھذه
الطاقة التي ال تنضب .
توجد حاليا في أعماق البحار المحيطة بنا وفي المحيطات الكبرى ,باإلضافة إلى
القطبين الشمالي والجنوبي ثروات ھائلة .منھا الثروات البيولوجية كالسمك
وبعض األمور األخرى التي تخطط الشركات العالمية الستعمالھا كأدوية ,ومنھا
المعدنية وأخص منھا بالذكر ما يسمى ) ( Nodulesوھي جبال من المعادن في
قاع البحر والتي ستشكل كنز علي بابا .
عندما تكتشف العقول في جامعات الغرب مفتاحھا العلمي والتقني ,وھناك في ھذه
اللحظة عشرات من البواخر الغربية والسوفياتية واليابانية تجوب البحار ال تحمل
مدافع وال ركاب وال بضائع وإنما أجھزة علمية بالغة التعقيد تقتصر مھمتھا على
دراسة كل خصائص البحر مخططة للمرحلة المقبلة :استنزاف خيراتھم ,بطبيعة
الحال سيتقاسمون الوليمة ,وسيلقي إلينا بالفتات باسم اإلنسانية والرأفة والعدالة
وتمكيننا من نصيب من الكنز .
توجد حاليا في أراضينا المحتلة مفاعالت نووية جبارة وأدمغة صھيونية خططت
وتخطط لوضعنا تحت رحمة القنابل الذرية المصنوعة والجارية الصنع .أما
المفاعالت النووية التي تبيعھا لنا بعض الدول بعد تقليع أظافرھا ,فھي إن قارنھا
بالمفاعالت الموجودة في أوروبا وأمريكا واالتحاد السوفيتي ,كالعربة المجرورة
بالنسبة للبوينج .
توجد حاليا في الوطن العربي مشكلة خطيرة تتفاقم يوما بعد يوم ھي مشكلة
التصحر ,وأملنا الوحيد أن تكتشف في كاليفورنيا أحسن تقنيات لوقف زحف
ّ
الصحراء ,بل واستخدامھا في ميدان الزراعة .
135
توجد حاليا في مختبرات البيولوجية المتقدمة بجامعات الغرب واالتحاد السوفيتي ,
دراسات حثيثة حول تطوير البرنامج اإلعالمي للخاليا حتى يمكن خلق جراثيم
وفيروسات ال يعرف ضدھا دواء ويمكن استعمالھا ضدنا إن تطلبت الحاجة ,كذلك
تجري محاوالت أخرى أقل خطر لتجعل الخاليا " مصنعا بيولوجيا " يعطي ما
تحتاجه اإلنسانية من أدوية كاألنسولين ,أو بروتينات للقضاء على الجوع الخ ..
ولربما ستذھلون إن قلت لكم أن بعض الباحثين ھم بصدد دراسة إمكانية التغلب
على الموت ..فقد استطاع عقالني غربيان ھما قوردون وكنشي إعادة صنع
ضفدعة بأكملھا ابتداء من خلية أخذت من الغشاء المعوي للضفدعة األولى وبھذا
يكونا قد فتحا البابا لتجارب رھيبة قد تمكن من إعادة نسخ أي واحد منا كما لو كان
مجرد نص يوضع في الناسخة كلما تطلب األمر ذلك .
باإلضافة إلى ھذا ,فإن العقول الغربية الجبارة في ''مونت نبالومار ''بكاليفورنيا
تجس نبض الكون فتقيس عمره وتحدد تاريخ ميالده بعشرين مليار سنة ,وتقيس
ّ
بعد المجرات وسرعة ابتعادھا عنا عما تزن النجوم والكواكب وتكتشف يوما بعد
يوم أسرار ھذا الكون المھيب ,متالعبة بأعقد النظريات الحسابية ,ومستعملة في
ھذا أعقد العقول اإللكترونية لمساعدتھا في وضع المجرات والنجوم والكواكب في
إطار معادالت حسابية تبھر روعتھا وتتألق جماال .واألغرب من ھذا أن القوم
بعضوا في سنة 1972بمركب فضائي اسمه ''بايونير'' وعليه رسالة مكتوبة
باللغة الكونية :الحسابيات ومھمة ھذا المركب ,أن يغوص في أعماق الفضاء
الالمتناھية طوال ماليين السنين عله يقع بين أيدي كائنات أخرى فتدخل في اتصال
مع البشرية .بطبيعة الحال إن وقع ھذا بعد آالف السنين ,فإن الذين سيشعرون
بالزھو والخيالء ,لن يكونوا أحفاد العرب .واآلن ماذا عن وضعيتنا نحن ؟ ما ھو
وزننا العلمي .ما ھي مساھمتنا في ھذه المغامرة الفكرية التي لم تعرف لھا
اإلنسانية ما فينا ؟
نحن نسمى علما الدراسات في الفقه واللغة واألدب والنحو والصرف وكم من مرة
سمعت الناس يتشدقون ,بعلميتھم وبأھمية البحث العلمي وبعلمية بحثھم .وفھمت
136
أن الكلمة ال تدل على منھج بقدر ما تدل على إيمان سحري واستعمال سحري
للكلمات ,وھي كما تعلمون بعض من خصائصنا العقلية فالعلم ليس بحثا وشكا ,
نقدا وحركية دائمة ,بل كلمة نلصقھا بكل ما نريد أن يقتنع به الناس ,أي أنھا في
الواقع ذلك البديل النظري للعنف الذي طالما مارسناه بيننا من قبل إلسكات المخالف
في الرأي بسم ﷲ والدين ,واألخطر من ھذا أن عملية التمويه على الخير والذات
اتخذت ھذه السنوات األخيرة طابعا مرضيا ال يحسن السكوت عنه فالناس تجنّد
قواھا لتشدق بأمجاد الماضي وبالتذكير على فضلنا على الغرب في كل ما يفعلون
متناسين دور الھنود والفرس واإلغريق على حضارتنا العربية ومتعامين عن تفاھة
ھذا التفكير الممل بأيادي أجدادنا على أناس وطأت أقدامھم أرض القمر وتخطط
للمشي على سطح المريخ .وقد بلغت ھذه الھلوسة المرضية الناتجة عن محاولة
تخطي عقدة النقص بأبخس الوسائل إلى جد التطاول على القرآن الكريم نفسه
فجعلت منه كتاب فيزياء وكيمياء وطبيعيات الخ تھرع إلى آياته تفسرھا بعد كل
اكتشاف علمي كما تشاء وبأتم الحرية لتثبت أن ﷲ بحاث علمي يفوق باحثة الغرب
الذي عجزنا عن مواجھتھم في ساحة العمل الجاد ورافضين النصيحة المتمثلة في
استنباط االكتشافات المقبلة قبل أن تقع من قراءتھم العلمية للقرآن حتى نستطيع أن
نحصل على قصب السباق وإن نتخطى ونتجاوز ھؤالء المساكين الغربيين الذين
يعملون بدون وحي من ﷲ .
وما كان أحرى بھذه العقول الذليلة أن تأخذ بقول ايليا أبو ماضي :
سبيل العز أن تبني وتعلي
فال تقنع بأن سواك يبني
وألنك عالة في عنق جد
رميم العظم وعبئا على ابن
تبقي رغم ھذه الظاھرة أن لنا عشرات الجامعات وأن لنا عشرات وإن لم تكن مئات
اآلالف من الطلبة في الفروع العلمية .وإننا ال زلنا نبني المعاھد والمختبرات ومن
137
ثمة قد تتساءلون :أليس ھذا الدليل على أننا على الدرب سائرون وأقول بكامل
الصراحة ال وذلك اعتمادا على تجربتي الشخصية في ميدان البحث والتدريس .
نحن ال نكلف أنفسنا حتى عناء ترجمة ما يأتينا والحال أن عملية الترجمة ومن ثمة
اإلدماج ھي أولى أسباب المناعة الحضارية والتقدم العلمي الحقيقي .ذلك ما أثبته
التاريخ مرارا .فنحن في أغلب جامعاتنا نأخذ ما يأتي من الخارج لندرسه لطلبتنا
باإلنقليزية والفرنسية ,والحال أنه يوجد في يوغسالفيا جامعات تدرس الطب
والفيزياء والنووية باللغة المحلية للمقاطعات الفيدرالية التي ال يزيد عدد سكانھا
عن بضعة ماليين .وأھمية وخطورة ھذه القضية ال تتوقف عند النقل المباشر دون
عناء الترجمة فالتبويب فاالنتقاء وإنما يتجاوزھا إلى ما أخطر .فالعربية كما
تعلمون ھي العمود الفقري ألمتنا ولحضاراتنا .إن انھارت انھار معھا كل شيء .فال
شيء آخر يجمعنا في الواقع غير لغة القرآن ولغة محمد ابن عبد ﷲ القرشي
مؤسس ھذه األمة وحاميھا من التفكك منذ أربعة عشر قرن .ومن ثمة خطر
التطاول على ھذه الدعامة والركيزة األساسية .وإنه لمن المؤسف حقا أن تكون
الجامعات العربية ھي مصدر ھذا الخطر حاليا إذ تكون من نخبة أمة نخبة منبتة بال
جذور ,مرتبطة فكريا ومن ثمة مصيريا بالمنھل الذي تنھل منه بكل سلبية .مشيعة
التشوش الفكري أي الحضاري في عقول الشباب ,ومشيعة ھذه اللغة البشعة التي
أصبحت لغة مثقفي المغرب العربي الفرانكوا آراب .ھل أدت ھذه المصيبة على
األقل إلى ارتفاع في مستوى العلم وھو ما يحاول أن يھمنا به أعداء التعريب التعليم
العالي الذين يتحملون أمام التاريخ مسؤولية فادحة ؟
ال طبعا .فالسلبية المشوشة المضطربة ال تخلق وأقصى ما يمكن أن تصل إليه ھو
حس االستھالك .
عندما أقرأ أن لنا في تونس وزارة للبحث العلمي أضحك وعندما أقرأ أن لموريتانيا
والصومال وزارة للبحث العلمي أضحك ولكنه أقرب إلى شھيق البكاء منه إلى ما
نسميه ضحكا .
138
في عمل اليوم أنا أكتفي عندما أحاضر في أمراض المخ بنقل آخر ما ورد في
النشرات العلمية الغربية وقد أناقض نفسي من سنة إلى أخرى فأقول بغير ما قلته
السنة الماضية ألن العقول الغربية غيرت رأيھا في الموضوع وبطبيعة الحال أنا
أحاضر بالفرنسية مما يقيني تعب الترجمة ويحفظ طلبتنا عن ظھر قلب المقاالت
العلمية في الغرب ومعرفتھم ألمراضه أعمق من معرفتھم لألمراض في بالدنا
وطريقة تعاملھم وتفكيرھم ھي نسخة تكاد تكون طبق األصل من تفكير زمالئھم في
الغرب مع فارق ھام ھو أنھم يتعاملون مع مريض ال عالقة له بمريض ھؤالء
الزمالء .
ھذا ال يعني طبعا أننا ال نقوم في تونس مثال بأبحاث علمية والحق يقال أنھا متنوعة
وكثيرة .المشكلة أنھا تفسير التفسير ,وتعليق على نص كتبه غيرنا .
مثال اكتشف العقل الغربي المسمى ''ھونسفليد ''مبدأ جھاز السكانار ,وھو جھاز
يمكن من الكشف على أغلب أمراض المخ وكأننا ننظر داخله بدون أدنى حاجة إلى
فتح الجمجمة .
قامت عقول المھندس وأيدي العمال المھرة في الغرب بصنع الجھاز .
تھاطل الباحثون على الجھاز ودرسوا في سرعة رھيبة أغلب األمراض ثم اشترينا
الجھاز ودفتر االستعمال واستعرنا مھندسا ليصلحه في حالة وقوع عطب ما .
نقوم ببحوث ھامشية ونعيد ما قاله اآلخرون أو نصف مرض غير موجود عندھم .
وننشر ھذا البحث بالفرنسية أو اإلنكليزية في مجلة علمية نشرت آالف المقاالت
قبله وستنشر آالف المقاالت بعده .
األغلبية الساحقة ألبحاثنا العلمية من ھذا النمط وعلى ھذا المستوى .ھل ھذا دليل
على عجز العقل العربي ؟ ال طبعا ,وتفسير الظاھرة يجرنا إلى التوقف عند أھم
خصائص البحث العلمي المعاصر :أھمية تكاليفه وتعقيد معداته أي استعصاؤه على
صغار الجامعات والشعوب .الزال كثير من الناس يتصورون أن الباحث العلمي ھو
إنسان عبقري منّ ﷲ عليه بموھبة ,تجعل عقله الجبار يتفتق بشيء من الحيلة
وبعض األجھزة البسيطة على االكتشاف العلمي الذي سيغير التاريخ .
139
كان ھذا التصور صحيح لكن األحداث تجاوزاته ,ھل تعلمون يا سيادة المسؤول أن
مرصد "مونت بالومار " الذي م ّكن علماء أمريكا من دراسة الكون ,يكلف أكثر
من مصاريف الدولة التونسية وإن الدول األوروبية اضطرت لتجمع حتى تستطيع
مواجھة التكاليف المفاعل النووي التجريبي الموجود في ''جينف '' .كذلك أنتم ال
تجھلون أن ميزانية بعض الشركات الصيدلية في سويسرا وألمانيا تفوق ميزانية
الكثير من الدول العربي الالنفطية ,وإن أوروبا لم تستطع إطالق الصاروخ''
أريان'' إال بعد التجمع واقتسام العمل وال يختلف األمر في االتحاد السوفيتي الذي
ينفق أمواال ھائلة على البحث العلمي مشيدا مدينة كاملة في سيبيريا ھي
''أكاديموجورود'' للباحثين وحدھم .
ومن ثمة يتضح لكم سبب عجزنا عن الدخول في ساحة البحث العلمي الذي لم تعد
تقدر عليه إال كبرى الدول والجامعات والمؤسسات والمحزن في كل ھذا أن جامعاتنا
التي تكلف شعوبنا الفقيرة كثيرا من التضحيات تصدّر يوميا عددا كبيرا من األدمغة
لمثل ھذه المؤسسات الكبرى ألسباب بديھية .فالباحثون العرب من نوعين :النوع
المحلي الذي ال يضيره أن يقضي عمره في التغني بمجد األجداد أو في شرح الشرح
والتعقيب ما تكتشفه العقول الغربية .أما النوع الثاني فھو من جنس ھؤالء العقول
الجبارة لكن قلة اإلمكانيات وضيق السوق الفكرية وانعدام وجود جائزة نوبل عربية
لتقدير العلماء ,والتنظيم الھرمي للجامعة وتدخل السياسة في تقييم األشخاص
واألعمال ,وتجبره على مغادرة الوطن لتغذية ھذه المؤسسات التي ستصدر لنا فيما
بعد تكنولوجيتھا وأفكارھا عن الحياة والكون و 25بالمائة من األدمغة المھاجرة
في العالم عربية .وقد يعطيكم ھذا الرقم فكرة عن فداحة الخسارة التي تمنى بھا
أمتنا نظرا لعيبھا الرئيسي :سوء توزيع الموارد وانغالق األقطار على بعضھا
البعض اقتصاديا وعلميا وتبذير إمكانياتھا وتشتت طاقاتھا .والنتيجة ؟ أخوف ما
أخافه أن نخسر المعركة الحضارية على الصعيدين :
-1صعيد الفاعلية :
140
سنبقى متطفلين على علوم الغرب شحاذين في سوقھا وسنفقد الكثير من أسباب
المناعة واالستقالل .فمن البديھي أن أمة ال تنتج علما وال تكنولوجيا ال يمكن أن
تكالب بشيء وإن عليھا أن تقنع بفتات المائدة وتدفع " الجزية " لكي تنقل
برامجھا التلفزية والتليفونية عبر األقمار الصناعية وأن تدفع " جزية " ثمنا
الستعمال االختراعات في ميدان الطاقة وأن ال تنتظر شيئا من األمم التي ستستولي
على خيرات البحار والقطبين .
-2صعيد الشرف :
األفراد واألمم بالنسبة لي ھم مجرد حملة الفكر في زمن ما ومكان ما .تمر
الحضارات ويموت األفراد لكن الفكر البشري خالد ,يمضي قدما في طريق تفسير
أسرار الكون .والمغامرة ھذه ھي الحقيقة األولى واألخيرة وكل ما عداھا فقاقيع
الصابون .المھم أن امتنا لعبت دورا ھائال في وقت ما .حملت مشعل الفكر لكن
المشعل انطفأ وأضاء لھبه عند اآلخرين ,وھم أبناؤه البررة وفلذات كبده ,بھم
مشعله يضيء الكون ونحن قابعون في زنزانة مظلمة نريد المساھمة في التنوير ,
نقدح علبة الكبريت المبتلة لعل وعسى .بصراحة أنا ال أقول أنه ليس من المھم أن
تكون لنا أقمار صناعية أو صواريخ قاذفة وجامعات بحرية ومولدات نووية
وشمسية ,لكن األھم من ھذا ھو أن نعيد لھذه األمة دورھا في ملحمة الفكر أن نعيد
لھا ..شرفھا الحضاري .أليس باإلمكان أن نحقق على صعيد البحث العلمي شيئا
من ھذه الوحدة التي عجزنا عن تحقيقھا سياسيا واقتصاديا .
ھل فات األوان :
إن المتأمل لواقعنا االقتصادي والفكري والسياسي اليوم والمقارنة لھذا الوضع بما
ھو موجود في الغرب ليصاب بخيبة أمل كبرى وبيأس عارم لكنني أقول أن النظرة
خاطئة ألنھا ال تطرح موضوع تطورنا في إطاره التاريخي صحيح واقعنا ھو واقع
التخلف والتشتت والتبعية ,ولكن صحيح أيضا أننا واعون بھذا الواقع وأننا بصدد
إصالحه ,فإن نظرة واحدة على تاريخنا تثبت أن األمة حققت في ظرف الربع قرن
األخير ما لم تحققه في عشرة قرون وأنھا لم تعرف يوما واحد في الماضي قدرا
141
مماثال من التقدم العلمي والصحي واالقتصادي وحتى من الوحدة وبالتالي فإن
مازوشيتنا في التكلم عن واقعنا ليست إال دليال على نفاد صبرنا وعجلتنا الشرعية
في تحقيق أھدافنا .أما الذين يضحكون علينا من الخارج وعلى شقاقنا ونزاعنا
الدائم فھم كمن يحتج على طفال يتعثر للقول بأنه لن يمشي يوما والحال أن الطفل
بصدد تعلم المشي بفضل تلك العثرات .أقولھا إذن بكل ثقة كما قالھا ايليا أبو ماضي
:
نضيء به الدنيا ونملئه حمدا إذا األمس لم يرجع فإن لنا غدا
نعم لن ينتھي القرن إال ونجد حلوال منطقية لمشاكلنا ألنه ال خيار لنا :فإما الزوال
وإما مواجھة التحديات .ومن جملة ھذه التحديات التحدي العلمي الذي نستطيع
مواجھته بتعبئة طاقاتنا وتوزيع المجھودات المالية بين األقطار والحد من ھجرة
أدمغتنا واستعادة من ھاجر منھا .إذن إيمانا مني بدور القاعدة وشرعية مبادراتھا
رغم ما يفرض علينا من صمت ورغم وعيي بأن ھذه الرسالة قد تكون صيحة في
واد تضاف إلى آالف الصيحات العربية التي لم تلق أدنى صدى ,فإنني أطالب
بتعيين لجان مختصة لتبحث موضوع بعث وتمويل وبناء وإدارة ومراقبة معاھد
عربية علمية على مستوى عالمي .وحال إعداد ھذه الدراسات عرضھا على أقرب
قمة عربية ليتحمل ملوك ورؤساء دولنا مسئوليتھم التاريخية .أما المعاھد التي
تحتاجھا األمة لكي تضمن مصالحھا وشرفھا وتنفع بھا شتى دولھا وشعوبھا في
إطار تقسيم الصالحيات والمنافع فھي :
-مركز المعلومات ومھمته ترجمة كل ما يكتب في العالم وخزنه في عقول
إلكترونية تكون تحت تصرف الباحثين العرب
-المعھد العربي لألبحاث النووية المتقدمة
-المعھد العربي لعلوم األحياء
-المعھد العربي للعقول اإللكترونية
-المعھد العربي للزراعة الصحراوية
142
-المعھد العربي لدراسة البحور والقطبين
-المعھد العربي للطاقات الجديدة
قال أجدادنا " زرعوا فأكلوا ,نزرع فيأكلون " فلنبادر بالزرع وكفى ما أضعنا من
وقت حتى ال يقال عنا أحفادنا تلك الجملة الفظيعة التي طالما رددناھا نشتم بھا آبائنا
" يا أمة ضحكت من جھلھا األمم "
الجامعـــــة الشعبيـــــــــة
143
الفكر الذي خلق وانتج إذ ال تتكلف " الخردة " المادية إال جزاء مأويا ضئيال من
ثمن ما نشتريه .
الظاھرة القارة في المجتمعات المتقدمة ھي أھمية المعلومات التقنية المتوفرة عند
العامل والفالح وسرعة تجددھا وقابلية المجتمع إلفراز وخلق معلومات جديدة في
إطار تطوره المتسارع .ثقل المجتمع الغربي ووزنه ليس كما يخيل للسذج منا في
ثروته المادية بل في ثروته الفكرية التي ھي سبب ثروته المادية .
واآلن ما ھي وضعيتنا بالمقارنة ؟
تخلفنا المادي ھو الواجھة للتخلف الحقيقي أي التخلف الفكري .
من البديھي أن قبيلة بدائية معزولة ال يمكن اعتبارھا جاھلة طالما تماشت تقنياتھا
مع حاجياتھا وطالما وجد توازن بين أفرادھا والمحيط .افتح لھا أبواب العالم
العصري المعقد وستصبح ھذه القبيلة جاھلة كل الجھل إذ ستواجه بعجزھا الكلي
على التعامل معه وھذه وضعيتنا ولو أن عجزنا نسبي .
فنحن نعاني من فرق فادح بين ما تتطلبه حاجيات مجتمع متقدم وبين إمكانياتنا
الفكرية والتقنية .
لنعتبر مثاال معروفا :العمل الرديء .ھو ظاھرة شائعة إلى درجة أنني أصبحت
أعتقد أن شعار كل من يمارس عمال في ھذه البالد ھو " كعور وأعطي لالعور " .
فالعمل الرديء في اإلدارة ,في المستشفى ,في الصناعة الخ ...بطبيعة الحال
ھناك مصدر نفساني للعمل الرديء :إيمان الناس المطلق بأن العمل ال يوفر الخبز
والكرامة وإن الطرق الملتوية التي يمارسھا االنتھازيون الذين طبعوا العشرية
الماضية بطابع قد لن ينمحي ,ھي الوسيلة الوحيدة لإلثراء ومن ثمة فال داعي "
لتكسير الرأس " .
باإلضافة إلى ھذا السبب الوثيق الصلة باعتبارات سياسية ,تجد دور قلة أو رداءة
المعلومات التي تتوفر عند الموظف والفني والطبيب والفالح الخ ...زد على ھذا
ظاھرة العصر األولى أي سرعة التغيير وتصاعد وتراكم المعلومات ,ومن ثمة
التغييرات لنكتشف أن مجتمعنا من ناحية وفرة وجودة المعلومات التي تمكن من
144
التعامل الصحيح والفعال مع الواقع ضعيف إلى أبعد حدود الضعف وھذا ما يفسر )
إلى مدى معين طبعا ( حالة العديد من مؤسساتنا .
العمل الصناعي :متقدم عندھم ورديء إلى غاية درجات الرداءة عندنا .
الفالحة :أي إنتاجية الفالح التونسي من إنتاجية نظيره الياباني ؟
البحث العلمي :ھم يبحثون ويجدون ونحن نستھلك
الصحة :معدل الحياة عندھم 75سنة وعندنا 57سنة ,نسبة وفيات األطفال 11
في األلف في السويد و 80في األلف في تونس الخ ...
طبقات الجھل
أول ما يتبادر إلى الذھن عندما نقول إن شعبنا متخلف ھو أوال وقبل كل شيء شعب
جاھل ,وإن جھله ھو عدم التمكن من القراءة والكتابة ,أي أننا نجعل الجھل
مرادفا لألمية ولألمية فقط .ھذا صحيح نسبيا .يكفي أن نعلم أن نسبة األمية في
سويسرا أو اليابان % 1وأن نسبتھا في تونس % 60بينما تبلغ في اليمين أو
السودان % 90لكي نقدر خطورة الوضعية من ھذه الناحية .
لكن جھل القراءة والكتابة وإن كان عامال ھاما في تعريف الجھل ليس أھمھا .
لنتساءل مثال عن مدى فاعلية تعامل المتعلمين وأنصاف المتعلمين مع الواقع أي
ھل تمكنھم المعلومات التي تلقوھا على كراسي المدرسة من فھم عالمھم والتأثير
عليه ؟
وبعبارة أخرى يستطيع اإلنسان الذي أنفقنا أمواال باھضة في تعليمه القراءة
والكتابة الحفاظ على صحته وفھم أسباب غالء المعيشة وطبيعة النظام السياسي
واالجتماعي الذي يتعامل معه ,وھل ينفعه ھذا في إتقان عمله وھل تعلم كيف يتعلم
وكيف ينمي مداركه ويالحق تطورات العصر ؟ والرد ال بطبيعة الحال ,ألن نظامنا
التعليمي والتربوي ال ينتج إال % 1تقريبا من القادرين على مواكبة ھذه الثورة
الثقافية الدائمة التي يجھدھا العالم ,وجلھم من طلبة وأساتذة الجامعة وبعض
القطاعات النخبوية الھامشية من رجال العلم والفن واألدب والسياسة .
145
ومن ثمة فالسؤال المطروح ھو :كيف يمكن لشعب فيه % 60من األميين أن
يتقدم ,وھل للواحد في المائة من المتشبعين بتقنيات ومفاھيم العصر وزن كاف
لترجيح كفة الميزان ,وما ھو وزن الـــ % 39الذين نعرفوا أنھم يحسنون القراءة
والكتابة ؟
وقد تعترض بأننا نتقدم رغم ھذه األرقام ! وأرد :أال تعتقد أنه تقدم مغشوش ؟
عمارات شاھقة لكن المصعد فيھا ال يصعد ! جامعات تبني وتتقشر واجھاتھا بعد
ستة أشھر ! تلفزة تعمل ولكن لبرامج للمتخلفين ذھنيا ! سيارات وطرقات ,لكن
بضريبة ألف قتيل سنويا الخ ...
وقد تلح في اعتراضك مذكرا بأن الشعوب المتعلمة كانت جاھلة في يوم ما ثم
تعلمت وأن ھذا بالضبط ما ھو حاصل في بالدنا حيث يشيع التعليم ويعمھا رويدا
رويدا ,ومن ثمة فالمسألة مسألة وقت ال أكثر .فما ھي إال بعض سنوات ونلتحق
في ميدان " كمية المعلومات " بمصاف الشعوب المتقدمة .
واالعتراض منطقي لكنه سطحي .فوضعيتنا ليست وضعية تلك الشعوب في بداية
طريقھا ذلك ألنھا بدأت في درجة معينة ثم نمت تقنياتھا شيئا فشيئا وتماشى تكور
العقلية مع نتاج التقنيات الحديثة مما جعل المجتمع يتطور بكيفية متوازنة .أما
عندنا فالعكس ھو الصحيح ألن العالم الغربي فرض علينا تقنياته ومفاھيمه
وتسربت كلھا إلينا بسرعة كبيرة في حين أن المعرفة الموضوعية للتعامل الصحيح
مع ھذه التقنيات والمفاھيم لم تتوفر إال في قطاعات نخبوية ھامشية ومن مجتمعتنا
,فحصل انفصال حضاري خطير داخل النسيج االجتماعي إذ خلقت بھذا قطاعات
ھائلة من المجتمع يمكن أن نقول عنھا أنھا في نشاز كلي مع معطيات حضارة
مفروضة لكنھا لم تخلقھا ولم تواكب تطورھا لكي تستطيع التأقلم والتكيف مع في
األوان .
أما الرأي الثاني القائل بدور التعليم في مسح ھذا الجھل رويدا فھو يجھل أو يتجاھل
أن تعلم القراءة والكتابة شيء والتعامل مع تقنيات العصر شيء آخر باإلضافة أنه
146
ال يفسر لنا ماذا نفعل بالـــ % 60من األميين ,وكيف نستطيع التعامل معه وإدماجه
في مخطط التنمية الشاملة ,مع العلم بأنه من السذاجة تصور اختفاء األمية والجھل
بفضل التعليم ألن مصير الــــ % 70من تالمذة االبتدائي الذين يطرودون من
التعليم ) والذي لن يجدوا إال في تلفزتنا العظيمة وقاعات السينما ما يزيدھم جھال (
ھو طبعا الضياع وال يمكن اعتبارھم عنصر فعال في عملية تقييم الوزن العلمي
للمجتمع .
التشخيص إذن كاآلتي :
-1ھناك نشاز كبير بين الطلب والعرض الحضاري يؤدي إلى
شيوع العمل الرديء يھدد عملية التقدم ويؤخرھا .
-2تغلغل المعلومات المطلوبة بطئ وبطئ جدا ألننا نعتمد على تقنية
قديمة ھي تعلم القراءة والكتابة ومن ثمة اعتقدنا في بداية
االستقالل أن محاربة األمية ھي تعليم كل الناس مبادئ القراءة
والكتابة ونحن لن نتقدم في ھذا الميدان طالما لم نفھم أبعاد
الثورة العارمة التي نعيشھا حاليا في ميدان نقل المعلومات .
فنحن نواجه منعطف خطير في تاريخ الحضارة ألننا ندخل بضفة
ال رجعة فيھا في عالم قلّت فيه أھمية القراءة والكتابة لنقل
التراث الحضاري وتعميمه والمحافظة عليه .حقّا ش ّكلت ھذه
التقنية تقدما ملحوظا بالنسبة لتقنية الشفوية لكنھا حاليا ضحية
التقدم الذي تسببت فيه إذ ستصبح بالنسبة للوسائل السمعية
المرئية أداة قليلة الفاعلية باھظة التكاليف .
مثال بسيط :تكتب قصة تطبع منھا ثالثة آالف نسخة يقرأھا عشرة آالف شخصا
في أحسن الحاالت .واآلن أكتب نفس القصة للتلفزة المصرية وسيشاھدھا خمسون
مليون نسمة .والفارق بين الرقمين ھو الفارق بين إنتاجية التقنيتين في نشر
المعلومات .
147
الغريب أنه حتى ) محلّفو ( جائزة نوبل لم ينتبھوا إلى التحوير الخطير الذي أدخلته
الوسائل السمعية البصرية على عالم المعرفة وفي ميدان األدب على وجه التحديد .
فھم يصرون على منح الجائزة ألدباء مغمورين متجاھلين أن أكبر أدباء ھذا العصر
ھم الذين يكتبون بالكاميرا من أمثال ايزنشتاين EISENSTEINوكوروزاوا
KUROSAWAوكوبريك KUBRIKوشابلن CHAPLINالخ ...
واألغرب أن المسؤولين عن التعليم والثقافة لم ينتبھوا إلى األھمية الخارقة لھذه
الوسائل الحديثة ) وربما كان السبب استحواذ أعرافھم من رجال السياسة عليھا (
والحال أنھا وحدھا الكفيلة بنشر المعلومات الالزمة وأن محاولة محاربة األمية مثال
بنشر القراءة والكتابة في عصرا كھذا ليست فاشلة فحسب و لكنھا بدون أي أھمية
ألن فاعلية مثل ھذه التقنية ال تكاد تذكر .
الحل :جامعة الشعب السمعية المرئية :
لو كنت مسؤوال في وزارة االقتصاد أو مدير البنك المركزي ) الحظ أني ال أقول
مسؤوال في وزارة التعليم أو الثقافة ( لنادية بفتح جامعة الشعب السمعية المرئية
في إطار إنجاح خطة التنمية السادسة وذلك اعتمادا على البديھيات اآلتية :
-1ال يمنك اإلسراع بالخروج من التخلف إال بتزايد تشبع المجتمع
بأكبر عدد ممكن من المعلومات وكل مخططات التنمية مھددة في
مسيرتھا بوجود األمية والجھل بمفاھيم العصر وتقنياته .
-2ھناك في المجتمع معرفة كان لھا دورھا يوما ما لكنھا أصبحت
اليوم عائقا لتقدم .ومن ثمة يجب تغير البنية العقلية للناس قبل
محاولة تغير منازلھم أو مدارسھم أو الطرقات التي يتنقلون
عليھا .
-3إن أحسن حل للقضاء على جيوب الجھل وربح الوقت في
معركتنا الضاربة ضد التخلف والفقر والمرض ھو بعث جامعة
الشعب السمعية المرئية وتكون مھمتھا كاآلتي :
148
-مسح جيوب الجھل التي تؤدي إلى عرقلة مسيرتنا ,مثال :في ميدان
الصحة :نعرف أم مئات الرضع يموتون سنويا لجھل األمھات .ومن ثمة
تكون مھمة الجامعة التثقيف الصحي للشعب .كذلك نعلم أن أحد أسباب
ضعف إنتاجية الفالح جھله للقواعد العصرية للفالحة ) مع العلم أن ھنالك
أسبابا أخرى اقتصادية ومائية الخ ( ...إذن تقوم جامعة الشعب بتعليم
الفالح ولرفع مستوى كل من يعمل بصفة عامة
-4إن التغيير المتصاعد السرعة للحركة العلمية يجعل حتى أعلم
قطاعات الشعب مھددة بالتسجيل .ومن ثمة فإن رسكلة الطبيب
والمعلم واألستاذ والمھندس ھي عملية مصيرية .إذن تكون
المھمة الثانية لجامعة الرسكلة الدائمة للقطاعات المتقدمة من
شعبنا حتى تستطيع مواكبة العصر .
-5للشعب التونسي معلومات عريقة في كثير من الميادين وخبرات
متعددة وحكم وآداب وأشعار الخ ...ونحن نجھل عنھا كل شيء
تقريبا رغم أنھا تراثنا الجماعي ومن ثمة فإن مھمة الجامعة
تعريفنا بتراثنا.
وقد يعترض القارئ بأن الراديو والتلفزة يقومان بھذه المھمة ولكن الواقع يكذب
ھذا .فدور ھذين الجھازين يتوقف على الدعاية السياسية والترفيه الرخيص أي في
الواقع على تجھيل الشعب ,أما ما يبث من برامج تثقيفية بين الفينة األخرى فمجرد
ذر الرماد في العيون .
نحن بحاجة إلى برنامج ال يمكن إال أن يكون نابعا إن إرادة سياسية يخطط لھذه
الجامعة ويعطيھا كافة اإلمكانيات المادية والبشرية لكي تضطلع بمھمة على قدر
كبير من الخطورة .فعوض أن نعطي االعتمادات لقناة ثانية فرنسية لتشيع
إيديولوجية اإلنبتات والتغرب والتسلية الرخيصة لطبقة ضئيلة من الشعب ,يجب أن
نسخر مثل ھذه القناة للتثقيف العلمي والصحي واالقتصادي والرسكلة المتواصلة
بلغة ھذا الشعب بخبرات أبنائه .
149
وفي االنتظار يجب أن تتضافر جھودنا ببعض نوات ھذه الجامعة في العاصمة وفي
كل المدن الكبرى .
لقد تعودنا نظرا لمفاھيمنا القديمة انتظار الفرج من رجال السياسة أو التكنوقراطين
,وھذا نتيجة تربية ال تتالءم مع روح العصر .فتونس اليوم يجب أن تكون كشركة
متعددة األسھم ساطعة االسم ,يفوض المشاركون فيھا إلى مجلس إدارة يرأسه
مدير معين بمھمة تطوير أرباح الشركة والمساھمين ,ونجاح الشركة رھين حقا
بجدارة ذلك المجلس ,ولكنه رھين أيضا بعدد األسھم ووزنھا الذي يساھم بھا كل
فرد .لذلك أقول علينا نحن المواطنون التخطيط لھذه الجامعة ثم رفع المخطط
لمجلس اإلدارة لينفذ وإن نجعل من ھذا المشروع مطلبا مثل الترفيع في األجور أو
كرامة االنتخابات الحرة ,والعمل من اآلن من مواقعنا على إنجاح المشروع .
ھذا المقال ليس تحديدا ولكنه نداء ,فھل من مجيب ؟
ي مستقبــــــــــــل لجامعتنــــــــــا
أ ّ
عيوب الجامعة التونسية أكثر من أن تحصى أو أن تعد :التنظيم الھرمي ,التحجر ,
انعدام الديمقراطية ,استعمال اللغة األجنبية ...لكن لنترك النقد جانبا .فمصير
الجامعة الطبيعي ھو التغير بفضل السلبيات .ومن ثمة فإن السؤال المطروح ال
يتعلق بالحكم المعياري على ھذه الجامعة بقدر ما يتعلق بمستقبلھا .فأي مستقبل
للجامعة تريد إذن ؟
الخطوط العامة :
* أوال :يشھد العالم تغيرا جذريا ناتجا عن دخول الثورة اإلعالمية )
. (Révolution informatiqueوقد أصبحت ھذه الثورة إحدى اإلمكانيات ,بل
وأھمھا للخروج سريعا من التخلف إذ يمكننا أن نقفز مباشرة إلى القرن الواحد
والعشرين ,إذا استطعنا استعمال التكنولوجيا الحديثة والمتوفرة من عقول
150
الكترونية ,وطاقة شمسية وھندسية بيولوجية ,فنختصر الطريق ونقتصد مجھودات
شاقة م ّر بھا الغرب .
السؤال إذن :كيف يمكن التمكن من ھذه التكنولوجيات ؟
الجواب :باستعمال الطاقة التي ال تنضب :الطاقة الفكرية البشرية .
* ثانيا :الجامعة ملك للشعب التونسي دون سواء ,أي أنھا ليست ملك الحكومة ,
أو األحزاب السياسية والعقائدية أو األساتذة المتمركزين أو " شيوخ الجامعة " ,
وھي إحدى وسائل الشعب التونسي لمكافحة الجھل والفقر والمرض ,ومن ثمة فإن
مھمتھا تقتضي أن تسخر لھذا الھدف ,ولھذا الھدف وحده .
جامعة شعبية
تعتبر الجامعة وسيلة للتقدم وتحدّد لھا مھمتان :
(1تكوين األخصائيين كمھندسين ,وأطباء ...وذلك لالستجابة إلى حاجيات
معينة للمجموعة الوطنية .
(2تصبح ھذه الجامعة مركز رصد يتابع تطور األفكار والنظريات في عالم
التكنولوجيا المتصاعدة التعقيد وتكون مھمتھا اكتشاف وتلخيص كل
المعلومات في شتى الميادين التي يمكن أن تشكل عامال من عوامل التقدم.
بطبيعة الحال يجب تعميم ھذه المعلومات الحيوية على جملة المجموعة .
بعبارة أخرى يجب أن تكون الجامعة وكالة المخابرات علمية تضع
إمكانياتھا في خدمة الحكومة والشعب .
وحتى تصل المعلومات إلى مختلف القطاعات التي نحتاجھا ,يجب أن تدخل اإلذاعة
والتلفزة تحت إشراف الجامعة ,أو على األقل أن تكون لھا قناة مستقلة ,تكون
مھمتھا بث المعلومات في كل الميادين .والمالحظ ھنا ,أن اإلذاعة والتلفزة على
شكلھا الحالي وبرامجھا المتدنية التي تقتصر على الدعاية البدائية والترفيه
الرخيص ,تشكل أداة تجھيل للشعب ,ومن ثمة يمكن اعتبارھا عامال من عوامل
التخلف وتأصيله .
151
بطبيعة الحال يجب أن تكون برمجة ھذه القناة محكمة لكي تعمم برامج مختلفة
حسب حاجيات القطاعات المختلفة للمجتمع ذات المستويات المتباينة مثال :التثقيف
الصحي لألمھات ,تحسين معلومات الممرضين و رسكلة األطباء الدائمة .
لغة ھذه الجامعة الشعبية لن تكون بطبيعة الحال اللغة األجنبية أو شكلھا البشع "
الفرنكوآراب " وإنما لغة ھذا الشعب :العربية .
جامعة مفتوحة :
يجب فتح أبواب الجامعة على مصراعيھا لكل من يريد ,ولكن من يبحث عن العلم
,أي أن الطلبة واألساتذة القارين ,يجب أال يشكلوا إال قطاعا معينا من الجامعة .
ق
لماذا ال يستطيع معلم القرى البعيدة متابعة دروسه في الجامعة ؟ لماذا ال يح ّ
ألرملة في الستين أن تدرس مبادئ العربية أو علم االعتناء باألطفال المعاقين ؟
لماذا ال تستعمل الجامعة المھارات الفائقة في إطار المجموعات الوطنية والتي ال
تحمل لقب " الدكتور البروفسور " ؟ من المؤكد أن الكثير من ھذه الكفاءات
تستطيع أن تنفع الجيل الناشئ والجامعة أكثر من عدد ال يستھان به من الدكاترة .
معنى ھذا أن الجامعة المغلقة والمتقوقعة حاليا على مصالحھا ) أي مصالح نخبة
من أساتذتھا ( تھدر طاقات الوطن في ميدان العلوم والمعرفة .أقول إذن من جديد
وأركز على ھذه النقطة :يجب فتح الجامعة على مصراعيھا بإحداث وخلق
إمكانيات متعددة لمتابعة الدراسات بشتى أصنافھا ,كذلك يجب إقامة الجسور بين
مختلف الكليات الموجودة في الجامعة ألن في التخصص المفرط ضررا فادحا .فمن
البديھي أن طالبا في اآلداب ال يعلم شيء عن التقدم التكنولوجي ودعامته النظرية
ھو غير قادر على التعامل الصحيح مع العالم .ومن المؤكد أيضا أن طالبا في الطب
يجھل الخلفيات االقتصادية والسياسية واالجتماعية والنفسية للمريض ھو محكوم
عليه بالفشل .
وقد يبدو كالمي ھذا غريبا والحال أن جامعتنا تتسبب في طرد % 80من طلبتھا
سمين ,فأنّي لھا أن تفتح أبوابھا وھي حصون وقالع منيعة ؟ لكن المالحظ
المر ّ
لسير الجامعة الحالي مجبر على مالحظة ما يلي :
152
* يشكل المطرودون من داخل الجامعة ,والمحرومون من دخولھا خسارة فادحة
للشعب ,إذ يجھل السادة الذين يتحكمون في مصير البشر أن كل طالب للعلم يقصى
عنه ھو مخ يبعد عن جھاز األدمغة الخالقة الذي يقوى بتزايد المشاركين فيه .
* تضيع بخروج ھذه األدمغة عن ساحة العمل الخالّق ثروة ال تقدّر بثمن ,إذ يجھل
ھؤالء السادة أن العامل الرئيسي للثروة خاصة في عصرنا ھذا ھو اإلنسان ...إن
فلسفة االنتقاء أظھرت دائما وأبدا فشلھا .كل كلية تتسبب في طرد
% 80من طلبتھا تثبت بھذا أنھا ال تقدر على تأدية مھمتھا إال بنسبة % 20
والكل يعلم أن أي مؤسسة يكون مردودھا متدنيا إلى ھذه الدرجة يجب إ ّما إغالقھا
أو إعادة النظر في كيفية عملھا .
جامعة ديموقراطية
يجب إعادة النظر في صيغة العالقات داخل الجامعة وذلك عمال بالقانون اآلتي :
لم يعد لمفھوم الطالب من معنى :أنا بصفتي أستاذا جامعيا ,طالب و سأبقى طالبا
إلى آخر حياتي أي أنني في حاجة دائمة إلى التعلم وإال فاتني قطار العلم في ميداني
) الطب ( إذ تتجدد فيه المعلومات كل خمس سنوات بصفة كلية .معنى ھذا أن
مفھوم األستاذ تغير ھو أيضا تغير جذريا .فاألستاذ اليوم ھو من يعلّم اآلخرين كيف
يتعلمون ومن يتابع تعليمه إلى آخر يوم من أيام حياته .بعبارة أخرى إن تصاعد
وتعقيد وتجدد الحركة العلمية تفرض علينا أن تكون مھمتنا األولى في الجامعة
تعليم الطلبة أن يكون أساتذة أنفسھم ال إعطاء معلومات تبلى بسرعة فائقة .لذلك
يجب أن نعلم ابتداء من السنة األولى تقنيات البحث والتعليم المبرمج الذاتي )
. ( AUTOENSEIGNEMENT
كذلك يجب أن نعلم الطلبة العملة المشترك ألن البحث العلمي اليوم عملية جامعية
ولو تعد عملية فردية .فمن البديھي أن دور الشيوخ الجامعة ) Les
(mandarinsسيتضاءل ألن أوليتھم المطلقة وتسخيرھم للجامعة لمصالحھم
الشخصية ترتكز على مغالطة ھامة ھي استيعابھم المفروض لعلم لم يعد يخضع
153
في الواقع لمحاولة احتواء من أي عقل مھما سما .ومن ثمة يجب إعادة النظر في
دوري ومھمة المسؤول الجامعي إذ يجب أن تلغ مھمة األستاذ القار .أو رئيس
القسم القار المسمى إلى آخر الحياة واستبدال ھذه الوظيفة بوظيفة األستاذ المنشط
التي تتلخص مھمته في إدارة األبحاث التي تقوم بھا مجموعة من الباحثين
المتساوين في الحقوق والواجبات ,أي استبدال النظام الھرمي القاتل للمواھب ,
والخانق لالبتكار واإلبداع ,بنظام أفقي وديمقراطي يعطي لكل المواھب فرصتھا .
جامعة البحث
يجب إعادة النظر في برامج التعليم الجامعي حتى يخضع للشروط التالية :
(1يجب أن تشكل الجامعة منطلقا للبحث وأن تفسح المجال للعمل الذاتي
والمبرمج ,أي أن تكون منطلقا لعملية التعليم الدائم الذي ال ينتھي إال
بنھاية الحياة .
(2يجب أن تعكس البرامج مشاغل المجتمع الحقيقية .مثال :الحظت أن
برامج الدراسة الطبية ,ال تفسح المجال لموضوع المعاقين ) وھم
400.000نسمة ( ولو ساعة واحدة ,بينما تخصص ساعات طويلة
ألمراض منعدمة في بلدنا ,أي أنه يجب اعتبار رأي المستھلكين في
برمجة الجامعة .
(3مردود البحث العلمي حاليا ضعيف جدا ,ألنه ال يخضع لتخطيط محكم يأخذ
بعين اإلعتبار حاجيات المجتمع الماسة إذ يترك المجال للمبادرات الفردية
المتفرقة والحال أننا نواجه مشاكل عويصة في شتى الميادين تتطلب
أبحاث جادة .ومن ثمة يجب إحداث لجنة تخطيط متعددة األطراف ,تق ّرر
األولويات وتوزع العمل على مؤسساتنا الجامعية .مثال :نستطيع في
ميدان األدب أن نركز األبحاث على تحديث اللغة العربية بدال من إضاعة
مواھب وسنوات طويلة في التنقيب على بعض وجوه الماضي .كذلك ,
يمكن أن نعھد إلى رجال الحقوق بالتركيز على قانون البحار والعالقات
الدولية .ومن البديھي أيضا أننا سنحث األطباء في إطار ھذا العمل
154
المشترك على تتبع وترجمة كل المعلومات الحديثة وإلى توجيه أبحاثھم
إلى األمراض األكثر انتشارا في بالدنا ,وسنبني أبحاثنا على المعلومات
المتوفرة في السوق العلمية .ومن ثمة تتضح أھمية التكوين مركز وطني
للمعلومات تكون مھمته جمع كل المعلومات وخزنھا في بنك المعلومات )
( Banque de donnéesيستعمل العقل اإللكتروني ,وھو ما تحاول
كل البلدان المتقدمة خاصة في إطار الثــورة العلمــية Révolution
). (informatique
ھذه مالمح جامعة المستقبل نفرضھا على أنفسنا قبل أن يفرضھا علينا الواقع
والواقع ال يرحم من يتخلف عن الركب .
155
األمريكان % 6من سكان األرض لكنھم يستھلكون % 40من الطاقة ويفرضون
ھذا االستھالك المجحف بشتى أنواعه القوى :العسكرية ,التكنولوجية ,السياسية
الخ ...
معنى ھذا أن غناھم ھو النتيجة الحتمية لفقرنا وأن ازدھارھم مبني على ضخ
خيرات العالم بأبخس ثمن .فال غرابة أن يعانوا من أزمة اقتصادية خانقة ابتداء من
اللحظة التي فرض عليھم تغير ميزان القوى دفع الثمن الحقيقي للخيرات التي
تعودوا على ابتزازھا .معنى ھذا أيضا أننا لن نستطيع التمتع بمثل رخائھم في حالة
غياب موارد كافية أو قوة عسكرية لنھب خيرات اآلخرين .
على صعيد البيئة :
أدت فلسفة التقدم المطرد واالستھالك المحموم إلى تدمير رأس مالنا األول أي
البيئة الطبيعية وبشكل رھيب .ھل تعلم أن ھناك مناطق كاملة في اليابان وأمريكا
أصبح السكن فيھا خطرا على صحة الجسم والنفس ,ھل يجب ويمكن االستغناء
عن المال والھواء واألشجار والبحر والوقت من أجل التمتع بآلة غسل الصحون
الكھربائية وفرشاة السنان الكھربائية ,والسيارة الجديدة كل ثالث سنوات .
و على الصعيد اإلنساني :لم يؤد ارتفاع مستوى المعيشة في الغرب إلى ارتفاع
مستوى الفضيلة أو األخالق أو السعادة ,بل العكس ھو الصحيح ,ويسعني أن أقرر
ھذا اعتماد على تجربة عشرة سنوات في مستشفياتھم .ففي فرنسا وحدھا يشكل
اإلدمان على الكحول
) وھو ظاھرة على وجود خلل نفساني ( آفة اجتماعية ھائلة ,تمتص % 40من
اعتمادات الصحة ,كما يرتفع عدد المرضى النفسيين والعقليين سنة بعد سنة )
وھو عدد يقدر بالماليين ( والسبب في ھذا الصراع المحموم المفروض على الناس
,وتفكك أوصال العائلة والعزلة ,وتكديس البشر في وحدات سكنية ضخمة ال
إنسانية .ھل تعلم مثال أن االنتحارات في بلد كاليابان خاصة بين الكھول والطلبة
وحتى تالمذة الثانوي تصل إلى أرقام خيالية ؟
و على الصعيد البيولوجي :
156
تتطلب العجلة االقتصادية استھالك أكبر عدد ممكن من األيدي العاملة أوقات النمو
السريع ومن ثمة تحرر المرأة المزعوم الذي ھو في الواقع العذر البراق لرمي
النساء في أتون اإلنتاج واالستھالك ,أضف إلى ھذا شيوع فلسفة اللذة والتمتع وزد
عليه انتشار وسائل منع الحمل ,,ماذا تكون النتيجة ؟ انخفاض مھول في نسبة
الوالدات تضاف إلى ارتفاع عدد الشيوخ نظرا الرتفاع معدل الحياة والخاتمة
الحتمية :أمم ھرمة في ألمانيا وفرنسا مثال عاجزة عن تحديد األجيال ,يموت منھا
أكثر مما يولد لھا وبالتالي مھددة بشبح االضمحالل وحتى االنقراض .الحضارة ھنا
ھي السم في الدسم .
-5على صعيد الفاعلية :
يقول ريمون ر ّويار :أن األمم التي سترث العالم في القرون اآلتية ستكون األمم
التي منعھا نخلفه النسبي للمعرفة االضمحالل البيولوجي من جھة وتعقيد
ق .لنفكر قليال :المجتمعات المعقدة
المجتمعات الصناعية القاتلة .الرجل على ح ّ
والمغالية في التقنية التي نطمح لمحاكاتھا ھي فالواقع مجتمعات حساسة للغاية أي
ضعيفة للغاية .
مثال :أصيبت منطقة أمريكية تمتد على طول 500كلم حوالي نيويورك سنة 1969
بشلل تام النقطاع تيار الكھرباء نتيجة خلل في إحدى مولدات الطاقة .توقف كل
شيء .انھارت دعائم الحياة .لم يعد المواطن قادرا على االلتحاق بشقته الكائنة في
الطابق السابع والسبعين .
فسدت األطعمة في الثالجات انقطعت األخبار ,مات الناس من البرد ,,الخ .
تكرر نفس السيناريو مؤخرا نظرا النقطاع جزئي ومؤقت في البترول .الواحد منھم
ال يتحرك أربع خطوات إال بسيارته .أقطع عنه البترول تقطع حياته ألنه يسكن في
ضاحية بعيدة ,,ألنه نسي المشي ,,ألنه الخ ..
حساسية ھذه المجتمعات إذن ظاھرة ھامة .يكفي أن يضع كمشة من المخربين
ثالثة قنابل في بعض األماكن اإلستراتيجية لتتوقف العجلة .امنع البترول كليا عن
الغرب يموت ,أمنع نفس البترول على أوغندا ,,لن يتغير شيء ھام بالنسبة
157
لألغلبية .ھذا ال يعني أنني أدعو لنموذج أوغندي للتقدم لكن علينا فھم وتقدير
أبعاد ھاته الظاھرة واستخالص العبر منھا .ھل يجب محاكاة نموذج يكون شكله
المتقدم والمنتھي خطرا على وجودنا نفسه ؟
السؤال الذي يطرح نفسه حاليا عندما نشاھد نوعية تطورنا ھو ھل فات األوان أي
ھل تغلغل فينا النموذج الغربي للتقدم إلى درجة أنه أصبح مرضا عضاال وھل سرنا
في طريقه إلى درجة أننا وصلنا إلى نقطة الالعودة ؟
يمكن الرد إيجابيا لألسف فيما يخص بعض القطاعات .لنأخذ مثالين بسيطين :
السكن والمواصالت
السكن :
بدأنا في تكديس الناس في العمارات الشاھقة في نفس الوقت الذي اكتشف فيه
الغرب آثام ھذا النوع من السكن .أنا ال أجھل الدوافع االقتصادية التي ترغم على
اختيار مثل ھاته الحلول ,لكن ھل أدخل المسؤولون الفنيون والسياسيون في
حساباتھم الثمن اإلنساني الباھظ ,ھل قدروا ثمن واھية اإلرھاق العصبي الخطير
الناتج عن الضوضاء واالزدحام ؟ ھل قدروا ثمن انحراف المراھقين الذي يكثر في
مثل ھذه التجمعات الالإنسانية ؟ ھل فكروا في استحالة إيواء الجد العجوز والجدة
المريضة في عمارة بال مصعد ؟ ھل أضافوا إلى حساباتھم ثمن مآوي العجز التي
تكثر أوتوماتيكيا أين تكثر مثل ھاته العمارات باإلضافة إلى المستشفيات العقلية .
ألم يكن الحل االقتصادي الحقيقي بناء أصغر عمارات ممكنة واعتبار عاداتنا
وتقاليدنا إبان التخطيط وخاصة التركيز على المرافق االجتماعية من البداية كالنادي
والمكتبة والحديقة ,,حتى ولو تطلب ھذا مساھمة المتساكنين .
التنقل :
أصبح التنقل داخل تونس ال يقل صعوبة عن التنقل داخل أي مدينة غريبة ولو أنه
أخطر نظرا لقلة انضباطنا وقدم السيارات التي تشكل البعض منھا توابيت متحركة ,
والنتيجة :إھدار طاقة ثمينة ,تلوث ,موت جسد ,المترجلين وتطلعھم المحموم
المتالك السيارة التي أصبحت عالمة التوفق والرجولة والنجاح االجتماعي .ھل
158
ھذا معقول ,ھل ھذا ممكن ؟ ال بالطبع .التطور ھنا ھو طرد السيارة من وسط
المدينة لنتنفس – حث الناس على استعمال الدراجة التي تمرن عضالت القلب
وتطيل العمر وال تلوث – تحسين وسائل النقل الجماعية وتكثيفھا – استعمال وسائل
اإلعالم لتغيير نظرة الناس للسيارة – التمھيد البطيء لالستغناء عنھا كليا يوما ما .
ھل ھذا ھو الطريق الذي انتھجناه ؟ ال ,,نحن نك ّرر تجربة فاشلة ونقرر صنع
سيارة تونسية .
من البديھي إذن أنّ إعادة النظر في اختياراتنا األساسية ومعرفة عيوب ھذا
النموذج الذي نقلّده .فنحن لحسن الحظ متخلفون أي أنه الزلت لدينا في الكثير من
الميادين قدرة على التراجع والتغيير
بطبيعة الحال نحن ال نتطور في جزيرة معزولة بل في إطار عالم له خاصيتان
أساسيتان :التقلب والخطر .
عالم متقلب :
لو لي أحد سنة 1969أنه لن تنتھي السبعينات إال وتدخل الصين الشعبية في حرب
مع فيتنام الشعبية أو أن مصر ستتحالف مع إسرائيل ضد العرب وإن نصف الشعب
الكمبودي سيباد وإن الھند ستصبح بلدا مصدرا للقمح ,ال تھمته بالجنون .حصل
كل ھذا .لماذا تتھموني بالتشاؤم والمبالغة إن قلت أنه من الممكن أن ال تنتھي
الثمانينات إال وتحل القوات األمريكية الخليج جزءا واسعا من السعودية – مثال ثان
) :بعد اطالق أيدي الروس لتدمير الصين واحتالل مندشوريا ( وإن الغرب سيعلن
حظر تصدير القمح وإن المعدل السنوي للسواح في تونس سيبلغ 24نفرا .
عالم خطير :
تبخرت األحالم العظيمة التي كنا نؤمن بھا في بداية الستينات :لم يقع أي تقدم في
ميدان نزع السالح – فشلت الثورات الزراعية – ازداد عدد األميين في العالم )
800مليون نسمة ( االحتياطي العالمي من الغذاء ال يكفي شھرا واحدا – تراجعت
الحركات الثورية – انقسم العالم االشتراكي – لم تكن في يوم ما الوحدة العربية أبعد
عن التحقيق منھا اليوم – يعاني الغرب من أزمة حضارية واقتصادية خانقة –
159
الدول تملك ما يكفي من السالح لتدمير األرض 40مرة – خطر الحرب يزداد يوميا
بازدياد التناقضات واستحالة فضھا بالحوار .
من البديھي أن ھدف التطور األول في ھذا العالم المجنون ) الذي ال نتحكم في شيء
في القوى الھائلة التي تسيره ( يجب أن يكون :البقاء على قيد الحياة أو بعبارة
أكثر تفاءال األسرع بتحقيق المنجزات الحيوية التي ال معنى لكلمة االستقالل بدونھا
.
طبيعة ھذا العلم إذن وإمكانياتنا المتواضعة ھي التي يجب أن تملي علينا
استراتيجية مرنة للتطور وفق مفھوم موضوعي ومحلي له ,,
إنّ من واجب الحكومة إجبار المھندسين المعماريين والبلديات وأصحاب النزل
على وضع مخطط محكم ودقيق الستعمال آخر للمنشئات في حالة توقف السياحة ,
وأن ال يرخص لبناء نزل طالما لم يظھر قابليته ألن يصبح مستشفى أو إدارة أو
مأوى للعجز الخ ...
مثال ثاني :يجب تحديد المرافق الحيوية التي ال يمكن العيش بدونھا كالح ّد األدنى
من األدوية ) لتعلم صنعھا ( واالكتفاء الغذائي ) للتوصل إليه ( الخ ...
اكتفى بھذين المثالين البسيطين ألنني أشعر بأنني وقعت في فخ كالسيكي ھو اللعب
بالنظريات بدون احتكام كاف
للواقع .صحيح أنه يجب إحكام النظر في المشاكل والتكھن بكل االحتماالت ,ونقد
نموذج للتقدم أؤمن بفساده واستحالة تطبيقه ولكن األھم أي خلق نموذج محلي ,
عملية تفوق قدرة شخص واحد وأربعة أشخاص يجتمعون في مقھى أو ناد
ويقررون أن يجب تحقيق كذا وكذا من المشاريع فتختفي المشاكل .لماذا ؟ ألن على
أي نموذج للتقدم إن أراد النجاح أن يفھم من أكبر عدد ممكن من المواطنين وأن
يقبل عن قناعة وان يطبق بفضل ھاته القناعة وإال بقي المصير معلقا بين نظريات
جوفاء وتصرفات تفرضھا علينا الصدفة والضرورة وال نتحكم فيه في شيء .
معنى ھذا أننا مطالبون بفتح حوار بناء داخل بلدنا وبتعميم الوعي لدى مواطنينا
بالمشاكل العويصة التي نتخبط فيھا أي بأسبابھا الحقيقية واالمكانيات الحقيقية
160
لتقدّم معقول بدال من الجري وراء وھج السراب .لكن كيف يمكن تعميم ھذا الوعي
الضروري والحيوي طالما بقيت فلسفة اإلعالم الرسمي على حالھا :مواقفنا
أوتوماتيكيا موفقة – مسيرتنا المباركة في تقدم حثيث – كل شيء على ما يرام .
النقد عالمة الخيانة والعمالة .أقول بكل بساطة :الشعب التونسي ذكي بالفطرة
– نخبته المثقفة متوفرة ومن أحسن الطراز – بلدنا لحسن الحظ صغير والحمد
وشعبنا قليل العدد ومتجانس ) أقول لحسن الحظ ألن أسعد المجتمعات نسبيا في
العالم ھي المجتمعات الصغيرة مثل السويسرية أو النيوزلندية ( .
واتعس المجتمعات وأصعب الدول حكما وإدارة دولة المجتمعات الكبرى وأخطر
المدن كما يثبت علم االجتماع ما زاد عدد سكانھا عن المليون ,كل ھاته العوامل
اإليجابية من شأنھا أن تسھل حوارا بناء بين المفكرين والسياسيين والفنيين
وعامة أفراد الشعب للتفكير في نموذج محلي للتقدم يأخذ بعين االعتبار فشل
النموذج الغربي واستحاالته وامكانياتنا في إطار العالم المعاصر وأكرر من جديد أن
على وسائل اإلعالم أن ترفع إلى مستوى الشعب أي أن ترفع من مستواھا وأالّ تزيد
الطين بلة بدعاية محمومة وال شعورية للنموذج الغربي .مثال أنا أكره المسلسالت
العاطفية السخيفة
) واألفالم العربية ( التي يعرضھا التلفزيون ال لسخافتھا بل ألنھا تروج وتدعو
ضمنيا إلى نوع معين للحياة لن نقدر على تحقيقه أغلبية شعبنا .فالبطل مثال دائما
وأبدا برجوازي صاحب فيال فخمة وسيارة أنيقة ,والبطلة فتاة جميلة ترتدي آخر
موديل من فساتين باريس الخ ..بمض ّي الوقت يتغلغل ھذا النموذج في عقول الناس
ويصبح المقياس الذين يقيسون به تقدمھم المزعوم أو تأخرھم المزعوم .لنفرض
أننا حققنا ھاته الصورة المفروضة ,سنكتشف أن النموذج الغربي باھظ الثمن ,
قليل الفعالية ,وأبعد ما يكون عن تحقيق السعادة .لنفرض اآلن و ھذا أصح
االحتمالين – أن األغلبية عجزت عن تحقيقه ووقفت دونه .سينتشر الشعور
العميق والمرضي بالغبن والحرمان والنقمة وكلّھا مشاعر مدمرة وخاطئة ألنھا كما
قلت تخلط بين نوع من الغنى والسعادة وبين التقدم الحقيقي وصورة مشوھة له .
161
من الممكن أن يحقق بعض اآلالف من التونسيين النموذج بما يعنيه ھذا من ارتباط
مصيري بالغرب ,ومن المحقق أن عددا أكبر سيقترب من الھدف بصعوبة جمة ,
لكن األغلبية ستقف دونه ضحية شعور بالغبن والقھر ,وخطر ھاته الحالة واضح
والسيناريو معروف وھو يكرر نفسه عبر الزمان والمكان برتابة مملة :
ستفرض تونس الغربية مصالحھا ونمط عيشھا بالقوة على تونس المحرومة ,لكن
القانون يسن :أن األقلية ال يمكن أن تفرض نفسھا على األغلبية إال لفترة تطول أو
تقصر لكنھا مؤقتة .لنفرض أن تونس المحرومة أخذت مكان تونس الغربية ,لن
تتحقق أي معجزة إن كان الھدف ھو نفسه لم يتغير أي النموذج الغربي للتقدم وذلك
نظرا لإلست حاالت السياسية واالقتصادية .
فالھدف الوحيد الذي يجب أن يتفق عليه كل التونسيين ليس تحقيق مجتمع القوة
واالستھالك وإنما تعزيز أمنا تونس بكل ما تحتاجه من تجھيزات متينة ودائمة
وتحقيق مجتمع يتمتع فيه الجميع بالشورى والمشاركة الالمركزية واالستعداد
للمواجھة سنوات صعبة ,في إطار عالم خطير متقلب ,مھدد كل لحظة بشبح
الحرب والمجاعة .
يجب أن نتذكر دائما أن مصير الباخرة تونس أما أن تصل إلى المرفأ بكل ركابھا أو
أن يبتلعھا اليم بكل ركابھا أيضا .
***
162
لماذا ستطأ األقدام العربيّة سطح الم ّريخ
قال :حكمك على مجتمعنا قاس إلى أبعد حدود القسوة و صارم إلى أبعد حدود
الصرامة .ومن ثمة فھو متجن وسلبي ,وأنا أفضل عليه فلسفة أجھزة أعالمنا
رغم بدائيتھا وذلك لتركيزھا على إيجابيتنا القليلة المشجعة على مواصلة العمل .
فقلت :يقول ال وتسو .
الجھل بالحقيقة مرض
واأللم منه بداية الشفاء
أم الحكيم فال يصاب به ألنه دائم األلم
وعيبنا الدائم أننا متخلفون أي مقصرون في حق أنفسنا وحق الحضارة ,وھي
بداية الشفاء .أما فلسفة الفخر بالماضي والتطاول على الحقيقة كما تمارسھا
العقول الذليلة ,فھي مظھر من مظاھر التخلف الحضاري وإحدى أعراض المرض
الذي نعاني منه .
خذھا مني قاعدة :إن النقد الذاتي الموضوعي الدائم ھو البديل األوحد للتحجر
والتخلف أي للجمود والموت .على كل ھل تعلم أنني ال أحكم على تخلفنا المزري
ووضعيتنا المأساوية من موقع المازوشية ألنني واثق أتم الثقة أنه لن تمضي مائة
عام إال وتطأ األقدام العربيّة أرض الم ّريخ .
فغر فاه وصمت دقيقة ثم انفجر ضاحكا وانتظرت دقائق طويلة أن تھدأ قھقھته
الصاخبة .
قال :صحيح أنك طبيب أعصاب و صدق من قال " رب طبيب يداوي الناس وھو
عليل " ثم أضاف وھو يغالب ضحكه :يوم يطلق الصاروخ العربي ستكون أكبر
مھزلة في تاريخ الفضاء ...سيتزاحم أھل الرواد لزيارة قاعة المحركات وسيلعب
الصغار باآلالت اإللكترونية ,سيصل قائد الصاروخ متأخرا ,بالطبع سيكون من
قبيلة الديكتاتور األكبر ,ھذا إن لم يكن ابن أخته العزيزة ,ستتعطل أجھزة اإلطالق
لذلك سيعطي اإلذن باإلقالع بصفارة القطار ...
163
ستتشابك األوامر وستتضارب وسيتشاجر المھندسون ويتضاربون في غرفة
العمليات .سيكون خطاب الدكتاتور األكبر أطول من زمن الرحلة وأخيرا سيرتفع
الصاروخ مائة متر ثم سينفجر ألن زيت المحرك مغشوش والمحرك صنعته أيد
تونسية ,بالطبع لن تظھر تلفزتنا إال انطالقة المائة متر األولى لتدعى في ما بعد "
أنه بوحي من القائد الملھم ونظرا ألسباب تقنية طارئة قرر العلماء والفنيون إرجاء
مسيرتنا المضفرة نحو الم ّريخ إلى قرن آخر " .قلت :كالمك أصدق دليل على ما
أقوله دائما أي أن عمق وقوة عقدة النقص المتأصلة في نفوسنا والتي نحاربھا
تارة باالستنجاد بأمجاد أجدادنا الحقيقية والوھمية وتارة أخرى بالكذب على أنفسنا
وعلى الغير ھي مكمن الداء ...ھاك عينة أخرى من عقدة النقص ھذه :أنا ال أذھب
إلى أي مكان عمومي لقضاء أبسط الحاجات إال وأواجه بمعضلة اسمھا فوض
الناس وأنانيتھم وانعدام حس المواطنة واالنضباط عندھم .في البلدان المتحضرة
تنتظر دورك بصبر وراء من سبقك ويمتد الصف أحيانا مائة متر .عندنا ھذه
القاعدة مجھولة ,أمام شباك التذاكر يتزاحم الناس وتمتد األيدي فوق رأسك ويكثر
الصراخ والشتم وتتبادل اللكمات في بعض األحيان .ھذا المنظر البشع تراه في كل
مكان ...في اإلدارة ...في المحطة ...أمام المسرح .إنه المؤشر الحقيقي على
التخلف ...تشعر بأن شعار القوم المثل العامي " :ذراعك يا عالف ...حوت يأكل
حوت و قليل الجھد يموت " ...المضحك أنك تسمع وأنت تجاھد للحفاظ على
نظارتك فوق أنفك أصواتا ترتفع تارة بالفرنسية وأغلب الوقت بلغة ھذه المدينة
الھمجية الفرانكوآراب " :العربي عربي يا ريان آفار " كل ھذا على مرأى ومسمع
كثيرا من األجانب كيف أصل لك مشاعري وأنا أصلي بنظرات احتقار العرب من
األجانب واحتقار العرب ألنفسھم .
قال وقد استعاد جدّه " :صحيح أن ھذه الظاھرة داللة على استشراء الحاجة
والخصاصة والجھل واألنانية ,ومن ثمة أسألك أنّى لشعب ال يحترم الصف ,ويجيد
احتقار نفسه أن تطأ أقدامه أرض المريخ " .
164
قلت " :أول خطوة على الدرب الطويل اسمھا استعادة الثقة بالنفس وبالمستقبل
وھذا أمر في متناول أيدينا " .
تنظر إلى وضعيتنا الحالية فتراھا مزرية ...الوطن العربي ساحة حرب أھلية طاحنة
ساخنة تارة وباردة أخرى ,واقعنا واقع التشتت والتمزق والضياع ,طاقاتنا
وثرواتنا تھدر على طاوالت القمار وفي ترسانات األسلحة ,حازة أصغر الشعوب
اإلفريقية على استقاللھا وأمتنا تنظر إلى شعب من شعوبنا يعاني عار االحتالل وال
تحرك ساكنا " وكل على كل زار وله عدو وعليه عاتب " كما يقول ابن المقفع
والحال في وطننا الصغير كما تعرف :تقدم سطحي وقف على طبقة تمتاز بالجشع
والصفاقة وقلة الذوق ,تغرب ثقافي مھول :تحطم وتشوه لغتنا المقدسة ,جھوية
عشائرية ،عمل رديء ,تدھور مخيف على صعيد العالقات البشرية ,فضاضة ,
قسوة ,تواكل ...وأنا وابن عمي على الغريب ...سيادة الواسطة وتراجع القانون
...إعالم بدائي وثقافة تعاني من كثرة الرقباء الخ ...الخ ....
لكن الحق أن تتساءل وإني ألمة كھذه أن تصل المريخ .أقول ال تنظر إلى واقعنا وال
تزنه بمقياس اللحظة ...ضعه في إطاره التاريخي وستتضح لك الحقيقة :نحن أمة
عظمى ...نحن أمة توحد مصيرھا يوما بعد يوم ...نحن أمة فتية تزخر بكل
مقومات القوة ...بكل إمكانيات المشي على سطح المريخ .
* أمة تتحدي الزمن
ھذه األمة موجودة على ساحة الحضارة منذ خمسة عشرة قرنا ...أنظر حواليك
وقل لي عمر ھذه األمة التي تحمك الدنيا :روسيا :قرنين ..أمريكا ثالثة قرون ...
األمم األوروبية :خمسة قرون ...نحن مع الصينين والھنود أقدم األمم وأعرق
مجدا .واألھم من ھذا أننا رغم قدمنا أمة فتية ,شابة ,يافعة ,تتفجر دماءھا حيوية
وطموحا .نسبة العجائز في األمم المسيطرة ھي مقتلھم ,ألمانيا بلد ال تجدّد األجيال
فيه ,ستمر فرنسا في ظرف قرن من 50مليون نسمة إلى 24مليون فقط والرجال
كما تعرف عتاد األمم .
165
واآلن راجع تاريخ ھذه األمة العريقة ,الفتية ,ستجده خطأ متصال لم ينقطع يوما ,
وكأنه نھر عات يشق طرقه عبر الھزائم واالنتصارات نحو ھدف يفوق مداركي
ومداركك .
أبدا التاريخ بالقرنين اللذين سبقا الھجرة :إنھا فترة التحفز واالستعداد .ھاھي
المعلقات السبعة تصھر في بوتقتھا وتصقل كما تصقل سبائك الذھب اللغة الجبارة
الممھدة لبروز الحدث األعظم .واآلن ھاھي فترة المجد والخلق واإلبداع تبدأ
بھجرة الراعي البدوي محمد بن عبد ﷲ القرشي ,لتنتھي بموت المأمون خليفة
المكتبات .
ھاھي اآلن أمتنا تدخل في كابوس طويال يدوم عشرة قرون اسمه االنحطاط .ترى
ھل ستضيع مياه النھر في صحراء الزمان ,وھل سيجف النبع الفياض ؟ ألم يكن
ذلك مصير كثير من األمم ؟ لكن ھذه األمة من معدن غير تلك المعادن ھاھي الحياة
تدب من جديد في أصولھا ,وھاھي تزاحم من جديد لتحتل مكانا تشعر أنه خلقت
الحتالله .
لماذا لم تمت األمة ولن تندثر كما اندثر اإلغريق والرومان والتتر ...أقول ألن لھا
عمودا فقريا ال يكسر ,واسم ھذا العمود لغة القرآن .
الحظ عدد األخطاء والھزائم والتراجعات التي يحفل بھا تاريخھا ...أنھا أكثر من أن
تعدى ,لكن الحظ أيضا أنھا فشلت في القضاء علينا كأمة تعبر الزمن وأقول إن ھذه
النكسات والھزائم ھي المحرك الرئيسي لتاريخنا .تناقضاتنا ونقائصنا ھي التي
تدفع بنا إلى األمام وھذا قانون ...فاألمور ال تتطور إال بسلبياتھا والسلبيات ھي
محرك التاريخ ...بصراحة لو كانت أمتنا تتربع على قمم المجد في ھذه اللحظة
لخفت عليھا .فالنكسة تتبع المجد والمجد يتبع النكسة كما يتتابع الليل والنھار
والبعد والقبل ونحن أمة تتحرك ...بسرعة ...حركتھا تشنجية وأنت عندما تنظر
إليھا ال ترى إال التشنجات ...أضبط أعصابك وحاول تصور الحركة التاريخية بدل
التوقف والضياع في آالف التفاصيل الثانوية عد بذاكرتك إلى ثالثين سنة خلة وھي
كما ترى لحظة عابرة من تاريخ يضرب في خور الزمان :
166
االستعمار في أرجاء الوطن ...أوضاع اجتماعية متعفنة إلى أقصى درجات التعفن
...جھل فاضح ...فقر مخيف ...مرض قاتل ...أترك سلبيات تجربة التقدم فقط
تحدثنا عنھا بما فيه الكفاية .ھل بوسعك أن تذكر حقيقة ھذا التقدم أنظر إلى انتشار
التعليم والصحة وتصاعد مقومات القوة األخرى ,صحيح أننا وقعنا فريسة لمرض
خطير مزمن اسمه االنحطاط وإن ھذا المرض سھل لجرثومة االستعمار وطفيليات
اإلمبريالية وفيروس الصھيونية وسرطان الديكتاتورية واإلقطاعية العمل فكانت كل
ھذه العوامل تقضي علينا كأمة تخلق الحضارات ,لكن ھذا اآلفات المتعددة الخبيثة
فشلت في القضاء على الجسم المتماوت ,ألن جسم ھذه األمة أفرز األجسام
المضادة التي شلت عمل سرطان اإلقطاع وجرثومة االستعمار والطفيليات
الصھيونية وكان ھذا التطور السريع الذي تشھده فينا وحوالينا ,ھل تعتقد حقا أن
ھذه الحركة العاتية المتصاعدة السرعة ستقف عند حد .ال أقول أننا سنصل بصفة
أوتوماتيكية إلى القمة فتزايد حركية التاريخ ظاھرة تعرفھا كل المجتمعات بدون
استثناء ,بل من الممكن أن نعرف في المستقبل ھزائم ونكسات أنكر مما عرفنا إلى
حد اآلن ...لكن ذلك لن يكون أبدا خاتمة بل منطلقا جديدا ...نحن ال نتعلم إال من
وبفضل أخطائنا ,وإن كان خطأ يدفع بنا خطوة إلى األمام ولو لم يتضح ذلك .
أدرس ھزيمة 1947سترى أنھا ولدت الملحمة الناصرية ,وھزيمة 1967وسترى
أنھا ولدت المقاومة الفلسطينية وجيال عربيا جديدا في تفكيره وھزيمة ) أو نصف
نصر ( 1973سترى أنھا أدت إلى استيالئنا على ثرواتنا البترولية وأنھا خضخضت
الغرب .كل معركة تزيدنا سالما وتمرسا بفنون القتال .كل نكسة ,كل ھزيمة – فما
بالك باالنتصار يعطي لجسم األمة مزيدا من مقومات القوة والصمود ,وضني أنه ال
شيء قادر على الوقوف بين العمالق المتماثل لشفاء وعلى مطمح يقرر بلوغه .
الوحدة غدا أو بعد قرن :
من البديھي أن العربي الذي سيمشي يوما على سطح المريخ سيكون سفير كل
العربي ومن ثمة فإن إحدى شروط الرھان أن نتحد بشكل أو بآخر .ال تسارع
بالقھقھة من جديد واسمع رأي في الموضوع .
167
نحن شعوب قبلية بالفطرة .والء العربي لحيّه قبل أن يكون للعرش وللعرش قبل أن
يكون للقبلة ,وللقبيلة قبل أن يكون للشعب وللشعب قبل أن يكون ألمته .تاريخنا
منذ قديم تاريخ صراع قبائلنا وإن غلفناه بغالفات عقائدية .كم مزقنا أوصال ھذه
األمة وكم ستمزق أوصالھا من جديد كل ما سمحة لنا الفرصة .لم نجد إلى يومنا
ھذا حال مرضيا لمشكلة ناقة البسوس ,لم يجر إلى حد اآلن العمل بوقف إطالق
النار بين داحس والغبراء ...بصراحة أنا لم أھضم إلى ھذه اللحظة ما فعلته بكر
بتغلب وفظائع تغلب تجاه بكر .أما حروب الملوك الطوائف وتواطأ البعض منھم مع
ملوك قشتالة فھو جرح ينزف في ذاكرتي ولن يندمل أبدا .
ومن أين لي اإليمان إذن بأن قدر العرب الوحدة غدا أو بعد قرن .أھو تكتل الشعوب
واألمم المتزايدة ؟ أھو ضرورة اختفاء الدويالت المصطنعة في إطار لعبة سياسية
لم تعدى تقدر إال األمم العظمة ؟ لكن ھذه األسباب خارجية وظرفية بينما توحيد
األمة عملية داخلية متواصلة منذ أكثر من أربعة عشر قرن ,اسأل التاريخ عن
العرب والوحدة وستجد الصراع على أشده طوال ھذه القرون المصيرية بين قبلية
العربي الفطرية ودعوة ذلك البدوي الفقير المسمى محمد بن عبد ﷲ القرشي باعث
ھذه األمة ومؤسسھا .الحظ انتصارات محمد المتتابعة عبر القرون وعلى امتداد
المكان .قبائل متحاربة يوحدھا محمد فيخلق لحمة إمبراطورية مترامية األطراف ثم
ھي القبائل تعود إلى حروبھا التي ال تفتر وھي اإلمبراطورية تتمزق أطرافھا لكن
صوت محمد يدوي في الذاكرة العربية ...نكسة تتبعھا أخرى ليليھا انتصار تخلفه
ھزيمة نكراء ...لكن اللغة تنتشر رويدا رويدا وتتجذر في أراضي شاسعة الرقعة ...
ھاھي القبائل متحاربة تنصھر شيئا فشيئا في قالب مجموعات امتن وأصلب عودا :
الشعوب العربية ...واآلن ھاھي الشعوب التي ھضمت القبائل تتقارب فتتنافر ...
إنھا نكسات جديدة لكن محمد لھا بالمرصاد ...ھا ھو الوعي القومي يتسلل إلى
الشعور الجماعي كسارق ليل وكم ضحكوا منه وكم سخروا وھم أھل القبلية
والشعوبية " :أضف صفرا إلى صفر يكون الحاصل صفرا" لكن األصفار وكأن
شيء قاھرا يدفعھا تتقارب ولو كان ذلك رغم عنھا .إنھا قوة التاريخ ...إنه دفع
168
حركة ذلك الذي رفض أن يقايض بدعوته ولو وضعوا الشمس يمينه والقمر شماله
...واآلن ھاھي مالمح الوحدة الكبرى تتضح :تطالب مصالح مشتركة لغة واحدة
واألھم من ھذا أماني وطموحات واحدة وضغط ھذا العالم الذي يضع الخيار أمامنا :
أن نتحد أو ال نكون .تنظر إلى ھذا االجتماعات العقيمة وتسمع إذاعتنا البلھاء :
تقابل الرئيس زيد مع عمرو واتفق على قيام وحدة شاملة وفورية ومدروسة ,
ويتمخض الجبل فيرد خطابا ويسدل الستار على مھزلة أخرى من مھازل العرب .
عندئذ تصاب بخيبة أمل وتقرر أنه ال خير ينتظر من ھؤالء الناس .منا كلنا .
وتصب جام غضبك على رأسي ورأسك ...ويعز عليا أن تغضب وأن تيئس ألن
غضبك ويأسك ھو غضب األمة التي تتلھف وتتحرق شوقا إلى يوم يتحقق فيه
برنامج محمد .لكني أقول لك :ال تخاط بين الزبد والبحر وال تتعجل ...فمحمد
بالمرصاد .ھو يمھد لھذه األمة منذ أربعة عشر قرن ونحن على الدرب سائرون .
ليجتمعوا ,ليقرروا ,ليتشاجروا ,ليخطبوا ما طاب لھم .ھم أيضا مثلي ومثلك تماما
.حملة آمال ھذه األمة وعيوبھا .ويوم تتغلب آمالنا على عيوبنا أي يوم ننضج
سينضجون ھم أيضا يتعلمون من أخطائھم ثم ال ننس أن الوحدة ليست دولة أو
ھيكال سياسيا .ھي أھم واشمل واعمق من ھذا .يوم صدرت أول جريدة عربية في
القاھرة ليقرأھا أھل بيروت وبغداد كان ذلك أول مسمار في نعش القبلية ,ويوم
يتمركز القمر الصناعي العربي فوق أرض الوطن لينقل برامجنا التلفزية ) على
غبائھا ( سنتقدم على درب الوحدة خطوة أخرى وھكذا إلى أن تطأ أقدامنا أرض
المريخ ...نعم الوحدة قدرنا غدا أو بعد قرن ...
من البديھي أن أمة تتحدى الزمن وتوحد قواھا بدون كلل أو فترو منذ أربعة عشرة
قرن ال يمكن أن تتمخض إال عن قوة جبارة تكون طموحاتھا في مستوى تلك القوة
الھائلة التي تنضح بھا ,وفي مستوى الطموحات التي حددھا لھا محمد بن عبدا ﷲ
القرشي .لقد طال غيابنا عن العلم :ھم في مخابر الغرب يدرسون النجوم
والكواكب ,ويدرسون أسرار المادة ,ويتتبعون كل ألغاز الكون أكانت في أعماق
البحار ,أو في قلب المجرات البعيدة عنا بمليارات الكيلومترات ,ھم ينقبون عن سر
169
الحياة في قلب الخلية ,وفي نواة الشمس ,وألنھم قوة فكرية ضاربة غزوا العالم
وملئوا الفضاء بأقمارھم الصناعية ,ألنھم قوة ضاربة مشوا على سطح القمر ,
والعالم اليوم في بداية التاريخ ,واإلمكانيات المتوفرة للبشرية تفوق كل مداركنا
وكل أحالمنا المجنونة .من كان يتصور منذ قرن أننا سنعبر المحيطات على متن
طائرات بسرعة ألف كيلومتر في الساعة أو أن إنسانا سيمشي على سطح القمر ,
من سيستطيع اليوم التجاسر على تكذيب أولئك الذين يتنبئون بأننا سنبني
المستعمرات في القمر ,أننا سنزرع المريخ وعطار والمشتري ,أننا سنجعل من
الصحاري أراض زراعية ,أننا سننتج كل الخيرات في أعماق البحار ...وھذه األمة
العظمى التي فاتھا ركب الحضارة قرونا طويلة ستساھم في المجھودات الجبارة ...
ستمسك من جديد بمشعل الحضارة ليضئ طريق اإلنسانية .
لذلك أقول أن قدر ھذه األمة أن تحقق جزءا من ھذه األحالم المجنونة التي ستصبح
غدا واقع أحفادنا .نعم ستزرع ھذه األمة الصحراء ,ستحرث البحر وستبني
كاتدرائيات للعلم ,وستمخر أساطيلھا الفضاء ولذلك سيمشي بكل بساطة أحد
روادھا يوما على سطح المريخ ..
قال وقد استعاد من جديته :
-أنت تھذي ...تخلط بين أحالمك وبين الواقع ...أحمد ﷲ أن أحدا ال يسمع
و إال اتھمت بالسكر والجنون .
-قلت :أنا واع ما في تقريري بأنه لن يمضي قرن قبل أن تطأ األقدام
العربية أرض المريخ من إثارة وغرابة بل من وقاحة إذا نحن اعتبرنا
حالتنا المزرية .لكنني خالفا لك واع بأن ھذه الحالة ھي نقطة في خط بدأ
منذ أربعة عشر قرن وقد ال ينتھي إال بنھاية البشرية نفسھا .تعال
نستعرض موضوعيا األربع اإلمكانيات التي يمكن أن يتمخض عنھا
المستقبل .
-1يمكن أن تبقى دار لقمان على حالھا :تخلف ,تشتت ,تبعية
حضارية ,اتساع عمق الھوة التي تفصل بيننا وبين األمم
170
الخالقة مع بعض التحسينات الجزئية ھنا وھناك التي لن تغير
شيئا من معادلة سعد زغلول :صفر +صفر +صفر = صفر .
-2يمكن أن تزداد األوضاع تدھورا كأن ندخل في حروب أھلية
تلوح مالمح البعض منھا في حين وصلت بعضھا إلى حيز
التنفيذ ومن ثمة يزداد ضعفنا وتزداد تبعيتنا ,بل من الممكن أن
يعاد استعمارنا من جديد في إطار حرب عالمية مثال .
-3يمكن أن يقلب عامل مجھول كل حساباتنا ومخططاتنا .مثال :
نزول أھل الكواكب على سطح األرض ,حدوث تغييرات جذرية
في الطقس ,نشوب حرب نووية ماحقة والبقية أتركھا لمخيلتك
الخصبة .
-4يمكن أن تتمخض آالم الوضع التي تعاني منھا أمتنا عن دولة
فيدرالية مھابة تضمن للشعوب إدارة شؤونھا بنفس مع توحيد
الجھود في إطار خطة متناسقة للتنمية االقتصادية والعلمية
تضع األمة في ظرف قرن في مصاف األمم األولى فيرفرف العلم
العربي على قمة جبل اإلفريست وعلى سطح الكواكب في الوقت
الذي ترصد مراقب جبارة في القطبين حركات النجوم ,وتعمل
فيه الجزر العائمة في قلب المحيطات الستخراج ما نحتاجه من
معادن وأدوية وغذاء .
تسأل ومن أين لي العلم بأن ھذه الفرضية األخيرة ھي التي ستتحقق .أقول :أنا ال
أعلم إنما أتكھن .الفرضية األولى مرفوضة بطبيعة الحال ألن المستقبل ليس
امتدادا للماضي ومن ثمة يستحيل أن تبقي دار لقمان على حالھا .لو آمنت بھذه
الفرضية ال كنت كجدلك يتنبأ وھو في نھاية القرن التاسع عشر أن أمور العرب
ستبقى على ما ھي عليه أو أن أقصى ما يمكن انتظار ھو أن يھدي ﷲ الخليفة
العثماني فبصلح أمور الرعية ويعم الرخاء أرجاء الخالفة ويمتلك كل عربي قطعانا
كاملة من الجمال .تقول ومن أدراك بأننا لن نعرف نكسات ھائلة في إطار حروب
171
رھيبة .أقول االحتمال ممكن لكن ھذه النكسات حتى في إطار حرب نووية لن تزيل
الحضارة وال األمة كما يتصور البعض .كل ما في األمر سترجئ عملية المشي على
سطح المريخ قرنا آخر .أما دور العامل المجھول صعب التقدير وقد لن يلعب دورا
أخطر من دور الحرب النووية ,تبقى إذن الفرضية الرابعة ,وھي أمتن الفرضيات
على اإلطالق .بطبيعة الحال أنا ال أجزم بأنھا ستصدق وإنما أراھن على جديتھا
ومعقوليتھا .وأقول إن حظوظ تحقيقھا كبيرة جدا ومن ثمة يمكن ترجيح نجاحھا
على بقية الفرضيات األخرى .سيكون المشي إنسان عربيا على سطح المريخ
معجزة خاصة إذا اعتبرنا خصائصه في نھاية القرن العشرين .فھو كما تعلم إنسان
خيالي العقلية ,رديء العمل ,يجھل أنه يجھل ,عديم االنضباط كثير الفوضى ,لكن
تحقق المعجزات ھو القانون العام واألوحد في الكون ,فھذا اإلنسان الذي يحتقره
الكل الذي يئس من نفسه إلى درجة أنه أصبح يؤمن بأنه أھل للتحقير ,زاخر بكل
المقومات التي تخلق المعجزات .نعم سيصبح العربي علماني العقلية ,كثير اإلنتاج
يعلم أنه يجھل دقيق العمل .منضبطا إلى أقصى درجات االنضباط وستطأ قدماه
أرض المريخ .
وأركز من جديد .سيكون ھذا ألن تحقق المعجزات قانون من قوانين عمل الكون .
عد بذاكرتك أو على وجه التدقيق بمخيلتك إلى بداية مغامرة الحياة أكنت تراھن
على أن تلك الخاليا البدائية المنسية على ضفاف المحيط ستتمخض عن شجرة
الحياة الباسقة التي يشكل اإلنسان خصنا من أغصانھا الوارفة .واآلن ھاھو
اإلنسان البدائي .أكنت تراھن على أنه سيروض السباع والفيلة وأنه بأنيابه
وأظافره تلك سيصبح سيد األرض ؟ أنظر ھاھي قريش قبيلة عربية مغمورة تعيش
في ظل اإلمبراطوريات العظمى .أكنت تراھن على أنھا سنغلب قيصر وكسرى وأنھا
ستبني مسجد قرطبة وأنھا ستنجب يوما ابن عربي والحالج وابن خلدون واآلن
ھاھو اإلنسان العربي يرفل في التخلف الفكري والمادي .ال تتوقف عند المظاھر
وال تنسى امتداد وعمق تجربته عبر التاريخ .آلمك وآلمي من وضعيتنا المزرية ,
مراجعتنا الصارمة ألنفسنا ,األحالم الغامضة التي تراود مخيالت وعقول شبابنا ,
172
ھذه الحركات العنيفة التشنجية التي تشھدھا مجتمعاتنا ال تعبر عن شيء وال تھدف
إلى شيء آخر غير تحقيق المعجزات لذلك أقول بمنتھى الج ّد :لن يمضي قرن إال
وتطأ األقدام العربية أرض المريخ .
قال ماطّا شفتيه :سفسطة ,ونحن العرب أبطال أولمبيون في فن الكالم قلت غير
مكترث بمسحة الكآبة التي مرت على وجھه فجأة :ھل تعلم أنني قد بدأت أخطط
للرحلة .
قال ضاحكا وقد استعاد مرحه فجأة :
-أعرفك متطفال على الدب والفكر ولكنني لم أفكر يوما انك ستقحم أنفك حتى في
ھندسة الصواريخ .
قلت :بناء الصواريخ أسھل ما في العملية ,وستوكل األمة بالمھمة ألبنائھا
المتخصصين في الميدان في الوقت المناسب .تعال نتحدث على األھم من البديھي
أن المشي على سطح المريخ ليس ھدفا في حد ذاته وإن األمة لن تتخذه ھدفا إال
وتوحدھا وسيطرتھا من جديد على عالم
ّ ألنه سيكون الدليل والمؤشر على تقدّمھا
العلم والتكنولوجيا ,من البديھي كذلك أن اإلنسان العربي الذي سيحقق المعجزة
سيكون مختلفا عنا اختالفنا عن أجدادنا ,ومن ثمة تفھم أن نقطة البداية التي
ستنطلق منھا المغامرة تتطلب إعادة صياغة اإلنسان العربي .قد يبدو لك األمر
مستحيال ,لكنه أبسط مما تظن .رحلة األلف ميل تبدأ بخطوة والخطوة األولى ھي
استعادة ثقتنا بأنفسنا وأولى عالمات ھذه الثقة أن نكف عن الشدّق بأمجاد األجداد
أو أن نلقي تبعية تخلفنا على ھذا أو ذاك ,بل أن نحكم على أنفسنا وواقعنا بأقصى
التجرد والموضوعية لكي نتعلم من أخطائنا ولكي نتقدم بفضلھا .ثاني خطوة :
خاصية العمل العربي :التخلف الرداءة .والمشي على سطح المريخ لن يكون إال
في متناول شعب يحب العمل ويتقنه .أتقن عملك أيا كان وسنتقدم .ثالث خطوة:
تھيئة الجيل الجديد لكي يكون جيل العلم والتكنولوجيا ال جيل الكتب الصفراء
والعقائد المتحجرة التي خدرت عقول أجدادنا .بطبيعة الحال يجب اعتماد كل
الوسائل لبلوغ ھذا الھدف وأنا قررت أن أضيف حبة رمل أخرى إلى الھرم الذي ما
173
انفكت ھذه األمة وھذه مساھمتي المتواضعة أقص عليك فصال منھا .قلت في نفسي
يوما :ھذه الكتب التي يقرأھا صغارنا ال تترجم إال للعقلية الخيالية المتخلفة ونحن
بحاجة غدا إلى غير ھذا ,اتصلت بناشر شاب وعرضت عليه فكرة سلسلة تحبّب
العلوم لألطفال وخاصة علوم الفضاء .
قال الناشر في أول لقاء لنا :فكرة عظيمة .تبدأ بكتابة قصة الطب لألطفال .قلت :
ويكون ثاني كتاب عن الكون ,عن تكنولوجيا الصواريخ ,عن غزو الفضائي ,قال
الناشر :ويكون كتابك عن الطب في عشرين صفحة ملونة .
قلت :ونقص في الكتاب قصة طفل أمريكي اسمه نايل أرموسترونغ يحلم بالمشي
على سطح القمر ويضحك منه أھله وزمالؤه .
قال :وتسلمه لي في ظرف ثالثة أشھر .
قلت :ونظھر كيف أن نايل لم يكن يعيش في دولة متحاربة مع جارتھا بل في بلد
عظيم ألنه متحد يعطي األثرياء فيه ثرواتھم للجامعات وتعتبر الدولة فيه العلم
سالحا .
قال :يجب التفكير في تغيير العنوان .
حب نايل للعمل اليدوي ولكل أنواع التكنولوجيا ثم
قلت :ثم نبرز في السيناريو ّ
ولعه بالبحث العلمي وجسارته وھو يركب الصاروخ في اتجاه القمر .إنه نوع من
األبطال الذي يجب أن يحاول أطفالنا التشبه به ,يكفي من عنترة بن شداد .
قال :ستقبض عشرة في المائة خمسة عند تسليم النص والبقية على عشرين سنة
.
قلت :وأنا أودعه :آخر لوحة ستكون عن نايل وھو يرفع العلم األمريكي على
أرض القمر ,وننھي الكتاب بصورة ضخمة للمريخ مع تعليق من نوع :أي علم
سيرفع يوما على ھذا الكوكب ؟
وتركت اليوم ذلك الناشر لمشاريعه .خرجت من عنده وفي مخيلتي آالف من
الصور المضطربة المجنونة .فجأة انفجرت ضاحكا والمدينة الھمجية تلطمني
بمظاھر تخلفھا وفوضاھا ورداءة عملھا .كان صوت شيطاني يسري في آذني :
174
ھؤالء على المريخ ...يوم " ينھق البھيم في البحر " ,ولم أستمع إلى صوت
شيطاني و أسكتت ضحكي و أنا اردد بثقة و طمأنينة أبيات شاعري المفضل إيليا
أبو ماضي :
نضيء به الدنيا و نمألھا حمدا إذا األمس لم يرجع فإن لنا غـــــدا
و تنشرنا في الفجر أنسامه ندا وتلبسنا في الليل آفاقه سنـــــــــى
و تخفي ولكن ليس تبلى و ال تصدّى فإن نفوس العرب كالشھب تنطوي
***
175
ردود القراء
التخــــلـف بالـــنسبــة لمــاذا ؟
ن .و.
ھذا السؤال الذي كان طرحه الدكتور المرزوقي للنقاش وإبداء الرأي ,أثار عدة
ردود وبالتالي فقط حرك بعض األفكار للتالقح والتفاعل والخروج بالفائدة المرجوة
من وراء ذلك أال وھي تشخيص األسباب الحقيقية لھذا الداء الذي ينخر المجتمعات
وإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجته .
وقد ذھب أكثر المتكلمين في ھذا الموضوع إلى استعراض مظاھر التخلف عندنا
معتمدين في ذلك على مقارنة أوضاعنا الحالية بأوضاع المجتمعات الغربية الراقية
والمتحضرة في نظرھم .وھذا النقد الذاتي يعتبر إيجابيا إلى حد ما يصلح بدوره
منطلقا لتعمق أكثر في الموضوع وزيادة سبر أغواره .
والشيء الذي أريد أن أتطرق إليه عالوة عن سرد مظاھر التخلف التي نالحظ في
حياتنا اليومية ,ھو مدى إدراكنا لحقيقة ھذا التخلف الذي نسعى إلزالته أو باألحرى
مفھومنا الصحيح للرقي وللحضارة التي ننشدھا .
فإن كانت الحضارة المنشودة ما ھي عليه اليوم المجتمعات الغربية بدون تمييز بين
الغث والسمين ,فإن ذلك يدعو على األقل إلى بعض الجدل حول سالمة ھذا المفھوم
,بل أني أذھب إلى أكثر من ذلك والقول بأن سعينا لھا سيبوء بالفشل ألن ما ننشده
سيكون ھباء منثورا ,وما ھذا التقدم والرقي إال أعراض مدنية زائلة قوامھا
التطور العلمي المادي البحث سينتھي بھا حتما إلى االندثار مثلما باءت من قبلھا كل
الحضارات التي سادت .
أما إذا كنا ننشد حضارة حقيقة يمكن أن نضمن لھا الديمومة والنجاح فعلينا أن
نعتبر بأخطاء غيرنا من قدامى وجدد وننظر في التاريخ ونتعلم منه كيف نشيد
176
حضارة خالدة .فقد علمنا التاريخ أنه ال دوام لحضارة قوامھا الجانب الروحي أو
المادي فحسب ,وال بقاء ألحدھما ما لم يقع شد أزره باآلخر .فكم من حضارة زالت
بسببي تھاون مشيديھا بالجانب الروحي منھا ,وانصرافھم إلى اللھو والمجون ,
وارتكابھم لألثام والظلم والجور والتعسف والرذيلة ! وكم من حضارة شابت بسبب
عزوف أھلھا عن الجد والعمل وزھدھم في العلم واستكانتھم إلى األقدار وخوفھم
من التجديد! إنھما شيئان متكامالن :الروح والمادة عليھما جبل اإلنسان منذ خلق ,
وإلى األبد يالزمانه ,وال يمكن له االستغناء بأحدھما عن اآلخر ,وھو – كلما فرط
في أحدھما ,إال وتداعى معه اآلخر للسقوط .
ذلك ھو شـأن الحضارة البشرية .ال تكون إال بمسيرة جماعية لكل البشر ونھضة
روحية ومادية مزدوجة .والحضارة الغربية المعاصرة – كما ھو واضح – مبنية
على شقا واحد ھو الجاني المادي الذي بلغ أعلى درجات الكمال ,أما الجانب
الروحي فھو يتردى في الحضيض ويھدد شقيقه باالنھيار ,لذلك فإن مآل ھاته
الحضارة لن يخرج عن المألوف وسينفذ فيھا قانون الحياة وسنة ﷲ في خلقه "
ولن تجد لسنة ﷲ بديال " .
فكيف نتصور حضارة إنسانية وصلت فيھا مقدمة الركب بالعلم والعمل إلى غزو
الكواكب والبحار وتسخير جميع قوى الطبيعة في حين أن ال ِمؤخرة مازالت تعيش
في األدغال عيشة بدائية مع الوحوش ؟
تصوروا قطار يحمل مسافرين أوله في نيويورك ,وآخره في مجاھل إفريقيا وآسيا
,من يضمن له السالم ؟
أي رباط مقدس يجمع بين ھؤالء ليواصل القطار سيره .
-أية حضارة ھاته التي فيھا اإلنسان ينفق في يومه آالف الدوالرات في
الترفه والبذخ ,وإنسان آخر يموت جوعا وعريا !
-أية حضارة ھاته التي يدوس فيھا الكبار الصغار ,ويجرونھم وراءھم جرا
ويجلدونھم جلدا ,وقلوب الصغار تقطر حقدا وكراھية ودما !
177
-أية حضارة ھاته يتربص فيھا الكبار ببعضھم وال يتورعون في سبيل ما
ربھم ونزواتھم عن إفناء العالم كله ؟
-أية حضارة ھاته المبنية على براكين الدمار والخراب !
-أية حضارة ھاته التي نتھافت عليھا ونسعى لھا بكل جھودنا بدعوى
العمل على الخروج من التخلف ! وأي تخلف أكبر من التخلف الروحي
الذي أصيبت به الشعوب المتقدمة ؟ وأي ويل على اإلنسانية من ويالت
الحضارة الغربية ؟
صحيح أننا متخلفون :ومظاھر تخلفنا تتمثل في فقرنا وجھلنا وأمراضنا ,ولكن ,
أو ليس من التخلف أيضا أن ينعم إنسان بأرغد العيش في حين أن جاره يئن الجوع
والبرد ؟
من التخلف أن يبقى اإلنسان جاھال أميا أو شريرا متشردا ,ولكنه من أكبر التخلف
كذلك أن يكون إنسان عالما ومثقفا أو فاضال ومؤدبا في حين أن صاحبه يشكو
الجھل واالمية أو متھما في سيرته وأخالقه ! أو ليس الطبيب الذي امتنع عن
العالج أو ھجر البلد طمعا في زيادة الكسب أكثر تخلفا من المرضى الذين لم يجدوا
من ينصحھم بالحمية ويعالجھم بالدواء ؟
ففي من تكمن العلة إذن ؟
من ھنا يتبين أن التخلف الحقيقي إنما ھو في العقليات وطريقة التفكير عند جميع
فئات البشر وأن التقدم الصحيح يجب أن يكون مبنيا على تفكير سليم ومجرد وروح
أخالقية عالية تنبذ األنانية وحب الھيمنة والمصالح الشخصية ,وتعتمد نكران الذات
وخدمة الغير والعمل على إسعاد اإلنسان في نطاق مجتمعه الصغير وكذلك في نطاق
مجتمعه الكبير ألن في ذلك عمال على صون الذات وتأمينا على النفس .
أما إذا كنا ننشد الحضارة بصورة عشوائية ديننا في ذلك التقليد العمى واالنسياق
وراء المصالح الجاھزة وعدم اعتبار من حولنا ودوس قيمنا ,فسيكون مآلنا
الرجوع إلى الحيوانية والجاھلية األولى .
178
والرقي المادي ليس بعسير إذا توفرت األرضية الروحية الطيبة وأخذنا بأسباب
الحضارة الحقيقية ألن المجتمع سيتقدم آليا من الناحية المادية عندما يصبح متشبعا
بھاته الروح :
األغنياء فيه " يؤثرون على أنفسھم ولو كان بھم خصاصة "
والفقراء فيه " يحسبھم الجاھل أغنياء من التعفف " و " ال يسألون الناس الحافا
".
والعامة فيه " يأمرون بالمعروف وينھون عن المنكر " .
وولي األمر فيه " خليفة في األرض يحكم بين الناس بالحق وال يتبع الھوى " .
شارك عدد من األخوة في الحوار الذي اقترحه المنصف المرزوقي وابرزوا عينات
من الواقع المتعفن .وإن كنت ال أشك في مصداقية تلك العينات ,أرى أن الشعوب
العربية شاعرة بالداء وبمواطنه وإن حاولت األنظمة إخفاء ذلك باطراد بإبرازھا
للواقع كجنة متوازنة تنمو .والشعوب العربية لم تحرك ساكنا ألسباب عديدة
سأعود إليھا من خالل مالحظاتي ھذه .
وتصحيحا لمسار الحوار أعتقد أن الواجب يحتم وضع النقاط على الحروف واعطاء
كل ذي حق حقه .إذ أنه من غريب اإلدعاء بأن األنظمة العربية متخلفة ألن
الجماھير متخلفة .فالقيادة تعتبر من النخبة والنخبة اقرب إلى الحقيقة والكمال من
عامة الناس .وإنه لمن الدمغجة أن يدعي البعض إمكانية اإلصالح االجتماعي
والمدني من ناحية وتجاھل الجانب السياسي .ولنفرض أن الجماھير انضبطت
وقنعت بأنھا طبقة أكلت البيض ودقيق الذرة .فھل سنلحق عندئذ بالركب الحضاري
179
؟ ألن يدفع ذلك األنظمة للتمسك بسياساتھا الوھنة والمريضة ؟ عمال بالمثل القائل :
" السكوت عالمة الرضى " وحتى ال أشھد شھادة زور أقول :أن األنظمة تحتكر
النفوذ وتتبنى السياسات في جميع الميادين وھي بالتالي المسؤولة بالدرجة األولى
عن فشل تلك السياسات .ثم من المسؤول عن الفوضى والمحسوبية وعمليات
االرتشاء والنھب التي تسود اإلدارات المؤسسات اليوم ؟
ولو ألقينا نظرة على شؤون الوطن العربي ,لنبھنا الواقع إلى وجود أنظمة تعمل
على خلق األزمات لتلھية الجماھير عن قضاياھا المصيرية .وھي تغذي الصراعات
داخل بوتقة حكمھا وبين ھذه األخيرة وبقية األنظمة العربية مما أدى بالمجتمعات
العربية إلى االنحالل .فال عالقات زوجية أ ,رحمية تربط بين أفرادھا وال حتى
عالقات مصلحيّة موضوعية .وأصبح ھمھا الوحيد التھافت على الكسب بأيسر
السبل وأوضع الوسائل .فأين نحن اليوم من الحديث " :وإنما األمم األخالق " ؟
...وننسى أنھم تالمذة ألسوأ أساتذة .يأخذون يوميا عن القيادات دروسا مثالية
في التناحر والتطاحن واستعمال أوضع الوسائل كالنميمة والغش والمغالطة
والتعسف كل ذلك في سبيل الحفاظ على المواطن النفوذ .ألم تتتلمذ الجماھير عن
وسائل اإلعالم التي تفرض على السوق االطمئنان إلى البضائع الثقافية واإلعالمية
المتعفنة والوضعية ؟
انحمل عامة الناس المسؤولية ونتجاھل أمر أغلبية النخبة التي فرت التزاماتھا
وأصبحت تسبح بتلك األنظمة تمجد أعمالھا ولو تداعت وتسبح بحمدھا ولو زاغت .
وھذا ال يعني التنكر لتضحيات األقلية المناضلة التي عانت وتعاني األمرين داخل
السجون وخارجھا وما بدلت تبديال .
إن الرأي القائل أننا فقراء ال يخلو من قصر في النظر وتداع في البرھان فإن كانت
الجماھير في أغلبيتھا تشكو الخصاصة والحرمان ,فھذا ال يعني أن الوطن العربي
فقير ,بل ھو غني بخيراته :المواد األولية متوفرة واألرصدة المالية ضخمة
والتراث العربي غني فكريا وثقافيا والطاقات الفكرية والمھنية مھملة والسوق
قائمة الذات وھي لعمري أسس النھضة الشاملة والسريعة .ومن ھنا يتضح فشل
180
األنظمة في تحليل مسؤولياتھا .وأني ال تساءل ھل أقرت األنظمة يوما نھج سياسة
خير وفالح وقاطعتھا الجماھير ؟ كال ,فھذه األخيرة لم تتعود رفض مقترحات القمة
ولو اتضح ضاللھا .أن الجماھير تعلم أن الداء كامن في األنظمة وھياكلھا وھي مع
ذلك ال تقدم على عملية التصحيح ألنھا خائفة .فاإلصالح يعني مجابھة السلطة .
سلطة الحديد والنار .والمجابھة تعني السجن وربما الموت .
ولسائل أن يسأل كيف السبيل للخروج من الوضع الحالي ما دامت الجماھير تخاف
الساسة والسياسة ؟؟
ال شك أن الطريق صعبة وشائكة وتتطلب الكثير من المعاناة والتضحية وبما أن
كلمة " إيديولوجية " ترعب البعض ,أقول علموا الجماھير معنى الكرامة وذلك
بتمكينھا من حقوقھا قبل أن تطالبوھا بواجباتھا .مكنوھا من تصور موضوعي
للمجتمع العادل وأوضحوا لھا سبل تحقيق ذلك المجتمع ,حيث ال أنانية وال تسلط ال
حيف وال مغالطة حيث ال محسوبية وال رشوة حيث ال سلطة إال سلطة القانون
والشريعة .إن من يريد بناء مجتمع على أساس الواجبات كمن يريد تشييد مسكن
في سبيل ﷲ " أيھا األخوة المحترمون فوق كثبان من الرمال .أن " الحوار
يحتم رفع كلمة ﷲ والعمل بأحكام ﷲ .فلنعلم أوال ولنقفه آخرا أنه ال إصالح
اجتماعي ومدني بدون اإلصالح السياسي .وإن ال التزام وال صالح بدون اقتناع
الجميع بالعدالة ,وال عدالة بدون نظام ديمقراطي وال نظام ديمقراطي بدون التقاء
مصالح الجميع في خير وصالح المجموعة وأن في تحقيق األنظمة العربية
الديمقراطية التقاء مصالح جميع الشعوب العربية في خير ومصلحة األمة جمعاء
وبذلك فقط تستطيع األمة العربية خوض غمار معركة الرھان الحضاري في عالم
الساعة علم التكتالت ,عالم الحماية االقتصادية والمصالح الوطنية الضيقة .أما
أولئك الذين يأملون تحقيق معجزة الدھر بإمكانيات دولھم المحدودة عددا وعدة ,
فمثلھم كمثل الذي يطمح لھد جيل بفاس .
وأني العتقد جازما أن األمة العربية تعيش حاليا فترة مخاض عسيرة .والواجب
يدعو الطليعة للتمسك بزمام األمور حتى ال تنتھي العملية بإجھاض المولود
181
وبالتالي إلى جر الوطن العربي إلى عھد جاھلي جديد .وليس من المحال أن نكسب
األمة العربية لرھان وتبرز بوجھھا الحقيقي ,وجه خير أمة أخرجت للناس رائدھا
في ذلك خدمة اإلنسانية جمعاء ال مصالح إقليمية ضيقة .
وبادي ذي بدء ,فلتكن لنا في الرأي وأسرتھا خير قدوة على درب النضال الحق .
ولنترك التربية الغذائية إلى وقت الحق ولنبدأ بترميم بنية المجتمع المتداعية وذلك
بمساندة إخواننا الذين يحترقون داخل السجون وخارجھا وفي المنفى بعد أن أقدموا
على التضحية بأنفسھم فداء لنا جميعا ولنشرع في معالجة عقدة الخوف واليأس
عند الجماھير .ولنجعل من الخبز النظيف ھدفا لھا بدل الخبز الملطخ .ولكن حذار ,
وألف حذار أن تكون كالمطاحن التي تصم األذان بجمجمتھا وتبخل بالطحين على
األفواه الجائعة .حافزنا في ذلك ﷲ يمھل وال يھمل .
وﷲ ال يتخلى عن عباده المجاھدين الصادقين .
مع تحيات ابن السباسب
النظـــــام والتخلـــــــــف
الھادي الفقية
إن الھيكلية التي أقام عليھا األستاذ مقالتيه ,والتي أظھرت أوجھا اجتماعية للتخلف
قد وقفت دون التدليل المنطقي على التخلف المطلق للتونسي كظاھرة خاصة به ,بل
ودللت في بعض األحيان على خير ذلك .المؤشر الذي التمسه الدكتور للتدليل على
تخلف التونسي يكمن في سلوك فردي أحيانا ,وجماعي أحيانا أخرى يتسم
بالتناقض مع ما تمليه مثل معينة :مثل الغربي ,وعادات الغربي ,وعادات الغربي
والطقوس االجتماعية للغرب .مع أن التناسب وھاته المثل والعادات والطقوس
,وإن بدأ للدكتور ظاھرة تخلف ,فإنه يبدو لي دليال قاطعا على األصالة والوعي ,
يقول األستاذ :
182
" من البديھي إذن أن الصعوبات المادية ,وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه
العامل الخالق ,والشعور بالغبن ,واستحالة التعبير عنه بطرق قانونية يجعل من
ھذا العمل الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه "
واألستاذ المرزوقي يحمل تبعة التخلف لمجتمع ما ,على المجتمع نفسه ,حيث
يلغي مسؤولية النظام القائم إذ يقول أن نظام الحكم ألي أي بلد ھو إحدى المؤشرات
على تقدم أو تأخر المجتمع وليس أكثر من ھذا .فمن البديھي أن نظام الحكم في
السويد ھو ديمقراطي ألن حالة المجتمع في السويد ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن
تقبل غير ھذا النظام " .
وأجيب األستاذ :متى كان للشعوب السائرة في طريق النمو اختيار ساستھا والنظم
المنصبة عليھا ؟ ھل نسي أعراض بعض الشعوب عن ساسة فرضوا أنفسھم
بالحديد والنار إلى درجة نزوح الواعين والمثقفين منھم إلى ديار الغربة ؟ ثم ماذا
يكون جواب األستاذ لو سألناه عن مدى مسؤولية الشعب األلماني كمجموعة في
الحرب ,عن األعمال البدائية التي قاموا بھا .ھل كان يمكن لھذا الشعب أن يخرج
عن المسار الذي سطره ھتلر ؟ إن لنظام دور فعال في تخطيط المسار الذي تتخذه
المجموعة .والقانون سالح فعال بيد النظام يمكنه من فرض اإلستراتيجية التي
يريد توخيھا أو بلوغھا .وقد يكون لھذا السالح تأثيره الفعال على ماھية أمة كاملة
بحيث ال تمكن مؤاخذة الفرد بدون الرجوع إلى المحيط االجتماعي والسياسي الذي
يعيش فيه .
وبعد فإني أقدم ھاته االحترازات ,فال أدّعي غير ما أص ّر عليه الدكتور ,ولكن ,
حيث يرى المشكل مشكال اجتماعيا يجب معالجته من الداخل بالتوعية والتربية ,
أرى أنه معضلة حياتيه ممالة من الخارج .أن التخلف في تونس ال تطھر أعراضه
لدى الجاھل والمعدم ماديا بنفس الحدة التي تظھر بھا لدى المثقف المحظوظ ماديا
– أسوق مثاال من جملة ما تزخر به حياتنا من الحاالت البالغة الداللة على مدى
سيطرة المادة وتكالب التونسي المعاصر عليھا :المھندس الذي يبيع رخصة
السياقة بطريقة يستحيل – لسبكتھا – مسكه متلبسا .فلو حللنا ھذا المثال ,لرأينا
183
أن المشكل يتعدى حدود شذوذ أو سلوك فردي إلى وضع " سوسير بسيكولوجي "
تطغى فيه المادة وحب الترف والتھالك على المادية وذلك على حساب كرامة الفرد
والمبادئ والقيم – فالغبن ھو غير الغبن عندما يصبح المعيار الوحيد للحكم على
الشخص أوله طاقته المادية .إمكانياته النفعية .إزاء ھذا الوضع ,تختل المقاييس
,وينقسم المجتمع إلى شقين ,فئة نفعية عميلة ديناميكية تبادر بمسك زمام األمور
والمبادرة الحتالل مراكز النفوذ مھما كانت الطرق والضريبة فھي إلى " الوعي "
سباقة ,وأخرى ,رافضة لنمط يتعارض مع مثلھا وتفكيرھا ,فھي ,إذا ال تبلع في
رفضھا قدرا يتحتم عليھا فيه الصدام مع الفئة األخرى ,لتتخبط في " التخلف " .
ولكنھا في " تخلفھا " ھذا ال تبقى مكتوفة األيدي ,بل" تناضل" بطريقتھا ,وعلى
كل الجبھات :في المعمل ,واإلدارة ,والكلية ,وتتوخى طريقة التزييف المتواصل
والبطيء لطاقات األمة :
" التكركير " و" دزان العجلة "
أن التخلف عندنا ھو إذن ليس تنكر آلداب المعاملة وال استخفاف بمستوى القراء
والمستمعين ,وھو أيضا ليس مجرد تعدى ھذا على قانون المرور أو عدم تخفيض
صوت جھاز التلفزة وعدم مراعاة راحة الغير .وإھمال مضيفة لواجبھا في المطار
– إن تخلفنا حقيقة رھيبة مھولة تدخل في استراتيجية الرجل األبيض الذي يعرف
أن خروجنا من التخلف ,معناه القضاء على ديناميكية اقتصادياته ,وتحقيق النمو
عندنا ,ھو خنق طموحاته و محدودية توسيعه ,والوعي عندنا معناه القضاء
الحتمي على حلمه بالسيطرة واإلشعاع .
إن الصراع الذي أمتد إلى كامل حدود أوروبا ,واجتاح العالم بأسره في فترة من
فترات التاريخ المعاصر ,والذي كاد أن يؤدي إلى القضاء على البشرية قاطبة ألكبر
دليل على أن الرجل األبيض في نزوعه إلى السيطرة المطلقة ,ليتوخى طرقا
ووسائل أكبر ما يقال فيھا أنھا تتجاوز محدودية المنطق والمعقول – ولعلني أمام ما
توخوه من وسائل ألغراضھم وھم في أوج نضجھم ووعيھم ,أبقى حريصا على
تخلفي .
184
نصل إذن إلى جوھر الخالف – فحيث يرى األستاذ أن التخلف ظواھر وحقائق
ملموسة ,حيث يقدمھا في شكل استنتاجات في سلوك فردي أحيانا وجماعي أحيانا
أخرى ,أجزم أنا أن التخلف ھو ظرف حياتي ,واختيار خطط له عن سابق إضمار
من طرف قوى ورادات رھيبة تمأل ,أو تسمح لنفسھا التملك في إرادة الجماھير ,
وتكييف مستقبليتھا وتسييرھا حسب مشاربھا ,وتسخيرھا إلى أھداف نفعية لھا .
وھي لھاته األغراض لتسخر أجھزة عمالقة رھيبة إلمالء النظام الخاضع لھا ,
لخلق الظروف المتماشية مع مصالحھا) ولعل التخلف ھو المناخ األفضل لنمو
فيروس التبعية لھا ( ,وبطبع ھوية أصحاب البلد على النمط الذي ترتضيه في
مدارھا .
ھل يعني ھذا أن دور التونسي ينعدم أمام جدار اليأس .إن التحدي ھو أكبر وازع
للتحدي .وقد يكون اليأس أكبر دافع لبلوغ قمم األدب العالمي األستاذ المسعدي
على لسان غيالن " :ليس في الحدود والعراقيل حد واحد وال عقال واحد يعجز عن
كسره العزم " .وقديما نظر حنبعل إلى البحر ,وحلم بما وراءه ,وراوده حلم :لو
استطاع أن يتخطى البحر بخطوة واحدة – ولم يقتصر حلمه عن الحلم .
أما ما أتى في مقال األستاذ المرزوقي ,فھو حديث الوجدان المتأجج .أن حب
التونسي لتونسه ,وغيرته عليھا وإيمانه بأزليتھا ,وتشبثه بانصھاره في ھويتھا ,
لھو أكبر ضمان على رفع التحدي يوما ,وكسب الرھان .
أن المتتبع للمقاالت التي نشرت بجريدة " الرأي " حول موضوع التخلف منذ مقالة
الدكتور المرزوقي حتى ما كتبه لنا األستاذ سعيد يالحظ اتجاھين :
185
(1طرح األول مظاھر التخلف تكاد تكون أخالقية بحتة ما داموا قد قدموا لنا
مجموعة من األخالقيات التي اتسمت بھا بعض المجتمعات " المتقدمة "
ومقابلتھا في مجتمعنا " المتخلف"
(2وفي الجھة المقابلة نجد محاولة تحليلية للبحث عن أسباب التخلف مع
تقديم بعض مالمح الحل في اعتقادي دون الوصول إلى السبب الرئيسي
في نظري .لكن يبقى مقال األستاذ سعيد أقرب إلى صلب القضية خاصة
باعتماده منذ البداية على تحديد لمصطلح التخلف وھو تحديد " مقبول "
في نظري دون أن أقول "علمي " ألني أرفض من يدعون بوجود مفاھيم
" علمية " لبعض المصطلحات من قبيل " التخلف " و "التقدم " و "
الثورة " والتي ھي تحديدات نسبية في نظري ترضخ إلى االنتماءات
اإليديولوجية لواضعي ھاته التحديدات من ناحية ,وفي غياب اديولوجية
لديھم ,ترضخ تحديداتھم إلى انتماءاتھم الحضارية والثقافية والطبقية .
وعلى كل حال ,فإن قضية التخلف لسنا أول من طرحھا أو أنھا لم تطرح قبلنا بل
ھي ظلت الشغل الشاغل للمصلحين منذ أواخر القرن التاسع عشر بصفة عامة ,
وقبل ذلك بصفة نسبية وفي شتى أنحاء العالم اإلسالمي حيث ال حظوا الفارق
الحضاري الذي يفصلھم عن المجتمعات األوروبية .فحاولوا االھتداء إلى األسباب
وعلى ضوئھا وصلوا إلى تقديم أطروحات لحل " أزمة " التخلف .ومن المشاكل
التي خاضوا فيھا أثناء تحليالتكم قضية المصطلحات التي تعكس الواقع العربي ,
وتقفوا كثيرا عند عقبة ترجمة مصطلحات أوروبية أطلقت على وضعية المجتمعات
المتخلفة وأخرى على وضعية المجتمعات المتقدمة .
وطرح القضية آثار جدال بين المھتمين باألمر تواصل إلى يومنا ھذا خاصة وأن
اليوم نشھد فشل بعض الحلول التي أرتاھا األوائل ممن طرحوا القضية .
وملخص ھاته االطروحات ھي :
186
(2أن سبب التخلف يكمن في ھذا النمط من الحكم الذي ساد عصور االنحطاط
والمتميز أساسا بارتباطه بالدين مما خول للساسة آنذاك ممارسة استبداد
سياسي واحتكار للسلطة وعزل الجماھير عن السلطة .
ويقترح أصحاب ھذا الرأي أنظمة بديلة معمول بھا بأوروبا التي أتخذت كمثال لتقدم
يجب النسج على منوالھا ,خاصة وأن أوروبا تسودھا أنظمة ليبرالية وعلمانية
لضرورة .
وھذا التصور مازال سائد اآلن لدى االتجاھات المطالبة بتغير األنظمة السياسية
نحو ديمقراطية غربية أو ديمقراطية شرقية .وكالھما ينطلق من نقطة أن الحل ھو
في تغيير نمط الحكم رغم االختالف الھام في التحاليل والبرامج المقترحة.
(3أما الطرح الثاني فھو طرح تعقيدي تربوي إذ سبب التخلف في نظر رواده
والجھل واالنحطاط األخالقي والحل ھو انتشار التعليم واستبدال األخالق
السلبية بأخرى إيجابية ,ولذلك حاولوا تأسيس المدارس واھتموا
باإلعالم ...
وھذا االستقرار بھاته االتجاھات حاولنا فيه تقديم الصبغة األساسية لالتجاھات التي
وجدت – ومازالت توجد – أثناء طرحھا لقضية التخلف .
والذين يھمنا ھنا ھو األول الذي يحتوي ضمنيا االتجاه الثاني ,خاصة وأن ھذا
االتجاه األول مازلنا نجد المتحمسين له اليوم .وھذا االتجاه يسقط التغيير من القمة
إلى القاعة مقترحا وسائل ومحتويات ضربة في مجتمعات تختلف عنا تاريخيا
وحضاريا وبالتالي نفسيا وعقائديا .ثم ھو ينظر إلى مجتمعنا ويحلل وضعيته على
ضوء المجتمعات المتقدمة وواقعھا .
وھذا الحل وقع تجربته في البلدان اإلسالمية منذ أوائل القرن العشرين إلى اليوم .
فبدأت تركيا منذ سنة 1924بالتخلص من الخالفة وبناء دولة " عصرية " على
أسس علمانية وقومية .وفي بقية البلدان اإلسالمية ,التي خرجت أو تحررت من
االستعمار حسب زعم البعض وخاصة الزعماء ,وجربت األنظمة الليبرالية
187
الدستورية – والجمھورية البرلمانية ..وبعضھا جرب األنظمة االشتراكية "
العلمية " حينا " المؤمنة " أحيانا أخرى .
وما راعنا والتخلف قد أخذ أشكاال أخرى أكثر تعقيدا وخطورة مثل :التبعية
الحضارية والسياسية واالقتصادية وإجبار األمة على استھالك القيم والبضائع
والبرامج المستوردة بالرغم من أن جماھيرنا عبرت عن استحالة ھضم ھاتة
الحلول وواقعھا المتخلف المتردي ينبئنا بذلك .
ومثل ھذا االحتكار البشع المقيت للسلطة من طرف أحزاب ومجموعات عسكرية
تمارس القمع ضد كل من يشتّم منه رائحة المعارضة .
ثم ظھور ردود أفعال ھستيرية تارة كاالنقالبات العسكرية الدامية أو البيضاء .
وتارة جماھيرية مثل الثورة اإليرانية والحركات اإلسالمية المتواجدة في كل البلدان
اإلسالمية رغم االختالف المسجل في حجمھا وتجذرھا ..
الشيء الذي يفسر مدى عدم ثقة األنظمة الحاكمة في نفسھا وفي شعوبھا وتخبطھا
وعدم استقرارھا عل برنامج معين يأبى االنتماء للكتلة الشرقية أو الغربية .
وفي نظري أن ھذا الفشل يعود لألسباب التالية :
(1إن الحلول الليبرالية أو االشتراكية لم ترتبط بالخلفيات الحضارية والعقائدية
وبالتالي النفسية لمجتمعنا إذ أن التقدم األوروبي لم يحصل عن طريق تركيب حلول
– وجدت بمجتمعات تختلف عنه حضاريا وعقائديا –وواقعه ,بل حصل تقدمه
حسب تطور وضعية المجتمع األوروبي الذي له خصائصه الحضارية والعقائدية
والنفسية بل ھي أسس ھذا التقدم ومنطلقاته .
فتجاھل خصائص المجتمع اإلسالمي – وتونس تنتمي إليه طبعا – أو وضعھا في
مرتبة ثانوية من األھمية يعتبر بمثابة الحواجز التي يستحيل تجاوزھا في مسيرة
التنمية والخروج من التخلف .
(2عملية إسقاط الحلول وعدم انطالقھا من داخل الجماھير فعملية اإلسقاط ھاته
يمارسھا من يجھل كيفية تطور المجتمعات األوروبية وبلوغھا الوضعية الحضارية
الحالية .فالتقدم األوروبي لم يحدث بمشيئة األنظمة الحاكمة أو اختياراتھا
188
وبرامجھا المسلطة على الشعب بقدر ما ھو ناتج عن تحركات جماھيرية وصلت
إلى إسقاط أنظمة وفرض أخرى .ولكنه يعلم أن منذ بداية النھضة العلمية
األوروبية ظھرت انتفاضات شعبية ضد وضعيات اقتصادية وسياسية وعقائدية
مغضوب عليھا .
وھنا أطرح السؤال الھام الرئيسي :كيف يمكننا الخروج من التخلف ؟
وجوابا على ھذا السؤال فإني ال أذھب في نفس الخط الذي سار فيه األستاذ سعيد .
إذ أن تحسيس الجماھير بقضاياھا وتشريك حقيقتھا في عملية التقدم ,ووعينا
وتركيزنا على الواقع المتخلف ,ليس ھو الحل بقدر م ھو خطوة نحو الحل أو بعض
مالمح الحل .
فكيف نوعي الجماھير " بكيفية حل مشكالت التنمية والتقدم " ونحن لم نقدم إليھا
بعد الحلول الناجعة لقضية التخلف ؟
وھنا أخلص إلى القول بأن التخلف الذي تعانيه جماھير أمتنا منذ قرون إلى اليوم
ھو نتيجة غياب إيديولوجية تتفاعل معھا الجماھير وتبشر ھاته اإليديولوجية بحل
مشاكل الجماھير وتحقق لھا تطلعاتھا وآمالھا في العدالة والحرية والكرامة دون
إھمال عقائد األمة وتاريخھا ,وتكون الجماھير ھي غاية الخروج من التخلف
ووسيلته .
وبذلك تتفجر مختلف طاقات الشعب لصالحه وبوعي منه الشيء الذي يؤدي إلى
توظيف لك اإلمكانيات المادية والبشرية المتاحة فعال في المجتمع .
ويجب أيضا أن تكون الحلول التي تبشر بھا ھاته اإليديولوجية ال تنطلق من
منطلقات ال تؤمن بھا الجماھير .
ولكن تبقى مسألة توعية الجماھير واقتناعھا بھاته اإليديولوجية وھي مسؤولية
المتبنين لھا والمؤمنين بھا .مع إحاطتھم علما أن محاولة إسقاطھا وفرضھا على
الجماھير من فوق ھي طريق مسدودة ال يمكن حتى مجرد التفكير فيھا .
وبذلك إذا تنطلق التنمية من داخل الجماھير وبوعي وبطلب منھا ,وال بإغراق
الجماھير بالمال أو البضائع والتجھيزات المستوردة أو بتغيير محيطھا الخارجي
189
وھو الذي حدث إلى حد اآلن .
م.س
– طالب
190
" بوكاسا " شي منه وجمال عبد الناصر وغيرھم كثير ,ثم كيف نفسر ظھور
أوروبي أو أمريكي في دول " متقدمة " أمثال ھتلر وترومان ؟؟
لذا ,أعتق أن صالح المحكوم ال يكون إال بصالح الحاكم وحسن نيته ,وعلى ھذا
األساس سأحاول أن أنزل بالحوار من التحليل النظري إلى الواقع مسميا األشياء
بأسمائھا ,متناوال بالحديث ركنا أساسيا لعب دورا ھاما جدا في تخلفنا سخرته
النظم الحاكمة ومازالت تسخره لتوجيه الجماھير الوجھة التي تريد أال وھو وسائل
اإلعالم .
ال أحد ينكر دور أجھزة اإلعالم في المجتمعات المتخلفة باعتبارھا جزءا من بنية
الطبقة المسيطرة تسعى إلى توجيه الرأي العام اتجاھات معينة لخدمة مصالحھا
وتحقيق أھدافھا المتمثلة في المحافظة على سيطرتھا على الطبقات الكادحة بخلق
اھتمامات غالبا ما تكون تافھة توجه إليھا الرأي العام قصد استنفاذ طاقاته فيھا .
وال يترك النظام الحاكم منفذا إال ويطل منه برأسه على الشعب باثا برامجه
المسمومة تارة والمخدرة أخرى قصد تلھية الناس وإبعادھم عن مشاكلھم اليومية
الحياتية ...
وقد كان لإلذاعة الدور الرئيسي في ھذا المجال إذ تعتبرھا نظم الدول المتخلفة ال
وسيلة تثقيف وتوعية وتسلية بريئة بل اتخذت منھا منبرا لشعرائھا وأدبائھا
ومشائخھا ومطبليھا ومزمريھا ,يطلون منه على الشعب يخدرونه بحقن القناعة
والرضاء واإليمان بالمكتوب والقضاء :
أطيع الخليفة ...أطيع والديك
أطيع التنابلة ...دا مفروض عليك
وع ّود عيالك فضيلة الرضا
ألن إحنا طبعا عبيد القضا
وإذا ما جادوا علينا ببعض النشوة فغالبا ما تكون ھذه النشوة ھابطة ھدفھا التخدير
وغسل األدمغة وخلق عالم صوفي كله لذة وأنين وحب حنين وفراق ولوعة
واستعداد للتضحية في سبيل أشياء تافھة .فليس غريبا إذن أن تكون القيمة
191
األساسية في الغناء البورجوازي ما زوشية ,وليس من الغريب أيضا أن يتخذ
النظام البورجوازي من "أم كلثوم " رائدة الفن وست الكل ,فكانت أھرامات مصر
و" طوال نصف قرن تبث في نفوس الناس فضيلة " الرضا بالھوان "
السكوت واالنتظار " والقناعة والقعود والسلبية التامة واالكتفاء بما بين اليدين
حامدين ﷲ شاكرين فضله :
بدأت أم كلثوم حياتھا الغنائية بإنشاد :لي لذة في ذلتي وخضوعي
فكانت بذلك منبعا متدفقا من الذل والخضوع والمازوشية يصب في عقل ووجدان
أجيال وأجيال متتالية من العرب
وطيلة نصف قرن عشنا في حفلة ذكر مرددين مع " تومة " وتحول ھذا " الترديد
" بطول الممارسة إلى مرض مزمن ھو مرض الصبر واالنتظار والتعذب في صمت
والتألم في سكوت ,وعشش فينا ھذا المرض الخبيث فأصبحنا ال نقدر على العيش
دون عذاب أو الحب دون ألم أو االنتشاء دون قسوة ,فإذا ما أحببنا الورد فال
لشيء إال لشوكه :
وحتى حين نغضب ونثور ونريد االنتقام ألنفسنا والتشفي من معذبينا فإننا نتشفى
منھم ألنھم حرموا أنفسھم من أناس يندر أن يجدوا مثلھم في تعذيب ذواتھم
وتحطيم كبريائھم ,إنھم ال شك سيندمون على فراقھم لنا ,سيخسروننا ألنھم لن
يجدوا أمثالنا في التذلل والوجع والرضاء بالذل والھوان .
وحين يرفضون ذلنا ال نتخلى نحن عنه وال ننساه ,بل نحنّ إليه !
كثرة ھذه األمثلة التي تنمي فينا ال فضيلة الرضاء فحسب بل حب الخنوع
واالستسالم والتلذذ واالنتشاء بالعذاب ,ھذه الفضائل التي كانت تحقننا بھا " ست
192
الكل " ,كانت تصور لنا في أغانيھا عالما خياليا صوفيا كله أنين ولوعة وحرقة
وتضحية وآھات من أجل أشياء تافھة .
إنھا كانت تبيع لنا دينا ال تؤمن به ال ھي وال أسيادھا .فبينما تدعونا إلى الرضا
والقناعة واالكتفاء بما بين اليدين كان
" دخلھا اليومي قبل الحرب العلمية الثانية ثالثة آالف جنية يوميا من اإلذاعة
واالسطوانات .والمعروف أن كوكب الشرق تنفق بسخاء لتعيش عيشة بذخ وترف
.فھي تقتني ) اليوم ( مجموعة ثمينة من المجوھرات واألحجار الكريمة لتتزين بھا
في حفالتھا "
لكن األخطر من ھذا كله أن " تومة " استحالة أفيونا يتلھى به الناس ويدخنونه
ليال نھارا .مھربا يلجئون إليه تنصال من مشاكلھم ومن الواقع والھروب من
المسؤولية مسؤولية التعبير والتغيير .
وإذا شئت أن تحفظ نفسك من غضب الشيطان وغدر الزمان ووجه الحكومة وغناء
اإلذاعة الذي يشبه رأي حماتك
) ! ؟ ( فاستمع إلى صوت الجمال يناديك في صوت أم كلثوم .
ويصف أحد عشاقھا حالة الھلوسة التي تنتابھا إذا ما استمع إلى صوت " تومة " ,
قائال " :إذا شئت أن يسقط إليك القمر من السماء أو يصعد إليك من الغدران
فأسھر على صوت سيدة العصر وأشرب العطر من صدور البنات ...ولتغني ما
شاءت وما شاء صوتھا العظيم .فھو الخمر في الدّن في الليل في حانات بغداد " .
وكان المرحوم عبد الحليم حافظ ھو اآلخر جزءا من النسيج المتكامل للعالم
الكلثومي والعالم البورجوازي .فكثرت في أغانيه التأوھات وارتمى مغيره من
الفنانين والمازوشيين في بحر العذاب والحرقة واللوعة واليسر على الشوك
والبلور والمسامير ! ھو اآلخر كان يحترق بنار الحب ويتألم ,ويجد لذة في
احتراقه وألمه ويستحيل إلى تراب تحت أقدام يستعطف ويسترحم .
وكان كلما ابتعد عن معذبه وازداد له حبا وبه تعلقا .ولم يطق صبرا عليه كيف ال
وھو الذي لم يكتف بتعلم فضيلة الرضا فحسب بل لقن فضيلة التلذذ بالظلم والركوع
193
واالنبطاح وخرج بذلك تلميذا نابغا من البورجوازية الحاكمة يبث سموم النشوة في
الذل والذل في النشوة والراحة في الخضوع والتسامح .لذا كان " قلبه أبيض "
فإذا ظلم كثيرا ما ينسي وإذا ما اعتدى عليه كثيرا ما يسامح بل وھو مظلوم يدوس
على كبريائه ويقوم بالخطوة األولى نحو محبوبه .
اجري وأسأل عنك ما قبل ما إنت اتجيني
يعود ليمشي على الشوك والمسامير والحبال ليؤدي دوره على أحسن ما يكون في
ھذا السرك البورجوازي الھابط :
راجع ,راجع ,راجع ثاني راجع بعد الشوق ما ضناني
فوق الشوك ...فوق الشوك
أما إذا تفق أن أفاق من لوعته واتخذ موقفا إيجابيا من األوضاع السائدة فأنه ال
يتعدى البكاء والنشيج أو على األكثر التحسر والتأوه :
ناري يا حبيبي نار
وھذه المواقف في أغلبھا منبثقة عن رؤية شاملة ودقيقة ...ھذه الرؤية تعكس
بوضوح طبيعة الحكم المصري والسلطة المصرية ثم موقفه تجاھھا .
يا سيدي أمرك ,أمرك يا سيدي
ما قدرش أخالفك
ألني عارفك
تقدر تحط الحديد في ايدي
إال أن المطرب الراحل لم يقتصر على ھذا الدور " السلمي " في خدمة
البورجوازية بل تعدى ذلك ليكون بوقا صدّاعا لالشتراكية والحرية على الطريقة
المصرية :
لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت
الليلة حيتنھد ويغني ويموت
يشيلوه قال على لندن
علشان جده ھناك
194
من بعد يتاليم على دخل الشباك
ويھرب أموالك ويقولك :أھواك
يا شعب يا متلوع مانتش القي القوت
ولم تقف الصحافة مكتوفة األيدي تجاه ھذا الوضع بل أدلت بدلوھا مع الجماعة
فكان لھا دورھا المشرف ! في ھذه المسرحية ...وكان لھا نصيبھا في ھذه العملية
,عملية التلھية وغسل األدمغة وتوجيه االھتمام إلى مواضيع تافھة فاتخذت من
الرياضة مثال ال وسيلة تقارب وتعارف وتآخي بل أداة تفرقة وتجزئة متبعة سياسة
" فرق تسد " وكان ذلك يظھر في صفحاتھا األولى بعناوين كبيرة حول " مباراة
الموسم " والمباراة المصيرية " والمباراة الثأرية "
يقول نجم مصورا الدور التضليلي الذي تقوم به الصحافة لتلھية الناس عن
مشاكلھا األساسية :
ال كورة نفعت
وال أونطة
وال المناقشة وجدل بيزنطة
وال الصحافة والصحفجية
شاغلين شبابنا
عن القضية
صص لھا الصفحات والصفحات
كما كانت تعمد إلى استغالل األحداث التافھة فتخ ّ
كاالحتفال بانتخاب ملكة الجمال أو أخبار زوجة كندي أو احتمال زواج الفنان فالن
من الفنانة فالنة مع نشر صور لھما إن أمكن في شكل خليع أبعد ما يكون عن
الذوق الرفيع ,أو خلق مواضيع مفتعلة وتكثيف النقاش حولھا قصد أبعاد الرأي
العام عن االھتمام بمواضيعه األساسية الحياتية :
يحكى أن
والزم يحكى
وكان بإمكان
195
قبل الجنة
كان فيه بيضة
وفرخة كمان
ذبحوا الفرخة ,طبت سارخة
قامت البيضة
طقت شارخة
طقشت فقست فرخ فصيح
يدن ويھلل ويصيح
حتى إن كان على وش دبيح
يفضل يدن لما يموت
توت حاوي
حاوي توت
إال أن خطر الصحافة يبدو محدودا بالمقارنة مع اإلذاعة نظرا لمحدودية المتعلمين ,
إذ تؤكد النتائج األولية للتعداد العام للسكان واإلسكان أن نسبة األمية في مصر ھي
% 56,5معنى ھذا أن أكثر من نصف الشعب المصري ال عالقة له بالثقافة
المكتوبة بل ھناك إحصاء – أقدم قليال – يذھب إلى القول بأن متوسط التوزيع
اليومي للصحف المصرية ال يزيد عن 626ألف نسخة يوميا في وقت كان تعداد
مصر فيه 31.5مليون نسمة .إذن فــ % 3فقط من المصريين ھم الذين يقرءون
الصحف وبالتالي فخطر ھذه الوسيلة محدود خاصة إذا قورن مع اإلذاعة التي تدخل
البيوت دون استئذان فتبث فيھا سمومھا وحقنھا المخدرة ..
سرب اإلعالم البرجوازي إلى وسيلة أخرى من وسائل التثقيف تعتبر مقدسة
كما ت ّ
ھي الكتاب ,فشوه رسالة ھذا األخير ,من التثقيف وفتح أفاق القارئ باعتباره أداة
نوعية وترشيد وإطالع وإثراء إلى أداة ترويح لألفكار االستسالمية والتميّع
واالنحالل ممثلة خاصة في قصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس كما اتخذ
الكتاب بعدا آخر بما ينشره الصحفي " البرو – صھيوني " أنيس منصور في
196
كتاباته وبما يروجه من خزعبالت ومزاعم ضارة وتدجيل وشعوذة محاوال ربطھا
بالعلم واالختراعات العلمية ,فاستمع إليه في كتابه " القوى الخفية " يقول ,
بالحروف الواحد ,في حديثه عن الجراحات الورحية " :إن عددا من المعالجين
الروحيين في الفيليبين قد أذھلوا العالم كله .ففي الفيليبين تتوقف الطائرات الذاھبة
إلى أمريكا والعائدة منھا لترى رجال أسمر نحيفا قد عصب عينيه ,والناس يمرون
أمامه فيضع يده على المعدة أو على القلب أو على الظھر أو على المفاصل بسرعة
غريبة وبعد لحظات يشفى كل إنسان من مرضه ,إن ھذا يجري عمليات جراحية
بأصابعه على البطن ويعيده إلى ما كان عليه " .
ويستطرد قائال " :يحدث ھذا اآلن باندونسيا ..والمجالت الطبية األميركية نصف
ذلك بالتفصيل واألطباء والعلماء أكثر دھشة من المرضى ,وقد صوروا الرجل
وأصابعه ثم كيف يعيده كما كان وكيف يمشي الناس على أرجلھم بعد ذلك دون أن
يصاب أحد بتلوث أو تسمم أو دون أن يموت الناس إن ھذا المعالج الروحي
الفيليبيني ال يستخدم األدوات المعقمة وال غرف اإلنعاش ,إن ھذا يتم يوميا أمام
الناس " .
ونترك للقارئ يتبين بطالن ھذه االدعاءات لبعدھا عن التفكير السليم والمنطق
العلمي ,وبالتالي مساھمتھا في تكوين جيل ) مخرف ( مشعوذ يؤمن بالدجل
والخوارق ومصباح عالء الدين وخاتم سليمان .
أما السينما فحدث وال حرج ,فنظرة بسيطة على األفالم المعروضة في قاعات
السينما تبين مدى انحطاط مستواھا الفني واألخالقي .فمن " الفاتنة والصعلوك "
إلى " الكروان له شفايف " إلى " أبي آخر من يعلم " إلى " عذاب فوق شفاه
تبتسم " سخرية من تفاھة ھذه الجماھير اليائسة المستغلة المعرضة لكل أنواع
العنف الثقافي وغسل األدمغة .
197
بقلم كمال
الذيب
رغم أھمية القضية المطروحة فإنھا لم تستقطب أنظار المثقفين في البالد ,
ولھذا األمر داللة خطيرة .
بقطع النظر عن قيمة المحاوالت التي أسھم بھا بعض القراء فإنھا ذات أھمية
باعتبار أن مجرد اإلحساس بالتخلف والوعي به أمر ذو قيمة .
(2المالحظة الثالثة تتنازل طريقة طرح الموضوع من طرف الدكتور
المرزوقي وتتمثل في كون المحاوالت التي قدمت لم تجب رأسا على
السؤال المطروح – والذي كان من المفروض أن يحدد منھج الطرق – بل
كانت رصدا لبعض مظاھر التخلف العامة والجزئية .
(3أن المسألة المطروحة تستحق في رأيي اھتماما جديا .ونظرا لعدم قدرتنا
على إنجاز عمل أو مساھمة عملية دقيقة في ھذا المجال لظروف
موضوعية ,فإننا نكتفي على كل حال بإبداء بعض المالحظات التي تبقى
بمتطلبات العمل العلمي وكمحاولة منا في المشاركة في ھذا النقاش نرى
أنه يمكن النظر إلى ھذه القضية في محاور ثالثة متكاملة :
(1محور تاريخي تمھيدي
(2محور تحليلي للقضية
(3ومحور نستخلص فيه النتائج ونقترح فيه الحلول .وسأحاول طرح
المحور األول للنقاش اآلن مؤجال المحورين اآلخرين إلى رفص الحقة إذا
أمكن .
(1ھل نحن متخلفون ؟ ..قبل لماذا نحن متخلفون ؟
إن طرح القضية على الصعيد التاريخي والفكري في رأيي ھام .فاستقراء إفراز
الفكر العربي في ھذا المجال أمر ضروري ,والنظر إلى المسألة في محورھا
الزماني أكثر أھمية ألن التطور في النظر للقضية له داللة على مستوى الواقع
198
العربي والواقع الفكري على حد السواء وألن االطروحات التي ظھرت في بداية
النھضة مازالت متواجدة أو لھا أصداء على األقل في الفكر العربي المعاصر وھذا
ما يزيد من طرافة الموضوع وأھميته .ولھذا السبب أري ضرورة ھذا المدخل
التاريخي الفكري قبل الحديث عن القضية في حد ذاتھا .
-أول قضية تواجھنا في استقرائنا للفكر العربي الحديث ھي :ھل كان الفكر
العربي يسلم بواقع التخلف ويعتبره أمر حاصل ؟
أول ما يالحظ أن الفكر العربي الحديث على إثر اصطدامه بالواقع األوروبي الحديث
والقفزة النوعية التي أنجزھا العالم الغربي فكل المجاالت أحس بتغير الموازين
وأدرك أنه أصبح يعيش على وتيرة متخلفة جدا عن العالم الحديث .وزاد من ھذا
اإلحساس قوة ومفاجأة التدخل االستعماري في البالد العربية وامتزاج انبھار
البعض بالغرب ) أكان العربي وربما مازال إلى اآلن يقف مدھوشا أمام منجزات
الحضارة الغربية ويحس بالذوبان واالنسحاق أحيانا (
إال أن المالحظ أن ھذا اإلحساس بالتخلف الذي كاد يحظى بإجماع الجميع قد شد
عليه التيار المحافظ .فقد وجد في بداية النھضة من كان يرى أننا غير متخلفين
أصال ونحن ھكذا على أحسن ما يرام وينتھي إلى القول بأننا شرقيون وتلك طبيعتنا
منذ أقدم العصور .وقد حاول االستعمار تغذية ھذا اإلحساس وتدعيمه ومازال ..
وھذا التيار متكون من اإلقطاعيين الباشوات الذين كان من مصلحتھم إبقاء األمور
على ما ھي عليه حتى يتسنى لھم المحافظة على مصالحھم .قد بين التاريخ كيف
تحالف وتواطأ ھؤالء مع االستعمار إلجھاض حركة البورجوازية العربية النامية
وإجھاض كل فكر عقالني وتجديدي .وقد رأينا كيف وقعت محاربة مواجھة الفكر
الديني الداعي إلى النھضة واليقظة والمحاول لبعض الفكر اإلسالمي على أسس
جديدة .ورأينا كذلك كيف وقع التصدي لطالئع اللبرالية في مصر ثم التصدي
لطالئع االشتراكية ..الخ
فالتيار المحافظ فعل كل شيء من أجل إبقاء األمور على حالھا .ولكن لم يمنع ذلك
من تبلور رؤى جديدة متجاوزة ومختلفة وربما متناقضة ومتصارعة أحيانا ,رغم
199
اتفاقھا كلھا حول واقع التخلف .وسنتعرض إلى ھذه التيّارات بإيجاز مبينين
موقفھا من التخلف .
... (2متخلفون ولكن لماذا ؟
لئن اتفق الفكر العربي الحديث منذ عصر النھضة حول واقع التخلف فإنه عند
تحليله لألسباب اختلف اختالفا جذريا
ولئن اتفقوا جميعا على معارضة اإليديولوجية المحافظة إيديولوجية الالفعل والجبر
,فإنھم اختلفوا جوھريا في طبيعة الفعل الذي يجب أن نقوم به للقضاء على التخلف
أو لتجاوزه
(4رأى البعض أننا متخلفون ألننا تركنا اإلسالم أي أننا أحدثنا قطيعة معه
وبقدر ما نبتعد عن اإلسالم نبتعد عن الصواب وبالتالي نتقدم نحو التخلف
ومقياس التقدم ھو درجة االبتعاد أو االقتراب عن اإلسالم ) الصافي ( أي
عصر اإلسالم الذھبي .ھذا التيار يفسر المسألة بمعادلة بسيطة :تشبث
المسلمون باإلسالم فتقدموا وسادوا العالم وأشعوا فيه– ابتعدوا عنه
فتخلفوا وتشتتوا .ويضعون المسألة على صعيد شكلي ) Shematique
( صارفين النظر عن الظروف التاريخية والحضارية .ويظھر جليا من
خالل ھذه المعادلة كيف أن الحل يبدو واضحا :يجب أن نبدأ من اإلسالم)
نعود إلى اإلسالم فنتقدم ( وھكذا يجد الحاضر أي الواقع العياني المعاش
حله في اللحظة الماضية .
وإلنجاز ھذه العودة إلى اإلسالم وضع ھذا التيار مشروعا بدا في إنجازه ومازال إلى
اآلن :
-النضال ضد االستعمار بشكليه العسكري والثقافي
-العودة إلى التراث وإحيائه
-مشروع تجاوز الخالفات بين الفرق اإلسالمية ولم الشمل للتصدي ألعداء
اإلسالم وتأجيل الخالفات الداخلية
200
وقد أنجز الكثير من الرواد أعماال كثيرة في ھذا االتجاه
وتطور ھذا التيار عبر التاريخ وخاصة في مصر وفي منطقة الھالل الخصيب
وعرف منعرجين في تاريخه :
أ( الحركة األولى :لم الشمل ومحاولة التجاوز األولى
-ارتبط ھذا الفكر في مرحلته األولى بالنضال ضد االستعمار وكان للحافز
الديني أثر فعال في تحريك الھمم ,ومواجھة االستعمار والمحافظين على
حد السواء .
-محاولة عقلنة الشريعة اإلسالمية وإحياء أصولھا ) ولكن من منظور
سني في غالب األحيان (
-قيادة حركة ضد التغريب ورفض قيم الغرب التي بدأت تتسرب إلى الواقع
العربي)ورغم ھذا التيار نفسه قد تأثر بالغرب دون وعي منه أحيانا حتى
في كيفية النظر إلى الدين وكيفية التوفيق بينه وبين الحياة المعاصرة(...
-النضال ضد حركة التغريب التي قادھا بعض المفكرين األوائل من طالئع
البورجوازية .
-إذن حاول ھذا التيار في بداية النضال على 3جبھات :االستعمار –
التغريب الداخلي – المحافظة
وقد سار في ھذه المرحلة األولى شوطا كبيرا في خط العقلنة – وحاول قدر اإلمكان
بناء فكر جديد – قديم في نفس الوقت يستند إلى الشريعة اإلسالمية من ناحية
ويحاول األخذ بعين االعتبار التطورات الحاصلة في الواقع المعاصر .
ب( الرد والتحجر :
على إثر تنامي الحركة الثورية في مصر وبداية ظھور طالئع الفكر االشتراكي الذي
ھدد الفكر الديني في الصميم عرفت الحركة اإلسالمية ارتدادا وتحجرا ظھرا مع
حركة اإلخوان المسلمين سريعا ما أغلقا الباب الذي فتح في بداية الحركة اإلسالمية
.وكان ذلك التصلّب كر ّد فعل ضد ھذا الواقع الجديد ,فأزداد التشبث بمفاھيم
قروسطية والتشدد في فھم وتقدير الشريعة اإلسالمية وعرفت الحركة مسارا جديدا
201
وبرز منھج العنف والتصلب في التعامل مع بقية التيارات فحوكم الفكر الحر وزندق
األباء وكفّر الكتاب وصودرت كتب كثيرة ) حوكم طه حسين وحوكم علي عبد
الرزاق ..الخ( ووقع وزن كل كتاب بميزان اإلسالم ) من وجھة نظر التيار طبعا ( .
وھكذا وقع التيار في طريق مسدود وسقط في لعبة اإلرھاب وكان ھو أولى
ضحاياھا في مصر .فقد برز وكأنه كھنوت جعل من نفسه وصيا على اإلسالم
وأعطى لنفسه الحق في محاكمة الغير والقضاء عليھم إذا تبينت عداوتھم
وخطورتھم وكنتيجة لذلك اضطھد ھذا التيار اضطھادا بشعا لم يعرف التاريخ
العربي مثله .
وال شك أن تلك التجربة القاسية والمريدة التي تعرضھا لھا ھذا القرن في البالد
المصرية خاصة قد أفادته كثيرا واستخلص منھا النتائج والعبر وعاد ليظھر من
جديد في أشكال أخرى وقد تبلورت بعض رؤاه في اتجاه إيجابي نسبيا إال أنه حافظ
على مقوالت كبيرة ال تنسجم ورغبته الجادة في إحداث تغيير إيجابي في صلب
الفكر العربي اإلسالمي الحديث وبقي دون برنامج واضح مسند إلى عموميات
معتبر أن مجرد التصريح بأنه تيار إسالمي كاف لتحديد طبيعته وبلورة رؤاه .مما
جعل أمر نقده وتھجينه سھال على خصومه في كثيرا من األحيان .
وحتى ال ندخل مجال التقييمات السياسية التي ليست موضوعنا اآلن ,نكتفي بھذه
اللمحات التاريخية ونتحول لننظر في الشق المقابل وماذا كان يرى .
-متخلفون ...والحل في الغرب
رأى التيار المقابل وباألخص طالئع المثقفين ثقافة أوروبية والمتأثرين بالمنجزات
العقالنية والعلمانية في الغرب ,رأى ھؤالء أن فھم مسألة التخلف يمر عبر معادلة
بسيطة .
-تقدم الغرب لماذا ؟ وتخلفنا لماذا ؟
تقدم الغرب ألنه نھج نھجا جديدا في الفكر والسياسة والحياة االجتماعية خاصة )
ھؤالء الرواد لم ينتبھوا كثيرا إلى الجانب االقتصادي ,فالذي كان يھمھم ھو الجانب
الفكري الثقافي (
202
تقدم الغرب ألنه حقق الدولة العلمانية بفصله بين الدين والدولة .
تقدم ألنه حصر ميدان الدين وتأثره في المعتقد الشخصي تقدم ألنه بنى الدولة على
أسس عقلية و ديمقراطية ,تقدم ألنه راجع تراثه وتجاوزه ألنه آمان بالعلم و في
الحضارة باالستناد إلى التقنية ..باختصار ألنه اختار العقل .
ولھذا يمكن أن نفھم لماذا نحن متخلفون ,وبالتالي ال حل إال عبر الغرب عبر
سلوكه ومنھجه ..ولھذا ر ّكز ھؤالء الرواد على الفكر الغربي وعلى الجوانب
الثقافية .شارك العديد منھم ومن بينھم حتى أصحاب االنتماءات الدينية في نقاش
طويل حول مفھوم الخالفة ومفھوم الدولة .ھل الخالفة ضرورية ؟ ھل الدين ال بد
أن يرتبط بالدولة ؟ وكرس ھؤالء حياتھم لنھوض بالفكر العربي وعقليته .
إال أن نظرتھم كانت متسرعة ومنبھرة ولم يالحظوا حتى جوانب الضعف في
الحضارة الغربية وبالتالي لم يكن اقتباسھم نقديا ..بل كان دغمائيا في أغلب
األحيان ثم :إن رؤية ھؤالء لقضية الحل كانت في أغلبھا رؤية ال جدلية وال
تاريخية أي أنھا تسقط في التجاوز غير الواقعي ) إرادة تجاوز واقع متخلف
بإسقاط رؤى بعيدة على ھذا الواقع أضف إلى ذلك االفتقار إلى الرؤية المتكاملة
للمسألة للتركيز على الجانب الثقافي (
وھكذا لم يعالج واقع التخلف حتى مع ھؤالء معالجة صالحة ) ..الحل ال ينبثق من
الواقع ومؤشراته بل من رؤى مسقطة ( وھكذا يشترك مع التيار األول في كونه
يقفز عن الواقع بمنھجية أحادية الجانب .
وعلى أية حال -فإن ھؤالء األوائل قد القوا األم ّرين من نضالھم ضد التعصب وتجبر
السلط الدكتاتورية .وقد اسھموا في إخصاب الفكر العربي وفتح نوافذه .ومع ذلك
كانت رؤيتھم محدودة .
-تيارات أخرى ...أكثر تماسكا لكنھا مثالية :
تيارات أخرى ظھرت على الساحة الفكرية واالجتماعية ,تيارات أكثر ثورية
وأكثر منھجية في طرح القضايا ومناقشتھا .إال أنھا جد مثالية .تأثرت ھذه
التيارات بما كان ير ّوج وقتھا من فكر اشتراكي بنوعية العلمي والمثالي وركزت
203
حلولھا وأطروحتھا على الھياكل االقتصادية ورأت الحل في الغرب ) ولكن بعد نقد
الغرب وتعريته ورفض الجوانب المظلمة فيه مثل االستغالل ( ...
إال أنھا بالغت وتطرفت ..أعدمت القوات ورأت ضرورة قطيعة ابستيمولوجية مع
الدين والتراث ..وھكذا سقطت ورفضھا الجسم االجتماعي والحضاري المعنوي
اإلسالمي .
واصطدمت بالحساسية الدينية ..ولم تلق رواجا كبيرا ...فقد كان ھؤالء األوائل من
العلمانيين االشتراكيين متحمسين ولكنھم كانوا يحملون كثيرا .فوقعوا في
مجاوزات كانت سبب عقمھم وعدم قدرتھم على اإلشعاع والتأثير في أوسع
الجماھير ).وسيتطور ھذا التيار في ما بعد ويراجع أطروحته ويبني مفاھيمه
وحلوله على أسس أكثر علمية وواقعية ..
) وھذا يتجاوز حدود موضوعنا ..إذ التزمنا بالحديث عن األوائل ..أي الرواد ( ..
-محاولة توسط ...لكنھا فاشلة ..
بين ھذين النقيضين ظھر جماعة ) ھم من كل التيارات ( رأوا أن مسألة التخلف ال
تحل إال بمحاولة التوسط ..وطرحوا الشعار الذي مازال مطروحا إلى اآلن ولكن في
منظور آخر :األصالة المعاصرة .
وكان ھذا يعني بالنسبة إليھم :االستناد إلى األصل :التراث وعدم التفريط فيه ألنه
ھو الحضور التي يشدنا إلى حضارتنا ,ومحاولة تطعيم ھذا األصل وإثرائه بمفاھيم
المعاصرة :االنفتاح على منجزات الفكر اإلنساني الحديث واقتباس منه كل ما من
شانه أن يعيننا على الخروج من التخلف ) التقنية والعلم (
واعتقد ھؤالء أن التقنية والعلم يمكن اقتباسھما خارج سياقھما الحضاري ...لقد
فتحوا الباب ولكنھم لم يستطيعوا بناء نظرية التوسط على أسس موضوعية ...فقط
كانوا يسقطون كثيرا في التلفيق أو تغليب شق على آخر ) المعاصرة أو األصالة (
فبقيت مسألة التوسط مسألة نظرية أكثر منھا مسألة واقعية ) ربما يرجع ذلك لكون
204
ھذه الطائفة كانت تشمل أفرادا من تيارا مختلفة ) التيار اإلسالمي ,التيار العروبي ,
التيار الليبيرالي ...الخ وكلھا متداخلة (
...المنظور الجدلي لم يوجد وقتھا ..
من خالل ھذا االستعراض الذي طال أكثر مما كنا نضنه ,تتبين لنا مجموعة من
الحقائق :
(2إن الفكر العربي الحديث كان عازما على معالجتھا وسعى فعال إلى طرح
البدائل والحلول .
(3إن الفكر العرب يقد توزع توزعا ملحوظا في أثناء طرحه للحلول .
(4إن جل االطروحات كانت تقفز فوق الواقع ) أما نحو الماضي أو نحو
الغربي أو نحو مثل بعيدة التحقيق (
(5إن الفكر العربي كان يفتقر في النظر إلى مسألة التخلف إلى رؤية جدلية و
متكاملة .فقد كانت االطروحات أحادية الجاني في أغلبھا .
(6إن الطرح من أجل الخروج من التخلف انطبع بحدة كبيرة وصراع بين
التيارات نفسھا وتحولت المجھودات في أغلبھا إلى التناحر بين ھذه
الفئات ,وكان ذلك أمرا طبيعيا .فقد ارتبط الصراع ضد التخلف بالنسبة
إلى كل تيار بالصراع ضد التيارات السياسية المتواجدة معه .
(7الموضوعات التي كانت مطروحة للنقاش بالدرجة األولى ھي
الموضوعات السياسية والفكرية ) الخالفة – الدولة – الديمقراطية –
الحكم ( ...
(8قضية نقطة البداية في الخروج من التخلف تطورت حسب خط تطور
حركة الفكر العربي نفسه :
-في البداية كان التركيز على السياسة
-ثم التركيز على الثقافة
-ثم التركيز على االقتصاد ودائما دون ربط جدلي متكامل .
205
ھذه مجموعة من الحقائق ) رغم سطحية وتسرع عرضھا ( يجب وضعھا في
مكانھا ,وأخذھا بعين االعتبار عند حديثنا عن قضية التخلف ألن معرفتنا بالفكر
العربي الحديث ومناقشته لھذه المسألة تنيرنا وتوضح لنا السبيل وتساعدنا في فھم
ما يجري وفي تفسير االطروحات المعاصرة ومعرفة امتداداتھا وجذورھا وخلفياتھا
.
...ثم أن انطالقنا من ھذا المدخل التاريخي القصير قد يساعدنا على تجاوز المزالق
التي وقع فيھا الرواد .وبالتالي نتمكن إذا نحن عرفنا مواطن الخطأ والضعف أن
ننظر إلى المسألة نظرة أكثر صالبة وأكثر جدوى وفاعلية .وبالتالي أكثر واقعية .
فالفكر العربي الحديث كان في أغلبه ينظر إلى أوروبا نظرة إما مثالية وإما خاطئة )
نظرة الصراع الدائم أو نظرة التضاؤل ( ...وإن نحن حاولنا أن نستثمر محصول
الفكر العربي الحديث في ھذه المسألة فإننا ال شك سنستطيع تجاوز الكثير من
األوھام واألخطاء التي وقع فيھا األوائل .
الفكـــــرة الخطيـــــــــرة
ھشام عطاء ﷲ
منذ نشرنا مقال األستاذ المنصف المرزوقي " المبتذالت العشر وردي عليھا "
وردود الفعل ال تنقطع :عدة رسائل وردت علينا ضمنھا أصحابھا رأيه في المقال
...وبعضھم جاء إلى مقر الجريدة ليعلق عليه وغيره استوقفوا من أعترضھم من
أفراد أسرتي " الرأي " وتكلموا واستفسروا ...
كان ردود فعلھم فسيفساء كما توقعنا أن تكون :ھنا المؤيد المعجب ھناك من قال :
" نعم ...ولكن " ...وھناك الساخط على المقال وصاحب المقال :بعضھم رأي في
ما كتبه األستاذ المرزوقي تجنيا على اإلسالم وھناك من رأي أن صاحبه ال يعدوا أن
يكون بوقا للفكر االستعماري اإلمبريالي ! ...
واستبد الحماس ببعض قرائنا فأطلقوا نعوتا واتھامات ليس ھناك مجال لذكرھا .
206
وليس ھذه أول مرة يثير فيھا إحدى مقاالت الرأي مثل ھذا الضجيج والحركة .إني
أذكر يوم فتح الزميل حمزة األسود باب " اإلسالم والسياسية " فكانت المساھمات
والردود بكثرة التي جعلت المساحة واإلمكانيات تضغط على رحابة صدرنا وتجبرنا
على إغالق ملف كان بودنا أن نمكن أكبر عدد من القراء للمساھمة فيه .
وقد كان لألستاذ المرزوقي نفسه المبادرة في فتح حوار حول ظاھرة تخلف
مجتمعاتنا .وأذكر كم عانى وقضى من الوقت في قراءة سيل الردود التي أثارتھا
آراؤه في ھذه الظاھرة وقد كنا نشرنا العديد منھا وافق أم خالفا ما نشرناه .
أمثلة قليلة سقتھا عن ما يعقب صدور ھذا المقال أو ھذه الدراسة من ردود فعل
ومساھمات ونقاش .
إن للحوار الذي يفتح القرائح التي تتفتق واألقالم التي يستثيرھا ما ننشره لھي
أثمن لدينا من كل رصيد آخر.
ال نرتاح فوق اللزوم إذا ألقيت إلينا ورود االستحسان وال نسخط على من ينتقدنا
ويتھمنا ...وقد نأسف إذا أحد سبّنا ألننا قلنا ماال يالئم رأيه ومزاجه .ولكن ھذا
األسف سرعان ما يمحي عندما نرى أننا قد أثرنا القارئ ودفعناه لكي يحدثنا ويعبر
عن فكره ورأيه وكم ھي قليلة فرص التعبير في بالدنا .
قد ال يعجبك كالم اآلخرين ولكن في استماعك إليه وردك عليه خروج من العزلة
وتطلع إلى آفاق تكون معرفتك لھا دوما أحسن من جھلك لھا .
ويحدث أن يتدنى مستوى النقاش ويحمي وطيسه فيخرج بعضنا عن اللياقة فيشتم
ويتجنى على غيره بطريقة مجانية .ولھؤالء بعض العذر ألن تقاليد الحوار لدينا
مازالت في طور الحمل .وكلكم يعلم أن الحامل يتعكر مزاجھا في أشھر الحمل
األولى وقد يصيبھا الغثيان ,ولكن الجنين إذا كان سليما ولقي من ال رعاية ما يكفي
ينمو ويصل إلى منتھى الرحلة ويبعث رسوال للحياة واألمل .فلنترفق بھذا الجنين
الذي يترصد به من ال رغبة لھم فيه ...أال يكفي أن قانون الصحافة يتحين كل
فرصة الجھاضه كي يحقق حلمه في أسرة إعالمية يسودھا " التنظيم العائلي " ال
يحق العيش فيھا إال للتلفزة وأخواتھا .
207
كلما كتبنا ورددتم ...كل ما حدثتمونا وشرفتمونا بإبالغنا أفكاركم وھواجسكم سواء
وافقت رأينا أم خالفته كان ذلك حافزا جديدا لنا لكي نكتب ونستمع منكم .
ال يحز في أنفسنا أن تخالفونا أو أن تھاجمونا ولكن يحز في أنفسنا أن نراكم
المبالين ...فال شيء يغيظ الطموح مثل الالمباالة .
وألننا نطمح أن نساھم في خلق حوار وحركية فكرية تفجر الطاقات وتنفض الغبار
عن مواھب وخامات عوملت وتعامل باالزدراء حينا وبالتكميم حينا آخر ,فإننا
سنحرص على آثاره ردود فعلكم وقد نغيظ بعضكم ونخالف ما يراه .ونحن نختار
ھذا الرھان الخطير ألنه ال نھضة فكرية بدون تالقح وتصادم ووفاق وخالف .
وقد قال بعضھم " :الفكرة إن لم تكن خطيرة ليست فكرة ! " .
208
209
210