You are on page 1of 211

‫ﳌﺎﺫﺍ ﺳﺘﻄﺄ ﺍﻷﻗﺪﺍﻡ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‬

‫ﺃﺭﺽ ﺍﳌﺮﻳﺦ؟‬

‫ﻣﻨﺸﻮﺭﺍﺕ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺮﺃﻱ‬


‫ﺍﳌﺆﺳﺴﺔ ﺍﳌﻐﺮﺑﻴﺔ ﻟﻠﺼﺤﺎﻓﺔ ‪1982 -‬‬

‫‪0‬‬
‫محتوى الكتاب‬
‫‪-1‬تقديم احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي‬
‫‪-2‬دفاعا عن الذات‬
‫‪-3‬دفاعا عن ج ّدي‬
‫‪ -4‬دفاعا عن لغتي‬
‫‪-5‬بين لعنة المتنبّي وقھقھة موليار‬
‫‪-6‬جيل النّفي‬
‫‪-7‬لمــاذا نحن متخلفون ؟‬
‫‪-8‬المبتذالت العشر وردّي عليھا‬
‫‪-9‬التراث بين التمجيد وسلة المھمالت‬
‫‪-10‬من اجل نظرة موضوعيّة لظاھرة التخلّف‬
‫‪-11‬األمم وصراع البـقاء‬
‫‪-12‬من أجل نظرة موضوعيّة لمفھوم التطور‬
‫‪-13‬لماذا ستطأ األقدام العربيّة سطح الم ّريخ‬
‫‪-14‬ردود القراء‬

‫‪1‬‬
‫ھو الموت إن نحيا شياھا وديعة‬
‫و قد صار كل الناس من حولنا أسدا‬
‫و أن نكتفي باألرض نسرح فوقھا‬
‫و قد ملكوا من فوقنا البرق و الرعدا‬
‫و إن ينشروا في كل أفق بنودھم‬
‫و إن ال نرى فوق السمــك لنـا بنــدا‬
‫تأملت ماضينا المجيد الذي انقضى‬
‫فزلزل نفسي أنــــه انـــھار و انــــھدا‬
‫كيف ا ّمحت تلك الحضارات كلـھا‬
‫و صـارت بـالد أنبـتـتـھا لـھا لحـــــدا‬
‫و صرنا على الدنيا عياال و طالما‬
‫تعلم مــنا أھلــھا الـبــذل و الرفـــــــدا‬
‫إيليا أبو ماضي‬

‫‪2‬‬
‫تقديم‬
‫احمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي‬

‫شجرة غرست بذرتھا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ‪ .‬نبتت و أينعت و اشتد عودھا‪,‬‬
‫ثم ذبلت و تساقطت أوراقھا و جفت فروعھا كما جفت تربتھا ‪ ,‬و توالت العواصف‬
‫تلفحھا لفحا‪ ,‬و كانت أحيانا من الريح السموم التي ما انقطعت يوما عن األرض و‬
‫قد قضت فيما سبق على أشجار كثيرة و غابات كثيرة‪ ...‬لكن شجرتنا ھذه ‪ ,‬رغم‬
‫ھزالھا ‪ ,‬رغم انجرادھا‪ ,‬رغم جفاف فروعھا‪ ,‬و رغم الفؤوس التي ھوت عليھا‬
‫الجتثاثھا‪ ,‬رغم ذلك ‪ ,‬صمدت في وجه العواصف المتتالية و صدت " الحطابين"‪.‬‬
‫و بعد قرون طويلة ‪ ,‬بدأت براعم تظھر على ھذه الشجرة‪ .‬ھي إذن لم تمت ‪ .‬و ألن‬
‫القرون الماضية لم تأت عليھا‪ ,‬فإن القرون القادمة لن تأتي عليھا‪ ,‬بل ستشھد نمو‬
‫تلك البراعم‪ ,‬و ستستعيد الشجرة أوراقھا و نضارتھا‪ ,‬و سيرتاح الناس إلى ظاللھا‪.‬‬
‫ھذه الشجرة المباركة ھي شجرة العروبة‪ .‬سر صمودھا في أصلھا الثابت الذي لم‬
‫يجف ألن عروقه ضاربة في أعماق األعماق‪ .‬أما فروعھا فسوف تصل‪ ...‬المريخ !‬
‫تلك ھي الصورة التي أوحاھا إلى ھذا الكتاب الذي جمع بين الموضوعية العلمية "‬
‫الطبية" و التشريح " الجراحي" القاسي المثير و اإليمان القطعي بالتشافي و‬
‫استرجاع الصحة‪.‬‬
‫ھو إذن عمل فكري ‪ ,‬لكنه الفكر الذي يرفض أن سنحبس ليصبح مجرد آلة‬
‫كمبيوتر‪ .‬و ھل يعيش اإلنسان بالفكر و المادة فحسب ؟ و المنصف المر زوقي‪,‬‬
‫بصفته طبيبا باشر طب األعصاب سنين طويلة يدرك ربما أكثر من غيره قيمة‬
‫الروح و الحس ليتجاھلھما عمل كھذا‪ ...‬و كان الكتاب شحنة قوية من األلم و التأليم‬

‫‪3‬‬
‫عندما يتعلق األمر بتحليل الواقع الراھن و التاريخ ‪ ,‬و من اإليمان " الديني"‬
‫بالقدرة على االنطالق عندما يتعلق األمر باستكشاف اآلفاق‪.‬‬
‫و حبذا أن كان ھذا الكتاب نضالي أكثر منه أكاديميا‪ .‬ألن الذي يھم المؤلف ليس أن‬
‫تلصق به صفة " العلمية األكاديمية" و ھو الذي بلغ أسمى الرتب في مھنته‪ .‬إن‬
‫الذي يھمه ھو أن ينھض العرب كأمة و أن يحتلوا مكانھم تحت الشمس كما يقال و‬
‫أن يشعوا على اإلنسانية من جديد كما أشعوا عليھا فيما مضى‪.‬‬
‫و ھذا " المھم" ليس ھذيان عنده و أال حشر مع المرضى الكثيرين الذين تشتبه‬
‫عليھم الرؤية بالرؤى و يجعلون أحالمھم حقيقة و ھي وھم ‪ ,‬أو الذين أغشت‬
‫بصيرتھم رغبة البقاء في الحكم و اإلبقاء على األوضاع خشية أن يزيحھم التغيير‬
‫فباتوا يلوكون الشعارات العربية قوال و يأتون نقيضھا عمال‪.‬‬
‫من أين جاءت إذن واقعية تفاؤل المؤلف؟‬
‫بسيط !‬
‫* كل عوامل االضمحالل توفرت لتزول ھذه األم العربية ‪ .‬و مع ذلك فھي باقية ‪.‬‬
‫السر ؟ لغة القرآن ! أو إن شئت لغة الضاد و ثورة محمد بن عبد ﷲ ! ھذا فيما‬
‫يتعلق بسر البقاء‪.‬‬
‫* أما ما يتعلق بالمصير الباسم أو حتى الضاحك‪ ,‬فإنه يكمن في ‪ ...‬ألم اليوم الذي‬
‫ھو ليس إال " ألم المخاض" ‪.‬‬
‫و ھذا الكتاب محاولة ‪ .‬و ككل محاولة‪ ,‬ھو مغامرة فكرية‪ ,‬ھو‪ ...‬إبداع‪ .‬و ھو‬
‫مساھمة ثمينة ثرية في الحوار القائم اليوم عن أوضاع ھذه األمة العربية و‬
‫مصيرھا‪ .‬و التحاليل الواردة فيه ليست ذات خط مستقيم‪ ,‬بل ھي خاضعة لــ ‪/‬نابعة‬
‫من أحسن أداة للتحليل اإلجماعي ‪ ,‬و أعني ‪ :‬الجدلية ‪.‬‬
‫و قد يجد البعض في ھذا الكتاب ما ال يروق له ‪ .‬من جانب الملتفتين إلى الوراء أو‬
‫من جانب المتنكرين لماضيھم لكن الكتاب يستھدف النوعية و يستھدف إثارة‬
‫النقاش‪ .‬و جريدة " الرأي" ترحب بكل ما سيثيره ھذا الكتاب من ردود فعل يرغب‬
‫أصحابھا ابلغھا إلى الرأي العام ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫و لقد سبق أن أثارت مقاالت المنصف المرزوقي ردودا عديدة كنا وأوليناھا ما‬
‫تستحق من العناية ‪ .‬و قد أضيفت لتلك المقاالت المنشودة مقاالت أخرى لم يسبق‬
‫نشرھا‪ .‬و ھي التي شكلت جميعھا ھذا الكتاب المتكامل‪.‬‬
‫أحمد الكرفاعي‬

‫‪5‬‬
‫ّ‬
‫الــــــذات‬ ‫دفــــاعــا عـــن‬

‫الذات و االزدراء‬
‫مجلة بيلوت الفرنسية – عدد سبتمبر ‪ ,1976‬تعريف العرب حسب النظرة الغربية‬
‫السائدة ‪ ,‬في قالب السخرية التي تمتاز بھا المجلة‪:‬‬
‫" يلبسون األغطية ‪ ,‬يضعون أكياس على رؤوس نسائھم ‪ ,‬يتشجؤون و يضطرون‬
‫خالل األكل ‪ ,‬يغتسلون بالرمل و يضاجعون األطفال ‪ ,‬يمارسون ديانة بليدة يحاولون‬
‫إلى سود العالم كله‪ ,‬جبناء حقيقيون عندما يحاربون البيض و رغم ذلك ال يترددون‬
‫في نحر بعضھم البعض و في قطع أيادي السارقين منھم ‪ ,‬يضعون القنابل في كل‬
‫مكان يمرون به‪ .‬و يمتلكون كل نفط األرض‪ ,‬يكرھون اليھود ألنھم الوحيدون في‬
‫العالم الذين يمتلكون أنوفا أبشع من أنوفھم‪".‬‬
‫و يكتوي اإلنسان العربي بعمق ھذا االزدراء فيصرخ من أعماقه ‪ " :‬ال ھذا من‬
‫صورتي عندھم و واجب علي أن أحفر ھذا الغزل في ذاكرة األطفال مھما شعروا‬
‫باأللم لعلھم يصبحون على غير ھذا القبح‪".‬‬
‫لكن مأساة العربي اليوم ليست في ازدراء الغير له و إنما في عمق احتقاره لنفسه‪.‬‬
‫إنه لمن الغريب أن تعود إلى بلدك بعد تغرب طال أكثر من عشر سنوات في بلد‬
‫أوروبي تلفظ فيه كلمة عربي كسبة لتواجه على أرض الوطن بنفس االزدراء‪.‬‬
‫تسمع في الطريق كلمات نابية عن مترجل لم يحترم الضوء األحمر‪ " :‬العربي ‪,‬‬
‫عربي " و يواجھك أحدھم و ھو يتحدث عن مظاھر العمل تردئ ‪ ":‬خدمة عرب"‬
‫و تسمع إلى درجة الغثيان المتھكمين على جبن العرب ‪ ,‬و اتفاق العرب على أن ال‬
‫يتفقوا‪ ,‬و أموال العرب التي تصرف في المواخير‪ ,‬و يقول لك العربي مدافعا عن‬
‫نفسه و بلھجة المتحدي‪ " :‬و ماله ‪ ...‬سيدي النبي عربي" و لو اقتصر احتقار‬
‫العرب على الطبقة البرجوازية المتفرنسة التي ترعرعت كسرطان خبيث في بلدنا‬

‫‪6‬‬
‫لھان األمر باعتبار أنھا ليست أكثر من الوجه اآلخر للعنصرية االستعمارية‬
‫المضادة للعرب من قديم الزمن‪ ,‬لكن ازدراء العرب للعرب يطبع حياتنا اليومية و‬
‫في كل ميدان ‪ :‬نحن ال نشتري صناعة عربية ‪ ,‬ال نؤمن بسياسة عربية ‪ ,‬ال نصدق‬
‫حرفا عربيا ‪ ,‬نحن ال نتكلم العربية – ھل ھناك أمة على األرض تعد مائة و خمسين‬
‫ملين نسمة و لھا من العمر خمسة عشر قرنا و تحتل وطنا مساحته تسعة ماليين‬
‫كيلومتر مربع و ترفض استعمال لغتھا في تدريس أبنائھا بجامعاتھا اعتقادا منھا أن‬
‫لغتھا غير قادرة على مواكبة العلم‪...‬‬
‫و تقرأ أدب الشباب و يزداد إيمانك بفظاعة و استثراء ھذه الحالة المرضية‪:‬‬
‫سوداوية مطلقة‪ ,‬شك مطلق‪ ,‬احتقار مطلق للنفس ة الغير‪ ,‬و عندما يصل العربي‬
‫إلى الذروة القصوى من ھذا المرض الخبيث فانك ستراه يبصق بملء فمه على أمته‬
‫‪ ,‬كنزار القباني في قصيدة بلقيس‪:‬‬
‫إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب‬
‫و يأكل لحمنا عرب‬
‫و يبقر بطننا عرب‬
‫و يفتح قبرنا عرب‬
‫فكيف تف ّر من ھذا القضاء‬
‫فالخنجر العربي ليس يقيم فرقا‬
‫بين أعناق الرجال و بين أعناق النساء‬
‫‪..........‬‬
‫لن أقرأ التاريخ بعد اليوم‬
‫إن أصابعي اشتعلت و أثوابي تغطيھا الدماء‪ ..‬ھا نحن‬
‫ندخل عصرنا الحجري‬
‫نرجع كل يوم ألف عام للوراء‬
‫‪..........‬‬
‫سأقول في التحقيق أني أعرف األسماء و األشياء‬

‫‪7‬‬
‫و السجناء‪ ...‬و الشھداء‪ ..‬و الفقراء‪ ..‬و المستضعفين‬
‫و أقول ‪ ..‬أن عفافنا عھر ‪ ..‬و تقوانا قذارة‬
‫و أقول ‪ ..‬أن نضالنا كذب‬
‫و أن ال فرق بين السياسة و الدعارة‬
‫سأقول في التحقيق أني قد عرفت القاتلين‬
‫و أقول أن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين‬
‫و بقتل كل األنبياء ‪ ..‬و قتل كل المرسلين‬
‫‪.............‬‬
‫حتى العيون الخضر‪ ..‬يأكلھا العرب‬
‫حتى الضفائر‪ ..‬و الخواتم ‪ ..‬و األساور‪ ..‬و المرايا و اللعب‬
‫حتى النجوم تخاف من وطني ‪ ...‬و ال أدري السبب‬
‫حتى الطيور تف ّر من وطني‪ ..‬و ال أدري السبب‬
‫حتى المواكب‪ ..‬و المراكب‪ ..‬و السحب‬
‫حتى الدفاتر‪ ..‬و الكتب‬
‫و جميع أشياء الجمال ‪ ..‬جميعھا ضد العرب‬
‫و يكتب الشاعر القصيدة بخط يده‪ ,‬و تنشرھا مجلة عربية ذائعة الصيت و يتلقفھا‬
‫العرب بإعجاب شديد‪.‬‬
‫و احتقار العربي لنفسه عارض المرض المزمن‪ ,‬و الجرح المتقيح ‪ ,‬الذي ينھش‬
‫قواه النفسية و يش ّل طاقاته المكبوتة‪ ,‬لكنه أيضا ألم الشفاء من المرض المزمن‪.‬‬
‫فالعربي ال يحتقر نفسه أي واقعه إال أنه يعلم أن ھذا الواقع ھو نسج من األكاذيب ‪.‬‬
‫أكاذيب السياسية ‪ ,‬و اإلعالم ‪ ,‬و الفكر العميل المأجور ‪ .‬و العربي ال يحتقر نفسه إال‬
‫أنه يعلم أن إنجازاته دون طموحاته‪ ,‬دون طاقاته ‪ ,‬دون مسؤولياته العظمى تجاه‬
‫تاريخه وتجاه مصير اإلنسانية ‪ .‬ويغيب عن عقل العربي وعن وجدانه أنه ظالم‬
‫لنفسه ‪ ,‬ومشدد عليھا وأن آالمه ھي غبار األرض الذي ستترعرع في أديمھا‬
‫شجرة الحضارة المتجددة الشباب ‪ ,‬وعندما تقوى آالمه وتشتد ‪ ,‬وعندما يعوزه‬

‫‪8‬‬
‫الصمود أمام ازدرائه لنفسه وازدراء أعدائه له ‪ ,‬فإنه ستراه يقفز بصفة سحرية‬
‫من فوق ھذا الواقع ‪ ,‬ليدعى أنه خير من مشت به قدم ‪ .‬وبازدياد االزدراء ستراه‬
‫يزايد في أمجاده الحقيقية والوھمية ‪ ,‬وتشبث بھا تشبث الغريق بالقش الطافي على‬
‫بحر الفشل والتقصير‪.‬‬
‫فمن عقدة النقص إلى عقدة التفوق أكان دينية أو شوفينية الصبغة ومن بالبصق‬
‫على الوجه في المرآة إلى النرجسية العصابية ‪ ,‬ويبقى رقاص االضطراب النفسي‬
‫يقفز من حالة قصوى إلى عكسھا حسب الظروف ‪ .‬ومصيبة العربي ليست في‬
‫احتقاره لنفسه ‪ ,‬بقدر ما ھي في وعيه الدائم المؤلم بعجزه‪ ,‬بتقصيره في حق نفسه‬
‫وحق الحضارة ‪ .‬ومصيبة العربي ليست في ادعاء ما ليس له‪ ,‬ما ھي في عجزه عن‬
‫تجاوز عقدة النقص التي أصلتھا قرون التخلف في نفسه ‪.‬‬
‫عقدة النقص وعقدة التفوق ) وھما وجھا نفس القطعة النقدية ( ھما نتيجة خيار‬
‫أحالھما مر ‪ ,‬فرض على اإلنسان العربي‪ .‬فھو مطالب باجترار أمجاد ذھبت مع‬
‫الريح ‪ ,‬وتصديق أجھزة إعالم ضربت أرقاما قياسية في الغباء و االستغباء ‪ ,‬تصور‬
‫له واقعه اليومي كسلسلة من االنتصارات المتتابعة‪ ,‬فإن صدّق ضحية عقدة التفوق‬
‫الوھمي و أن كذب و احتقر ھذه األجھزة التي تحتقره وقع ضحية عقدة نقص ال تقل‬
‫خطورة و وھمية عن العقدة األولى ‪ .‬و ھذا الخيار بين األمرين الذي يجبر عليه‬
‫اإلنسان العربي ناتج عن فقدان المادة‪ -‬الخام األولى‪ -‬الحرية‪ -‬حرية التفكير‪ ,‬حرية‬
‫التقييم ‪ ,‬حرية النقد الموضوعي ‪ ,‬حرية االختيار‪.‬‬
‫وبغياب الحرية تفشى المرض و استثرى و أصبحنا أمة بال بوصلة نفسية‪.‬‬
‫و ھالني استثراء المرض و عنف و خطورة أعراضه و أنا أعود إلى أرض الوطن‬
‫بعد أعوام طويلة قضيتھا في تلك البلدان الغريبة التي تنطق فيھا لفظة عربي و‬
‫كأنھا شتيمة‪.‬‬
‫وقال لي يوم زميل فرنسي ‪ :‬ال تغضب عندما أقول أنك عربي فأنا ال أقصد اإلساءة‬
‫إليك ‪ .‬وكان فعال ال يقصد إھانتي ‪ .‬لكنني ‪ ,‬ووجھت في بلدي ببرجوازية متفرنسة‬
‫لم تأخذ عن الغرب شجاعة جيوردانو برونو ومنھجية فرنسيس بايكون وإنسانية‬

‫‪9‬‬
‫بينال ولم تأخذ عن الغرب حب العمل المتقن والنظام والديمقراطية وإنما أخذت عنه‬
‫أحمر الشفاه والكعب العالي وتعاطي الويسكي واألفالم الخليعة والسيارات الفخمة‬
‫وكانت ھذه البرجوازية اللقيطة الجاھلة تبغي اإلساءة إل ّي وھي تصفني بأنني عربي‬
‫‪.‬‬
‫ومن ثمة كانت المقاالت األولى كتبتھا ألدافع عن الوطن الفقير عن اللغة المقدسة‬
‫المحتقرة ‪ ,‬عن جدي الراعي البدوي الفقير رمز األبطال المغمورين " المحتقرين "‬
‫الذين صنعوا ويصنعون مصير ھذه األمة‪ .‬لكن الدفاع عن الذات ‪ ,‬وعن القيم التي‬
‫تتجذر فيھا ھذه الذات ‪ :‬األرض والتاريخ واللغة ال يمكن أن يشكل ھدفا في حد ذاته‪.‬‬
‫فھو مجرد ردة فعل ‪ ,‬ويبقى الموضوع بعده مطروحا لماذا أصبحنا نزدري أنفسنا‬
‫ولماذا أصبح اآلخرون يزدروننا ‪.‬‬
‫ونحن بأمس الحاجة لطرح الموضوع ولطرحه بھذا الشكل بعيد عن مازوشية عقدة‬
‫النقص ‪ ,‬والتشنجات العصبية لعقدة التفوق ‪ .‬نعم لماذا أصبحنا نزدري أنفسنا لھذه‬
‫الدرجة ‪ ,‬أو باألحرى ماذا صنعنا بأنفسنا و بواقعنا ليصبح مصدر ازدراء؟ ثم يصبح‬
‫السؤال ‪ ,‬لماذا أصبح واقعنا محكوم بھذا اإلعالم ‪ ,‬بھذه الثقافة ‪ ,‬بھذه السياسة ‪,‬‬
‫بھذه الصناعة ‪ ,‬التي نعرف كلنا أنھا أسباب ازدراءنا ألنفسنا وازدراء اآلخرين لنا‬
‫بعبارة أخرى ما الذي حدث حتى أصبحنا على ما نحن عليه ‪ .‬لماذا نحن متخلفون ؟‬
‫وقد حاولت أن أجيب عن ھذا السؤال بعيدا كل البعد عن ازدراء الذات ‪ ,‬وبعيدا كل‬
‫البعد عن المبتذالت التي تروجھا األبواق المأجورة وھي أخطر أعراض مرض‬
‫التخلف الفكري واالنحطاط الحضاري واألخالقي الذي نعاني من آثاره ‪.‬‬
‫والموضوع من األھمية بمكان ‪ ,‬ألن حقيقة التخلف تستعصي على اإلنكار ‪ .‬نحن‬
‫مجتمعات متخلفة‪ .‬وقد نتخاصم في تقييم معايير التقدم والتخلف‪ .‬وقد نقرر أن في‬
‫ھذه المجتمعات الغربية التي نعتبرھا والمقاييس كل النواقص والعيوب ‪ ,‬لكن ھذا‬
‫لن يغير شيء من الواقع ‪ :‬نحن متخلفون ‪ .‬أجھزة إعالمنا متخلفة ‪ ,‬تفكيرنا متخلف‬
‫‪ ,‬جامعاتنا متخلفة‬

‫‪10‬‬
‫) مساھمتھا في الثورة العلمية والتكنولوجية التي تعصف باألرض تساوى صفرا (‬
‫سياستنا متخلفة‪ ,‬اقتصادنا متخلف‪ ,‬إنسان الشارع متخلف ‪ ,‬نسبة وفيات أطفالنا‬
‫تتراوح بين ‪ 80‬و‪ 200‬في األلف والنسبة عندھم من ‪ 1‬إلى ‪ 11‬في األلف ‪ ,‬معدل‬
‫الحياة عندنا خمسون سنة وعندھن ‪ 74‬سنة ‪ ..‬واألمثلة والظواھر ال تحصى وال‬
‫تعدى ‪.‬‬
‫يبق أننا في إطار اإليديولوجيات السياسية السائدة مطالبون بغض الطرف عن‬
‫الظاھرة بإلغائھا سحريا بعدم التعرض ألسبابھا الخفيفة الفكرية والسياسية‪,‬‬
‫وبتصديق التعالت السطحية التي تقدمھا ھذه اإليديولوجيات ‪ .‬ويزداد ازدراء العربي‬
‫لنفسه وھو يعاني من تخلفه ومن إنكار ساسته لھذا التخلف ‪ ,‬أي من الفشل ومن‬
‫تخطيه السحرية ‪ .‬وأقول ‪ :‬يكفي من التدجيل ‪ ,‬من الكذب على النفس والغير‪ ,‬يكفي‬
‫من االنتصارات الوھمية ‪ .‬لنطرح كل المشاكل التي تعترضنا بكل استثناء ‪ ,‬وبدون‬
‫تحفظ لتكون محل نقاش ال ينتھي ‪ ,‬وليكن رائدنا في ھذا النقاش النقد الھادئ‬
‫الصارم الموضوعي ألنفسنا ‪ ,‬لمنجزاتنا‪ ,‬ولتكن الراجعة الدائمة ألنفسنا ‪ ,‬ألعمالنا ‪,‬‬
‫لحقائقنا ومذاھبنا ‪ ,‬واختيارنا ‪ ,‬ديدننا حتى ال نعرف من جديد مأزق التحجر الفكري‬
‫والتخلف السياسي واالقتصادي ‪.‬‬
‫لنكف عن الموت من أجل الشعارات ولتمت الشعارات من أجل أن يح ّي اإلنسان‬
‫العربي ‪ ,‬لنخضع كل شيء للعقل والمنطق ‪ ,‬لنتنقل من مصافي التفكير البدائي‬
‫العاطفي السحري الذي يعتقد أن كلمة شمس تحرق إلى مصافي التفكير العقالني‬
‫الناقد ‪ ,‬الشاك ‪ ,‬الموضوعي ‪ ,‬الحر ‪ ,‬الذي ال يفتر لحظة واحدة عن البحث والتنقيب‬
‫‪ ,‬لنتخلص من التنظيم الھرمي للفكر والمجتمع الذي يشل طاقات األدمغة الخالقة‬
‫ولنستبدله بنظام أفقي يعطي حق الكالم وحق التفكير ألكبر عدد ممكن من ھذه‬
‫األدمغة التي ستجد في تكاتفھا وتعاضدھا القوة الالزمة ال للخروج من التخلف‬
‫فحسب بل لتحقيق المعجزات ذلك ألن قدر اإلنسان وھدف وجوده ھو أن يكون خالق‬
‫ھذه المعجزات ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫وألنني أؤمن بأن ھذا ھو قدر اإلنسان‪ ,‬وألنني أؤمن أن اإلنسان العربي ) وأن‬
‫أقصاه مؤقتا التخلف ( قادر ھو اآلخر على المساھمة في صنعھا فإنني أقول وأدعي‬
‫أنه لن يمضي قرن إال وتطأ األقدام العربية أرض المريخ ‪ .‬وقد يستغرب البعض ھذه‬
‫المقولة خاصة بعد اإلطالع على المقاالت النقدية ‪ ,‬وقد يجدون فيھا ) أي قد تجد‬
‫فيھا عقدة النقص ( مصدرا للتھكم ‪ ,‬لكن استغرابھم لن يكون في محله وتھكمھم )‬
‫على أنفسھم ( سيبدو يوما ما ھو الداعي إلى التھكم ‪.‬‬
‫من أي لي ھذه الثقة وأنا إنسان مثلكم ال يتكھن بالغيب وال يدعي معرفة ما تخبئ‬
‫لنا األقدار ؟‬
‫وأقول ‪ :‬األمل ھو القاعدة العامة في الكون ‪ .‬ووجدنا سلسلة ال تنتھي من المعجزات‬
‫‪ ,‬وكل شيء موجود في ھذا الكون محكوم بقانون االرتقاء والتطور ونحن ال نح ّي‬
‫وال نواجه معضالت الحياة إال بھذا األمل المتمترس في أعماقنا ‪.‬‬
‫أنا وأنت ‪ ,‬نمر يوميا عبر آالف األخطار والمطبات التي علمني الطب عددھا الھائل ‪,‬‬
‫أنا وأنت نواجه الصعوبات وتتابع المشاكل ‪ ,‬نبوء بالفشل ‪ ,‬ونخفق في كثير مما‬
‫نحاوله ‪ .‬ومع ذلك فنحن ننھض صباح كل يوم نعيد الكرة من جديد‪ ,‬نكافح ‪ ,‬نتقدم‬
‫خطوة بعد خطوة ‪ .‬فنحن ال نستسلم أبدا ألن طبيعة الحياة أمل والشعوب ھي‬
‫األخرى حاملة راية ھذا األمل على مستواھا بالطبع والشعوب مثلي ومثلك تتعلم من‬
‫أخطائھا وما أكثر أخطاء العرب – تنظر إلى واقعنا‪ ,‬فنقول واقع التخلف والفقر‪,‬‬
‫والتشتت والعمل الرديء وضياع الكرامة وأقول حقا ذلك ھو واقعنا‪ ,‬ومن التفاھة‬
‫إنكار ھذه الحقيقة ‪ ,‬فتعال نكتشف سر المرض الذي نعاني منه ألن التشخيص‬
‫الصحيح ھو بداية العالج الصحيح‪ ,‬وأضيف ‪ :‬إياك أن تخلط بين اللحظة وبين‬
‫الزمن الذي تشكل اللحظة نقطة منه ‪ ,‬وھذا الخط يمتد من نشأة حمير ولن يتقطع إال‬
‫يوم تلفظ اإلنسانية بأجمعھا أنفاسھا ‪ ,‬نحن أمة تاريخية والتاريخ وحده ھو ساحة‬
‫مھازلنا ومآسينا ‪,‬‬

‫‪12‬‬
‫وألننا متشتتون سنتوحد وألننا فقراء سننعم بالثروة ‪ ,‬وألننا ضعفاء سنعرف القوة ‪,‬‬
‫وألننا ال ننتج علما سننتج علما وتكنولوجيا القرون اآلتية ‪ ,‬وألننا مازالنا عقليا في‬
‫عصر الحمير والجمال ستطأ من ھنا إلى قرن أقدامنا أرض المريخ‪.‬‬
‫كيف‪ ,‬وبسحر أي ساحر ؟ باألمل الذي يشكل عصب الحياة ‪ ,‬بقانون المؤرخ توينبي‬
‫‪ :‬إن الحضارة ال تكون إال أين تكون التحديات‪ .‬والتحديات أمامنا ھائلة لذلك سنخلق‬
‫حضارة على مستوى التحديات التي تواجھنا أي حضارة عظمى‪.‬‬
‫الدفاع عن الذات ‪ ,‬النقد الھادئ الموضوعي والمطلق للواقع واإلسراع بتطويره‪,‬‬
‫الثقة المطلقة في مستقبل اإلنسان ومستقبل ھذه األمة ھي محاور ھذا الكتاب ‪,‬‬
‫محاور حياة كاتب ھذه السطور‪ .‬وألن شيئا في النفس يجزم بأنھا محاور حياتكم‬
‫الخفية أقدم لكم ھذه الخواطر ألنني أعرف أنني عندما أتكلم عن نفسي فإنني أتكلم‬
‫عنكم ‪.‬‬
‫***‬

‫‪13‬‬
‫دفـــــاعــــــــا عـــــن بلــــــــدي‬
‫قال ‪ :‬كيف وجدت البلد بعد طول ت ّغرب‬
‫قالت ‪ :‬الرحيل عذاب والعودة عذاب ونحن جيل النفي قاسينا ونقاسي من العذابين ‪.‬‬
‫عقلي ال ينفك يقارن وأحاول أن أثنيه فال ينثني‪ .‬في عيني بريق الغرب ومفاھيم‬
‫الغرب متمترسة داخل كياني وأنا أريد أن ال أنظر إلى وطني ال يعيني الغربي وال‬
‫بمفاھيمه ومع ذلك ‪ ...‬ومع ذلك ‪...‬‬
‫قال ‪ :‬ھات ما عندك وكفّ عن اللف والدوران‬
‫قالت ‪ :‬فضاضة الجمارك في المطار ‪ .‬عنفوانية سائق التاكسي ‪ .‬عصبية الناس وال‬
‫أقل شراستھم ‪ ...‬انطباعات خاطفة لكنھا األولى‪ .‬وألنھا األولى فإنھا الباقية ‪ ...‬ثم‬
‫تصفعك مظاھر نسيتھا ‪ :‬ھذه القذارة المستثرية في كل مكان قذى في عين تونس‪,‬‬
‫وھذه الالمباالة التي يظھرھا الكل تجاھھا ‪.‬‬
‫وتحاول أن تنسى ‪ .‬لكن مظاھر الفقر المشين لك بالمرصاد أينما ذھبت والفقر كما‬
‫يقول المثل العامي كفر ‪ .‬ويؤلمني ويذلني أن أرى شعبي فقيرا وتزداد تعاستي وأنا‬
‫أعايش كل مظاھر الفوضى ورداءة العمل وقلة االنضباط وانعدام حس المواطنية‬
‫واستثراء الجھوية والعشائرية و حاجتك البن العم و ابن الجھة الستخالص حق لك‬
‫النش و‬
‫ّ‬ ‫الكش و‬
‫ّ‬ ‫و أنا كما تعلم أعاني األمرين من ھذه اإلدارة التي تتسم بأسلوب‬
‫التي جعلت شعارھا " ارجع غدوة"‪.‬‬
‫و صدمتني مظاھر التحجر الفكري و السياسي و قد عودني الغرب على صراع‬
‫األفكار و النقاش الذي ال يفتر أي على كل مظاھر الحرية الفكرية و السياسية‪.‬‬
‫قال ماطّا شفتيه يحاول اختفاء امتعاضه‪:‬‬
‫" الظاھر أنك أنت اآلخر مصاب بمرض االنبتات و ھو مرض ال عالج له سوى‬
‫الھجرة"‬
‫قلت ‪ :‬أنت لم تفھمني أو باألحرى وقفت عند " ويل للمصلين"‪ .‬منذ رجوعي من‬
‫الغربة و أنا إنسان آخر‪ ،‬فأنا بتونس مغرم ‪,‬متيم‪ ,‬عاشق ولھان و لست أدري كيف‬

‫‪14‬‬
‫أشرح لك مشاعري و أنت لم تعرف مرارة الغربة و بالتالي لم تعرف مرضا اسمه‬
‫مرض الحرمان من الوطن‪.‬‬
‫إن الوطن كالفيتامين أو األوكسجين ‪ .‬ال تشعر بخطورته إال عندما تحرم منه ‪ ,‬يؤدي‬
‫النقص منه إلى ظھور داء عضال أعرفه جيدا كطبيب و أعرفه كمريض ‪ .‬أتريد أن‬
‫أعدد لك أعراضه و أن أصف لك حالتك إن أصبت به ؟‬
‫تغادر قومك و جال تقدم رجال و تؤخر أخرى‪ ,‬تصفعك نظرة احتقار شرطي المواني‬
‫) بالمقلوب( يحرجك ترحيبه الساخر " الور محمد‬ ‫و ھو يتصفح جواز سفرك‬
‫بن محمد ال باس؟ "‪.‬‬
‫تدخل جامعاتھم فيشعرونك طال الزمن أو قصر أنھم " عاملين عليك مزية" ‪.‬‬
‫تعترف بفضلھم إلى أن تسمع يوما رئيسھم يقول بمنتھى الصراحة و االحتقار‪" :‬‬
‫علموھم لغتنا ليشتروا بضائعنا" فتفھم أنك لعبة بين أيديھم تبحث عن شغل‬
‫فيتھمونك بأنك تست ّل الخبز من أفواھھم حتى و إن كنت أنت الخباز تتغلغل فيك‬
‫أفكارھم ‪ ,‬أذواقھم‪ ,‬مقاييسھم ‪ ,‬فتضطر يوما للتوقف لتسأل نفسك " من أنا؟ " ‪.‬‬
‫تمشي في شوارعھم النظيفة الجميلة فيستھجنونك ‪ ,‬سمعتك سيئة مھما كنت و‬
‫مھما فعلت‪ ,‬فأنت منھم ككل عربي بأخر عملية اغتصاب وقعت في المدينة‪ .‬بمضي‬
‫الوقت تفقد من دون أن تشعر طابعك ‪ ,‬شخصيتك ‪ ,‬تلقائيتك‪ ,‬بساطتك ‪ ,‬تصبح إنسانا‬
‫حذرا معقدا ‪ ,‬قلقا ‪ .‬يتمكن منك الضيق‪ ,‬يجثم على صدرك كجلمود الصخر الذي‬
‫تحدث عنه ‪ ,‬تشعر باالختناق ‪ ,‬تشعر بأنك على وشك االنفجار من أقاربك و أبناء‬
‫عمك و اخوتك في المنفى من ينفجر‪,‬يدخل معھم في معركة خاسرة‪ ,‬يقع في الفخ‬
‫الذي أعدوه له ‪ :‬أليس العربي عنيفا بطبعه ثم أال يدل العنف المتھم به على صحة‬
‫توقعاتھم و نظرياتھم ؟‬
‫أما أنت فستبحث عن الكرامة و االحترام بكيفية معاكسة ‪ .‬تغالي في التعقل و التأدب‬
‫‪ ,‬تتمكن من إجادة لغتھم أحسن منھم‪ ,‬تبزھم في العلم و الطب في الموسيقى‬
‫الكالسيكية ‪ ,‬تعتلي يوما المنصة لتد ّرس في جامعاتھم فينظرون إليك باستغراب‬
‫مشاب باإلعجاب‪ ,‬ليضيفوا ‪ :‬ھذا من فضلنا عليه‪ -‬لقد يخيل إليك في بعض األحيان‬

‫‪15‬‬
‫أنك اندمجت فتضع تب ّرمك ‪ ,‬قلقك ‪ ,‬ضيقك‪ ,‬كرامتك المجروحة بين قوسين ‪ ,‬إلى أن‬
‫يأتي يوم تفتح فيه الجريدة فتقرأ أن " القھوجي" استقبل زبونا غربيا برصاصة‬
‫أردته قتيال‪ ,‬و أن المحكمة حكمت عليه بثالثة أشھر سجنا مع إيقاف التنفيذ‪ ,‬و أن‬
‫البوليس لم يكتشف إلى حد اآلن ھوية قتلة علي و أحمد ‪ ...‬و بلقاسم‪ ...‬فتغلق‬
‫الجريدة‪ ,‬تذھل عن الوجود ‪ ,‬تغيب في دوامة من المشاعر المبھمة ثم تعود إلى‬
‫رشدك و تفھم أنك كنت تحلم بالوطن‪.‬‬
‫يحاول أوالد الحالل منھم ) و ما أكثرھم( الدفاع عن كرامتك ‪ ,‬عن شخصيتك ‪ ,‬عن‬
‫حقوقك بمنتھى اإلخالص و التفاني و اإلنسانية ‪ ,‬فتقبل منھم بامتنان في البداية‬
‫لكنك ستستثقل إن كنت مثلي سليل أجالف البدو و أشرافھم ‪ .‬ھذا الفضل ‪ ,‬ستضيق‬
‫به ذرعا ‪ ,‬ستفضل عليه عنصرية أعتى العنصريين إذ ال شيء أكره إلي من إثارة‬
‫العطف و الشفقة ‪ .‬فأنا " من بقلبه شمم " حتى و إن لم يعرف " الخيل و الليل و‬
‫البيداء و السيف و القرطاس و القلم"‬
‫تلك ھي بعض أعراض المرض و لكنھا في حالتك أنت الجامعي المحظوظ خفيفة و‬
‫نفسانية بحتة‪ ,‬بل و بإمكانك التخلص منھا بأتم السھولة أن أعرضت نھائيا عن‬
‫ھاته المفاھيم و القيم التي تربيت عليھا ‪ :‬الكرامة ‪ ,‬األصالة‪,‬العروبة الخ‪...‬‬
‫لكن للمرض أبعادا رھيبة عند بعض قومك من العمال و كثير منھم من بموت به ‪.‬‬
‫علمتّني تجربة طويلة في مستشفيات الغرب أن أعراضه عندھم أخطر بكثير مما‬
‫تقاسي‪ ,‬يدخل العربي يوما المستشفى بعد أن أنھكت قواه معركة غير متكافئة ضد‬
‫الفقر و ضد العمل المضني ‪ ,‬ضد الخوف ضد الذل ضد العزلة ‪ ,‬يعتصم بالمستشفى‬
‫كآخر مھرب ‪ ,‬كآخر مالذ يتشبث به كغريق بقشة تطفو على سطح البحر‪.‬‬
‫يسألونه بتجرد يتجرد العلماء عن أعراضه فال يقول " أنا مريض بعملي ‪ ,‬أنا‬
‫مريض بغربتي ‪ ,‬أنا مريض بعزلتي ‪ ,‬أنا مريض بغياب الشمس ‪ ,‬بانعدام الحب ‪,‬‬
‫بقلة االحترام " ألنه ھو نفسه ال يعرف أسباب مرضه ‪ .‬لذلك تراه يترجم " ظھري‬
‫يؤلمني ‪ ,‬مفاصلي ‪ ,‬بطني ‪ ,‬رأسي ‪ ,‬وأخمص قدمي " فيضحكون منه ألنه قاموس‬
‫األمراض ال يعرف وال يعترف باألعراض التي يصفھا العربي ‪ ,‬ويقولون أنھا "‬

‫‪16‬‬
‫ھستيريا النور أفريكان " وأقول لھم وفي فؤادي لوعة ‪ :‬ال إنھا أعراض مرض‬
‫الحرمان من الوطن ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أشفيت من ھذا الداء ؟‬
‫قلت ‪ :‬ال ‪ ,‬الحياة في ھاته البالد الصعبة‪ ,‬لكني أمشي في شوارعھا وقد انزاح عن‬
‫صدري كل ثقل‪ ,‬أمشي فيھا كريما‪ ,‬مرفوع الرأس ‪ ,‬بال خجل ‪ ,‬بال تكلف ‪ ,‬بال حرج‪,‬‬
‫بال عقد ‪ .‬أمشي فيھا بنفسية المالك ‪ .‬فھذه شوارعي وأنا أعمل في مستشفياتھا‬
‫المتواضعة بفرح ‪ ,‬أتعامل مع إدارتھا " الكافكائية " بصبر أيوب ‪,‬أستعمل وسائل‬
‫نقلھا الجھنمية واعيا بأن ھذا أحسن ما قدرنا عليه ‪ ,‬طلقت الرفاھة والسھولة بال‬
‫حسرت وال ندم ألني أشعر بلذة وأنا أقاسم مواطنيھا شظف العيش ‪ ,‬وأنا أقاسمھم‬
‫األمل في الغد األفضل ‪ ,‬أتحمل صراخھم وعصبيتھم وعنفوانيتھم وكل عيوبھم‬
‫الصغيرة والكبيرة بتفلسف ‪ ,,‬أليسوا أھلي ؟ نعم وألف نعم ! ھم أھلي وإن ضنوا بي‬
‫كرام ‪.‬‬
‫منذ رجوعي وأنا أشعر رغم كل المصاعب براحة نفسية ال تتصورھا ‪ .‬أأقول لك‬
‫السبب ؟ أنا مرتاح ألني أعلم أصدق العلم أني إن ضربة يوما على المائدة بقبضة‬
‫يدي صارخا كفى ‪ ,‬فلم يواجھني أحد بتلك الجملة المشھورة التي سمعھا كل العرب‬
‫‪ " :‬إن لم يعجبك ھذا تفضل على بلدك " ‪.‬‬
‫تريدني أن أحب تونس على منجزاتھا ومناخھا وشواطئھا الخ ‪ ...‬لكن الفضائل‬
‫الحقة بال فضائل كما يقول " الوتسو" والحب الحقيقي بال دوافع أو أسباب ‪ .‬وغن‬
‫كان البد من سبب موضوعي لحب تونس فاعلم أنني أحبھا ال لشيء إال ألنھا بلدي‪,‬‬
‫وطني ‪ ,‬أرضي ‪ ,‬ملكي أنا ‪.‬‬
‫حب إلي ألف مرة من قصر أنا خادم فيه أو ضيف ثقيل الظل‬
‫رب كوخ أنا صاحبه ال ّ‬
‫ّ‬
‫على أصحابه ‪.‬‬
‫إيه يا تونس ! !‬
‫يا مسقط الرأس ‪ ,‬يا مثوى األجداد ‪ ,‬يا مستقبل األبناء واألحفاد ‪ ,‬يا ضمان الكرامة‬
‫ومصدر الحياة ‪ ,‬يا قاسية يا حنيّنة‪ ,‬يا أم الجميع ‪ ,‬يا ست الحبايب يا حبيبة " ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫" أشرح الشوق كله أم من الشوق أختصر " ‪.‬‬

‫دفاعا عن جدّي‬
‫في ربوع ھذا البلد الطيب‪ ,‬في قراه ومدنه في أزقته القذرة ‪ ,‬في بيوت القصدير‬
‫المحيطة بعاصمته يوجد منذ وجد الوطن آالف من األبطال المغمورين صنعوا وال‬
‫يزالون ھذا البلد األمين ‪ ,‬بعروقھم ودمھم وتضحياتھم الجسمية ‪ .‬خلت من ذاكرتھم‬
‫كتب التاريخ وغضت التلفزة عنھم الطرف وتناست الصحف أن تذكر يوميا بمآثرھم‬
‫ومناقبھم ‪ .‬لكنني أعلم وتعلمون أنھم عماد الوطن وقوامه ‪ .‬وحتى ال ننسى وحتى ال‬
‫نتھم بالعقوق يجب أن ننتشل من أعماق النسيان بطوالتھم الصامتة ‪ .‬وألن جدي‬
‫حمد البدوي أحدھم فإنني أريد أن أكتب عنه ألنني بكتابتي عنه أعيد إلى السطح‬
‫ذكراھم وھو الذين أخاف أن تنساھم ذاكرة تونس ؟‬
‫كان جدّي فقيرا ‪ .‬فھو لم يمتلك في أحسن أيامه أكثر من جمل واحد وأربعة رؤوس‬
‫من الماعز وحوشا متداعيا في دوز وعشرة نخالت عجاف ‪ .‬وكان يبيت على‬
‫الطوى ويظله أياما إبان السنوات الصعبة وما أكثرھا في حياة حمد البدوي ‪.‬‬
‫وكان وھو في الستين ينھض مع الفجر ليقطع عشرة كيلو مترات يضرب صلب‬
‫األرض ساعات طويلة بمسحاته القصيرة المحدودبة وكأنه ينقّب عن كنز وعدته به‬
‫الحياة و أخلفت‪ ,‬لكنني لم أعرف في حياتي رجال أكثر أرستقراطية منه‪ .‬كان يمشي‬
‫ببطء مرفوع الرأس ‪ ,‬واثق الخطوة صامتا كسماء الصحراء منطويا على نفسه ‪.‬‬
‫وكنت تحسبه وھو يمشي سيد قوم جمعوا الفخر من أطرافه‬
‫لم يكن يضيره أن يلبس األسمال وأن تدمى قدماه من المشي‪ ,‬يوم يجفّ ضرع الناقة‬
‫والماعز ‪.‬‬
‫كانت أنفته خلة طبيعية فيه وكانت أرستقراطيته ال ترتبط بثراء زائل ومجد بقدر ما‬
‫كانت مرتبطة بشيء اسمه الشرف‪ .‬ھذه القيمة التي ال تصرف في البنوك والتي ال‬
‫تحتكر أو تشكل مادة للمضاربة في البورصة‪ ,‬وكان شرف حمد البدوي في حفظه‬
‫للطود الشامخ القرآن ‪ ,‬فكان شرفه في قوله الشعر وفي حفاظه على اللغة الدرية‬

‫‪18‬‬
‫وكان شرفه في شعوره بأنه حلقة من سلسلة تضرب في غور الزمان ‪ .‬كان يقول‬
‫عن االقتناع " بيني وبينه ثالثة وثالثون جدا " يقصد محمد بن عبد ﷲ القرشي )‬
‫ص ( وكان إيمانه بھذا االنتساب فطريا ال تشوبه شائبة وال يخالطه الشك وال ربما‬
‫شكل سر تلك المشية الملكية التي طالما أثارت إعجابي واستغرابي ‪ .‬وتھورت مرة‬
‫ألقول له بحماقة المراھقة وطيشھا‪ " :‬كل العربي يدعون أنھم حفدته ونحن‬
‫المرازيق كما يقول التاريخ مرابطون ولسنا أشراف " وندمت لحظة نطقي بالجملة‬
‫وأنا أقدر فظاعة حرمان الرجل من ھذا الخيط الوھمي الذي يربطه بالجد األعظم ‪,‬‬
‫ومن ھذا اإليمان الذي يشكل سر ھذه األرستقراطية الفكرية التي ال تنضح بھا كل‬
‫حركات الراعي البدوي الفقير ‪ ,‬ولم يصدقني حمد البدوي ‪ .‬ألم يكن حقا سلسله وھو‬
‫الذي يحفظ تعاليمه ويدافع عنھا وينقلھا لألجيال القادمة بدون مشقة أو تكلف‪.‬‬
‫لم يعرف جدي الراحة يوما ‪ .‬فالنخالت العجاف ال تؤتي أكلھا إال بالجھد الجھيد‬
‫وكذلك الحل والترحال في صحاري الجنوب ‪ .‬لكن مأساة حمد البدوي لم تكن ال الفقر‬
‫وال موت الزوجة وال دخول الحرب القرية السالمة بقدر ما كانت حرمانه من االبن‬
‫األوحد ومن الحفيد ‪ .‬فقد طرد الفقر االبن من القرية وھو لم يبلغ الخامسة عشرة‬
‫من العمر فحمل رحله ھو اآلخر باحثا عن الخبز والكرامة وجريا وراء المغامرة‬
‫الدائمة التي لم يكن حبھا الفطري يترك البدوي يستقر في مكان واحد مدة طويلة‬
‫من الزمن ‪ .‬وبذھابه ذھبت فرحت الحياة إلى غير رجعت وقضى حمد البدوي حياته‬
‫ينتظر عودت االبن الشريد وعاد االبن لكن لكي يعاود حله وترحاله في األرض‬
‫تاركا كل مرة الرجل على حزنا مستديم ‪.‬‬
‫كانت فترة حالكة في حياة الوطن والجنوب وحمد البدوي علي حد السواء ‪ ,‬فالوطن‬
‫رازح تحت نير االستعمار والجنوب منطقة عسكرية تتحكم فيھا حثاالت ضباط‬
‫فرنسا وحمد البدوي مشبوه فيه ألن االبن مخرب دستوري يتآمر على األمن العام ‪.‬‬
‫وبتعقب السلطات لالبن المتمرد زادت مخاوف وأحزان الرجل الطيب المسالم ال‬
‫ينقص من مرارتھا سوى فخره الصامت به وإليمانه بأنه خادم الوطن وقائم بواجب‬
‫ال يمكن للبدوي أن يتقاعس عنه ‪ .‬وبلغت المأساة أوجھا في بداية الخمسينات يوم‬

‫‪19‬‬
‫فرضت علينا السلطة العسكرية اإلقامة الجبرية بدوز إلى أن يسلم األب المتمرد‬
‫نفسه وكنا ّ‬
‫إذاك في عطلة الصيف نأتي من قرمبالية ل''دوز'' في زيارة عائلية فإذا‬
‫بنا رھائن القبطان قبلي ‪.‬‬
‫وجن جنون أمي وخافت أن يسلم أبي نفسه لكي يطلق سراحنا وخاف محمد البدوي‬
‫علي الزوجة و األطفال الصغار أكثر من خوفه على نفسه أو على ابنه ‪.‬‬
‫كان الرجل يستيقظ مع الفجر يقطع على القدمين أربع وعشرون كيلو مترا الفاصلة‬
‫بين دوز وقبلي يستعطف القبطان الفرنسي ليطلق سراح عائلة بريئة مقدما نفسه‬
‫بديال عن االبن وكان يعود كئيبا وقد دميت رجاله من المشي ليقول ألمي‪ :‬لقد‬
‫وعدوني خيرا فال تقلقي ‪ .‬ومرت شھور ثالثة وحمد البدوي يقطع الطريق يوما إلى‬
‫أن ضاقوا به وضاقوا بنا فأخلوا لنما الطريق ولن أنس يوما أن قدمي حمد البدوي‬
‫دميت لتعبد لي طريق الحرية ‪.‬‬
‫ورحل االستعمار عن الوطن وظن حمد البدوي أن حلمه سيتحقق وأنه سينعم باالبن‬
‫والحفيد ‪ .‬لكن الحياة قست عليه وكانت قسوتھا ظلما مجحفا متعديا ال تفسير وال‬
‫مبرر له ‪ .‬فقد ولى ابنه الوحيد إلى غير رجعة تارك الشيخ على حزنه األزلي وزاد‬
‫في حسرته الناس الذين عيروه وقت الكفاح بابنه المخرب أعادوا الكرة يعيرونه‬
‫بابنه المھاجر وتالشت إلى األبد ابتسامة الرجل الطيب وماتت فيه كل فرحت ولم‬
‫يجد غير الشعر يبثه لوا عج نفسه الكئيبة وثورتھا الصامت ‪.‬‬
‫ننشد الزمان وينبينا‬
‫رجعش واال بالعدم جافينا‬
‫وفراق الكبيدة مر من يطيقه‬
‫ال بنت عندي وال ولد من غيره‬
‫كل من فرقنا يرزقه بطليقه‬
‫من حال بين البو وضنينه ‪ ...‬إلى آخره ‪.‬‬
‫ومرت العشرية األولى وحمد البدوي يأمل أن تتحقق المعجزة ولم تتحقق ودخلت‬
‫حسرت الفراق عقدھا الثاني وقلت األخبار من بالد المنفى فبعث يعاتب‬

‫‪20‬‬
‫بعث جواب سلم على أحبابه وزاد اصحابه‬
‫من غير على باباه ضاع صوابه‬
‫ال سالم منه ال عاد جوابه يجينا‬
‫ومن فرقته كبدي غدت مرجينة‬
‫وكبر الشيخ وكبر معه حزنه وحفرة الدموع في العينين أخاديد يوم ھاجر الحفيد‬
‫بدوره وكان خيط رفيعا يشده باالبن التائه وتحالف عليه في آخر حياته الفقر‬
‫والمرض وھذه الخصومات الرھيبة التي ال تكون إال بين أفراد العائلة الوحيدة‬
‫فخفت أناته وضعفت صرخاته وكان بھا مكتوما ‪.‬‬
‫وألتھمتني دوامة الحياة وكنت أتذكره بين الفينة واألخرى ببعض المال من المھجر‬
‫الفرنسي شأني في ذلك شأن عشرات آالف من شبان ھذا البلد الذين كانوا يقتطعون‬
‫من المنحة الدراسية أومن أجرة الشھر المتواضعة ما يقي العائلة الرابضة على‬
‫األرض المقدسة شبح الجوع لكنه كان يقول "" ال يبعث ماال وإنما تعال فأنا أذكرك‬
‫طفال يمتطى صھوة جواده من مطھم سعف النخل ‪ ,‬شاھرا سيفه الخشبي على‬
‫أعداء الصحراء وأريد أن أراك رجال أشرف على التخرج فتعال وأسرع ألنني أخاف‬
‫أن تأتي وقد انطفأ النور من عيني وال أراك ‪ ..‬وكنت أعده وأخلف المرة بعد األخرى‬
‫معتقدا بأن ھناك أشياء أھم من تلبية آخر أمنية لحمد البدوي ‪ .‬وانطفأ النور من‬
‫عينيه ثم انطفأت الحياة نفسھا من بين الضلوع وأنا مشغول عنه وعن مأساته‬
‫بمقارعة كواسر الطير وذئاب ھذه الغابات التي نسميھا الدنيا ‪.‬‬
‫مات الشيخ بغصته وحيدا فقيرا وفي قلبه آخر أمنية ‪ ,‬أمنية ما وراء القنوط ما بعد‬
‫اليأس " نحساب في األلحاد ما تنساني توتي عشاي وتعتني باكفاني " ‪.‬‬
‫وحز في نفسي أن يموت حمد البدوي بھذه الكيفية ‪ ,‬أن يموت وھو يعتقد نفسه‬
‫مھزوما وھو يظن أننا نسيناه ‪ ,‬أنني نسيته ‪.‬‬
‫لم أنسى حمد البدوي يوما ‪ .‬حملت صورته وأفرغت لقدميه الداميتين شعبا كاملة‬
‫من فؤادي وحملت بصماته على لساني من حيث أدري وال أدري ‪ .‬فقد تغربت في‬
‫فرنسا خمسة عشر عام ال ادرس إال العلم وبلغة أصحابه لكنني لن أتخلى يوما عن‬

‫‪21‬‬
‫العربي وھي لغة حمد البدوي أخذتھا عنه تكاد تكون فصحى أخذھا ھو عن أجداده‬
‫منذ أربعة عشر قرن نتوارثھا أبا عن جد زمردة ياقوتة إكليل غار‪ ,‬سيدة اللغات‬
‫أشرفھا ‪ ,‬أقدسھا لغة القرآن‪ ,‬لغة جدنا األعظم محمد ابن عبد ﷲ العربي ‪ .‬لم أنسه‬
‫ولم يمت حمد البدوي مھزوما ‪ .‬مات وھو ال يقدر مدى انتصاره ‪.‬لكن أصحيح أنه لم‬
‫يكن يدري ؟‬
‫يوم دخلت المدرج الجامعي المكتظ ال لقي أول درس لي في أمراض األعصاب‬
‫بجامعة سترازبورع خلت روحه حاضرة ومسحت السبورة وأنا ابتسم بمرارة ‪.‬‬
‫أترى ھل كان قبطان قبلي يتصور أن حفيد ذلك البدوي الفقير سيقف يوما على ھذه‬
‫المنصة وتصورت ذھوله لو علم ‪.‬‬
‫واستدرت أواجه مئات الرؤوس الشقراء وھي تحدق باستھجان في األستاذ العربي‬
‫الشاب األسمر ‪ .‬وكنت ال أدري كيف أخفي اضطرابي ووجلي من ھذا المدرج المكتظ‬
‫الذي كان الزمالء يسمنه الكوريدا ويخشون ولوجه إذ قل من كانت أعصابه تصمد‬
‫أمام لجان التشويش وكوماندوس النكتة ومغاوير الصراخ والتصفير ‪ .‬واستنجدت‬
‫بروح الشيخ لتجد من أزري في أول مواجھة لي مع الكوريدا وتراءت لي فجأة‬
‫صورة القرية الرابضة على ضفاف الزمان قلعة للفقر حصنا للمرض تتحدى الدھر‬
‫بأنفتھا وعبرت ذاكرتي كلمح البرق صورة حمد البدوي دامي القدمين يضرب‬
‫األرض العاقر وھو في السبعين بمسحاته الحدباء فتملكتني صورة من الغضب‬
‫البدوي العاتي ‪.‬‬
‫أحسست بكل جوارحي أن علي أن أثأر للقرية ‪ ,‬أن أثأر لحمد البدوي من المسحاة‬
‫من القبطان من الوحدة ومن الفقر ‪ ,‬وأن أثأر لھما على ھذه المنصة بالضبط‬
‫وتعالي الصوت آمرا قاطعا كحد السيف بليغا يشرح العلم ألھله ولم يكن الصوت‬
‫بالطبع صوتي بقدر ما كان صوت أنفة البدو وبالغة البدو وأرستقراطية البدو‬
‫ذكائھم الفطري ‪ .‬واستسلم كوماندوس النكتة وأعلنت لجان التشويش وقف إطالق‬
‫النار وتبخر وجلى وأنا أشعر بروح الشيخ تصفق طربا ‪ .‬وانتھى الدرس ودوى‬

‫‪22‬‬
‫التصفيق طويال ملحا وكانوا يصفقون لروح راع بدوي من صحارى إفريقيا وھم ال‬
‫يعلمون ‪.‬‬
‫كانت مأساة حمد البدوي مأساة عشرات اآلالف من أبا وأمھات ھذا البلد ‪.‬‬
‫كان فقره فقر تونس ‪ ,‬كانت آالمه وه يعاني من البرج وجنوده وقبطانه آالم تونس‬
‫وھي تنتھك يوميا ‪ .‬كان حزنه وھو يشاھد األفق يلتھم االبن ثم الحفيد حزن تونس‬
‫وھي ترى أبناءھا يھاجرون شرقا وغربا بحثا عن خبز أو علم لم تكن قادرة على‬
‫توفيره لھم ‪ .‬كان تمزقه بعد االستقالل تمزق تونس وھي أمام خيارات صعبة ‪ .‬كان‬
‫انتظاره الطويل انتظار تونس ألبنائھا المغتربين ‪ ,‬انتظار األم لفلذات أكبادھا‬
‫التائھين في الضباب ‪ .‬لكن حمد البدوي لم يكن ألم تونس فحسب ‪ .‬كان أملھا أيضا ‪.‬‬
‫فسليل رعاة ابل يجوبون البوادي منذ قرون ال يملكون من الدنيا سوى أسمالھم‬
‫البالية وحيوانات عجفاء وھذه األنفة التي كانوا يتحدون بھا أسياد األرض‬
‫وأصحابھا وھو منعطف في تاريخ البدو ‪ .‬فھو جد لستة جامعين وھبھم لتونس‬
‫مشاركة منه في بزوغ الفجر ‪.‬‬
‫نعم لم يھزم حمد البدوي وكم يحز في نفسي أنه لم يقدر مدى انتصاره ‪ .‬فقد عدنا‬
‫نتدفق في شرايين ھذا الشعب وھذه األمة العظمى دما حيّا وثابتا نساھم في عودة‬
‫الروح إلى الجسد الذي حنطته قرون مظلمة من التخلف ‪.‬‬
‫نعم تنكر منا من تنكر وفر من فر وتبجحوا يتھكمون على األرض المقدسة‬
‫فأنشدتھم أبيات ايليا أبو ماضي ‪:‬‬
‫قالوا رأيناھا فلم نر طيبا * وال ّ صباھا والجمال مع الصبا‬
‫فأجبتھم لتكن بالدي سبسبا * قفرا فلست أحب غير بالدي‬
‫الكوكب الوضاح يبقى كوكبا * ولئن تستر بالدجى وتنقبا‬
‫ليس الضباب بسالب حسن الربي * والبؤس ال يمحو جمال بالدي‬
‫نعم عدنا‪ .‬عاد منا من عاد و ھو ال يحمل من رحلة الشتاء و الصيف إال بعض‬
‫العفش من سقط متاع أوروبا و عاد منا البعض يتبخترون بسيارة معطبة و عاد‬
‫آخرون مثلي تغلي مراجلھم بالغضب من انحطاط ھذه األمة يطالبون بإعادة فحص‬

‫‪23‬‬
‫دفاتر الحسابات لمعرفة المسؤولين عن ھذه الكارثة الحضارية التي أسميناھا‬
‫التخلف و عاد منا من عاد مثقال بالشھادات الجامعية أو بشيء من المال ادخار حياة‬
‫كاملة من العذاب و القھر و التمرد‪.‬‬
‫نعم عدنا بمختلف أھوائنا و مشاربنا بخفي حنين أن بمعارف ال تقدر بثمن لكن‬
‫بفؤاد يطفح حبا لألم تونس و الجد حمد البدوي‪ .‬عدنا نسابق الزمن كي ال يموت‬
‫الجد المھيب بغصته‪ .‬عدنا لنقول أن التضحيات لم تذھب سدى ‪ ,‬إن حثاالت ضباط‬
‫الصف يترنحون سكرا على قارعة الطرقات في بالدھم ‪ .‬إن قبطان قبلي يجتر‬
‫ذكرياته في مأوى العجز أن أبناء الفقراء تعلموا أنھم مصممون العزم على الدفاع‬
‫عن تونس حتى ال تعرف من جديد ذل التخلف و عار التبعية حتى ال يھاجر ابن أو‬
‫حفيد‪ ,‬حتى ال تحفر الدموع أخاديد في عين جد عربي ‪ .‬نعم عدت و عادوا كلھم و‬
‫وجدنا الطريق إلى القرية المنسية و كم من واحد منھم يجوب مثل ھذه الليلة‬
‫المقابر بحثا عن رفات الجد ‪ ,‬بحثا عن منبع كل شيء بحثا عن الجذور‪.‬‬
‫ھا ھو قبر حمد البدوي تضيئه النجوم المتألقة التي طالما اھتدى بنورھا الراعي‬
‫البدوي وھذا القمر الشاحب الكئيب كآبتي ليلة ھذا الموعد الذي وصلته متأخرا‬
‫أجس الرمال التي تغطيه ‪ ,‬ھذه الرمال التي‬
‫ّ‬ ‫سنوات عديدة ‪ .‬ھا أنا أجلس إلى القبر‬
‫حملت خطانا و أعمت أعيننا وتسللت إلى أفواھنا مع كل لقمة منذ فجر التاريخ و‬
‫التي قال في حبّنا لھا نور الدين فارس أحد شعراء جنوبنا األبي المعطاء‪:‬‬
‫ھذى الرمــــال كخلــــــجان مجـمدة * يمتد عبر الفيافي موجھا كثبــا‬
‫نمشي عليھا كمــا نمشي على بسط * مفروشة و نرى ذراتھا ذھبـــا‬
‫ھذه ھي البيـــد أحــالم مجنحـــــــة * ھيــھات تدركھا ركضا و ال خببا‬
‫مھما أدعي الوصف فالصحراء أبلغ * مما قيل في وصفھا شعرا و ما كتبا‬
‫و أمد يدي إلى القبر و كأنني أريد أن أجد منفذا أللمس اليد الطاھرة التي بقيت‬
‫ممدودة سنوات طويلة ال تجد يدا تعانقھا و أجيل نظري أقيس المكان ‪ :‬ھناك سيرقد‬
‫االبن الشريد يوم تجمعه الموت بأبيه حمد و أمه األرض و ھنا يساره سأرقد أنا‬
‫يوما أخرج من المدينة الھمجية بال رجعة يومئذ ‪ .‬سنتدثر بالرمال الدافئة ‪ .‬سيلفّنا‬

‫‪24‬‬
‫الكون بصمت ال يتخلله إال حفيف نخالتنا العشرة و سيھدھدنا في رقدتنا األبدية‬
‫إعصار صحرائنا الخالدة و كأنني بعضالت حمد البدوي المتشنجة تتراخى أذاك و قد‬
‫تالقت األيدي تحت أديم األرض و كأنني بجراحه قد التأمت فجأة و كأنني به يتنفس‬
‫الصعداء و قد جمع الرمل أخيرا ما فرقه الدھر‪.‬‬
‫***‬

‫‪25‬‬
‫دفـــــاعـــا عـــن لغـــتي‬
‫تسمع حواليك في المقھى‪ ,‬في الحافلة‪ ,‬في اإلدارة‪ ,‬في صحن الجامعة‪ ,‬ھذه‬
‫األحاديث و خاصة بھذه اللغة‪:‬‬
‫‪.Alors je lui ai dit , moi tu comprends, ça peut pas durer par‬‬
‫‪exemple-‬‬
‫‪ -‬أنا ‪ ,‬قلت له ‪ ça va pas‬عاد قالي ‪pas content, tu va voir le chef . et‬‬
‫‪Si tu n' es tu lui errapot‬‬
‫‪ -‬و أنت ؟‬
‫‪ -‬و ﷲ ‪ les affaires‬و كنت مفكنص ) من فعل فنكص أي ذھب في‬
‫‪. (Vacances‬‬
‫‪ -‬ما زلت كي شفت ‪ accident‬واحد ماشي كرازاته كميونات رمساوه مورصو‬
‫مورصو‪.‬‬
‫ھذه عينات من لغتنا اليومية الفرانكو أراب ) وتنطق فغانكو أي إن كنت أنثى أو‬
‫سكان األحياء الراقية( نسمعھا في كل مكان ولم نعد نلتفت إليھا أو نعيرھا أدنى‬
‫اھتمام إذ غدت من األمور المسلم بھا ‪ ,‬من البديھيات ‪.‬‬
‫في مركز األعصاب الذي أمارس فيه مھنتي اللغة الشائعة ھي ألفرانكو أراب ‪ ,‬ومع‬
‫ذلك فقد تجاسرت يوما وكتبت نصا باللغة التي يقول عنھا الدستور أنھا لغة البالد ‪,‬‬
‫ال شرح فيه للمرضى المصابين بالصرع سبب المرض وأھمية وطريقة تعاطي‬
‫الدواء بانتظام وطلبت من األطباء المتمرنين الذين يعملون تحت إشراف شرحه‬
‫للمرضى وإعطاءھم نسخة منه لتكون دليلھم في العالج ‪.‬‬
‫لم يفھم جلھم ما ورد في النص من مصطلحات بسيطة والبارحة كانت القشة التي‬
‫قصمت ظھر البعير ‪ ,‬أتتني مقيمة ألفسر لھا النص الغامض ‪ ,‬على شفتيھا ابتسامة‬
‫صخرية ‪:‬‬
‫‪ Vous croy -‬للي باش يفھموا ‪ les malades‬؟‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬المفروض أنھم توانسة يعرفون العربية !‬
‫‪Vous avez traduit‬التاكست ؟‬
‫‪ -‬بل كتبته يا آنسة‬
‫‪ -‬آه بون بالعربي ‪ Vous parlez‬و ‪ Vous savez‬الكتيبة به زادة ) وضحكت‬
‫( لكن أما كان علي أن أبكي ؟ ‪ ,,‬أيه يا لغة المتنبي ماذا فعل بك أھلي ‪.‬‬
‫الظاھرة ‪:‬‬
‫ينص دستورنا بصراحة أن ديننا اإلسالم ولغتنا العربية لكن الواقع المرير يكذب ھذا‬
‫فديننا المادة في أحط معانيھا و لغتنا ألفرانكو أراب وما أدراك ما ألفرانكو أراب ‪,‬‬
‫لغة ھجينة ‪ ,‬لغة القبح والبشاعة والتغرب واالضطراب الفكري والنفسي المؤشر‬
‫على تقدمنا المزعوم وتخلفنا المريع ‪.‬‬
‫لو اقتصر الحديث بھا على بعض البورجوازيين مثل ما ھو الحال في بعض‬
‫المجتمعات الشرقية لھان األمر ‪ ,‬لكنھا لغة تالمذة الثانوي وطلبة الجامعة وموظفي‬
‫اإلدارة وممرضي المستشفيات الخ ‪ ,,‬أي أنھا لغة التخاطب اليومي لقطاعات كبيرة‬
‫من شعبنا ‪ .‬واألخطر من ھذا أن الظاھرة في تفاقم واستفحال مطرد وھي كسرطان‬
‫ينمو باستمرار ينشب مخالبه عاجال أو أجال في ما بقي سليم من لغتنا الوطنية فما‬
‫أن يصل التعليم إلى قطاع من الشعب إال وداھمه ألفرانكو أراب ليسلبه ھو اآلخر‬
‫فصاحة األجداد وسالمة نطقھم بلغة نتوارثھا أبا عن جد منذ خمسة عشرة سنة ‪.‬‬
‫بصراحة أنا أحتقر ألفرانكو أراب وارثي للمتكلمين به وقد كدت أن أظلم يوما طالبا‬
‫بصفر رنان ألنه تجاسر ‪ ,‬وكلمني بلغة المسخ ھذه ‪ .‬وأنا ال أدخل في نقاش مع أحد‬
‫إال وخيرته منذ البداية بين الكالم بلغة الضاد أو بلغة موليار ‪ ,‬وقل من يصمد أكثر‬
‫من خمس دقائق بإحدى اللغتين ‪.‬‬
‫لماذا أكره ھذه اللغة ؟ ألنني أراء فيھا إحدى المظاھر الرئيسية لتخلفنا وإحدى‬
‫المؤشرات الھامة الدالة على ضعفنا ‪ ,‬ال تخاذلنا ‪ ,‬على انھيار أنفتنا وثقتنا بالنفس‬
‫‪ ,,‬على تخلفنا الحضاري وتبعيتنا المھولة ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫لما كنت طالبا في فرنسا قرأت كتابا ألديب فرنسي كبير اسمه اتيامبل بعنوان " ھل‬
‫تتكلم الفرانجلية " ‪ Parler vous Franglais‬وكان حملت شعواء على دخول‬
‫بعض االصطالحات اإلنجليزية إلى اللغة الفرنسية وعددھا ال يتجاوز المائة ووقف‬
‫يوما نائب برلماني فرنسي في السبعينات يخطب في الجمعية الوطنية محتجا‬
‫بصرامة االستعمال المضيفات على متن طائرا فرنسا الجوية لبضع االصطالحات‬
‫اإلنجليزية‪ ,‬ومن ثمة ال غرابة في اعتناء القوم بنقاء لغتھم إذ تقوم األكاديميات‬
‫بحمالت دورية لترجمة آخر المصطلحات العلمية من اإلنجليزية والروسية الخ ‪,,‬‬
‫حتى ال تشوب نقاء اللغة شائبة ‪.‬‬
‫تعال يا اتياميل لتقدر قداحة الكارثة اللغوية التي نعيشھا وسترى الفرق الھائل بين‬
‫دخول بعض الكلمات العلمية للغتكم والزلزال الذي ھشم دعائم لغتنا وجعلھا حطاما‬
‫وأنقاضا ‪,‬ونحن شعب يلم األفعال الفرنسية ‪ ,‬ونصرف فعال " فكنص" ونسحق‬
‫مفاصل الكلمات‪ ,‬ونمزق أوصالھا ونخلطھا ونحورھا ونرصھا داخل جمل تتحدى‬
‫أعقد قواعد النحو وأبسط قواعد الذوق والجمال ‪.‬‬
‫ومرحى لك يا اتيامبل وللنائب الذي قام خطبا في البرلمان ألن مضيفات فرنسا‬
‫الجوية تطاولن على لغة موليير وھنيئا لكما باللغة التي دافعتما عنھا فقد غزتنا في‬
‫عقر دارنا وغزت العالم ألن لھا من يحميھا مثلكما ‪.‬‬
‫أبعاد الظاھرة ‪:‬‬
‫ليست اللغة كما يظن البعض مجرد أداة للتعبير والتخاطب‪ ,‬ھي باألول ثقافة أمة ‪,‬‬
‫ومرآة شخصيتھا‪ ,‬ھي خالصة تجربتھا التاريخية ھي فلسفتھا وتصورھا للوجود‪,‬‬
‫وطريقة تعامله معه‪ .‬ھي قوام وجوده وضمانه‪ ,‬لذلك تحافظ كل األمم على لغاتھا‬
‫وتقدسھا أشد التقديس ألنھا ال تفعل بھذا إال تقديس وجودھا ودوامھا ‪ .‬أن أردت‬
‫احتواء شعب فال تستعمر أرضه وال تستبدل نظامه وإنما أضربه في الصميم‪ :‬في‬
‫لغته في اعتقاداته ‪ .‬بھذا وبھذا فقط ستستطيع األجھزة عليه بالضربة القاضية أنظر‬
‫إلى تاريخ األمم المنقرضة ‪ ,‬لم تختف جسديا‪ ,‬لم تبتلعھا األرض وإنما زالت بزوال‬
‫لغتھا أو دينھا ‪ .‬األمة قادرة على استيعاب كل المخاطر التي تتھددھا لكنھا تموت إن‬

‫‪28‬‬
‫فشلت في الحفاظ على لغتھا‪.‬أين الفراعنة والھنود الحمر الخ ‪ ...‬ھل الحظت أيضا‬
‫أن الشعوب تبادر عندما تبدأ حربھا الشاقة الطويلة الستعادة الذات والشخصية‬
‫باستعادة لغتھا أو ما بقى منھا ‪ ,‬ھل تعلم مثال أن في فرنسا نفسھا حركات ثقافية –‬
‫سياسية تجاھد الحياء اللغات المحلية في مقاطعات الباسك والبروفانس وااللزاس ‪.‬‬
‫ونحن؟ أترى سنصل يوما إلى درجة المطالبة بأحياء العربية في تونس وھل حكم‬
‫علينا لغة ھجينة كلغة جزر الكراييب‪ .‬السؤال مطروح للبحث فھل من مجيب لكن‬
‫على اإلجابة عن السؤال أن تأخذ بعين االعتبار األبعاد الخطيرة للموضوع‪.‬‬
‫فالمسألة ال تتعلق ببشاعة شكل لغوي ھجين بقدر ما تتعلق بخلفيات الفرانكو آراب‬
‫واإليديولوجية السياسية والفكرية التي تشكل المعظلة ‪:‬‬
‫‪ – 1‬التبعية ‪:‬‬
‫كثيرا ما يستغرب بعض الناس من تعصبي للعربية والحال أن األطباء معروفون‬
‫بنفوسھم بل وحتى باإلفراط فيه والسبب بسيط‪ .‬لما ذھبت ألدرس في كلية الطب‬
‫سترازبورغ بفرنسا في أواسط الستينات كنت ال أؤمن إال باللغة والثقافة الفرنسية‬
‫وبھرتني الجامعة وكدت أن أضيع فيھا عن نفسي وعن تراثي وأصولي وكنت‬
‫أقارن طول الوقت‪ ,‬وفي الفؤاد لوعة‪ ,‬بين ثقافة حية عميقة وبين تراث جامد‬
‫متحجر‪ ,‬وآمنت سنوات طويلة بأنه ال خالص لنا إال بالتفرنس السريع فكريا أن لم‬
‫يكن لغويا واضعا الحضارة عندھم والجھل والتأخر عندنا‪ .‬والمضحك أنني كنت‬
‫أشعر بنوع من االمتنان تجاه ھؤالء الفرنسيين الكرام الذي فتحوا لنا أبواب‬
‫جامعاتھم لنغرف من عملھم وأدبھم وأساليبھم في الحياة ‪.‬‬
‫وتداعت كل ھذه التصورات الساذجة يوم قرأت جملة لجورج بومبيدو رئيس‬
‫الجمھورية آنذاك في معرض حديثه عن دور فرنسا الثقافي وأھدافه البعيدة ‪ .‬قال‬
‫الرجل عنا نحن الطلبة األجانب ‪ " :‬علموھم فرنسي ليشتروا فرنسي "’‬
‫‪ Apprenez leur le français pour qu' ils achètent français‬ھكذا‬
‫بمنتھى الفصاحة جرحتني الجملة‪ ,‬فتحت عيني اتضحت لي الحقيقة المرة ‪ ,,‬لم‬
‫يفتحوا لنا أبواب جامعاتھم إال لنشتري فرنسي ) سياسيا اقتصاديا ‪ ,‬ثقافيا ( ونروج‬

‫‪29‬‬
‫بضاعتھم ليجنوا ھم األرباح ‪ .‬وبقيت يوما كامال أزفر من الغيظ ‪ ,‬وخرجت أبحث‬
‫عن الجرائد العربية حتى ال أترك بومبيدو يستعمرني فكريا بعد أن طرده أبي من‬
‫أرضي وكتبت للعائلة أقول لھم ال تبعثوا البقالوة والعصبان والغطاء لمقاومة البرد‬
‫الرھيب ابعثوا إلي الكتب العربية فأنا في حالة خطر ‪ ,‬سيجعلوا مني بائعا متجوال‬
‫للروبافيكا األجنبية وقد بدأت أرطن ‪.‬‬
‫لم يجرفني التيار ألن جملة بومبيدو بما تكنّه من مكيافيلية واحتقار فتحت عيني‬
‫بالقوة ‪ ,‬بل ورددت كيد الرجل عندما جعلت شعاري ‪ :‬تعلم الفرنسية لتبيعھم ) يوما‬
‫( عربي ‪ .‬لكن الواقع الحالي لألسف الشديد يحقق ما تمناه وما خطط له بدھاء‬
‫بومبيدو وأمثاله فنحن بتشبعنا باللغة األجنبية ‪ ,‬وبمفاھيمھا وقيمھا واقعون تحت‬
‫سيطرتھا شعوريا أو ال شعوريا شئنا أم أبينا ذلك ‪ ,‬وبالتالي فإن سيادتنا على أنفسنا‬
‫في كل الميادين ناقصة ‪ .‬خذ مثال الناحية الفكرية للتبعية ‪:‬‬
‫نحن ال ننتج علما ‪ ,‬نحن نقلد ‪ ,‬نحاكي ‪ ,‬ننقل ونستھلك ما يأتي جاھزا ‪ ,‬ال نكلف‬
‫أنفسنا حتى عناء الترجمة واالنتقاء ‪ ,‬وھذا ليس تفتحا أو ھو تفتح من نوع فتح‬
‫باب منزلك ليدخل من يشاء ‪ ,‬وكذلك في الميدان األدبي واإلنتاج السينمائي‪ ,‬كثيرا ما‬
‫ننطق باصطالحات ومفاھيم ال جذور لھا عندنا ‪ ,‬لم نعتن ولم نواكب بروزھا‬
‫وتطورھا‪ .‬ننطق الكلمة‪ ,‬لكننا قلما نتمكن من معناھا العميق الذي يفھمه صاحب‬
‫اللغة تلقائيا ‪ ,‬ومن ثمة التذبذب الفكري والسطحية والخلط بين المستويات ‪.‬‬
‫من البديھي أن ھذا الفكر المضطرب المذبذب ال يمكن أن يكون مبدعا خالقا ‪ ,‬ألن‬
‫الخلق واإلبداع يتطلبان التجذر ‪ ,‬كما يتطلبان روح المبادرة والفرانكو آراب كلغة‬
‫سلبية ‪ ,‬تتراكم فيھا المصطلحات وتتابع وفق ظروف ال تتدخل فيھا أبعد ما يكون‬
‫عن تمكين اإلنسان التونسي من التعبير عن قدراته الخالقة ‪ .‬المضحك أن ھناك من‬
‫يعتقد أن ھذا ثمن التقدم بينما ھو ضريبة التأخر ‪ .‬فلو كنا متقدمين حقا لفعلنا مثل‬
‫الصينيين واليابانيين والكوريين الذين ترجموا ونقلوا كل العلم الحديث إلى لغاتھم‬
‫المعقدة الصعبة ‪ ,‬مع الحفاظ عليھا ومن ثمة على شخصيتھم واستقاللھم الفكري‬
‫والسياسي ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫تصور أن شعوبا ال يزداد تعدادھا على بضعة ماليين نسمة كالشعب الدانماركي‬
‫والنرويجي واالسلندي الخ ‪ ...‬تستعمل لغتھا المحلية في الجامعة ونحن عرب‬
‫المغرب بلغتنا التي ينطق بھا ‪ 150‬مليون نسمة ‪ ,‬عاجزون عن فرض العربية في‬
‫تعليمنا العالي ومعامالتنا اليومية وفينا من يناقش في جدوى استعمالھا متذرعا بأننا‬
‫‪ ,,,‬سنتأخر عن الركب ‪.‬‬
‫اجمع إذن السطحية ‪ ,‬والتذبذب ‪ ,‬والتبعية الفكرية والبشاعة الشكلية التي تشكل‬
‫أبعاد وخلفيات الفرانكو آراب يكون الحاصل حالة ثقافية رديئة ‪ ,‬مع إمكانية الوقوع‬
‫في تبعية سياسية واعية أو ال شعورية ‪ .‬إنّ بومبيدو على حق عندما يفترض أن‬
‫المتكلم بالفرنسية سيشتري تلقائيا فرنسي ‪ ,,‬واالستقالل كما ھو معلوم ال يتم عندما‬
‫يرفع العلم ويعزف النشيد الرسمي وإنما ھو ثمرة كفاح شاق وطويل اختيارات‬
‫األمة النابعة من أعمق حاجياتنا وخصائصھا ‪ ,‬فھل يمكننا الفرانكو آراب من القيام‬
‫بھذا‬
‫‪ – 2‬األسباب ‪:‬‬
‫أسباب تغلغل الفرانكو آراب معروفة بما فيه الكفاية إذ ھي وليدة تضافر عوامل‬
‫موضوعية نتجت عن تخلفنا عن ركب األمم المتقدمة وعن تبعيتنا المطلقة في يوم‬
‫ما ‪ .‬واألھم من التذكير بدور االستعمار سابقا التركيز على الوسائل التي الزالت إلى‬
‫يومنا ھذا تھشم دعائم لغتنا القومية ‪ ,‬مواصلة بذلك ال شعوريا العمل التخريبي الذي‬
‫خطط له المستعمر لما كان يتحكم مباشرة ومن المؤسف أن التعليم ھو إحدى‬
‫الوسائل الرئيسية إلشاعة اللغة البشعة وذلك لألھمية القصوى التي تحتلھا‬
‫الفرنسية في سائر مراحل التعليم ‪ .‬أنا ال أطالب بطبيعة الحال باستئصال جذور‬
‫الفرنسية من برامج تعليمنا في أي مرحلة ألننا بأمس الحاجة إلى لغة ثانية ‪ ,‬لكن‬
‫المطلوب ھو متابعة الجھود المكثفة التي بدأھا السيد محمد مزالي إلحالل العربية‬
‫في المركز األول خاصة في التعليم الثانوي وفي المواد العلمية ‪.‬‬
‫ومن البديھي أن تفرنس جل المواد في التعليم العالي يزيد الطين بلة إذ أصبحت ھذه‬
‫اللغة مرادفا للعلمانية والتقدم ‪ ,‬مما يجعل نخبة البلد المثقفة مضطرة إلى ممارسة‬

‫‪31‬‬
‫الفرنسية والتمكن منھا وھذا يؤدي أوتوماتيكيا إلى الحطّ من قيمة العربية كأداة‬
‫تفتح على العالم المعاصر وتمكن من نتاجات العلم ‪ ,‬ومن ثمة الخلط اإلجباري‬
‫والتذبذب الحتمي بين لغة يفرضھا الواقع وأخرى ترتكز على العاطفة ‪.‬‬
‫والظاھرة الخطيرة التي أدت إليھا حالة االنقسام ھي سيطرة معادلة ال شعورية‬
‫غالبا تجعل من العربية لغة الماضي ولغة الجياشة ‪ ,‬بينما يعھد إلى الفرنسية بأن‬
‫تكون لغة التفتح والموضوعية ‪ ,‬أي أن العربية ضحية مؤامرة خطيرة للغاية حيث‬
‫أنھا أصبحت مرادفا للفكر القديم وربما األجوف ومن المھم جدا أن ننتبه إلى ھذه‬
‫الظاھرة قبل أن تستثري وأن تستفحل والحق أننا نتحمل كلنا ھذه الخطيئة في حق‬
‫لغتنا المقدسة ‪ .‬الحظ مثال دور الصحافة ‪ :‬بصراحة أنا ال أقرأ الجرائد العربية إال‬
‫بكثير من التحفظ والحذر فقد ع ّودتني الصحافة العربية على كثير من األخطاء التي‬
‫أصبحنا ال نقبلھا وأنا كأغلب مثقفي ھذا البلد مدمن على قراءة لوموند ‪ ,‬لماذا ؟‬
‫ألنني أجد في ھذه الجريدة ما أبحث عنه ‪ :‬معلومات ‪ ,‬تحاليل ‪ ,‬أبحاث ‪ ,‬نقاش حر‬
‫الخ … أنا ال أجھل بالطبع كما يقول المثل العامي " ما ثماش قطوس يصطاد لربي‬
‫" وإن لھذه الجريدة مصالحھا وخلفياتھا اإليديولوجية ‪ ,‬لكني مضطر إلى اللجوء‬
‫إليھا ألني ال أجد جريدة عربية في نفس المستوى ‪ .‬لماذا تكون لنا لوموند عربية‬
‫تغذي أجياال كاملة وقطاعات كبيرة من شعبنا ‪ ,‬ھل العربية عاجزة ‪ ,‬أال تستطيع ھي‬
‫األخرى أن تكون لغة التجرد والموضوعية والنزاھة الفكرية والحوار الحر البناء ؟‬
‫ال طبعا‪ ,‬أليس لنا صحافيون من أعلى المستويات ‪ .‬ال طبعا ؟ ھل تنقصنا المادة ؟ ال‬
‫طبعا ‪ .‬السبب إذن ‪ :‬غياب الحرية في أغلب األقطار العربية ‪ ,‬وتشبث كل قطر بطرق‬
‫تفكيره الضيقة وانغالقه على نفسه‬
‫ھكذا ھجرت نخبة المغرب العربي إحدى مظاھر الثقافة العصرية ‪ :‬الصحافة العربية‬
‫‪ .‬وھكذا اضطرت الجرائد الصادرة في تونس والجزائر والمغرب إلى البروز بثوبين‬
‫‪ :‬العربي لعامة الناس والفرنسي للخاصة ‪ .‬وھكذا أصبحت العربية لغة فئة دون‬
‫أخرى تتميز بخصائصھا الثقافية واختياراتھا السياسية بينما ضاعت أقلية في لغة‬
‫أجنبية وسجنت نفسھا فيھا واضطرت كال الفئتين ‪ ,‬كلما أجيرت على التعامل مع‬

‫‪32‬‬
‫بعضھا البعض ‪ ,‬إلى استعمال لغة الجمھورية وسط ‪ :‬الفرانكو آراب ‪ .‬ھذا وتكتسب‬
‫ظاھرة االنقسام والتذبذب أبعادا مخيفة مع ظھور عامل خطير جدا آخر ھو التلفزة ‪.‬‬
‫ھل الحظت مدى التذبذب في البرمجة ‪ .‬نحن البلد الوحيد الذي يختلط فيه الحابل‬
‫بالنابل بھذه الكيفية المدھشة ‪ .‬يبدأ البرامج بالقرآن ثم تليه األلعاب التلفزية‬
‫بالفرنسية ويكون برنامج األطفال بالعربية والفيلم الوثائقي عن أعماق البحار‬
‫بالفرنسية وھكذا إلى نھاية السھرة ‪.‬‬
‫المفروض من المشاھد التونسي أن يكون إذن ملما باللغتين وأن يغير بين دقيقة‬
‫وأخرى من مستوى حضاري ثقافي معين لالنتقال إلى مستوى آخر ‪ ,‬واألھم من ھذا‬
‫ثبوت وتكرار ما رأيناه في الصحافة أي معادلة الفرنسية عادة من مستوى أرقى من‬
‫البرامج العربية ‪ .‬خذ مثال المسلسالت الشرقية – لقد عافتھا حتى خادمات المنازل‬
‫وأصبحت تثير قرف كل الناس ‪ .‬لقد رأيت أمي وھي امرأة ال تترك صالة تنفجر‬
‫ضاحكة أمام تفاھة إحدى الحلقات الدينية وتعلق عليھا بسخرية ملحد من مالحدة‬
‫الجامعات التقدمية ‪ .‬خذ نشرة األخبار باستقباالتھا ‪ ,‬وجوالتھا وخطبھا الخ ‪...‬‬
‫أنا شخصيا ال أسمع نشرة األخبار التلفزية فأعصابي ال تتحمل األصوات الجوھرية‬
‫والبالغة الجوفاء وتكبير الصغيرة وتصغير الكبيرة ‪ ) ,‬آه لو نعلم الدولة بمدى‬
‫األذى تلحقه بمصداقيتھا وسائل إعالمھا البدائية وعمق القطعية الذي تحدثه بينھا‬
‫وبين النخبة المثقفة وحتى عامة الناس ( والنتيجة تذبذب المفاھيم والقيم وتداخلھا‬
‫في عقول الناس ومن ثمة اضطراب النطق يضاف إليه نفور األغلبية المثقفة من‬
‫البرامج العربية التافھة للتعلق بالبرامج الفرنسية وأود اغتنام الفرصة لتنبيه‬
‫المسؤولين عن السياسية الثقافية في بلدنا إلى خطر ما حق يتھددنا ‪ :‬ستصل‬
‫البرامج الفرنسية بعد ‪ 5‬سنوات إلى بلدنا وسنستطيع التقاطھا بسھولة التقاط‬
‫البرامج اإليطالية وفرنسا مصممة العزم مع ألمانيا على استعمال قمر صناعي لبث‬
‫البرامج التلفزية وتغطية مناطق واسعة في أوروبا الغربية ومن المقرر أن يقع‬
‫أتوماتيكيا رش جزء ال بأس به من أفريقيا الشمالية ھل تتصور معنى ھذا ‪,‬‬
‫وترتبابه على األمد البعيد وعلى المستوى الثقافي واالقتصادي ‪ .‬سنتفتح كلنا‬

‫‪33‬‬
‫تلفزتنا اللتقاط البرامج المالية‪ ,‬المستوى أو التافھة ‪ ,‬سنتشبع باإلشھار التجاري‬
‫الفرنسي ‪ ,‬ستغزونا قيم المجتمع الغربي ‪ ,‬سننسى أنا لنا تلفزة قومية ولن تلتفت‬
‫إليھا وإلى مسلسالتھا الحقيرة ونشرات أخبارھا البدائية إال أجھل وأفقر قطاعات‬
‫الشعب وبذلك ستزداد قوة القطيعة عمقا بين قطاعات الشعب وستزداد التبعية لغتنا‬
‫‪ ,‬ولن نجد للفرانكو آراب بديال وتصدق نفس المالحظة على السينما‪ .‬لقد بلغ‬
‫استخفاف المنتجين األجانب بنا أنھم ال يكلفون أنفسھم عناء ترجمة أفالمھم مثلما‬
‫يفعلون عند تصدير إنتاجھم إلى شعوب صغيرة ولكنھا معتزة بلغتھا أما عن‬
‫مستوى ما تنتجه السينما العربية وما تنتجه السينما الغربية فقارن وال تمثل ؟‬
‫ھل فات االوان ؟‬
‫لو بدأنا اليوم سياسة حازمة للدفاع عن لغتنا وتراثنا لتطلب وقف التيار الھدام‬
‫وإصالح الوضعية جيال أو جيلين‪ ,‬أما إذا تركنا الحبل على الغارب فمن المؤكد أننا‬
‫لن نتكلم بعد قرن إال الفرانكو آراب تاركين العربية للمناسبات وللكتابة في الجرائد‬
‫والمجالت ولمذيع التلفزة وخطبه اإلخبارية التي قد لن يفھمھا ولن يسمعھا إال‬
‫بعض األشخاص ‪ .‬والمشكل المطروح حاليا ھو ‪ :‬ھل نحن على استعداد لمواجھة‬
‫ھذا الخطر وخاصة ھل نحن واعون بما فيه الكفاية إن ھناك خطرا يتھددنا ‪ .‬أنا‬
‫أعلم أن مجھودات جبارة تجري إلعطاء العربية مكانتھا ) كما أعلم أن ھناك‬
‫مقاومات عنيفة ضد ھذه المجھودات ( وأعلم أيضا أن للعربية في تونس أنصارا‬
‫من الطراز األول لن يسمحوا أبدا بالتطاول على لغتنا المقدسة‪ ,‬يبد أنني رغم ھذا‬
‫متشائم ألنني أرى الفرانكو آراب يستشري يوما بعد يوم ‪ ,‬كما أالحظ في إطار عملي‬
‫بالجامعة ضعف الطلبة المشين باللغتين وفساد نطقھم وتذبذب أفكارھم وسطحية‬
‫استعمالھم للفرنسية والعربية على حد السواء ‪.‬‬
‫وأرى أن الوضعية الحالية سيئة للغاية وإننا إن لم تتكاتف نحن أنصار و محبى‬
‫العربية في ھذا البلد فإنھا قد تزداد سوءا‪.‬‬
‫إن كسر شوكة الفرانكو آراب والحد من آثامه الشكلية واإليديولوجية يتطلب‬
‫مواصلة وتكثيف المجھودات ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ – 1‬على الصعيد اإلداري ‪:‬‬
‫أنا مضطر للتعامل مع وزارة الصحة بالفرنسية ‪ ,‬لماذا ؟ يجب أن يدخل التعريب‬
‫كافة اإلدارة ‪.‬‬
‫‪ – 2‬على الصعيد التربوي ‪:‬‬
‫يجب تعريب التعليم وحتى التعليم العالي والعذر القائل بأن ھذا سيؤدي إلى االنغالق‬
‫وتدھور المستوى مرفوض جملة وتفصيال ‪ .‬فالتجربة تثبت أن التذبذب اللغوي ھو‬
‫الذي يؤدي إلى تدھور المستوى ‪ .‬ھذا ال يعني أنه يجب التخلي عن لغة أجنبية بل‬
‫بالعكس فأنا شخصيا من أنصار إدخال أكبر عدد ممكن من اللغات ‪ .‬مثال يمكن أن‬
‫نبدأ في االبتدائية تدريس االنقليزية كلغة أجنبية رئيسية بدل الفرنسية ‪ .‬أو األلمانية‬
‫أو الروسية حتى تكون لنا نوافذ متعددة على العالم الخارجي لكن مع إعطاء‬
‫األولوية المطلقة للعربية ‪ ,‬في كل مراحل التعليم ‪ ,‬كما يمكن تعريب كل التعليم العالي‬
‫في ظرف عشر سنوات إن تواجدت االدراة السياسية ‪ ,‬ولن يمنع التعريب مستوانا‬
‫العلمي من التطور والتعمق‪ ,‬فالتبعية الثقافية لم تكن أبدا مرادفا للخلق واإلبداع ‪.‬‬
‫‪ – 3‬على الصعيد اإلعالمي ‪:‬‬
‫يجب وضع حد لھاته البلبلة الغربية في برامج التلفزة ‪ ,‬وإن وجب األمر فما على‬
‫الدولة إال أن تخلق قناة ثانية للبرامج األجنبية ) على شرط أن ال تكون فرنسية‬
‫محضة ‪ ,‬بل أن تعرض فيھا برامج انقليزية وألمانية الخ ‪ ...‬لتكون أداة لتعلم اللغة‬
‫والتفتح على العالم الخارجي ( أما القناة األساسية فعليھا أن تكون عربية ‪ ,‬تنتھج‬
‫سياسة التوعية والتفتح الموضوعي والرصين على مشاكل المجتمع ال أن تكون‬
‫أداة تسلية رخيصة ‪ .‬بھذا وبھذا فقط ستستطيع مقاومة الغزو الثقافي الجارف الذي‬
‫سنتعرض له بعد بضع سنوات ‪.‬‬
‫‪ – 4‬على الصعيد النفسي ‪:‬‬
‫يجب أن نخلق مناخا نفسانيا جديدا أساسه االعتزاز والثقة بأنفسنا ‪ ,‬بلغتنا ‪ ,‬وأن‬
‫تجعل من التفرنس الفرانكو آراب عالمات الفشل الحضاري والتبعية الثقافية ‪ .‬وھذا‬
‫لن يكون إن لم نجند كلنا أقالمنا وأنفسنا لبث النخوة التونسية والعربية في نفوس‬

‫‪35‬‬
‫الشباب ‪ ,‬وھذا يقتضي منا أن نحارب الفرانكواراب في المستقبل وأن تدافع في كل‬
‫مكان وفي كل فرصة عن لغتنا‪ ,‬وما تحمل من قيم ومفاھيم ‪.‬‬
‫وفي األخير فإنني مضطر إلى اإلضافة حتى ال يفسر موقفي خطأ بأنني حاصل على‬
‫الباكالوريا الفرنسية وأنني عشت خمسة عشر عاما في فرنسا وأنني درست‬
‫طب وكتبت الكتب والمقاالت باللغة الفرنسية وبأن أم أطفالي‬
‫ومارست في كلية ّ‬
‫فرنسية وأنني اضطررت اضطرارا نظرا لرجوعي إلى الوطن في منتصف سنة‬
‫دراسية إلى ترك ابنتي الكبرى تتابع الدراسة التي بدأتھا في فرنسا ‪ ,‬في مدرسة‬
‫فرنسية ھنا في تونس ) مما جعلني أمارس مھنة الطب صباحا ومھنة معلم عربية‬
‫مساء ( وبالتالي فإني أبعد الناس عن التعصب الديني والشوفينية العرقية ‪ .‬وأنا ال‬
‫أضمر للثقافة واللغة الفرنسية ) رغم جملة بومبيدو ( إال أطيب المشاعر ‪ ,‬لكنني ال‬
‫ولن أساوم في حق العربية ودورھا في التمكن من كافة مرافق الحياة الفكرية‬
‫واإلدارية واالجتماعية في ھذا البلد ‪ ,‬كما ال أستطيع قبول الحالة المزرية التي آلت‬
‫إليھا والتطور الخطير الذي يھددھا في شكل ھذه اللغة المسخ التي نسميھا‬
‫الفرانكواراب ‪ ,‬وموقفي ھذا يمليه علّي نوعان من االعتبارات ‪ :‬االعتبارات‬
‫العاطفية ‪ :‬صدق الشاعر العربي لما قال ‪ :‬إنما الحب للحبيب األول ‪ ,‬والحبيب األول‬
‫ھو الشعوب األخرى ؟ أنفرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة ھذه‬
‫اللغة التي رضعتھا مع حليب أمي والتي قرأت بھا أول كتاب ‪ ,‬والتي علمني‬
‫أساتذتي بالصادقية ) جزاھم ﷲ ألف خير ( تذوقھا وعشقھا كما يتذوق اإلنسان‬
‫ويعشق عمال فنيا رائعا ‪.‬‬
‫االعتبارات الموضوعية ‪:‬‬
‫لقد أسعفني الحظ بالتمكن من ثالث لغات أجنبية أي أن لي إمكانية المقارنة ونتيجة‬
‫ھذه المقارنة كاآلتي ‪ :‬بصراحة العربية لغة فريدة من نوعھا لم يعرف ولن يعرف‬
‫لھا التاريخ مثيال ‪ .‬قل لي أي لغة في العالم تحافظ على نفسھا وتتطور بدون أدنى‬
‫انقطاع منذ خمسة عشر قرنا كالعربية ‪ .‬نحن نقرأ ونفھم ما كتبه على ابن أبي طالب‬
‫‪ ,‬حتى الشنفرى وھم عاجزون عن فھم ما كتب بلغتھم ألربعة قرون خلت ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫أمن المعقول أن ال نحب وال نقدس لغة كھذه حبانا ﷲ بھا دون سائر الشعوب‬
‫األخرى ‪ ,‬انف ّرط فيھا ونتسامح في تطعيمھا وتھجينھا بلغة دخيلة علينا فرضھا‬
‫علينا االستعمار في احلك واتعس فترات تاريخنا‬
‫انھجر القصر لتسكن الكوخ ؟‬
‫***‬

‫‪37‬‬
‫بيـــــــن لعنـــة المتنبّي وقھقھــــة موليـــــار‬
‫ظاھرة الفرانكواراب كدولة إسرائيل ‪ :‬نحن ال نعترف بوجودھا‪ ,‬لكنھا موجودة ‪:‬‬
‫حجة دامغة على فشلنا الحضاري ‪ ,‬على ضعفنا وتبعيتنا ‪ ,‬والظاھرة معروفة بما فيه‬
‫الكفاية ‪ ,‬لكن لنتوقف عند بعض عيناتھا ‪.‬‬
‫* نفتعل التسلي نقول ‪:‬‬
‫" ھا االيامأنا مفكنص " أي أنا في فترة ‪ Vacances‬لمن ال يفھم الفرانكواراب‬
‫يعني ‪ :‬أنا في عطلة ‪.‬‬
‫* نقول ‪ :‬تكونسيت أي وقعت في ورطة ‪ ,‬وتكونسيت ھو تصريف فعل ‪coîncer‬‬
‫والمثال ليس أبشع مما يوجد في القائمة ‪.‬‬
‫* نقول ‪ :‬مشيت لل ‪ Faculté‬نلقى ‪ des étudiants‬متكونسين في بقار مع‬
‫البوب ‪ ,‬أي ذھبت للكلية فإذا بالطلبة في مشكل مع الشرطة ‪.‬‬
‫* نقول ‪ " :‬شفت أكسيدان واحد مباسي كرازه كميون رمساه مورصو مورصو "‬
‫أي رأيت حادثا وقتل عابر صدمته شاحنة فالتقطت أطرافه الواحد بعد اآلخر ‪.‬‬
‫ونقول ونقول ‪ ...‬أصيغوا السمع وسيھالكم ما تسمعون ‪ :‬ألفاظ عربية وأفعال عربية‬
‫تتداخل في فوضى تتحدّى أعقد قواعد النحو والصرف مع أفعال وألفاظ فرنسية‬
‫لتشكل ھذه اللغة الھجينة التي نسميھا الفرانكواراب والتي ھي اليوم بمثابة اللغة‬
‫الثالثة لھذه البالد ‪.‬‬
‫إحقاقا للحق نحن ال نقول ‪ " :‬أن ﷲ على كل شيء كابابل " ‪ .‬ونحن ال نقول ‪" :‬‬
‫وإنا إليه ديرتور " لكن ال تعجبوا أن سمعتم يوما ابنا أو قريبا يرتل القرآن‬ ‫إنا‬
‫بالفرانكواراب ألنه لن يقول اآليات تھكما وإنما ألن السرطان في اللغة كالسرطان‬
‫في الجسم ‪ ,‬ال يقف عند حد ابتداء من اللحظة التي تنشب فيه المخالب في الضحية ‪.‬‬
‫* خصائص الظاھرة ‪:‬‬
‫االنتشار ‪ :‬الفرانكواراب لغة اإلدارة ‪ ,‬لغة الجامعة ‪ ,‬لغة المدارس ‪ ,‬لغة‬
‫المستشفيات ‪ .‬تسمعھا أين تذھب فيخيل إليك أنك تسمع " أنات األلم " تتصاعد من‬

‫‪38‬‬
‫لغة المتنبي وصرير أسنان لغة موليار وھي تحشر حشرا وتمزق تمزيقا ‪ ,‬وتھشم‬
‫تھشيما ‪ ,‬حتى يستطيع مخاطبك الكريم أن يعبر عن مقصوده ‪.‬‬
‫السطوة ‪:‬‬
‫أنت أيضا إنسان تونسي مثقف وشاب‪ ,‬تعصبك لتونس والعربية أعمق من تعصبي‪.‬‬
‫إيمانك بھما أقوى من إيماني‪ ,‬أين ھيامك بھما من ھيامي ؟ ال تنھى يومك الشاق‬
‫الطويل إال وقصائد ايليا أبو ماضي بين يديك تطرب لھا روحك وتنتشي تعيد‬
‫التحامك باللغة األزلية ‪ ,‬وبالمعاني األزلية التي طالما ترجمت لھا ھذه اللغة الفريدة‬
‫‪ .‬اآلن أدخل في نقاش مع زميلك في المھنة أو تلميذك الشاب وقل لي بصراحة كم‬
‫من وقت ستصمد ‪ ..‬لقد قمت شخصيا بالتجربة واكتشفت أنني إذا دخلت النقاش وأنا‬
‫مصمم العزم على أن ال أنطق بكلمة واحدة من اللغة البشعة فإني أستطيع الصمود‬
‫عادة عشرين دقيقة‪ ,‬ھذا أن كان اآلخر ملما بالعربية ‪ .‬أما إذا دخلت النقاش مع‬
‫متفرنس وبدون استعداد للنضال ‪ ,‬فإنني أكثر من دقيقة وأبدأ أنا اآلخر في "‬
‫التغفيص " وتتعالى أنات األلم من اللغتين ‪ ,‬ويخيل إلى أنني أسمع لعنات المتنبي‬
‫وقھقھة موليار ‪.‬‬

‫التفاقم ‪:‬‬
‫الفرانكواراب حاليا لغة المثقفين وخاصة أصناف وأرباع وأخماس وأسداس‬
‫المثقفين ‪ ,‬ومنھم عملية نشره وإشاعته بين شتى قطاعات الشعب متواصلة تقوم‬
‫بھا مشكورة أجھزة اإلذاعة والتلفزة ‪ ,‬والتعليم واإلدارة ‪ ,‬والصحافة ‪ ,‬وبالتالي فإن‬
‫القطاعات التي ما تزال محافظة على سالمة اللغة ‪ ,‬في مأمن نسبي مؤقت وحالتھا‬
‫شبيھة بحالة القبائل البدائية المحاصرة بالحضارة الغربية من الجھات األربع والتي‬
‫يتوقع سقوط قالعھا بين اللحظة واألخرى ‪ .‬فالسؤال المطروح ليس ھل سنتكلم كلنا‬
‫اليوم الفرانكواراب ألن األمر مفروغ منه ‪ ,‬ولكنه ‪ :‬متى ستتم العملية‪ ,‬ومتى‬
‫ستنشر لنا دور النشر أول عمل أدبي قومي يكون عنوانه ‪ :‬أنا مدمبريمي ) لكنه‬
‫مشتقة من فعل دبرم يدبرم أي أصابه دبريم أي انھيار عصبي باللغة القديمة( واآلن‬

‫‪39‬‬
‫تعال نتساءل عن معنى الظاھرة‪ ,‬فالحكم المعياري ال يجب أن يحتكم إلى العاطفة‬
‫وحدھا‪ ,‬وإنما عليه أيضا الرضوخ إلى حكم العقل‪ ,‬ومن ثمة سؤالي ‪:‬‬
‫ماذا لو كان الفرانكواراب ظاھرة طبيعية ‪ ,‬إن دلت على شيء فعلى حيوية اللغة‬
‫وتطورھا الحتمي ؟ ماذا لو كان اشمئزازنا منه ‪ ,‬ومحاولة التصدي له ‪ ,‬كمحاولة‬
‫التصدي لقانون من قوانين الطبيعة ؟ وأھمية الرد الموضوعي على ھذا السؤال‬
‫واضحة ‪ .‬فنحن أمام تفسيرين وأمام خيارين ‪.‬‬
‫* الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا ‪ ,‬ومن ثمة ال مجال للتصدي لھا ‪ ,‬بل‬
‫بالعكس ‪ .‬فما علينا إال مجاراة األحداث ألن العاقل ال يتصدى للحتميات ‪.‬‬
‫* الفرانكواراب لغة دخيلة ھجينة ‪ ,‬ال طبيعية يجب محاربتھا مع األمل بأننا نستطيع‬
‫القضاء عليھا ألنھا حقّا ظاھرة ال طبيعية ‪.‬‬
‫لندرس اإلمكانية األولى ولندرسھا بعقلية " محامي الشيطان " ‪ :‬مثال نستطيع‬
‫مواجھة أنفسنا ببعض الحقائق التاريخية كأن نذكر بأن تطعيم لغة بعدد ال بأس به‬
‫من اصطالحات لغة أجنبية أمر معھود‪ ,‬بل ونستطيع التذكير بأن لغتنا المغزوة في‬
‫عقر دارھا ‪ ,‬ھي ضحية انقالب موازين القوى – ألم تغز لغة الفرس والترك‬
‫والھنود و اإلسبان الخ‪ ...‬أليس صحيحا أن ‪ % 25‬من كلمات اللغة اإلسبانية‬
‫عربية األصل ؟ ومع ذلك فقط ھضمتھا ھذه اللغة وأصبحت جزءا منھا ‪ ,‬بل وربما‬
‫مثلت مرحلة عليا من تطورھا ‪ .‬لماذا تسيل اليوم دموعنا ونحن نعاني مما شكا منه‬
‫الفرس والترك و اإلسبان ؟ أو ليس ھذا التداخل اللغوي ثمن التقارب والتعاون بين‬
‫الحضارات والبشر ؟ باإلضافة إلى ھذا ‪ ,‬كيف تتجاسر على محاولة حصر اللغة في‬
‫قالب تاريخي ؟ أليست اللغة كائنا حيا تتطور بتطور المجتمعات ؟ أال نحكم علي‬
‫أنفسنا بالتحجر والجمود ‪ ,‬إن نحن حاولنا رفض ھذا التطور الحتمي – أال نعلم أن‬
‫التاريخ حسم دائما الجدل والخصام بين المجددين والمحافظين لصالح التجدد ؟‬
‫أقول ردا على ھذه التساؤالت ‪:‬‬
‫إذا ثبت أن الفرانكواراب مرحلة طبيعية من تطور لغتنا ‪ ,‬فمرحبا به بين ربوعنا ‪,‬‬
‫وإلى الجحيم اللغة الكالسيكية ‪ ,‬فأنا مع التجدد والتطور والحركة وضد الجمود‬

‫‪40‬‬
‫والتحجر ألن الحركة والتطور ھما سنة الحياة والجمود والتحجر بداية الموت ‪ .‬لكن‬
‫أن ثبت أنه مرحلة ال طبيعية فأنا محق في رفضه ومحاربته ! فأي الرأيين أصوب ؟‬
‫وأجيب بكل موضوعية ‪ :‬الفرانكواراب ظاھرة مرضية وليست طبيعية وھذه حججي‬
‫وبراھيني ‪:‬‬
‫السنة الطبيعية‬

‫صحيح أن اللغة كائن حي ‪ ,‬وإن بقاءھا في تطورھا ‪ ,‬أي في أدائھا لمھمتھا على‬
‫أحسن وجه ‪ ,‬وصحيح أن لغتنا تتطور ھي األخرى وأن كل المحاوالت التي قامت‬
‫بھا بعض العقول المتحجرة للتعرض لھذا التط ّور قد باءت بالفشل ‪ .‬لكن غير‬
‫الطب‬
‫ّ‬ ‫صحيح أن الفرانكواراب ھو مظھر من مظاھر حياة اللغة العربية ‪ .‬ھو بلغة‬
‫مرض خطير ألم بھا وھي تتابع نموھا الطبيعي ‪.‬‬
‫من البديھي أنني ال أكتب كما كتب الجاحظ يوما ‪ ,‬ومن البديھي أن باستطاعة لغوي‬
‫متشدد ‪ ,‬أن يقرأ ھذا النص فيستجھن كلماته وتركيب الجمل فيه وأن يستشف منه‬
‫تأثير لغة أجنبية وأقول ‪ :‬ھذا تطور حتمي ال مناص منه ‪.‬‬
‫ومن البديھي كذلك أنني ال استحي من استعمال مصطلحات علمية مثل النترون‬
‫والبروتون أو عبارات الحوامض األمينية‪ ,‬واألكسجين والھيدروجين الخ ‪ ...‬وكلھا‬
‫كلمات أجنبية ‪ ,‬ورأيي أنه من السخف إضاعة الوقت والجھد في محاولة اكتشاف‬
‫كلمات عربية األصل لتعبر عن ھذه الظواھر العلمية التي غزت في شكلھا الالتيني‬
‫كل لغات العالم ‪ ,‬لذلك أنا ال أتحرج من استعمالھا وال أجد في ذلك حطّا من قيمة‬
‫العربية مثلما ال أجد حطا من قيمة الفرنسية أن تستعمل كلمة ‪ Alcool‬العربية‬
‫األصل ) الكحول ( – أقول إذن من جديد ‪ :‬ھذا تط ّور حتمي ال مناص منه ويجب‬
‫قبوله ‪.‬‬
‫كذلك ھناك مفاھيم جديدة ال بد أن نعبر عنھا بلغة وبلھجة العصر ‪ .‬مثال حركة العلم‬
‫دائبة ال تفتر ومن ثمة فالعالم الحقيقي ھو الذي يط ّور ويغيّر وينقّح مفاھيمه لذلك‬

‫‪41‬‬
‫ظھرت في الغرب كلمة ‪ Recyclage‬وترجمناھا فقلنا " الرسكلة " والكلمة حسب‬
‫رأيي أنيقة واختيارھا ناجح ‪...‬‬
‫أقول إذن ‪ :‬ھذا التطور حتمي وھو أمر طبيعي ال مناص منه ‪.‬‬
‫* مثال آخر على مستوى آخر ‪:‬‬
‫كنا نتناقش مع بعضنا البعض في مقاھي أوروبا ونحن طلبة ‪ ,‬وكان منا المشارقة‬
‫والمغاربة ‪ ,‬وكان منا الثوريون والمحافظون ‪ ,‬وكنا نتبادل التھم والشتائم بسخاء‬
‫فنسمي المخالف في الملّة خائنا عميال مرتزقا ‪ ,‬وكنا نغضب ونتصالح بحماس‬
‫الشباب وصدق الشباب وسذاجة الشباب وكان القاسم المشترك بيننا حب الوطن‬
‫وحب أقطارنا الصغيرة ‪ ,‬ولم يكن زعيقنا إال تعبيرا عن‬
‫ّ‬ ‫األكبر ‪ :‬دار العروبة ‪,‬‬
‫عشرات وأخطاء ومحاوالت الفكر العربي وھو يجدّد عھده ويحدّد مفاھيمه ويبحث‬
‫عن أرضية تنطلق منھا نھضته ‪ ,‬وكنا في مقاھينا ونحن نعيد بناء العالم ‪ ,‬إحدى‬
‫األصوات الناشزة وإحدى أبواق ھذا الفكر العربي التائه ‪ ,‬واألھم من ھذا أننا كنا‬
‫كلنا نتحدث لغة واحدة ‪ :‬لغة وسط بين العربية الفصحى ولھجاتنا المحلية ‪ ,‬وكان‬
‫الشامي يضحك من التونسي ويطالبه باسم الفصاحة أن يقول جمل ال اجمل ‪ ,‬وكان‬
‫القاھري ينكت على " ميوعة " الشامي وكنا ننتھر الزميل القادم من البصرة ‪:‬‬
‫اسكت عيني " ماكو أوامر للكالم " وكان البغدادي يغضب ويدخل في مشادة حادة‬
‫مع الوھراني وكانت مشادة أشقاء ‪.‬‬
‫كان لكل واحد منا لھجته ‪ ,‬وكان يحذف منھا تلقائيا الكلمات العامية التي يعرف‬
‫بالسليقة أنھا خاصة بمنطقته ‪ ,‬وكنا نفھم بعضنا البعض ‪ ,‬ألن قدرنا أن نفھم بعضنا‬
‫البعض ‪ ,‬وقدرنا أن نكون أمة واحدة ذات لغة واحدة ‪ ,‬وھذه اللغة الوسط أي اللغة‬
‫العصرية المتطورة نتكلمھا حتى ھنا في بلدنا خاصة في بعض المناطق المتشبثة‬
‫بتونسيتھا وعروبتھا ‪ ,‬لغة تجمع بين حيوية الدارجة وجمال الفصحى لغة أنيقة ال‬
‫يضيرني شخصيا أن أكتب بھا ‪ .‬المھم أن الفرانكواراب في بلدان المغرب العربي‬
‫دخل ليفسد ھذا التطور ‪ ,‬واللغة ككل كائن حي معرضة للمرض ‪ ...‬وھي تعاني في‬

‫‪42‬‬
‫بلدنا من مرض عضال يمكن مقارنته باألمراض الطفيلية التي يعرفھا الجسم وحتى‬
‫النبات ‪.‬‬
‫تنظر مثال إلى شجرة باسقة وارفة األغصان ‪ ,‬وتكتشف في بعض األحيان إن دققت‬
‫النظر أن أليافا قاتلة تحيط ببعض األغصان فتح ّد من تطورھا إذ تمتص منھا كل‬
‫السوائل المغذية ‪ ,‬أو يأتيك يوما في المستشفة مريض يھذي فنكتشف أن ديدان‬
‫البلھارسيا قد أصابت الكليتين والمثاتة ودمرت الكبد ‪.‬‬
‫الفرانكواراب ھو المرض الطفيلي الذي تعاني منه لغتنا ‪ ,‬ھو تطور سرطاني ال‬
‫طبيعي ‪ ,‬ينھش جسما غضا لم يكتسب مناعة كافية ضده ‪.‬‬
‫فالفرق واضح بين تعريب كلمات ومفاھيم عصرية وبين تطور الفصحى إلى لغة‬
‫وسط تكون لغة الجھات داخل القطر والعروة الوثقى بين مختلف أقطار الوطن‬
‫األكبر وبين ھذه اللغة ‪ ,‬الھجينة المفروضة فرضا ‪ ,‬والتي لم تھضم أو تدمج في‬
‫قالب ‪ .‬لكن األخطر من ھذا أننا ال نعاني من شكل بشع ھجين وإنما من آثاره‬
‫وترتباته الحضارية ‪.‬‬
‫اللغة ھي قبل كل شيء أداة تخاطب ‪ ,‬وفعاليتھا في مدى أدائھا للمھمة ‪ .‬صحيح أن‬
‫الفرانكواراب يمكن المتفرنسين من التفاھم ‪ ,‬لكن أطلب من أحدھم التخاطب مع‬
‫خادمته األمية ‪ ,‬مع أمه ‪ ,‬وسترى الرجل يتعثر ألن عقله يبحث عن الجمل والكلمات‬
‫‪ ,‬يترجم من الفرانكواراب إلى ‪ ...‬العربية ‪ ,‬واآلن ضع ھذا الشخص في مجمع عربي‬
‫‪ ,‬كالذي كان يجمعنا نحن طلبة العرب في مقاھي أوروبا أو على مدارج جامعاتھا‬
‫تأخذ من علم نام عنه أجدادنا وآباؤنا ‪ ,‬وقل له تفاھم مع مواطنك في المنامة‬
‫وطنطا وأم درمان وفاس سترى فعالية الفرانكوراب في التخاطب والتفاھم ودوره‬
‫في التفريق والتجزئة ‪.‬‬
‫الحل إذا أمام الفرانكواراب كالحل أمام السرطان أو الطفيليات ‪ :‬توسيع مكانه‬
‫بالقضاء على الجسم ‪ ,‬أو االندثار ‪ .‬فأي االحتمالين سيتحقق ‪ .‬ھذا ما أجھله بالطبع‬
‫ألنني ال أستقرى الغيب لكنني أظن المرض قاتال ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫سر لماذا استطاع الفرانكواراب المتطفل على شجرة العربية وھي تنمو‬
‫لكننا لم نف ّ‬
‫ولماذا ھشمت أليافه الغصن التونسي مھددة غصنيه الجزائري والمغربي وھما‬
‫ليسا في أحسن حالة ‪ .‬أقول ‪ :‬السبب تخلف المجتمعات المغربية ورضوخھا‬
‫للنموذج الغربي للتقدم ‪ ,‬تقليدھا السطحي‪ ,‬الشك في األصالة‪ ,‬والتفتح السلبي ‪.‬‬
‫كثيرا ما أطيل النظر لبعض فتياتنا وھن يلثغن بالغاء الفغرنسية الباغيزية ال‬
‫للصلصة وإنما للضحك ولو إن ضحكي ھذا حزين ‪ .‬كل شيء في لباسھن‬
‫وتصرفھن يذكرني بنفس نمط فتيات مراھقتي وشبابي في مدارج جامعات فرنسا ‪,‬‬
‫لكني ال ألبث أن أكتشف العيب ‪ ...‬فالتقليد ليس ناحجا مائة في المائة ‪ ,‬ھناك دائما‬
‫وأبدا شيء ما يصعب تحديده يفرض عليك ھذه الفكرة المزعجة ‪:‬‬
‫رغم كل محاوالت التقليد فمازال ھناك شوط بين النموذج المقلد وأنا شخصيا إنسان‬
‫يفضل دائما فروة " الفيزون " األصيل على فروة األرنب التي تحكي " انتفاخا‬
‫صولة الفيزون " كذلك أنا أكره الشعر األسود المصبوغ باألصفر وال أعرف إلى حد‬
‫اآلن أي النوعين أفضل ‪ :‬الشعر األشقر الذھبي الطبيعي ‪ ,‬أم الشعر الحالك السواد‬
‫الطبيعي كذلك ‪...‬‬
‫بصراحة ‪ :‬حضاريا نحن نقوم سود الشعر ‪ ,‬مع صبغة من الصفرة االصطناعية‬
‫نتعھدھا ونعتقد مخلصين أنھا تجعل منا الفرع الجنوبي لجنس الفيكنغ ‪.‬‬
‫تجول في المدينة وستالحظ محاوالت الناس اليائسة للتشبه بالنموذج الغربي وفشل‬
‫ّ‬
‫صل وفشل التفتح ‪.‬‬
‫المحاولة الفشل الذريع ‪ .‬ستشاھد فشل التأ ّ‬
‫فھذا جالس خلف مقود المرسيديس الفخمة والسيجار الغليظ في فمه ينبئك بأن‬
‫السيد رجل ھام ‪ ,‬وستكتشف أن الرجل يحسب نفسه على صھوة جواد عنترة بن‬
‫شداد ‪.‬‬
‫اسكن العمارات الفخمة ‪ ,‬وستكتشف أن المصعد ال يعمل ثلثي الوقت وإن جارتك ال‬
‫تحب استعمال المھراس إال ابتداء من العاشرة مساء ‪ .‬اذھب إلى اإلدارة الفالنية‬
‫وستكتشف أن نصف الطاقم من عشيرة واحدة ‪ :‬عشيرة السيد المدير ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫المصيبة ليست أننا نتكلم الفرانكواراب بل اختالط المفاھيم والقيم الحضارية في‬
‫عقول الناس والنطق ليس إال الظاھرة المرضية ‪ .‬أما المرض فھو التخلف‬
‫الحضاري والتقليد الحضاري و االلينة الحضارية ‪.‬‬
‫تتعثر االلسن ألن األفكار ھوجاء ‪ ,‬ألن األرضية الصلبة مفقودة ‪ ,‬ألن التجذر ضاع ‪,‬‬
‫ألن العقل يستھلك وال ينتج ‪ ,‬ألننا سلبيون ‪ .‬الفرق بيننا وبين أمم العالم الثالث‬
‫العظمى كاليابان والصين وكوريا ‪ ,‬ھو أنھا نجحت أين فشلنا ‪ .‬ھضمت معطيات‬
‫الحضارة المعاصرة ‪ .‬حقا فوجئت بھا كما فوجئنا بھا وتوقف نمو شجرة حضارتھم‬
‫فترة من الزمن نظرا للمرض الذي ألم بھا ‪ .‬لكنھا استوعبت الصدمة وأفرزت‬
‫األجسام المضادة وواصلت نموھا ‪ .‬لذلك فاق الياباني سيده الغربي ومعمله وغزاه‬
‫ببضائعه ولم يتكلم يوما واحدا ياباني واحد الفرانكوا – ياباني ‪.‬‬
‫كذلك توقفت شجرة الحضارة الصينية فترة من الزمن ‪ .‬لكنھا نھضت بعد سنوات‬
‫فقضت على األلياف الطفيلية وانطلقت الصواريخ إلى الفضاء وتفجرت قنبلة‬
‫الھيدروجين والناس صينيون يشقون طريقھم ال يتكلمون إال لغتھم ‪.‬‬
‫ونحن ‪ ,‬العرب ؟ وعلى وجه التحديد المغاربة ‪.‬ارتضينا التقليد ولم نجدد طردنا‬
‫المستعمر السياسي من النافذة وأدخلناه ثقافيا من الباب‪ ,‬فتحنا له الباب على‬
‫مصراعيه وتمسحنا به تذلال وانبطاحا وأصبحنا نحتقر من يتكلم العربية ونتصور‬
‫أن الحضارة ليست شجرة متجذرة تنمو باطراد وتستمد من ثراھا ومن عروقھا‬
‫الحياة و القوة " تكونسا " وقلنا تقدمنا ونمت شجرة حضارتنا ال زيتونة وإنما "‬
‫سابان " عليھا شيء من القطن ‪ ,‬ال شرقية وال غربية وال يوقد منھا كوكب‬
‫حضاري وال يضيء زيتھا ولو مسھا ألف نور ‪ .‬صحيح أن ھناك فرقا ھائال بيننا‬
‫وبين أھل الصين واليابان فھم واجھوا الطفيليات والسرطان أمما ونحن واجھناه‬
‫عشائر وأفخاذا وعائالت وأفرادا أو قبائل في أحسن الحاالت ‪.‬‬
‫ھذا تشخيص الطبيب ؟ فما ھو بالفرنكوآراب الفصيح " البرونوستيك " قبل أن‬
‫يقضى الطفيلي على المصاب وأرد ‪ :‬الدواء بيد أھل االختصاص وأنا لست منھم‬
‫والوصفة كما يلي ‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫* تعريب التعليم العالي وخاصة الشعب العلمية منه في ظرف أقصاه عشر سنوات‬
‫* تعريب كامل اإلدارة في أسرع وقت‬
‫* تعميم وتعميق التعريب في كافة قطاعات التعليم‬
‫* نشر لغات ثانوية أخرى كاالنجليزية واأللمانية للخروج من الفلك الفرنسي‬
‫* تعريب التلفزة ووقف ھذه اللخبطة في البرمجة‬
‫* عدم التصريح لألفالم بدخول البالد بدون ترجمة عربية‬
‫* تكثيف التبادل الثقافي على أعلى المستويات وليس على مستوى المسلسل بين‬
‫األقطار العربية‬
‫* فتح جامعة الشعب السمعية – المرئية ‪ ,‬لتكون منبرا نعلم فيه بعضنا البعض‬
‫بلغتنا وعقليتنا ‪.‬‬
‫* فتح معاھد عربية للبحث العلمي تكون في إطار قومي ‪.‬‬
‫لماذا ال يكون لنا معھد عربي للصحراء ومعھد عربي للعلوم البحرية ‪ ,‬ومعھد‬
‫عربي للفضاء ‪ ,‬ومعھد عربي للفيزياء النووية ومعھد عربي لبيولوجيا الخاليا‬
‫لنعيد للعربية دورھا ومكانتھا كلغة علمية عالمية ‪.‬‬
‫بصراحة عندما أسمع بوزارة البحث العلمي في تونس وموريطانيا ودبي أضحك ‪.‬‬
‫ھل تعلمون أن ميزانية جامعة ستاندفورد أو بركلي ‪ ,‬في كاليفورنيا تفوق ميزانية‬
‫الدولة التونسية ‪.‬‬
‫كفى ھزال يا عرب – الرھان الحضاري اليوم يربح في مختبرات جبارة ‪ ,‬والسبق‬
‫فيھا لألمم الكبرى – أال يكفي ما ضيعنا من الوقت ‪ ,‬أال نستطيع اعتبار الجامعات‬
‫والمخابر العلمية التي ستجدد ثقتنا في أنفسنا وتعيد للغتنا دورھا الخالد‪ ,‬مناطق‬
‫منزوعة من السالح ‪ ,‬نضع خالفاتنا في مدخل الباب عندما نطأ أرضنا لنعد ألحفادنا‬
‫مستقبال وحضارة ولغة مشرفة ‪.‬‬
‫وتسألني من جديد ‪ :‬وماذا سيحصل إن لم يأخذ أھل االختصاص بتشخيص الطبيب‬
‫ووصفته المؤلمة ‪ ,‬وارد ‪ ...‬إذن بأي الراب مون فرار وال حول وال قوة إال بالبون‬
‫ديو ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫على كل حال فقد قررت أن أفوز بقصب السباق بانتھازيتي المعروقة حتى يقال عني‬
‫كاتب جرئ – مبدع – طالئعي – يتكلم ويكتب بلغة الشعب ‪ :‬نعم سأكتب أنا رائعة‬
‫األدب التونسي المعاصر والمستقبلي " أنا مدبريمي " خاصة وأنني فعال مصاب‬
‫بانھيار عصبي ھذه األيام أي أنني بالفصحى الفرانكو أرابية مدبرم دبرمة ما بعدھا‬
‫من تدبرم ‪.‬‬
‫***‬

‫‪47‬‬
‫جيــــــــــــــل النّفـــــــــــــي‬
‫الزمان ‪ :‬يوم من أيام أعوام الھجرة ما بين الخمسينات والسبعينات ‪ .‬ھجرة أكثر‬
‫من مليون ونصف شاب من خيرة شباب المغرب العربي ‪ ,‬ھجرة الباحثين عن الخبز‬
‫وھجرة الباحثين عن العلم ‪.‬‬
‫المكان ‪ :‬سطح باخرة من عشرات البواخر التي تمخر البحر األبيض المتوسط‬
‫متجھة من موانئ تونس وعنابة ووھران والجزائر والدار البيضاء إلى موانئ‬
‫أوروبا ‪.‬‬
‫وأدرت ظھري للساحل أريد أن أزيل من ذاكرتي صورة األھل الباكين ‪ ,‬صورة‬
‫فضاضة رجال البوليس والجمارك ‪ ...‬أريد أن أمح من ذاكرتي صور الوطن القاسي‬
‫‪ ,‬الفقير ‪ ,‬الرازح تحت كلكل قرون ال عد لھا وال حصر من التخلف ‪ .‬و كنت ساذجا‬
‫لكنھم كانوا يعرفون ‪ .‬ھم عمال المصانع الموحشة وسكان مدن القصدير ‪ .‬وكانوا‬
‫بالمئات على ظھر الباخرة ‪.‬‬
‫كان واحد منھم ‪ .‬عرفته ألنه كان زري الھندام ‪ .‬ألنه كان يلبس الحذاء بال جوارب ‪,‬‬
‫ألنه كان وحيدا كئيبا ‪ .‬مؤكد أن إدارتنا الفيحاء أعطته عيّنة من االحتقار الذي‬
‫سيلقاه طوال رحلة الشتاء والصيف في بالد الحرية ‪ ,‬واتجھت إليه تلقائيا‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫نتحدث ‪.‬‬
‫قال ببساطة ‪ :‬أسمعت قصيدة الھادي قلة‬
‫قلت ‪ :‬ال‪ ,‬لكنني سأسمعھا منك اآلن‬
‫وانشدني قصيدة العامل المھاجر الھادي قلة ‪ ,‬ھذه القصيدة التي أصبحت النشيد‬
‫الرسمي لجيل الھجرة ‪ ,‬لجيل النفي ‪.‬‬
‫بابور ) ‪ ( 1‬ز ّمر خش البحر‬
‫عطى بالظھر‬
‫ألرض الوطن عز الوكر‬
‫***‬
‫بابور ز ّمر خش الغريق‬

‫‪48‬‬
‫سالك طريق‬
‫قدا أرض غربة تشيّح الريق‬
‫عاطي بظھرو لوجه الصديق‬
‫وقلب الرفيق‬
‫وجوه األھالي طافية صفر‬
‫ھ ّم وكدر‬
‫***‬
‫بابور ز ّمر بالصوت عالي‬
‫ع الوطن جالي‬
‫يحمل شباب ع الشعب غالي‬
‫قداه االدين ترتعش تشالي‬
‫دمع األھالي‬
‫يلذع و يخرج شبح النظر‬
‫حرق الشفر‬
‫***‬
‫بابور ز ّمر خاشش لبحره‬
‫قدا أرض بره‬
‫لسما صافيه عاطي ظھره‬
‫يحمل شباب من أرض خضره‬
‫الحياة م ّره‬
‫كما يحمل الواد وقت المطر‬
‫عتوق الشجر‬
‫***‬

‫) ‪ ( 1‬بابور ‪ :‬باخرة – زمر ‪ :‬أطلق صفارة ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ھج من الوطن‬
‫بابور ز ّمر ّ‬
‫في مثيل سن‬
‫يقص الموج قص الجبن‬
‫ع البحر أزرق خلّف كفن‬
‫خلّى السفن‬
‫ع الشط ترعش خايفة الخطر‬
‫ھاج البحر‬
‫***‬
‫بابور سافر ع العين غاب‬
‫تحت الضباب‬
‫محشي ‪ ,‬معبّي بخير الشباب‬
‫وسقوه لألجنبي بال حساب‬
‫وسق الدواب‬
‫الفرق بينو وبين البقر‬
‫جواز السفر‬
‫جواز السفر‬
‫وتحدثنا ليلة كاملة عن الوطن وكان حديثا ذو شجون ‪ ,‬ووصلت بنا الباخرة إلى‬
‫مرفأ الجنة المزعومة ‪ ,‬ونزلنا منه‬
‫" قطيع بقر " بجواز سفر ‪ ,‬وعاملنا أصحاب القبعة معاملة أكثر إنسانية من‬
‫معاملة رجال الشرطة والجمارك في بلدنا ولم يزدني ذلك إال ألما ومرارة ‪.‬‬
‫نظرت إلى قطيع البقر العربي ‪ .‬فجأة تراءت لي صورة عبرت خاطرتي كلمح البرق‬
‫‪ ,‬صورة طارق ابن زياد وھو ينزل بشواطئ إسبانيا مختاال على رأس فيالق من‬
‫األسود ‪ ,‬وبدأ مخي يقارن بسرعة وأنا ال أدري أعلي أن أضحك أم أبكي ‪ .‬قلت له‬
‫ساخرا ‪:‬‬
‫‪ -‬إيه يا طارق ! ھات لنا خطبة بليغة في ھذا النزول ‪...‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -‬قال وجال ‪ :‬امش بسرعة وال تغضب أصحاب القبعات وإال أرجعونا ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬إذن سأكون أنا طارق ‪ ,‬وھاك د ّون خطبتي حتى يحفظھا الصغار والكبار‬
‫فنحن شعب يعشق الخطب ‪ " :‬الفقر وراءكم والفقر أمامكم ‪ ,‬الكيب وراءكم‬
‫والبيدوندفيل أمامكم ‪ ,‬الرمضاء وراءكم والصقيع أمامكم‪ ,‬القمع وراءكم والقمع‬
‫أمامكم ‪.‬‬
‫وضحك وضحكت ‪ ,‬وكانت ضحكة صفراء ثم افترقنا ‪ ,‬ل ّم شعثه وأحكم رباط الحبل‬
‫حول حقيبته المھشمة ومشى إلى مستقبل مظلم وكان رمزا صارخا لفشل ھذا‬
‫الشعب ‪ ,‬وفشل ھذه األمة ‪ ,‬كان اتھاما حيا لھا ‪ ...‬ألم يكن يشكل الحجة الدامغة أمام‬
‫شعوب األرض قاطبة على فشل المجموعة التي ينتمي إليھا في تأمين الخبز‬
‫والكرامة ألبنائھا ‪ ,‬وكنت أنا أيضا رمز الفشل اآلخر ‪ ,‬فشل ھذا الشعب ‪ ,‬وھذه األمة‬
‫في توفير الغذاء اآلخر ‪ :‬المعرفة ‪ .‬كنا االثنين متسولين نجوب األسواق المكتظة ‪,‬‬
‫ھو يتعيش على القمامات وأنا أتلصلص على الباعة والمشترين لمعرفة سر رخائھم‬
‫وكنا نصلى تحت نظرات االحتقار وكانت النظرات تتجاوز شخصينا لتشمل الشعب‬
‫واألمة ‪.‬‬
‫وضاع في خصم معركة ال تفتر ‪ ,‬معركة من أجل لقمة العيش‪ ,‬معركة من أجل‬
‫الكرامة المھدورة ‪ ,‬ولم أنسه يوما ‪ .‬وأنّى لي أن أنساه وأنا أشاھد يوميا مأساته في‬
‫عيني آالف المھاجرين ‪ ,‬رأيته سنوات ينھض مع الفجر في مدن الضباب‪ ,‬يعمل‬
‫كالدابة طوال اليوم إلى أن يرخي عليه الليل سدوله بأنواعه من الھم ليبتلى ‪,‬‬
‫ورأيته يحفر األرض ودرجة الحرارة أقل من الصفر‪ ,‬ورأيته يرجع إلى الفندق‬
‫الحقير مرتجفا من البرد ومن خوف عصابات العنصريين التي كانت تترصده‬
‫سنوات حرب التحرير الجزائرية لترمي به في نھر السين ‪ ,‬ورأيته في المستشفيات‬
‫يتھم بالكسل والتحايل ومحاولة العيش على حساب الضمان االجتماعي ‪ ,‬ورأيته‬
‫حطاما في المستشفيات العقلية ورأيته بين أيدي رجال جمارك بلدي يدققون في‬
‫سقط المتاع الذي رجع به من رحلة العمر ‪ ,‬يفرشون عفشه على األرض ‪,‬‬
‫يصرخون في وجھه تحت الفتة " تونس ترحب بأبنائھا المھاجرين " ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫أكنا أوفر منه حظا نحن الذين ذھبنا نبحث عن العلم بدال من الخبز ؟ قد يبدو الرد‬
‫بديھيا ‪ ,‬لكن حذار من البديھيات ‪ ,‬فرحيل العامل ألم ورحيل المثقف ألم أعمق ‪ .‬ذلك‬
‫ألن العامل لن يعرف التغرب الروحي الذي سيصبح المرض العضال للمثقف الشاب‬
‫‪.‬‬
‫حقا يتألم العامل من قسوة الطقس ‪ ,‬ومن ساعات العمل الشاق الطويلة ‪ ,‬ومن‬
‫الوحدة ‪ ,‬لكن شخصيته تبقى كال متماسكا ال تتداعى بسھولة وذلك لجھله باللغة ‪,‬‬
‫لتمسكه بقيمه وعاداته ‪ ,‬إليمانه العميق الذي يفرضه عليه الواقع بأنه جسم دخيل‬
‫على حضارة أجنبية ال تريد إدماجه وال يريد ھو االنصھار في بوتقتھا ‪.‬‬
‫ويعود العالم محطم الجسم منھك القوى ولكنه عربي تونسي ال جدال في عروبته‬
‫وتونستيه ‪ ,‬لكن ماذا عن طالب العلم والمعرفة ؟‬
‫أقول عن تجربة ‪ :‬مصيره أتعس ألنه مھدد بمرض خطير اسمه االنفصام الحضاري‬
‫أو انقسام السريرة إلى شطرين ال توفيق بينھما ‪ .‬يسافر طالب العلم وھو يعلم‬
‫أصدق العلم أن سفره دليل فشل ‪ ,‬أنه متطفل على سوق الحضارة شحاذ فيھا ومع‬
‫ذلك فھو مطالب بأن ال يرفض برمتھا تلك الحضارة العجفاء الذابلة التي ينتمي إليھا‬
‫والتي يمنعھا غرورھا عن اكتشاف مدى قبحھا وتطالبه حضارة المنتصرين أن‬
‫ينظر إلى نفسه إلى قومه وإلى تاريخه عبر منظارھا لكنه ال يبقى لوجوده من معنى‬
‫إذ يكون االستسالم كليا بدون قيد وال شرط ‪ .‬ويضيع المغترب ‪ .‬فھو يحاول خدمة‬
‫سيدين في نفس الوقت ‪ ,‬سيدين يختلفان في كل شيء إال في العجرفة والصلف‬
‫والغرور ‪ .‬وتتفاقم التناقضات داخل المنفى فيضيع في بعض األحيان في خضمھا‬
‫وتختفي مالمح الطريق وتتقطع أنفاسه وھو يحاول الجري وراء المستحيل ‪ :‬إيجاد‬
‫المخرج الذي يحمي الشخصية ويلحق بالركب أي بناء شخصية جديدة على دعامة‬
‫أثبتت ضعفھا في تكوين الشخصية ‪.‬‬
‫ويجد المغترب نفسه في طريق مسدود وأمام اختيارات صعبة وھي على ثالثة‬
‫أصناف ‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ – 1‬االستسالم ‪ :‬يعتبر المنفي الغرب نبراس الحضارة والقدوة والمثال مع التعامي‬
‫عن كافة عيوبه وھي كثيرة ويستسلم له المنفي عقال وروحا ومن ثمة ازدراؤه‬
‫لقومه وللغته ولحضارته ) الذي يشكل في الواقع ازدراء الغرب المھضوم والمتنبي‬
‫من قبل ھذا العربي السحنة والغربي الوجدان ( ويؤدي ھذا االستسالم إلى التفريط‬
‫في كل مقومات الشخصية القديمة باعتبارھا تعبيرا عن التخلف بأجلى معانيه ‪.‬‬
‫وعندما يصل ھذا االستسالم ذروته‪ ,‬فإن المغترب سيختار أبسط الحلول ‪ :‬الھجرة أو‬
‫االندماج في أرض الغربة مع العلم أنه يبقى دائما وأبدا يعاني من عقدة االغتراب ‪.‬‬
‫‪ -2‬الرفض ‪ :‬يشكل الرفض المطلق الحل اآلخر للخروج من االنفصام ‪ .‬يقع ھنا‬
‫رفض الغرب برمته باعتباره مصدر كل الشرور واآلثام كما يقع التراجع داخل‬
‫المعاقل العقائدية الكالسيكية التي تشكل حصونا يصعب النيل منھا ‪ ,‬وتكون تلك‬
‫القناعات المطلقة بأفضليتنا وبأفضلية الحلول السلفية التي انتھجناھا ‪.‬‬
‫‪ – 3‬التوفيق ‪ :‬يحاول أصحاب ھذا المنھج الخروج من التناقض ومن االنفصام‬
‫بالجمع بين الحسنين ‪ .‬فھناك إيجابيات‬
‫) مادية ( وعلوم وتكنولوجيا تأخذھا من الغرب مع االحتفاظ بمقومات شخصيتنا‬
‫وبذلك يمكننا اللحاق بركب األمم التي تأخرنا عنھا ردحا من الزمن الخ ‪...‬‬
‫على ضوء ھذه المواقف الثالثة المتضاربة ترى جيل النفي يحاول تجاوز انفصامه‬
‫وعلى أسسھا ستراه يحاول بناء حضارة أو إعادة بناء تلك التي عصف بھا التاريخ‬
‫‪.‬‬
‫أقول جيل النفي ألنه من البديھي أن جيل النفي ليس مكونا من المغتربين ومن‬
‫المغتربين وحدھم ؟ فظاھرة النفي أعمق وأشمل بكثير‪ ,‬ومن األصح القول بأن‬
‫ظاھرة االغتراب وانفصام الشخصية قد غزت كل قطاعات المجتمع حتى وأن تحمل‬
‫المغتربون جل عذابھا ألن اغترابھم كان اغتراب الروح والجسد والحال أن القابعين‬
‫على أرض الوطن ال يعرفون إال االغتراب األول ‪.‬‬
‫تج ّول في المدينة وستالحظ عمق التغرب وانتشاره وسيھالك انفصام السريرة إلى‬
‫شطرين ال توفيق بينھما ‪ :‬اضطراب األفكار ‪ ,‬تشوش اللغة وذلك أينما ذھبت مظاھر‬

‫‪53‬‬
‫تدلك على أن جيل النفي ال يشمل المغتربين ‪ ,‬فالقروي منفي في المدينة والشاب‬
‫منفي في شبابه والمرأة منفية في عالم الرجال ‪ ,‬والفقير منفي في عالم ال يحترم إال‬
‫أصحاب الثروات ‪ ,‬والمثقف منفي في دنيا المسلمين ‪ .‬واآلن خذ ھؤالء المغتربين‬
‫في الداخل واحدا واحدا وستجدھم يعانون من نفس الصعوبات التي يعاني منھا‬
‫المغتربون في الخارج ‪ :‬التوفيق بين اللغة القديمة واللغة الغازية ‪ ,‬بين قيم اإلسالم‬
‫وقيم العصر ‪ ,‬بين متطلبات الشھامة وقسوة الحياة ‪ ,‬بين أحالم الحرية وواقع الكبت‬
‫‪ .‬ال غرابة أن يعاني جيل النفي من تفشّي اآلفات العصبية وأن تن ّم كل تصرفاته وكل‬
‫نظرياته عن تغلغل العصاب فيه ومن ثمة يطرح السؤال ‪ :‬أسيخرج ھذا الجيل الذي‬
‫حكمت عليه األقدار بأن يكون ھمزة الوصل بين حضارتين ) الغربية والشرقية (‬
‫وبين لحظتين لنفس الحضارة )التراث والمعاصرة ( من العصاب ؟ أي ھل يستطيع‬
‫ھضم الصدمة الحضارية التي تعرض لھا ‪ ,‬وأن يكون الجيل الذي سيوفر ما عجز‬
‫عن توفيره الجيل األسبق ‪ :‬الكرامة ‪ ,‬والعلم ‪ ,‬والخبز ؟ أقول نعم ‪ .‬لكن من شروط‬
‫النجاح أن نعلم لماذا وقعت الكارثة الحضارية التي كادت أن تؤدي باألمة وأن‬
‫تضعھا في مصاف حضارات الھنود الحمر من أنكا وأزتاك ‪...‬‬
‫واجبنا أن ال نكف عن التساؤل ‪ :‬لماذا اضطررنا إلى الھجرة نحن المليون ونصف‬
‫عربي ‪ ,‬لماذا استعمرنا ‪ ,‬لماذا أصبحنا ال ننتج علما أو فكرا منذ قرون ‪ ,‬بعبارة‬
‫أخرى لماذا تخلفنا ‪ ,‬لماذا نحن متخلفون ؟‬
‫***‬

‫‪54‬‬
‫واقــــــــــــــــــع التخلــــــــــف‬

‫‪55‬‬
‫لمــاذا نحـــن متخلفــــون ؟‬
‫* قال ‪ :‬سبب تخلفنا الفقر – قلت ‪ :‬يسمى ھذا في لغة المنطق )‪ (Tautologie‬أي‬
‫كالم يدور في حلقة مفرغة وال يفسر شيئا ‪ .‬أال يمكن أن نقول ‪ :‬نحن فقراء ألننا‬
‫متخلفون ‪ .‬على كل أنت تخلط مثل األغلبية بين الفقر والتخلف أو بين الثروة‬
‫والتقدم ‪ .‬ھل أبو ظبي بلد متقدم وھل ھو أكثر تقدما من السويد ألن دخله القومي‬
‫أرفع ‪.‬‬
‫ليشيان ‪ 500 ,‬كلم جنوب شرقي بيكين ‪ .‬قلت لمرافقي تشانج‬
‫وأنا أنظر مشدوھا إلى قنال العلم األحمر األسطوري ‪ :‬كيف‬
‫حققتم ھذا ؟ قال يغلب زھوه ‪ :‬المنطقة جبلية وعرة تعاني من‬
‫الجفاف منذ قرون ‪ .‬فكر الفالحون يوما بربطھا بنھر تشانجو ‪.‬‬
‫لكن كيف والنھر يقع ‪ 70‬كلم وراء جبال التايخان الشاھقة ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬بسيطة ‪ .‬ند ّمر ‪ 1250‬ق ّمة ‪ ,‬نحفر ‪ 134‬نفقا‪ ,‬نبني ‪150‬‬
‫جسرا ‪ ,‬نشق قناة طولھا ‪ 70‬كلم ‪ ,‬نبني ‪ 1500‬كلم من القنوات‬
‫الصغيرة كي يصل الماء كل شبر من األرض العطشى ‪ .‬نبني‬
‫الطرق والسدود ‪ ,‬نضاعف ‪ 40‬مرة المساحة المزروعة ‪ .‬وشمر‬
‫فالحو ليشيان عن سواعدھم من ‪ 1960‬إلى ‪ 1969‬وتحققت‬
‫المعجزة ‪ .‬أغرب ما في القصة ليس البطوالت الخارقة‬
‫والتضحيات الجسمية وإنما اعتماد الناس على أنفسھم ‪ .‬الدولة‬
‫مشغولة بمشاريع أخرى ؟ ال بأس ‪ .‬نحفر بابسط اآلالت وحتى‬
‫بأظافرنا ‪ .‬نصنع كل شيء الزم حتى المتفجرات ‪ .‬لم تتكلف‬
‫الدولة إال بــ ‪ % 20‬من المصروفات ‪ .‬الدولة عندھم ليست‬
‫التكية ‪ .‬وصدق من قال ‪ :‬إذا الشعب يوما ‪...‬‬
‫سن القانون ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬سبب تخلفنا االستعمار واإلمبريالية ‪ .‬قلت ‪ :‬ي ّ‬
‫ال يستعمر إال من كان قابال لالستعمار وال تسلب إال أرض‬

‫‪56‬‬
‫الضعفاء ‪ .‬االستعمار ليس سبب التخلف بل ھو تتويجه وخاتمته‬
‫الحتمية ‪ .‬حاول أن تستعمر اليابان أو أن تبني لك وطنا قوميا‬
‫في كندا‬
‫ستراسبورغ ‪ ,‬فرنسا ‪ .‬ھذا أول يوم في فرع أشعة أمراض‬
‫األعصاب ‪.‬‬
‫وصلت كالعادة إلى المستشفى حوالي الثامنة وكنت وجال شيئا‬
‫ما ‪ .‬األستاذ مشھور بعصبيته ‪ ,‬وجدته ينتظرني في مدخل قاعة‬
‫الفحوصات ‪ .‬قال ببرودة ‪ :‬ما ھي الساعة اآلن يا دكتور ؟ قلت ‪:‬‬
‫الثامنة ‪ ,‬ودقيقتين ‪ .‬انفجر في وجھي وكأنه جنّ ‪ :‬الساعة اآلن‬
‫الثامنة ودقيقة والعمل يبدأ الثامنة ‪ .‬لم أفھم إال بعض الجمل ‪:‬‬
‫سارق دقيقة في حياة المريض و من خزينة فرنسا ‪ .‬ال بد انه‬
‫مجنون أو أنه وجد عربيا البارحة في فراش زوجته ‪ .‬كل ھذه‬
‫الفضيحة من أجل دقيقة ‪ .‬وﷲ ال نتقمن منك يا ابن الكلب طال‬
‫الزمن أو قصر ‪.‬‬
‫وصلت من الغد الثامنة إال ربع ألتحاشى شره فوجدته يعمل ‪ .‬حيّاني بلطف ‪ .‬ومر‬
‫اليوم بسالم ‪.‬‬
‫عرفت الرجل بالممارسة وأحببته ‪ .‬علمني كل ما أعرف عن المخ وأمراضه ‪ .‬كان‬
‫يصل السابعة صباحا وينصرف العاشرة مساء ‪ .‬كنا بعد انتھاء أوقات العمل‬
‫الرسمي نجتمع به إلى ساعة متأخرة من الليل لنكتب أول كتاب في استعمال العقل‬
‫اإللكتروني للكشف على المخ ‪ .‬كان يتفقد األضواء قبل مبارحة المكان مطفئا ما‬
‫نسي منھا قائال ‪ :‬ادخار الطاقة في ھذه األيام العصبية واجب على كل فرنسي ‪.‬‬
‫عندما أدخل على موظف فأجده يرتشف القھوة ويقرأ صدى المحاكم أتذكر ھذه‬
‫القصة ‪ ,‬وعندما أشاھد الزميل فالنا يصل التاسعة وينصرف العاشرة ونصف )‬
‫صباحا( أتنكر ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫* قال ‪ :‬سبب تخلفنا نظام الحكم ولواله ال تينا بما لم يستطعه األوائل ‪ .‬قلت ‪ :‬لما‬
‫انھزمنا سنة ‪ 1967‬بالصفة المخزية التي تعرفھا ‪ ,‬قالوا ‪ :‬انتظرناھم من الشرق‬
‫فجاءوا من الغرب ‪ .‬وخرج الشعب من الغد بالماليين لكي يبقوا في الحكم ‪ .‬أما‬
‫حلفاؤه الشاميون فقالوا ‪ :‬ضاعت األرض وضاع الشرف ‪ ,‬ولكن المؤامرة لم تنجح‬
‫في إنزالنا من كراسينا التقدمية ‪ .‬قالوا ھذا ولم يعدمھم الشعب رميا بالبصاق ‪.‬‬
‫الحقيقة أن الحكومة المتخلفة مثل االستعمار تزيد طينة التخلف بلة ولكنھا ال تخلقه‬
‫‪ .‬نظام الحكم في أي بلد ھو الشاھد على نضج الحكام والمحكومين أي على نضج‬
‫الشعب ‪ .‬ھل تتصور بوكاسا إمبراطور على السويد أو ھل تعتقد أن الشعب‬
‫اإلنجليزي يمكن أن يفرز حاكما مثل عيدي أمين ؟‬
‫ھولن ‪ ,‬النرويج ‪ .‬ماذا يفعل طالب عربي فقير إبان العطلة ؟‬
‫يعمل في الصيف ليأكل في الشتاء ‪ .‬محسوبكم ھذا الصيف "‬
‫خدام حزام " في مزرعة جبلية بالنرويج ‪ .‬طلبتني يوما‬
‫''عرفتي ''‪ :‬ضاقت سلة المھمالت فأحمل ھذه العلبة الفارغة‬
‫إلى منزل مسز اريكسن لترميھا في سلتھا ‪ .‬أخذت العلبة وأنا ال‬
‫أعرف ھل المرأة تمزح أم تتحدث بجد ‪ .‬منزل اريكسن يبعد‬
‫كيلومتر والمنطقة جبلية خالية ‪.‬‬
‫أخذت العلبة وأنا أخفي ضحكي ‪ .‬شوارعنا في قلب العاصمة مزبلة ‪ .‬الولية عندنا‬
‫تفتح الشباك وترمي بزبلتھا على رؤوس المارة ويا ويل من يحتج وھذه " القاورية‬
‫" ‪ ...‬روادتني عروبتي ‪ .‬فكرت بأن أرمي العلبة في منتصف الطريق وكفى ﷲ‬
‫المؤمنين ‪ ..‬خفت أن تقوم مظاھرة ‪ .‬قررت أن أحفر لھا ضريحا لكن خفت أن ينبشه‬
‫الكلب ‪ .‬سلمت أمري ‪ .‬مشيت نصف الكيلومتر والعلبة في يدي وأنا ألعن إلى أن‬
‫وصلت دار المرأة ولم تستغرب كانت " عرفتي " لما تخرج في نزھة يوم األحد‬
‫تحمل معھا شكارة بالستيك للفضالت ألنھا تعلم بالسليقة أن القذارة قبح والقبح قذى‬
‫في عين النرويج وكانت تلك وطنيتھا ‪ ,‬ھل الحظت مدى وطنية سكان بلدنا ؟‬

‫‪58‬‬
‫يوم ‪ 10‬جوان انتخب األوروبيون أول برلمان لھم ‪ .‬كنت طيلة‬
‫دراستي اسمع واقرأ عن مناقشاتھم الصاخبة ومعاركم الطاحنة‬
‫حول توحيد سعر الزبدة والبطاطا ولحم الخنزير ‪ .‬وكنت أعرف‬
‫أنھم يضعون الحجر فوق الحجر لبناء وحدتھم‪ .‬عندما أقرأ عن‬
‫اجتماع زيد بعمرو واتفاقھما على قيام وحدة عربية فورية‬
‫ومدروسة أقلب الصفحة بسرعة ‪ .‬لكن أعدكم‪ :‬سأقرأ بكل انتباه‬
‫كل خبر عن مشروع توحيد سعر الطماطم العربية ‪.‬‬
‫اإلعالم في كل بلدان العالم مؤشر على نضج الحكام والمحكومين‬
‫‪ .‬افتح أي إذاعة عربية أو انظر إلى تلفزيوننا العظيم ساعة نشر‬
‫األخبار ‪ " :‬استقبل في المطار – ودّع في المطار – بعث برقية‬
‫تھنئة – وصلت برقية تاييد ‪ .‬ألقى كلمة نوه فيھا بالمجھودات‬
‫الجبارة وأشاد فيھا وعبر فيھا ومدح فيھا ازدانت المدينة بحلة‬
‫قشيبة من الزينة ‪ .‬بحت الحناجر من الھتاف ‪ .‬الخ ‪ ...‬بصراحة‬
‫أنا أكره أجھزة اإلعالم الرسمية العربية ‪.‬‬
‫ليلة ‪ 10‬جوان ‪ . 1967‬نحن منفيون مرتين ‪ :‬في عار الغربة‬
‫وعار الھزيمة ‪ .‬سرى خبر استسالم العرب في المدينة كالبرق ‪.‬‬
‫كل أوروبا تعلم أننا منينا بأبشع ھزيمة منذ سحقتنا ايزابال‬
‫الكاثوليكية أمام أسوار غرناطة ‪ .‬راديوا القاھرة ‪ :‬عوض أن‬
‫يقولوا انھزمنا لكن تاريخنا حافل بالھزائم واالنتصارات‪ ,‬حان‬
‫وقت النقد الذاتي لنجعل من الھزيمة نصرا ‪ .‬قالوا ‪ :‬بعث تيتو‬
‫برقية تأييد ‪ .‬شجبت صحيفة نبالية العدوان )الغاشم( ‪ ,‬وھكذا‬
‫طيلة نصف ساعة وفي األخير قبلت مصر قرارات األمم المتحدة‬
‫وقواتنا تنسحب بانتظام إلى ما وراء خط الدفاع الثاني )القتال(‪.‬‬
‫صديق لي كان ينتحل كالثكلى ‪ ,‬أما أنا فكنت أضحك بازدراء ‪.‬‬
‫من يتطوع للقيام بعملية جمع بسيطة للخسائر الھائلة في‬

‫‪59‬‬
‫األرواح و العتاد التي كبتھا اإلذاعات العربية العدو ؟ من يراھن‬
‫معي على أن الجنس اليھودي بأسره قد انقرض منذ بداية‬
‫الستينات حسب ھذه المصادر المطلعة ؟‬
‫اغلب أعالمھم يضيع ھباء منثورا وھم ال يعلموا ‪ .‬وصفة لوموند أو اإلذاعة‬
‫البريطانية فعالة للغاية وبسيطة للغاية ‪:‬‬
‫‪ % 90‬من الصدق والنزاھة والموضوعية واإلبداع عن اإلسفاف والمبالغة‬
‫والتفاھة والتمسح الذليل بأعتاب الحكام لتغليف وتمرير ‪ %10‬من األفكار العقائدية‬
‫– الطبقية – االستعمارية الثقافية ‪ .‬الفرق بين اإلعالمي ھو الفرق بين موسيقى‬
‫شوبرت وقرع الطبول ‪ .‬ھل تعلم أنني حلمت يوما بأن برقيات التأييد تقع في كمين‬
‫أعدته برقيات التھنئة وتصاب بخسائر ھائلة في األرواح والعتاد ‪ .‬أفقت مذعورا‬
‫على صوت أمي وھي تصرخ من المطبخ " بدأ المسلسل أو مازالت األخبار" ؟‬
‫عندما تصبح وسائل اإلعالم أمضى سالح لتعميق التخلف ونشره ‪...‬‬
‫ھجرة األدمغة ‪ :‬إحصائيات األمم المتحدة تقول أن ‪ % 25‬من‬
‫كل األدمغة المھاجرة في العالم عربية ‪ .‬أما من عالم اجتماعي‬
‫كبير يقدر باألرقام الخسارة الھائلة التي تمنى بھا العروبة نظرا‬
‫لھجرة الطبيب والمھندس والعامل الماھر أما ھل أنه ھو اآلخر‬
‫ھاجر ؟‬
‫خبر استرع انتباھي إبان أحداث إيران ‪ .‬لما انھار نظام الشاه برزت إلى الوجود‬
‫مئات الكتب ‪ .‬لم تكتب بطبيعة الحال بين عشية وضحاھا ‪ .‬كانت نائمة في األدراج‬
‫خوفا من القمع ‪ .‬قلت ‪ :‬أتتصور العدد الھائل من األبحاث في شتى الميادين النائمة‬
‫في أدراج العرب ‪ .‬قال ‪ :‬الناشرون عندنا أصيلون ‪ .‬ال ينشرون إال شرح الشرح‬
‫لألمام الخشفقندي وديوان غزل ابن الركيك ومن القصص الصغيرة من نوع أحبته‬
‫وأحبھا ورفض أبوھا تزويجھا ألنه فقير فأصيب بالحصباء ومات ضحية التقاليد‬
‫البالية ولم يمت معه الناشر بالمناسبة مشكورا ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫قلت ‪ " :‬يصورا في خبزتھم " أما بعث الفكر المعاصر فليس من اختصاصھم ‪ .‬تعال‬
‫نقف دقيقة صمت حدادا على كل الكتب التي أجھضوھا‪ .‬وقفنا وسط الشارع نتمتم‬
‫بالفاتحة ‪ .‬ضاقت " منوبة " عن مجانين تونس ‪.‬‬
‫* لماذا ھاجرت األدمغة ؟ لضعف األجور ؟ لسطوة الروتين ؟ النعدام جائزة نوبل‬
‫عربية تشجع البحث ؟ ربما ! لكن السبب أعمق من ھذا ‪ .‬ھاجرت إلى بالد الحرية ‪.‬‬
‫أين ال توجد الحرية تبور القرائح ‪ .‬تضمر خاليا المخ ‪ .‬يستسلم العقل ‪ .‬ھناك في‬
‫الغرب انھزمت محاكم التفتيش ‪ ,‬حرقت جيوردا نوبرونو ‪ ,‬نكلت بقاليلي ‪ ,‬لعنت‬
‫كوبرنيك شردت ديكارت ‪ ,‬لكنھا انھزمت في األخير فكانت النھضة وغزو القمر ‪.‬‬
‫عندما مثلت نفس العقول بالحالج ‪ ,‬قتلت ابن المقفع‪,‬نكلت بعيد الحميد الكاتب ‪,‬‬
‫وقفت العلم على دراسة اإلعجاز للباقالني ومقامات الحريري وغزل ابن الشمقمق‬
‫والزالت تتحكم ‪ .‬المصيبة أننا دخلنا االبتدائي والثانوي وتخرجنا من العالي بمئات‬
‫اآلالف وبامتياز والرقيب ال زال يحلم بالفلقة ويھجي في سورة عم ‪.‬‬
‫لما رجعت من الغربة قضيت شھرا أبحث عن شقة يقدر عليھا‬
‫طبيب جامعي مثلي ) ذو راتب متخلف ( ‪ .‬كنت أشده لالثمان‬
‫الخيالية التي كانوا يطالبونھا ‪ .‬بالممارسة عرفتھم ‪ .‬كمشة من‬
‫المرابين المحتكرين الطفيليين ‪ .‬البرجوازي عندما يمأل جيوبه ال‬
‫يستثمر في صناعات تخلق الثروة ومواطن الشغل بل يسارع إلى‬
‫مزاحمة الفالح على األرض ‪ ,‬ووضع يده على أكبر عدد ممكن‬
‫لمص دم أمثالي وشراء 'كالكسون'' جديد وأقوى‬
‫ّ‬ ‫من الشقق‬
‫للمرسيدس ‪ .‬المصيبة ليست أن برجوازية بل أن لنا برجوازية‬
‫عاقرة ‪.‬‬
‫لو سألتني عن أعظم فيلسوف قرأت له لقلت بدون تردد ‪:‬‬
‫اإلنجليزي فرانسيس بايكون ألنه قال ‪ " :‬ال يمكنك إمالء إرادتك‬
‫على الطبيعة طالما لم تخضع لقوانينھا " كل الحضارة الغربية‬
‫مبنية على تطبيق قانون بايكون ‪ .‬منذ النھضة وھم يقومون‬

‫‪61‬‬
‫بجرد كامل لقوانين الطبيعة حتى يخضعوھا إلرادتھم ‪ .‬ھم‬
‫يعرفون أن كل شيء سواء في عالم الطبيعة أو اإلنسان محكوم‬
‫بقوانين ‪ :‬الطائرة ال تطير في المساء ضد قوانين الفيزياء بل‬
‫بفضلھا ‪ .‬منتھى السطوة في منتھى الخضوع ‪ .‬حتى في عالم‬
‫السياسة تراھم يحاولون فھم القوانين لتطبيقھا ‪ .‬ھل الماركسين‬
‫أو وضعية أوقست كومت شيء آخر ‪ .‬و نحن ؟ نحن أصحاب‬
‫عقلية خيالية ‪ .‬يكفي أن تتكلم عن المشاكل لتختفي ‪ .‬قل أربعة‬
‫أبيات شعرية تبنى مجدك ‪ .‬نرفض قوانين الكون ‪ .‬نجھلھا ‪.‬‬
‫نتجاھلھا‪ .‬نتحايل عليھا‪ .‬نحاول تطويقھا ‪ ,‬إجھاضھا ‪ ,‬كسر‬
‫شوكتھا بالعنف ‪ ..‬عبثا ‪.‬‬
‫نحن نعاني من العطش في حمام األنف منذ أيام ‪ .‬قطعوا عنا‬
‫الماء ‪ .‬ھكذا بكل بساطة ‪ .‬أين الماء ؟ في مسابح السواح ؟ أين‬
‫المسؤول ؟ ال مسؤول ھناك ‪ .‬أين الالمسؤول ؟ يستحم في‬
‫المسابح اآلنفة الذكر ‪ .‬قطعوا الماء عن ‪ 60‬ألف نسمة بال شرح‬
‫‪ .‬لنفرض أن ھناك نقصا في الماء ‪ .‬لماذا لم تجند البلدية أجھزة‬
‫اإلعالم للتوعية والشرح واالعتذار ؟ ألن الحاكم المتخلف ال‬
‫يشعر تجاه المحكوم المتخلف إال باالحتقار ‪ .‬سنخرج من التخلف‬
‫)أن خرجنا ( يوم يضطرون إلى احترامنا ‪ .‬على كل طالما لم‬
‫يقطعوا عنا التلفزة ‪...‬‬
‫فرانكفورت – ألمانيا ‪ :‬كنت مكلفا في ذلك المصنع اللعين بكبس‬
‫نفس " الروشكة " على نفس القطعة عشرة ساعات في اليوم ‪.‬‬
‫اضطھدني عرفي طيلة الصيف ‪ :‬باقي ميلمتر ‪ .‬باقي نصف‬
‫ميليمتر ‪ .‬باقي ربع ميليمتر ‪ .‬صرخ يوما في وجھي ‪ :‬أنتم‬
‫العرب ال تعرفون العمل ‪ .‬لما كنت في إسبانيا مع فرانكو ابان‬
‫الحرب سمعت مثال يقول ‪ :‬طراباخو مورو مالواي بوكو ) العمل‬

‫‪62‬‬
‫العربي رديء وقليل ( ‪ .‬قلت بلھجة التحدّي ‪ :‬والحمراء ؟ )أقصد‬
‫قصر الحمراء ( ضحك بشماته مشيرا إلى حفنة من الطليان‬
‫جمعني التخلف وإياھم إلى نفس اآللة األلمانية ‪ :‬عالقتكم ببناة‬
‫الحمراء كعالقة ھؤالء برومان بوليوس قيصر ‪ .‬نازي ‪ .‬ابن كلب‬
‫‪ .‬لكن ميزان القوة لصالحك فأنت من شعب يجيد كبس‬
‫''الرواشك'' وأنا من شعب يجيد نظم القوافي ‪ .‬بيني وبينك‪,‬‬
‫الرجل على حق ‪ .‬ينوا مجدھم ورخاءھم على الدقة واإلتقان في‬
‫كل شيء ‪ .‬نحن ؟ درج مكتبي ال يفتح إال بصعوبة ربما من أجل‬
‫ربع ميلمتر عمل ‪ .‬تقرأ ‪ :‬انفجرت الطائرة ومات كل الركاب ألن‬
‫زرا حقيرا لم يكبس كما ينبغي أحمد ﷲ أننا نصنع الطائرات وإال‬
‫لتساقطت كحجارة من سجيل ‪.‬‬
‫كنت ال أخشى إبان االجتماعات الصاخبة التي كنا نعقدھا ونحن‬
‫طلبة لشرح أبعاد القضية للغربيين إال تدخل الصھاينة المعروف‬
‫‪ :‬نحن زرعنا الصحراء ‪ .‬كانت الحجة تفحمني وكنت أتذكر‬
‫صيف ‪ . 53‬نحن في إقامة جبرية بدوز ‪ .‬كثبان الرمل تحيط بنا )‬
‫أحاطة السوار بالمعصم كما يضيف أتوماتيكيا المتخلفون ذھنيا‬
‫من تالمذة االبتدائي وأجھزة اإلعالم الرسمية ( ‪ .‬جفت العين ‪.‬‬
‫مرض حمار جدي ‪ .‬ذبلت نخالت الحوش ‪ .‬عرفت العطش وفن‬
‫المشي الراقص على الرمضاء ‪ .‬حملت معي الذكرى أينما‬
‫توجھت ركائبي ‪ .‬كنت أنتقي لدوز األنھار في الصين والشالالت‬
‫والبحيرات في أمريكا والغابات في سكندنافيا وكان ضريحي‬
‫الغوث والمحجوب يختفيان تحت ھضاب ورود ھولندا ‪ .‬كانت‬
‫القرية الجزيرة تتمطط بسحر الخيال فتتراجع الصحراء لتصبح‬
‫قارة بأكملھا ‪ .‬قارة خضراء ‪ .‬كنت أحلم وكانوا يعلمون ‪ .‬كان‬
‫زمالئي اليھود يقولون بعد نھاية العطلة ‪ :‬كنا في الكيبوتز‪ .‬في‬

‫‪63‬‬
‫النقب ‪ .‬نزرع زيتونة والكروم فأشعر بأنني أحقر من قملة ‪.‬‬
‫سنتقدم يوم يصبح زرع الصحراء شرفا يتھالك عليه الناس ‪.‬‬
‫إن أردت الدعاء ألحد قل ‪ :‬رزقك ﷲ بأبناء العم والخال ) على‬
‫شرط أن يكونوا من أصحاب النفوذ ( ووفر لك المعارف‬
‫واألكتاف وال حرمك من " البيستون " ) صرف فعل بستن –‬
‫يبستن على وزن بزنس‪ -‬يبزنس ( نحن شعوب قبلية بالفطرة ‪.‬‬
‫أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ‪ .‬األقربون أولى بالمعروف ‪ .‬نحن‬
‫ال نعرف – حكاما ومحكومين‪ -‬إال شيئيين ‪ " :‬تدبير الرأس "‬
‫وقانون القوة ‪ .‬والويل لضعيف !‬
‫* كم يحز في نفسي أنني لن أرى اليوم الذي ينعم فيه كل العرب بدون استثناء‬
‫بحقھم في الخبز والكرامة كم يحز في نفسي أن لن أقرأ أن التونسية ال يخرج في‬
‫نزھة إال ويحمل معه شكارة الفضالت ‪ .‬إنه يصل الثامنة إلى العمل ويبقى بعد الوقت‬
‫القانوني ‪ ,‬إنه ) يقيم الدنيا ( على ريع مليمتر ‪ ,‬إنه ال يلقي عود ثقاب في الشارع‬
‫وأن خالي يعتبر من الطبيعي أن ينتظر دوره في المستشفى أربع ساعات حتى ولو‬
‫كان الطبيب ابن أخته أو ربما لھذا السبب بالضبط‪.‬‬
‫منذ زمانا طويال وأنا أكره ھذه األغاني البليدة في الحب التي‬
‫تذيعھا إذاعتنا آناء الليل وأطراف النھار ‪ .‬كنت وال أزال أستثقل‬
‫بالخصوص طولھا ‪ .‬وكنت أعزوه إلى أننا ورثة الحدائين وشعب‬
‫من العاطلين ال يضيره ضياع الوقت ‪ .‬لكني فھمت السبب‬
‫الحقيقي ‪ :‬كتبت الصباحة تقول إن اإلنجليز لما اضطروا في‬
‫بداية العشرينات إلى فتح أول إذاعة عربية خافوا أن تكون‬
‫مصدر وعي ومشاكل فإشطرتوا أن ال تبث إال األغاني في الحب‬
‫على شرط أن تتميز بالرتابة والطول ‪ .‬والخالص بالساعة ‪ .‬منذ‬
‫نصف قرن وإذاعتنا ضحية أخبث مؤامرة ألدھى المستعمرين ‪.‬‬
‫منذ نصف قرن ونحن ضحية إذاعتنا ‪ .‬الدين ھو أفيون الشعب‬

‫‪64‬‬
‫ي‬
‫كما قال ماركس ؟ ال ‪ .‬أم كلثوم ) وكرة القدم ( ‪ ,‬قال أبي ودو ّ‬
‫الصفعة يرن في أذنه ثالثين سنة بعد الحادث ‪ :‬صفعني جندي‬
‫االستعمار في مدخل قابس بال سبب – بال سبب ؟ أنت واثق ؟‬
‫ألم يصفعك ألنك متخلف وابن متخلف وعصارة عشرة قرون من‬
‫التخلف ؟ نسي ‪ .‬ولم أنس ‪ .‬و ال تنسوا حتى ال يصفعوكم من‬
‫جديد في مدخل قابس ‪ .‬كان يقول بالعلم والعمل تثأر لي ونغلبھم‬
‫‪ .‬أقول بالعلم والعمل نغلب أنفسنا وھذا أھم بكثير لكن العلم بماذا‬
‫؟ بالقانون ‪ ,‬بقانون بايكون ‪ ,‬بالمغزى العميق العلمي المقدس‬
‫لالصطالح ‪.‬‬
‫قانون الحكم الفعال ؟ أمركم شورى بينكم – سيد القوم خادمھم ‪ :‬الحكم ما يكون‬
‫جداال ) خليل مطران ( اإلعالم الفعال ؟ الصدق أوال وأخيرا ‪.‬‬
‫قانون تفجر الخلق واإلبداع ‪ :‬الحرية فالحرية ثم الحرية ‪.‬‬
‫قانون الحياة االجتماعية السليمة ؟ الوسيلة الوحيدة لكي أضمن حقي في‬
‫الكرامة والخبز ھو أن يتمتع كل فرد من أفراد المجتمع بحقه في الكرامة والخبز‬
‫ويسن ھذا القانون أيضا ‪ :‬بناء الثروة على الفقر والسلطة على القھر كبناء قصر‬
‫على رمال متحركة أو تشيد فرح على فوھة بركان ) آخر من جرب مفعول ھذا‬
‫القانون ولد البھلوي ( قانون المناعة في ھذا العالم الخطير ؟ وأعدوا لھم ‪...‬‬
‫كالبنيان المرصوص ‪ ..‬وال تفرقوا ‪.‬‬
‫قانون التقدم االقتصادي ؟‬
‫وأعملوا ‪...‬‬
‫قانون القوانين ؟ ال سلطة فوق سلطة القانون ‪.‬‬
‫آخر نكتة ضحكة لھا مدة ‪ :‬ضبطت قوى الغدر والعدوان) الغاشم طبعا ( عربيا جيبه‬
‫منتفغ بشكل مثير ومشبوه ‪ .‬إرھابي خطير ؟ استنفرت قوات الطيران والبحرية‬
‫وأعلنت حالة الطوارئ القصوى ‪ .‬إحاطة الدبابات بالرجل ) إحاطة الخ ( – انتصب‬
‫المظليون والمغاوير – اقتربوا منه زحفا على البطون شاھرين مدفعھم الرشاش‬

‫‪65‬‬
‫وأسنانھم تصطك من الرعب ‪ .‬م ّد مھندسو األلغام أيديھم إلى الجيب المشبوه وھم‬
‫يتصببون عرقا ‪ .‬ماذا أخرجوا ؟ " كانون وبراد و كأسي شاي " ‪.‬‬
‫يا عرب اجمعوا نكتنا قبل أن تضيع فھي الشاھد الوحيد على أننا رغم التخلف‬
‫شعوب ذكية – واعية ‪ ,‬تجيد نقد نفسھا وتعرف حقيقة وضعيتھا وأننا أذكى بكثير‬
‫مما تصور اإلذاعات " كل شيء على ما يرام يا مدام الماركيزة "‬
‫* قال ضاحكا ‪ :‬الحل أن نؤجر ھذا الوطن إلى من ھم بحق أجدر به منّا نتقاسم ثمنه‬
‫ونھاجر ويطفئ آخر من يخرج من أضواء المطار ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ال ‪ .‬يكفي أن نحبّه وسيتقدم ‪.‬‬
‫***‬

‫‪66‬‬
‫المبتذالت العشر وردّي عليھا‬
‫في أعقاب الھزيمة المر ّوعة التي منينا بھا سنة ‪ 1967‬قال نزار القباني ‪ ,‬يصف‬
‫حالة العرب الفكرية التي أدت بنا إلى الكارثة ‪:‬‬
‫نجلس القرفصاء ‪.‬‬
‫نبيع الشعارات لألغبياء‬
‫ونحشو الجماھير قشا وتبنا‬
‫ونتركھم يعلكون الھواء‬
‫وبھذا األبيات يكون الشاعر قد شخص مرضنا العضال ‪ :‬مرض الشعارات‪ :‬أخبارنا‬
‫في اإلذاعة شعارات ‪ .‬كتبنا في الدين ‪ ,‬في الفلسفة في التاريخ ‪ ,‬شعارات ‪ .‬أبحاثنا‬
‫العلمية أو على وجه التدقيق المتعلمنة شعارات ‪ .‬نظرتنا إلى أنفسنا وإلى اآلخرين‬
‫محكومة بالشعارات ‪ .‬والشعارات ھي نقيض الفكر ‪ ,‬ھي تكريس فشله ‪ ,‬ھي دورانه‬
‫في حلقة مفرغة ‪ ,‬ھي فكر من ال فكر له ‪ ,‬وجملة القناعات المبتذلة التي تجترھا‬
‫حضارة ذابلة ‪ .‬ومھمة الشعارات تغطية الفشل إذ ھي مرھم الف ّعال نضعه على‬
‫جروحنا الدامية المتقيحة‪ ,‬نجد فيھا العزاء والسلوى واألعذار المختلفة التي نبرز‬
‫بھا أننا لم نعد خير أمة أخرجت للناس ‪.‬‬
‫لكننا اليوم أمة بصدد االبالل من ذلك المرض العضال الذي أسميناه التخلف – وقد‬
‫بدا جسم الحضارة يستعيد شيئا فشيئا الحياة ومقومات القوة ‪ .‬و من مظاھر الشفاء‬
‫أننا أصبحنا نواجه أنفسنا بالحقائق التي تجرح وتؤلم وأننا نترك شيئا فشيئا‬
‫الشعارات لنوعين من العقول ‪ :‬الذليلة والمكيافلية ‪.‬‬
‫نعم آن األوان ألن نواجه أنفسنا بالحقائق التي تجرح والتي تؤلم ألن ألمنا سيكون‬
‫الدليل على أن المشاعر التي خدرھا التخلف والمحاوالت اليائسة إلنكاره قد عادت‬
‫إلى العمل ‪ ...‬إلى الحياة ‪...‬‬

‫‪67‬‬
‫والشعارات في عالم الفكر عديدة ولو أن تغليفھا أذكى ‪ ,‬لكنھا مجرد شعارات وقد‬
‫أسميتھا المبتذالت ‪ .‬أردت إحصائھا يوما فوجدتھا كالوصايا ‪ :‬عشرة ‪ .‬وأردت أن‬
‫أر ّد عليھا باختصار فكانت ھذه الخواطر ‪:‬‬
‫المبتذلة األولى‬
‫اإلسالم دين بحث على العدالة واإلنصاف وھو دين حق وفضيلة وتسامح واخاء الخ‬
‫‪...‬‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ -1‬من قال العكس ؟ فلماذا اإلصرار على فتح األبواب المفتوحة ؟‬
‫‪ -2‬وھل البوذية والھندوسية والمجوسية واليھودية والماركسية والمسيحية عقائد‬
‫وديانات تحت على الرذيلة والجريمة وتنادي بالظلم وتنتصر للشر وتنادي بالتعرض‬
‫للحق والخير ‪.‬‬
‫‪ -3‬أليس صحيحا أن نجاح ھذه العقائد والديانات في تحقيق عالم المساواة واإلخاء‬
‫والفضيلة الخ ‪ ..‬كنجاح اإلسالم أي متواضع إلى أبعد حدود التواضع‬
‫المبتذلة الثانية‬
‫كان الماضي العصر الذھبي لألمة العربية ‪.‬‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫صلة الحلقات من الفتن والحروب بدأت‬
‫‪ -1‬غير صحيح ‪ .‬كان الماضي سلسلة مت ّ‬
‫بمقتل عمر مرورا بمقتل عثمان وعلي والحسين وسلطنة األمويين كان فترة‬
‫عبودية وظلم وحرب واقطاع‬
‫‪ -2‬لم يعرف اإلنسان العربي عبر تاريخه الطويل فترة أحسن من التي يعيش فيھا‬
‫حاليا ‪ .‬فقد اختفى الرق ‪ ,‬وساد التعليم وسھلت المعيشة وطالت مدة الحياة وأصبح‬
‫السلطان يحسب ألف حساب للرعية ‪.‬‬
‫‪ -3‬العصر الذھبي إن كان لھذا المفھوم معنى‪ ,‬أمامنا وليس وراءنا ‪.‬‬
‫المبتذلة الثالثة‬

‫‪68‬‬
‫كنّا أمة واحدة وتشتّتنا وعملية التوحيد ھي رجوع إلى الحالة المثالية للعصر‬
‫الذھبي ‪.‬‬
‫‪ (1‬غير صحيح أننا كنا أمة واحدة ‪ .‬فقد كنّا وال نزال أناسا والؤھا للقبلية وللدين ‪.‬‬
‫والقبلية ھي المرض العضال الذي لم يستطع حتى اإلسالم مداواته ‪ .‬على سبيل‬
‫المثال ‪ :‬أدرس حرب بكر وتغلب مائة سنة بعد ظھور اإلسالم ومدى بشاعتھا‪.‬‬
‫‪ (2‬لم نعرف في تاريخنا الطويل قدرا مماثال لما نعرفه اليوم من وحدة سواء داخل‬
‫أقطارنا الصغيرة أو حتى بين مختلف األقطار ‪ .‬فالعربية الفصحى لم تعرف في يوم‬
‫من األيام انتشارا كالذي تعرفه ودور المسلسالت العاطفية التي تعرضھا التلفزة في‬
‫بناء األرضية الثقافية الموحدة أھم بكثير من ألف قمة وألف اجتماع وزاري يعقد‬
‫لوضع برامج وخطط " وحدوية "‬
‫المبتذلة الرابعة‬
‫تاريخنا سلسلة من االنتصارات واألمجاد العسكرية والثقافية والسياسية ‪ ,‬ولكي‬
‫نعيد ھذه االنتصارات يجب أن نخرف منه ومن محتواه ) التراث ( أسباب النھضة‬
‫والعزة والمناعة ‪.‬‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ -1‬تاريخيا ھو رواية المنتصرين إلحداث التاريخ ونحن نكاد نجھل كل شيء تقريبا‬
‫عن تاريخ عربي يعطي الكلمة للزنج والقرامطة وللحالج وابن المقفع وسائر الذين‬
‫قمعوا وصلبوا وقتلوا حتى ال يكشفوا الوجه اآلخر للحقيقة ‪.‬‬
‫‪ -2‬تاريخيا ككل تاريخ حافل باالنتصارات وبالھزائم ومن ثمة فإن تراثنا ھو اآلخر‬
‫حافل بالغث والسمين‬
‫‪ -3‬التراث ھو جملة تصورات جيل معين للعالم وجملة التكنولوجيات التي يتعامل‬
‫بھا مع العالم إلخضاعه وتغييره‪ .‬ومن البديھي أن كل جيل يأخذ بتجربة من سبقه ‪,‬‬
‫لكن ھناك في تاريخ األجيال فترات عصبية تفرض التغيير الجذري ألن العالم يشھد‬
‫بدوره " تغييرات جذرية " لم تعد تتماشى مع تصورات األجيال السابقة ‪ ,‬وال‬
‫تخضع لتكنولوجياته‪ .‬نحن عرب القرن العشرين نعيش مثل ھذه الفترات ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫المبتذلة الخامسة‬
‫فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية كبير ‪ .‬فلوال صفرنا لما طلعوا إلى‬
‫سطح القمر وقد كنا السباقين في سائر الميادين كالطب والفلك والحساب ‪ .‬الخ ‪...‬‬
‫يوم كانوا يتخبطون في ظلمات جھل عصورھم الوسطى‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ -1‬صحيح أن فضل العرب كبير ‪ ,‬لكن أليس من اإلنصاف أن نعترف أيضا بفضل‬
‫الھنود والفرس واإلغريق الذين أخذنا عنھم ھذه العلوم ‪.‬‬
‫‪ -2‬غير صحيح أن نھضة الغرب كانت نتيجة وتتمة النھضة العربية ) األولى (‪ .‬فقد‬
‫تقدم الغرب بفضل عبقريته الذاتية وكان تقدمه في بعض األحيان رھين تمرده على‬
‫التراث العربي اإلسالمي وتجاوزه له ‪.‬‬
‫‪ -3‬إن الفتى من قال ھأنذا – ليس الفتى من قال كان أبي‬
‫المبتذلة السادسة‬
‫تلقى تبعة التخلف على االستعمار واإلمبريالية والقضاء والقدر الخ ‪ ..‬أما نحن‬
‫ومؤسساتنا الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية ‪ ,‬فمنه براء‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ -1‬إن تخلف مجتمع ما ليس إال مؤشرا إن دل على شيء فعلى ھشاشة مؤسساته‬
‫الفكرية والدينية واالجتماعية والسياسية‪ ,‬وبالتالي فالتخلف ليس مرضا طالما‬
‫يصيب جسما يافعا وإنما أعراض مرض تسبب فيه المجتمع نفسه واألمراض من‬
‫نوعين ‪ :‬الزائدة الدودية ومضاعفات اإلدمان على المخدرات – التخلف مرض من‬
‫النوع الثاني ‪.‬‬
‫‪ -2‬أسباب التخلف عديدة ومتشابكة ‪ .‬ولكل مؤسساتنا ضلع فيه ‪ :‬الفكر‪ ,‬الدين ‪,‬‬
‫السياسة ‪ ,‬بصفة عامة اإلنسان العربي‪.‬‬
‫‪ -3‬عملية الخروج من التخلف متصاعدة السرعة – كل الحركات الفكرية‬
‫واالجتماعية والسياسية التي تشھدھا مجتمعاتنا تشھد بعمق التغييرات الجذرية‬

‫‪70‬‬
‫الذاتية التي تعرفھا أعماق جسم األمة والويل لمن يتأخر مرة أخرى عن الركب أو‬
‫يحاول الوقوف في وجه التيار العاتي ‪.‬‬
‫المبتذلة السابعة‬
‫نحن شعب كافح وجاھد وصبر وثابر للحصول على االستقالل الذي أصبحنا نتمتع‬
‫به عن جدارة واستحقاق ) وھات من الخطب والدراسات واألناشيد واالحتفاالت الخ‬
‫‪( ..‬‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ -1‬نحن لسنا مستقلين ال على الصعيد االقتصادي وال على الصعيد الثقافي ومن ثمة‬
‫نحن لسنا مستقلين على الصعيد السياسي ‪.‬‬
‫‪ -2‬مفھوم االستقالل في عصر كھذا بال معنى وھو شعار فارغ من كل محتوى فكل‬
‫الشعوب مرتبطة ببعضھا البعض وصالت الترابط والتالحم والتبعية المتبادلة تزداد‬
‫قوة يوما بعد يوم وذلك على كل المستويات ومن ثمة ال وجود لدولة مستقلة مھما‬
‫عظمت ‪.‬‬
‫‪ -3‬المشكلة المطروحة أمام كل األمم والدول ليست االستقالل وإنما اكتساب وزن‬
‫كاف يجعلھا تأخذ بقدر ما تعطي وتؤثر بقدر ما تتأثر في إطار عالقات التبعية‬
‫المتبادلة بطبيعة الحال نحن العرب نعطى حاليا تجاريا أكثر مما نأخذ ‪ ,‬نتأثر ثقافيا‬
‫أكثر مما نؤثر ‪ ,‬نستھلك العلم والتكنولوجيا وال ننتج منھما شيئا وتبعيتنا السياسية‬
‫ھي النتيجة الحتمية لوزننا الحقيقي أي الھش ‪ .‬وبھذا تكون الخطب واألناشيد‬
‫واالحتفاالت مجرد تقنيات دعائية ھدفھا التغطية والتمويه والكذب على النفس‬
‫والغير ‪.‬‬
‫سب االستعمار واإلمبريالية والشكوى الدائمة من تجاوزاتھا وإنما‬
‫‪ -4‬المھم ليس ّ‬
‫الوعى الدائم بأننا في إطار عالقات القوة التي تحكم تعامل األمم‪ ,‬شعوب مشتتة ‪,‬‬
‫ضعيفة فقيرة متخلفة ثقافيا وتكنولوجيا ‪ ,‬أي أننا قابلون لالستعمار من جديد إذا‬
‫اقتضت ذلك مصلحة العمالقة نحن قطط تحكي انتفاخا صولة األسد تحت مراقبة‬
‫السباع الحقيقية ‪ .‬فحذار !‬

‫‪71‬‬
‫المبتذلة الثامنة‬
‫االستعمار واإلمبريالية ھما ألد أعداء األمة العربية ‪ ,‬وھما مشكلتنا األولى وكل‬
‫مصائبنا نتيجة عنھا‬
‫* الرد ‪:‬‬
‫‪ (1‬كان االستعمار تتويج تخلفنا العلمي والتقني والتنظيمي واألخالقي ‪ ,‬وكان‬
‫الخاتمة الحتمية النحطاطنا وانھيارنا الحضاري ولم يكن سببه – فأنت ال تستطيع‬
‫أن تستعمر اليوم شعب عظيما كالشعب الياباني أو األمريكي إذ ال تستعمر إال‬
‫الشعوب القابلة لالستعمار وقد كنا تلك الشعوب ‪.‬‬
‫‪ (2‬إن االستعمار لم يزيد الطين بلة ‪ ,‬بل بالعكس شكل عامال إيجابيا في تاريخنا ‪.‬‬
‫فبإذالله لنا وبابتزازه لخيراتنا وبإھداره لكرامتنا قد وضعنا أمام خيارين ‪ :‬الموت‬
‫واالنقراض أو رفع التحدي بشحذ ھممنا وبإثبات ذاتنا – وكان رفعنا لتحدي ملحمتنا‬
‫التاريخية ‪ ,‬وفرصتنا لنھوض من نوم ثقيل – صحيح أن االستعمار آفاقنا بركلنا‬
‫بالرجل ولكنه آفاقنا ‪ ,‬شكرا جزيال له إذن ‪.‬‬
‫‪ (3‬كل أمة عظمى بطبيعتھا إمبريالية تريد فرض مفاھيمھا وعقيدتھا واستغالل‬
‫الشعوب الضعيفة المحيطة بھا ‪ .‬أنلوم األمريكان والروس على إمبرياليتھم ؟ نحن‬
‫أعرق األمم اإلمبريالية – أنسيتم أننا أخضعنا اإلسبان سبعة قرون وأننا حكمنا‬
‫إيران ثالثة قرون وأننا قضينا على لغة الفراعنة ودفعنا البربر نحو الجبال وأن‬
‫وطننا الممتد من الخليج إلى المحيط ھو كل ما بقي لنا من فتوحات األجداد ‪.‬‬
‫المبتذلة التاسعة‬
‫إسرائيل دولة غاصبة ‪ ,‬استولت على أراضينا وحقوقنا المشروعة ظلما وعدوانا –‬
‫والحق معنا وھي تجسيد للظلم والطغيان والشر ) إلى آخر النواح ( ‪.‬‬
‫الرد ‪:‬‬
‫‪ (1‬من المؤكد أن إسرائيل استولت على أراض لنا وأھدرت حقوقنا وشردت شعبنا‬
‫من شعوبنا ‪ ,‬لكن ماذا تنفع الشكوى من ظلم ال نستطيع له دفعا ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ (2‬متى كان العدل مقياس تعامل الشعوب مع بعضھا البعض ‪ :‬أال يالحظ التاريخ أن‬
‫الحرب سجال منذ وجد اإلنسان بين شعوب غازية وشعوب مغزوة وأن مصير‬
‫النزاع ال يتقرر وفق مقاييس أخالقية وإنما حسب ميزان القوى ؟ ألم نغز شعوبا في‬
‫الماضي ؟ أھذه أول وآخر غزوة عرفھا وسيعرفھا تاريخنا الحافل بالكر و الفر ‪.‬‬
‫‪ (3‬وجود إسرائيل نقمة ونعمة في نفس األواني – راجعوا نظرية المؤرخ البريطاني‬
‫توينبي ‪ TOYNBEE‬في دور التحدي كحافز جبار تمخضت عنه كل الحضارات‬
‫العظيمة ‪.‬‬
‫وإسرائيل اليوم ھي تحدينا األكبر – إسرائيل قوة علمية – تكنولوجية سياسية ثم‬
‫عسكرية‪ -‬السؤال ھل سنعرف بفضل إسرائيل وما تفرضه علينا إلى مستوى‬
‫التحدي المطلوب أي ھل سنخلق عوامل التفوق العلمي التكنولوجي االقتصادي‬
‫السياسي ثم العسكري فتزول إسرائيل أو تقلم أظافرھا أم ھل سنبقى دون التحدي‬
‫فتترعرع إسرائيل كسرطان خبيث يقضي عاجال أم آجال على ھذه األمة ‪.‬‬
‫رجاء كفوا عن التشدق بالحقوق المشروعة – ھل منعت حقوقھم المشروعة الھنود‬
‫الحمر من االنقراض ؟‬
‫المبتذلة الرئيسية ) ومكمن كل الداء (‬
‫أنا ‪ :‬المنتمي إلى العقيدة الفالنية والمذھب العالني والحزب كذا على حقا وبقية‬
‫الناس خونة ‪ ,‬في قلوبھم مرض – كفار مالحدة ‪ ,‬عمالء االستعمار واإلمبريالية إلى‬
‫آخر التفاھات التي يمكن أن تسجل منھا عشرات العينات عند استماعك إلى نشرات‬
‫أخبار اإلذاعة العربية ‪.‬‬
‫الرد ‪:‬‬
‫* قال أذكى من جادت به قريحة الحضارة العربية عبد ﷲ ابن المقفع ‪ " :‬وأردت‬
‫الدين فلم وقع ذلك في نفسي اشتبه على أمر الدين ‪ .‬أما كتب الطب فلم أجد فيھا‬
‫لشيء من األديان ذكرا يدلني على أھداھا وأصوبھا ‪ .‬وأم الملل فكثيرة ومختلة ليس‬
‫منھا شيء أال وھو على ثالثة أصناف ‪ :‬قوم ورثوا دينھم عم آبائھم وآخرون أكره‬
‫عليه حتى و لجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا وكلھم يزعمون أنه على صواب‬

‫‪73‬‬
‫وھدى وأن من خالفه على خطأ وضاللة واالختالف بينھم كثير في أمر الخالق‬
‫والخلق ومبتدأ األمر ومنتھاه وما سوى ذلك وكل على كل زار وله عدون وعليه‬
‫عاتب فرأيت أن أراجع علماء أھل كل ملة وأناظرھم وأنظر فيما يصفون ولعلي‬
‫أعرف بذلك الحق من الباطن فاختاره وألزمه على ثقة اليقين غير مصدق بما ال‬
‫أعرف وال تابع ما ال يبلغه عقلي ففعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد أحدا من‬
‫األوائل يزيد عن مدح يدنه وثم ما يخالفه ‪ ...‬فاستبان لي أنھم بالھوى يستجيبون‬
‫ويتكلمون ال بالعدل وأجد عن أحد منھم صفة تكون عدال ويعرفھا العقل ويرضى بھا‬
‫فلم رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منھم سبيل ‪.‬‬
‫وقال ذلك الذي كان يقال عنه أنه أعمى وھو نافذ البصر والبصيرة أبو العالء‬
‫المعري ‪:‬‬
‫غسل الوجوه ببول البقر‬ ‫عجبت لكسرى واشياعه‬
‫ويظلم حيا وال ينتصر‬ ‫وقول النصارى آله يضام‬
‫رسيس النساء وريح القتر‬ ‫وقول اليھود آله يحب‬
‫لرمي الجمار ولثم الحجر‬ ‫وقوم أتوا من أقاصي البالد‬
‫أيعمى عن الحق كل البشر‬ ‫فوعجبا من مقاالتھم‬
‫وقال أنبل من جادت به قريحة الحضارة العربية ابن عربي يترفق ويتلطف بالجھال‬
‫الذي مرغھم أبو العالء في الوحل ‪:‬‬
‫فمرعى لغزالن ودير لرھبان‬ ‫لقد صار قلبي قابال كل صورة‬
‫وألواح توراة ومصحف قرآن‬ ‫وبيت ألوثان وكعبة طائف‬
‫ركائبي فالحب ديني وإيماني‬ ‫أدين بدين الحب أين توجھت‬
‫وقال أشعر من جادت به قرحة الحضارة العربية ايليا أبو ماضي ‪:‬‬
‫وإن جل إال كان في عنقه غال‬ ‫فقلت لھا ال يقتني المرء مذھب‬
‫تقيده خمرا وتضبطه خال‬ ‫فما مذھب اإلنسان إال زجاجة‬
‫فلقنني غيا وعلمني جھال‬ ‫تتلمذت لإلنسان في الدھر حقبة‬
‫رأى غرة مني تعلم بي القتال‬ ‫نھاني عن قتل النفوس وعندما‬

‫‪74‬‬
‫وصور ظلما فيه تمجيده عدال‬ ‫وذم إلى الرق ثم استرقني‬
‫وكل نظام غير ما سنّ مختال‬ ‫وكاد يريني اإلثم في كل ما أرى‬
‫لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذلى‬ ‫إلى أن رأيت النجم يطلع في الدجى‬
‫وأقبحه شكال كأحسنه شكال‬ ‫وكيف تغذي األرض آالم نبتھا‬
‫وأصبحت لي دين سوى مذھبي قبال‬ ‫فأصبح رأيي في الحياة كرأيھا‬
‫وصار كتابي الكون ال صحف تتلى‬ ‫وصار نبي كلما يطلق العقال‬
‫ويقول كاتب ھذه السطور‬
‫ما أجمل اإليمان وما أحبه إلى النفس وما أقبح الشك وعذابه ‪ .‬لكن اإليمان إن أدى‬
‫إلى التعصب والعنف والبغضاء فھو رذيلة الرذائل وإن شكل حاجزا مانعا يقف حجر‬
‫عثرت في وجه الفكر الخالق فھو مصيبة المصائب ‪ .‬والتعصب الديني والسياسي‬
‫والعرقي والمذھبي ‪ ,‬غذاء نوعين من العقول ‪ :‬المكيافيلية والذليلة ‪:‬‬
‫أما المكيافيلية فتستعمل المبتذالت لتركيز سلطانھا باسم قيم ال تؤمن بحرف منھا ‪.‬‬
‫أما الذليلة فھي تصفد أيديھا باألغالل وتتصور كما يقول أبو ماضي ظلما تمجيده‬
‫عدال ‪.‬‬
‫والتعصب المذھبي والديني والسياسي يلعب عندھا دور الخرقة التي توضع على‬
‫عين الجمل وھو يدور حمل البئر يضخ الماء ألصحابه تمنعه من " الدوخة " وھو‬
‫يدور إلى األبد في تلك الحلقة المفرغة‪.‬‬
‫وأضيف ‪:‬‬
‫قوة الغرب الضاربة ليست سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وإنما ھي قوة فكرية‬
‫تمخضت عنھا سائر مظاھر التفوق والسيطرة ‪.‬‬
‫وسبب وجودھا أن الفكر الغربي كسر وھشم كل األطر األحادية دينية أو سياسية أو‬
‫مذھبية أرادت احتواءه وأن الفكر ال يحترم إال الحقيقة وإنه في بحثه الدائم عنھا‬
‫شك متصل ‪ ,‬ونقد دائم ‪ ,‬وحركة ھدم وبناء ال تفتقر ‪ .‬إنه ال يقف خاشعا أمام اسم أو‬
‫نظرية – إنه يجھل المبتھالت ‪ .‬إنه تجاوزھا ‪ .‬إن كل الحركات السياسية والفكرية‬
‫في خدمته وليس ھو في خدمتھا ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫تعصبنا ومحاوالتنا احتواء الفكر في إطار جامد ‪ ,‬أكان دينيا أو فكريا أو سياسيا ‪,‬‬
‫ھو سبب التخلف االجتماعي والفردي‪.‬‬
‫وحتى ال تكون جمال يدور في حلقة مفرغة ‪ ,‬وحتى ال تكون بخال يمشي في الخط‬
‫المرسوم ‪ ,‬وحتى ال تكون شاة تساق إلى المذبح والمسلخ والمطبخ وھي تسبح‬
‫بحمد ذابحھا وسالخھا وآكلھا‪ ,‬وان كنت رغم كل ما قلت ھاويا للشعارات مرغما‬
‫بھا‪ ,‬فال تتخذ لك شعارا غير قول ذلك الذي اعتزل في المعرة ثالثين سنة ترفعا و‬
‫ابتعادا عن العقول الذليلة العقول المكيافيلية‪.‬‬
‫كذب الناس ال أمام سوى العقل‬
‫مشيرا لصبحه والمساء‬
‫أيھا الغر إن خصصت بعقل‬
‫فأسأله فكل عقل نبي‬
‫ويوم يصبح ھذا القول شعار كل عربي فستتألق في سماء الفكر ألف نجمة تضيء‬
‫ظلمات ھذه الحضارة بأجمل نور وستورق أغصان شجرة ھذه الحضارة وستنوء‬
‫بحمل ألف ثمرة وسنتقدم يومھا سننشد بنشوة قول ذلك الذي تتعقبه أجھزة‬
‫المخابرات أحمد فؤاد نجم ‪:‬‬
‫دور يا كالم على كيفك دور‬
‫خلي بلدنا تعوم في النور‬
‫نرمي الكلمة في وسط الظلمة‬
‫تولد سلمى وتحبل نور‬
‫***‬

‫‪76‬‬
‫التراث بين التمجيد وسلة المھمالت‬

‫أول سؤال يطرحه التفكير الموضوعي عند تعامله مع مشكلة التراث ھو ‪ :‬لماذا‬
‫يشكل ھذا التراث مشكلة ؟ فالنقاش محتدم منذ قرابة قرن وبال نتيجة حول ماھيته‬
‫وقيمته ودوره في انحطاطنا أو في نھضتنا الحاضرة والمرتقبة ‪ .‬فھذا يمجده‬
‫واآلخر يرى فيه ترك بغيضة يجب التخلص منھا بأسرع وقت لاللتحاق بركب األمم‬
‫الخالقة " وكل يزعم أنه على صدق وأن من خالفه على خطأ وظاللة " كما يقول‬
‫ابن المقفع ‪.‬‬
‫ثم تتزايد حيرة المفكر وھو يبحث عن رد منطقي وسط ھذه الزوبعة الفكرية فإذا به‬
‫يتساءل ‪ :‬أترى المشكلة حقيقية أم ھي مفتعلة " شعوريا أو ال شعوريا " ‪ .‬وإن‬
‫كانت تعلة فما معنى افتعالھا ‪ .‬ثم تتتابع األسئلة وتتضارب ‪ :‬ماذا وراء كالمي ھذا‬
‫وذاك ‪ ,‬أي وظيفة تؤديھا النظرية الفالنية والنظرية العالمية ‪ ,‬ھل من الممكن الحكم‬
‫عليھما موضوعيا ومن أي زاوية و تتلخص كل ھذه التساؤالت في سؤال‪ :‬واحد ما‬
‫معنى ھذا النقاش ‪.‬‬
‫و الفكر الموضوعي كما ھو معلوم ال يبدأ بالحكم المعياري وإنما ينتھي به و من‬
‫ثمة وجب أن نبدأ بالبداية أي باالستماع مليا و بمنتھى االحترام إلى القائل بموجب‬
‫تمجيد التراث و إلى القائل بلزومية رميه في سلة المھمالت‪...‬‬
‫‪-1‬النظرية التمجيدية‪:‬خالصة النظرية معروفة ‪ :‬كل شئ موجود في التراث خاصة‬
‫إن كان الدين )آالف الكتب( – نحن نجد فيه جل قواعد التعامل الصحيح مع العالم‬
‫للتمكن منه و التحكم في خيراته )مئات الكتب (سبب نجاح السلف الصالح تشبثه‬
‫بالوصفة الكاملة)آالف الرسائل( سبب فشل الخلف الطالح ابتعاده عن الوصفة‬
‫الكاملة)آالف المقاالت( و من ثمة فان العودة إلى نجاح السلف الصالح تتطلب‬
‫الرجوع إلى الوصفة الكاملة أو التراث )آالف الخطب(‪ .‬يسدل ھنا الستار على‬

‫‪77‬‬
‫الخاتمة السعيدة لمغامرة اإلنسان العربي‪,‬الذي أضاع حبيبه عن غباء ثم ثاب إلى‬
‫رشده و عاد إليه ووجد بين ذراعيه السعادة و الكثير من البنين و البنات‪.‬‬
‫تبقى بطبيعة الحال بعض التساؤالت الھامشية ‪ :‬سر ھيمنة ھذه الحضارات السائدة‬
‫التي تتحكم فينا و التي ال تستمد نجاحھا من وصفتنا السحرية ؟ استحالة إيجاد‬
‫تطابق بين ما آمن به السلف الصالح وما نراه حوالينا ؟ والردود بطبيعة الحال‬
‫مفحم وجاھز ‪ :‬أما الغرب فقد أخذ منا كل شيء ) عدد في آالف المقاالت والكتب (‬
‫االختراعات الحقيقية والكاذبة التي سرقھا منا – وذ ّكر بتضلعنا في الحساب أيام‬
‫الخوارزمي والطب أيام ابن سينا وال ننسى التركيز على أھمية اكتشاف الصفر الذي‬
‫أصبح فيما بعد العالقة المميزة لحضارتنا ‪ .‬أما إذا كنت مشطا في تراثيتك فحاول في‬
‫دراسة كاملة إثبات عروبة شكسبير واسمه العراقي ابن سبير ‪.‬‬
‫‪ -2‬النظرية النقدية ‪:‬‬
‫تقول ھذه النظرية بأن التراث ھو أكبر عائق ضد التطور الطبيعي لألمة العربية ‪.‬‬
‫فھو على شكله الديني تكريس األبنية الميتافيزيقية ) الخضوع لقوة غيبية تھدد‬
‫اإلنسان وتكيل له التھم وتتعامل معه بأسلوب إن خضعت فلك قطعة سكر وإن لم‬
‫تخضع فمآلك جھنم ( وتكريس نظم اجتماعية مجحفة ) بعض الكتب ( ‪.‬‬
‫كذلك في شكله األدبي فھو تعبير عن قيم ومفاھيم إقطاعية لمجتمع عبودي ) بعض‬
‫الدراسات ( ‪ .‬أم في شكله العلمي فھو تاريخ أو تأتآت للعلم الذي لم يأخذ أبعاده‬
‫الحقيقية إال بنھضة الغرب ) مقاالت لم تطبع ( ومن ثمة فإن علينا رمي التراث إلى‬
‫سلة المھمالت والبحث عن قيم عقائدية عصرية ) الماركسية أو الليبرالية الغربية (‬
‫وإدارة الظھر ألدب الباكين على األطالل و االلتحاق بركب األمم التي تصنع العلم‬
‫والتكنولوجيا ‪.‬‬
‫يبقى بعد االستماع إلى وجھتي النظر) وخاصة وجھة النظر األولى التي استطاعت‬
‫تسخير كل وسائل الدعاية واإلعالم وقمع النظرية المخالفة ( إن تتساءل عن مدى‬
‫صدقھما والتصاقھما بالواقع وخاصة عن معنى قولھما ھذا أو باألحرى عن‬
‫الوظيفة المبھمة التي تؤديھا كل نظرية ‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫من البديھي أن وظيفة النظرية التمجيدية التركيز على إيجابيات التراث وتناسي‬
‫سلبياته ‪ .‬فھي تتناسى مثال أن الوصف الديني لم تحقق في أي عصر ما أنتظره منه‬
‫اإلنسان العربي من عدل وسالم الخ ‪ ...‬بل إنھا تمخضت في أغلب الحاالت عن‬
‫أنظمة قمعية حكمته باسم الدين ونقضت أبسط تعاليمه ‪.‬‬
‫كذلك نالحظ أن تسقط من حسابھا أجزاء كاملة من التراث شكلت حصون مقاومة‬
‫فكرية ضد اإليديولوجية السائدة الخ‪...‬‬
‫أن من الناحية األدبية فھي تسلم تسليما مطلقا بھذا األدب الذي غرھا منه الشكل‬
‫متغافلة عن حقيقة بديھية إال وھي إن العرب أغزر الشعوب شعرا ھم أقلھم شاعرية‬
‫‪ .‬فربع شعرنا تملق ) مدح ( وربعه الثاني شتم ) ھجاء ( وربعه الثالث استعراض‬
‫عضالت من نوع " أنا الذي قرأ األعمى أدبي " ‪ ...‬أو " وإني إن كنت األخير‬
‫زمانه " أما ربعه األخير فخاص بالجواري والغلمان ‪ ...‬كذلك تتناسى أننا لو غربلنا‬
‫أربعة عشرة قرن من األدبي لما وجدنا فيه إال القليل النادر الذي نستطيع أن‬
‫نضاھي به قرنا من القصة الروسية أو الشعر اإلنجليزي أو الفلسفة األلمانية أو‬
‫الصينية ‪.‬‬
‫لكن المغالطة تأخذ أبعادا مخيفة في تقيمھا لتراث فھي تركز على تبعية الغرب لنا‬
‫في العصور الوسطى وھذا صحيح ‪ .‬لكنھا تنسى أن تقول أننا أخذنا ھذا العلم عن‬
‫أصحاب له أقدم منا ھم اإلغريق والفرس والھنود ‪ ,‬وخاصة أن الغرب تتطور بھذه‬
‫العلوم إلى مدى ثم لم يتطور إال لما ثار عليه ‪ .‬من الممجدين يعرف قصة‬
‫''باراسلز'' الذي وقف فوق منصة جامعة بال في بداية القرن الخامس عشر‬
‫يحاضر في الطب وبدا درسه بحرق كتاب القانون البن سينا قائال لطلبة ‪ :‬ھذا العلم‬
‫قد انتھى ومن ھنا نبدأ ‪.‬‬
‫أيعنى ھذا أن النظرة الموضوعية تتنصر للقائلين بقابلية سلة المھمالت لتلقف ھذا‬
‫التراث ؟ ال طبعا ‪ .‬ألن نفس النظرة ستكتشف في النظرية النقدية تناقضات صارخة‬
‫وتحامالت تاريخية ال يجوز السكوت عليھا ‪ .‬لماذا يريد المتمردون على التراث‬
‫إلقاءه في سلة المھمالت ؟ الرد البديھي ‪ :‬لتحرير اإلنسان العربي من الدجل الفكري‬

‫‪79‬‬
‫) الديني واألدبي واالجتماعي ( الذي يشكل التراث أرضيته ودعامته – شكرا‬
‫للمتمردين على نواياھم الطيبة لكن المشكلة تتعقد عندما نكتشف أن اإلنسان العربي‬
‫متشبع بتعاليم دينه وعاداته الخ ‪ ...‬وخاصة أنه بأمس الحاجة إليه ‪ .‬معنى ھذا أن‬
‫اإلنسان ھو حصيلة التراث وأن التراث ھو حصيلة اإلنسان عبر التاريخ ‪ ,‬والعالقة‬
‫عالقة المرء بولده أو بأحشائه وليست عالقة اإلنسان بثوب بلي فيخلعه ويستبدل‬
‫به ثوبا آخر أقرب إلى الموضة ‪ .‬صحيح أن الجلد قد يكون بحاجة إلى شيء من‬
‫الصابون أو إلى مرھم إن تقيح أو إلى مبضع الجراح الستئصال ورم خبيث ‪ ,‬لكن‬
‫استبدال جلد كامل عملية شائكة إن لم نقل مستحيلة ‪ .‬حقا سنقتل المرض لكن الثمن‬
‫حياة المريض والشعوب تقاوم عادت عملية السلخ ھذه والويل لمن يحاول تحريرھا‬
‫عن طريقة شاه إيران ‪.‬‬
‫لنغلق مؤقتا موضوع التقييم لنتساءل عن وظيفة النظريتين وسنكتشف أنھا واحدة ‪.‬‬
‫فكالھما تطرح موضوع مصير اإلنسان العربي إذ يالحظ تخلفه وفقره وجھله‬
‫وتبعيته للحضارات مھيمنة غريبة عنه ‪ ,‬تمتص خيراته وتسخره لمصالحھا‬
‫وتتطاول على شخصيته ودعاماتھا ‪.‬‬
‫التشخيص إذا ھو واحد لكن العالج مختلف ‪ :‬فالنظرية التمجيدية تتضح لحكم‬
‫التاريخ األليم – ترفض بعنجھية أننا شحاذون في سوق الحضارة – تحاول تجاوز‬
‫عقدة النقص التي نعاني منھا أفراد وجماعات ) أسلوب التذكير الممل بأيادينا‬
‫البيضاء على الغرب (‪ -‬تتشنج في ادعاءاتھا بأننا خير أمة أخرجت لناس والحال أن‬
‫نسبة األمية فينا ‪% 80‬‬
‫)‪ %1‬في الغرب ( ‪ .‬أي دعامة لھذا االدعاء وحاضرنا تعيس ومستقبلنا مجھول ؟‬
‫الماضي طبعا ‪ .‬ھنا يقع تخييل ھذا الماضي ) ‪ ( Mythisation‬فتسقط منه أبعاده‬
‫الحقيقية من ظلم وعبودية وحروب واضطھاد فكري ليصبح جنة عدن التي طردت‬
‫منھا األمة العربية ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫الحظ أن تخيل الماضي كعصر ذھبي عملية شائعة في كل الحضارات وفسرھا فرويد‬
‫بأنه تصعيد حنين اإلنسان – الطفل إلى عصر الطفولة ‪.‬‬
‫يبقى األھم ‪ .‬بما أن الماضي ھو العصر المثالي وبما أن تقھقر ھو نتيجة عدم‬
‫تطبيق الوصفة المثالية ‪ ,‬فالحل إحياء الوصفة والعودة إلى ھذه الجنة المفقودة ‪.‬‬
‫مجمل القول أن وطن الممجدين ھو الماضي ومن ثمة فأنا أسميھم بالزمانيين‪ .‬ما‬
‫الفرق بينھم وبين المتمردين ؟ الفرق بسيط ‪ .‬فھؤالء يبحثون في الحل ال في الزمان‬
‫ولكن في المكان ‪ .‬في الوصفة السحرية بالنسبة إليه موجودة مثال في روسيا أو‬
‫الصين أو كوبا أو أمريكا أو فرنسا – لنسميھم إذا المكانين ولنتركھم في نقاشھم‬
‫العقيم مع الزمانيين مع تمنياتنا لكال الطرفين باكتشاف حلول المجتمع العربي من‬
‫خالل تجربة طريقة حكم الخلفاء الراشدين أو التنظيم الروسي للكولكوز ‪.‬‬
‫آن األوان لنطرح السؤال الحقيقي ‪ :‬ما ھو التراث ؟ فربما يكون الرد اآلن‬
‫موضوعيا بعد أبعادنا عن النقاش العواطف المتضاربة للممجدين و للرافضين ‪.‬‬
‫لنطرح تعريفا للنقاش ‪ :‬التراث ھو تجربة جيل و ذاكرة األجيال التي تليه ‪.‬‬
‫لنحلل‪ :‬لكل مجتمع ما في زمن ما ومكان ما طريقة لتعامل مع واقعه ‪ ,‬يمكن‬
‫تقسيمھا إلى ثالثة ميادين‪.‬‬
‫) ‪ ( 1‬التطور الديني أو الفلسفي للوجود ولمكانة اإلنسان فيه أي عالقتھا بالكون ‪.‬‬
‫) ‪ ( 2‬التنظيم االجتماعي للعالقات البشرية داخل المجموعة وبين مختلف الجماعات‬
‫المنظمة ‪.‬‬
‫) ‪ ( 3‬التكنولوجيا ومستواھا القدرة الحضارة على السيطرة على المحيط إلخضاعه‬
‫لمصالحھا ‪.‬‬
‫ھذا إذن تفسير الجزء األول لتعريف ‪ ,‬لكنني قلت أيضا إن التراث ھو ذاكرة األجيال‬
‫التي تتتابع ‪ .‬فمن البديھي أن كل جيل مرتبط لتجربة الجيل الذي سبقه وأنه ال يعيد‬
‫اختراع تصور للوجود وتنظيم للمجتمع وتكنولوجيا جديدة كل مرة – فھناك ترابط‬
‫بين تجارب األجيال لكنه كما علمنا التاريخ ترابط نسبي ‪.‬‬
‫وتاريخ التجربة الحضارية يتطور وفق إمكانيتين ‪:‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ -1‬يستطيع الجيل ب أن يأخذ عن الجيل أ طريقة في التعامل مع الكون‬
‫فيفسرھا ويتعمق فيھا ) أدب شرح شرح الشرح( وإن يقبل تنظيمه إلى‬
‫المجتمع وإن يطور التكنولوجيا التي ورثھا عنه فيكون التغيير ھنا كميا‬
‫وليس نوعيا ‪ ...‬وھذا يحصل عادة طيلة قرون في كل الحضارات خاصة‬
‫في أعقاب تجديد جذري‪.‬‬
‫‪ -2‬يستطيع الجيل ب إعادة النظر في تجربة الجيل أ فيكون التجديد في‬
‫الميادين الثالثة أو في أحدھا جذريا أي التغيير ھنا ھو نوعي و ليس كميا‬
‫‪ .‬كيف يختار الجيل ب بين الجيلين ؟ الواقع أنه ال يختار بقدر ما تجبره‬
‫ظروفه الموضوعية على االختيار ‪.‬فالجيل ب يتعامل مع حركة تاريخية ال‬
‫تتوقف ‪,‬قوامھا الصراع الدائم مع الطبيعة و الحضارة و ھو مطالب‬
‫بالتأقلم الدائم مع عالم كل شئ فيه حركة و تطور و تجدد‪.‬ومن ثمة فانه‬
‫سيفضل التعيش عل حساب تجربة الجيل أ ) كما يعيش ابن على مال‬
‫ورثه عن أبه وجده ‪ ,‬يقيه الحاجة ومتاعب الكبد ( كلما أمكن ‪ ,‬لكنه‬
‫سيجبر على مراجعة الحسابات إن تغيرت البيئة بفعل تطورھا الطبيعي‬
‫فإن نجح التأقلم أي إن استطاع تطوير تكنولوجيته ) الحربية‪ -‬الصناعية‪-‬‬
‫الزراعية أو التجارية ( ومفاھيمه ) للعلم كدعامة التكنولوجية النظرية (‬
‫ونظامه ) إشراك عدد أكبر ممكن من األدمغة والسواعد في معركة البقاء‬
‫والتطور ( فإنه سيثبت ويعمق تجربته وستصبح ھذه التجربة الفنية ثروة‬
‫األجيال القادمة ‪ .‬أما أن فشل فإنه سيصاب بما يمكن أن نسميه بالفقر‬
‫الحضاري إذ تتجاوز األحداث – أي تجارب الحضارة األخرى بمفاھيمه‬
‫الكونية وتنظيمه االجتماعي وتكنولوجيته ‪ .‬الحظ أن تماسك الحضارة‬
‫يتطلب من األجيال المحافظة على حد أدنى من الوحدة في العقيدة والتنظيم‬
‫‪ ,‬لكن تطورھا يتطلب على العكس إعادة الراجعة الجذرية من حين آلخر ‪.‬‬
‫كيف ولدت األمة العربية ؟ كيف أرسى الجيل األول دعائم حضارته بتمرد محمد ابن‬
‫عبد ﷲ القريشي على مفاھيم وتنظيم مكة ؟‬

‫‪82‬‬
‫كيف وقعت النھضة الغربية ؟ بتمرد جيل النھضة على تجربة األجيال السابقة ‪ .‬ال‬
‫حظ ھنا عمق ھذه الثورة ‪:‬‬
‫‪ -‬ھاھو قليلى يسخر من أرسطو وأتباعه وينفد تصور اإلنجيل للكون ) أي تصور‬
‫جيل اإلنجيل للكون (‬
‫‪ -‬ھاھو باراسليز يحرق كتب ابن سينا وجالينوس ألن وصفتھما الطبية أظھرت قلة‬
‫فعاليتھا ‪.‬‬
‫‪ -‬ھاھو داروين يقضي على ما بقي من التصور الديني الخرافي لألجيال السابقة ‪.‬‬
‫‪ -‬وھاھو ماركس ينظر لألنظمة الشيوعية بينما ينظر غيره لألنظمة البرجوازية ‪.‬‬
‫بطبيعة الحال ارتباط الثورة الفكرية وثيق بالثورة التكنولوجية التي تشكل امتدادا‬
‫لھا والتي تأتي بدورھا إلى ظھور تنظيم اجتماعي و سياسي جديد ‪.‬‬
‫ال حظ أيضا أن نھضة شعوب كالشعب الروسي والصيني والياباني أي مجمل‬
‫الشعوب العظمى التي تتحكم في األرض بدأت بثورة داخلية على تجارب األجيال‬
‫السابقة ‪ ,‬وكأن ھناك قانونا يقضي بأن على جيل من األجيال إعادة تقيم تراثه‬
‫وتجديده فتطلب األمر قطع الصلة بتجربة من سبقوه وأن ھذا التجديد الدوري‬
‫ضمان دوام الحضارة ‪.‬‬
‫من البديھي أن قطع الصلة مھما كان مھما ال يستطيع التخليص من ذكرى سلبيات‬
‫أو إيجابيات تجربة األجيال الماضية‪ ,‬وذلك بفضل اللغة التي تشكل صدى تلك‬
‫التجربة عبر القرون‪ ,‬ومن ثمة قلت إن محاولة المجددين رمي التراث في سلة‬
‫المھمالت محاولة فاشلة ألنك قد تطور التكنولوجيا والتنظيم االجتماعي وحتى‬
‫المفاھيم العقائدية‪ ,‬ولكنك لن تستطيع إلغاء اللغة ما تحمله في طياتھا من تصورات‬
‫مبھمة ھي في الواقع خالصة تجربة كل ھذه األجيال المتتابعة ‪ .‬لنستخلص اآلن‬
‫بعض االستنتاجات المنطقية التي تمليھا ھذه النظرة الموضوعية ‪.‬‬
‫) ‪ ( 1‬التمجيد الذي يغالي فيه البض لتراثنا مقبول طالما اكتفى بالثناء على نجاح‬
‫األجيال العربية الثالثة أو األربعة بعد الھجرة ‪ ,‬ولكنه مرفوض إن كان ھدفه التغطية‬

‫‪83‬‬
‫على فشل المتابعة وخاصة جيلنا ھذا ‪ .‬ومرفوض مرتين إن ادعى إمكانية تطبيق‬
‫ھذه التجربة الناجحة في زمانه ومكانه لحل مشاكل جيلنا ھذا ‪.‬‬
‫) ‪ ( 2‬انحطاط الحضارة العربية ناتج عن عدم تجديد تجربته العقائدية واالجتماعية‬
‫والعلمية ) لتغلب نزعة المحافظة على نزعة الخلق ( حيث اعتبرت األجيال‬
‫المتتابعة أن تجربة الجيل األول أزلية صالحة في كل زمان ومكان والحال أنه ال‬
‫وجود لشيء من ھذا القبيل في كون قانون التطور والتجدد والخلق الدائم‪ -‬وقد أدى‬
‫ھذا الفشل إلى تجميد حركة الفكر في كل الميادين فكان العجز في ميدان التنظيم‬
‫االجتماعي واإلبداع التكنولوجي ‪.‬‬
‫) ‪ ( 3‬معاناة جيلنا وجيل آبائنا من شتى أنواع االستعمار ھي ضريبة باھضة لعجزنا‬
‫عن التجدد والتطور الداخلي ‪ .‬وقد اضطررنا لكي نواكب عصرنا أن ننھل ال من‬
‫تجربة ذاتية خالقة وحية بل من تجارب أجيال أجنبية عنا فأخذنا عنھم الكثير في‬
‫ميدان التنظيم االجتماعي والتكنولوجي ‪ ,‬مما أدى إلى تشبع بطئ وال شعوري‬
‫بعقائد ھذه األجيال األجنبية ‪.‬‬
‫) ‪ ( 4‬التخلص من التراث عملية مستحيلة ألنه ذاكرة أمتنا بغض النظر على كونه‬
‫تجربة ناجحة لجيل وتجربة فاشلة ألجيال ‪ .‬واألمم ال يمكن أن تستغني عن ذاكرته‬
‫سواء كانت الذكريات مؤلمة أو سارة ‪.‬‬
‫) ‪ ( 5‬مشكلة الحضارة العربية حاليا ھي ظاھرة االنفصام ‪ .‬فذكر أن مرتبطة بتجربة‬
‫ذاتية تتحكم فينا سلبياته ) ثقل العادات السيئة ( لكن فعاليتھا في تغيير الكون‬
‫وتنظيم المجتمع وإخضاع الطبيعة قليلة ‪ ,‬ومرتبطة بتجارب حضارات وأجيال‬
‫أجنبية ‪ ,‬ومن ثمة ھذه االزدواجية في الشخصية ولغة التخاطب ‪ ,‬والعادات الجديدة‬
‫الخ ‪...‬‬
‫واالزدواجية حالة صعبة الھضم لذلك كان وسيبقى النقاش حول التراث محتدما ‪,‬‬
‫يقول الممجد ‪ :‬سنتخلص من النشاز بالرجوع إلى األصل ‪ .‬ويقول المتمرد ‪:‬‬
‫سنخرج منه إن محونا الذاكرة ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫لكنني أقول ‪ :‬النقاش عقيم ألن االزدواجية موجودة والتاريخ قال كلمته ونحن لن‬
‫نغير شيئا من وظيفة التراث ومھامه و خصائصه بشتمه أو بمدحه ‪.‬‬
‫أما الموضوع فإنه ال يتعلق بتقييم تجربة من سبقونا بقدر ما يتعلق بإثراء تجربة‬
‫من سيبتعدون ‪ ,‬أي أن التحدي المطروح أمام جيلنا ھو ھل ستنجح في زماننا‬
‫ومكاننا تجربة حضارية أخرى ‪.‬‬
‫ھل ستنجح في إيجاد تصور منظور للكون ولمكانة اإلنسان فيه ؟‬
‫ھل ستنجح في اكتشاف نظم اجتماعية متطورة ؟‬
‫ھل ستنجح في إثراء و تقدم التكنولوجيا المعاصرة ؟‬
‫بعبارة أخرى ھل سنصبح خالقين ‪ ,‬أم أننا سنكتفي بالتغني وبالتعيش على حساب‬
‫صانعي الحضارات أكانوا من ماضينا أم من حاضرھم‬

‫لماذا كانوا متقدّمين‬

‫يواجه البحث الموضوعي كلما تطرق إلى تاريخ الطب االجتماعي اإلسالمي سؤالين‬
‫رئيسيين أولھما مكانة ھذا التراث ودوره في تطور األفكار التي مكنت الطب‬
‫المعاصر من الوصول إلى المصاف الذي وصل إليه ‪ ,‬وثانيھما نوعية المساھمة‬
‫التي أداھا الطب اإلسالمي في إطار كفاح اإلنسانية ضد المرض ‪.‬‬
‫وقلما يكون الرد على السؤالين ھادئا موضوعيا إذ يدخل ال شعوريا في نطاق حرب‬
‫قائمة منذ القديم بين العالم اإلسالمي والعالم الغربي ساخنة تارة وباردة أخرى على‬
‫ھذا الصعيد أو ذاك ولكنھا لألسف الكبير لم تضع أوزارھا إلٮحد اآلن ‪.‬‬
‫ويمكن الرد على السؤالين من زوايا مختلفة وقد اخترنا من جھتنا المساھمة في‬
‫النقاش بالتركيز على استقالل األطباء المسلمين الفكري تجاه الممثل الرئيسي‬
‫للتراث القديم ‪ :‬الطبيب الروماني جالينوس ) ‪ 201-151‬م ( الشيء الذي مكنھم من‬
‫بلورة المنھجية العلمية الصحيحة ‪ .‬ترجم جالينوس إلى العربية في القرن التاسع‬
‫ميالدي وأعجب به المسلمون وأخذوا عنه الكثير ‪ ,‬وھو رغم إعجابه بنفسه خالفا‬

‫‪85‬‬
‫البوقراط وثقته بأن لكالمه صدق القوانين الموضوعية حقيقة علم من أعالم الطب‬
‫‪ ,‬فھو أحد آباء الفيزيولوجيا إذ كان أول من اكتشف دور المخ في الحركة اإلرادية‬
‫وأول من وصف سبعة أعصاب قحفية كما عرف بعض خصائص األعصاب‬
‫والعضالت واحتواء الشرايين على الدم ‪ .‬أما دوره في دراسة النباتات واستعمالھا‬
‫الصيدلي فمعروف بما فيه الكفاية لكن جالينوس رغم سعت علمه بالقياس للعصر‬
‫أخطأ في كثيرا من المواضيع فقد أكد أن الدم يتولد في كبدي الذي يلعب دور ضخه‬
‫وإن ھناك اتصاال مباشرا بين بطيني القلب مما جعله ال يفھم الدورة الدموية ‪ ,‬أو أن‬
‫أعظم الفك األسفلي عظميني ‪ ,‬واألھم من ھذا منھجيته العقيمة إذ كان يشرح‬
‫الحيوان ويطبق على اإلنسان وكأن ال اختالف بينھما ومن ثمة كثرة أخطائه‬
‫العضوية والفيزيولوجيا ‪ .‬كما نعلم أن تبويبه لألمراض كان خاطئ إذ كان تصنيف‬
‫وجمع األعراض يخفي األمراض حيث يقع الخلط بينھما ‪ .‬أما وصفاته في العالج‬
‫فكانت عادة على قدر كبير من الطرافة ومن الغرابة وكان جالينوس ال يتراجع أمام‬
‫استعمال التعاويذ والطقوس السحرية التي تدل على تمازج العقلية العلمية عنده‬
‫بالعقلية الخرافية ‪ .‬ونحن ال نستطيع فھم طبيعة موقف أطباء المسلمين منھم‬
‫وتقديره حق قدره إن لم نركز على الشھرة الكبيرة التي كان جالينوس يتمتع بھا‬
‫على مر العصور ‪ .‬فقد اعتبره الكثير من أطباء الشرق والغرب إلى بداية النھضة‬
‫الغربية المرجع األول واألخير ألغلب المسائل الطبية فأصبح اسمه وحده حجة‬
‫وذريعة وبالتالي فإنه لعب نفس الدور الذي لعبه أرسطو في الفلسفة ‪ ,‬أي أنه ناء‬
‫بكلكل صيته على مقدرات الطب ‪ ,‬فشل من حركية البحث والتنقيب لتشبث أتباعه‬
‫بكل ما كتب وصنف ‪ ,‬وإليمانھم األعمى بأن فيه كل الحقيقة وھذا الصيت الذائع ھو‬
‫الذي جعل ابن أصيبعة في طبقات األطباء يسمى الرازي بجالينوس العرب مثبتا‬
‫أھمية الرجل القصوى ‪.‬‬
‫ومن النوادر التي تعطينا فكرة عن طغيانه الفكري قول بعض أتباعه بأن بنية‬
‫اإلنسان تغيرت منذ عھده لم اضطروا لتفسير أخطائه المتعددة في علم األعضاء ‪.‬‬
‫كما يحفظ التاريخ صرخت شھيرة ألحد أطباء األنقيليز في بداية القرن السابع عشر‬

‫‪86‬‬
‫لما وجه بنظرية الدورة الدموية المنسوبة للطبيب ''ھارفي'' تعبر عن مدى التحجر‬
‫الفكري الذي بلغه األطباء الدوغمائيون من تالمذته‬
‫" إنني أفضل أن أخطأ مع جالينوس على أن أصيب مع ھذا األفاق المدعو ھارفي "‬
‫الشيء الھام أن المتتبع لتاريخ اإلسالمي فالطب يكتشف بسرعة أن األطباء‬
‫المسلمين وإن أعجبوا بجالينوس وأخذوا عنه فإنھم لم يماشوه في كل ما قال بل‬
‫نجدوا عند الكثير منھم نقدا حاد له وتجاوزا ألقواله ولنظرياته ونحن قل ما نجد ذلك‬
‫اإليمان األعمى بكل ما يصدر عن أصحاب األسماء الھائلة عند األطباء المسلمين‬
‫ھذا اإليمان الذي أصبح بديال للمنھجية العلمية بالنسبة ألغلب مفكري الغرب عھد‬
‫قاليلي ) الذي جعل من الحرب ضد التحجر الفكري ھدف كفاحه ( وھذا التحرر من‬
‫الدغمائية في الفكرة ھو الذي نستشفه من قول الرازي " إن الحقيقة في الطب ال‬
‫تدرك والعالج بما تصفه الكتب دون أعمال الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد‬
‫بالطبع كتب جالينوس خاصة ‪ ,‬كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف‬
‫عنده ھذا التمازج الغريب بين العقلية الماھر الحكيم برأيه خطأ " وھو يقصد‬
‫بالطبع كتب جالينوس خاصة ‪ ,‬كما خالفه الرازي في منھجيته حيث أننا ال نعرف‬
‫عنده ھذا التمازج الغريب بين العقلية العلمية والعقلية الخرافية الذي نجده عند‬
‫الطبيب الروماني فھو ال يقول إال بالتجربة وھو من األوائل الذين جربوا العقاقير‬
‫على الحيوان قبل إعطائھا للمرضى فال طقوس عنده وال تعاويذ وال خلط عجيب‬
‫وعشوائي بين كل المواد الممكنة وإنما التفكير الموضوعي الذي يحاول الربط بين‬
‫علة ودواء محتمل يؤثر على الجسم بصفة مباشرة ‪ .‬فھو خالفا لجالينوس ال يخلط‬
‫بين األعراض واألمراض بل يحاول إثبات خاصيات واستقالل كل مرض رغم تشابه‬
‫األعراض وذلك واضح في دراسته التفريقية الشھيرة بين الجدري والحصبى ‪.‬‬
‫وكان ابن سينا الذي نقل كثيرا من أخطاء جالينوس ال يخشى ھو اآلخر من‬
‫االستقالل برأيه فيدلي برأي المعلم في القانون مضيفا عند الحاجة " يقول‬
‫جالينوس وأقول " ونحن نجد نفس االستقالل والمنھجية العلمية عند ابن زھر الذي‬
‫كان أول من حاول الربط بين مرض معين وإصابة محددة في الجسم وذلك واضح‬

‫‪87‬‬
‫في دراسته لرطوبة غشاء القلب وأورام الصدر ‪ .‬ھذا وقد أكد المرار على أھمية‬
‫التجربة والمالحظة وتفوقھما على اآلراء الدوغمائية التي ترتكز على صيت‬
‫جالينوس ‪.‬‬
‫وأحسن من ركز بقوة على ھذه النقطة عبد اللطيف البغدادي ) بداية القرن الثاني‬
‫عشر ميالدي ( الذي لم يكن يرضى عن التجربة بديال ) الحس حسب تعبيره (‬
‫ساخرا من كل العقول الذليلة التي تكتفي بما في كتب جالينوس بدال من االلتجاء إلى‬
‫حكم الواقع وھذا ما يتضح من خالل نص له ‪:‬‬
‫" ومن عجيب ما شاھدناه أن جماعة ممن يتعاطون الطب وصلوا إلى كتاب‬
‫التشريح لجالينوس فكان يعسر إفھامھم لقصور القول عن العيان ‪ ,‬فأخبرنا أن في‬
‫المقس تالّ عليه رمم كثيرة فخرجنا إليه فشاھدنا من شكل العظام ومفاصلھا وكيفية‬
‫اتصالھا وتناسبھا وأوضاعھا ما أفادنا علما ال نستفيده من الكتب أما أنھا سكنت‬
‫عنھا أو ال بقي لفظھا بالداللة عليه أو يكون ما شھدناه مخالفا لما قيل فيھا والحس‬
‫أقوى دليال من السمع فإن جالينوس وإن كان في الدرجة العليا من التحري والتحفظ‬
‫في ما يباشره ويحكيه فإن الحس أصدق منه "‬
‫وھذا التحرر الفكري و االعتماد باألول على التجربة والمالحظة ھو الذي مكن عبد‬
‫اللطيف البغدادي من إثبات بعض أخطاء جالينوس كالقول بأن عظم الفك األسفل‬
‫عظمان جمعا بمفصل وثيق عند الحنك ‪.‬‬
‫فقد رفض البغدادي االستكانة إلى ھذا الرأي بدون التثبت من صحته وھو أمر‬
‫نعتبره بديھيا في عصرنا الذي سادت فيه المنھجية العلمية إال أنه لم يكن كذلك في‬
‫عصور كثر فيه الخشوع أمام األسماء الھائلة والتشبث األعمى بأقوال القدماء‬
‫وتفضيل النظرية على التجربة والخلط بين المستوى الخرافي لألمور ومستواھا‬
‫الواقعي ‪.‬‬
‫فالبغدادي ال يخشى من تسفيه رأي المعلم الكبير بأن الحس أصدق منه كما نرى في‬
‫قوله ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫" والذي شاھدناه في حال ھذا العظم أنه عظم واحد ليس فيه مفصل وال درز أصال‬
‫في أشخاص كثيرين تزيد على ألفي جمجمة في أصناف من االعتبارات فلم نجده إال‬
‫عظما واحدا من كل ما شاھدناه وما اعتبرناه ما شاء ﷲ من المرات وما حكيناه "‬
‫وقد ماشاه ابن نفيس في نفس االتجاه إذ يقول ‪:‬‬
‫" أما منافع األعضاء فيعتمد في تعريفھا على ما يقتضيه النظر المحقق والبحث‬
‫المستقيم وال علينا وافق ذلك رأي من تقدمنا أو خالفه" ‪ .‬ونحن نعلم أن رفض ابن‬
‫نفيس المبدئي آلراء جالينوس حول وظيفة الكبد والقلب والرئتين ھو الذي كان‬
‫بداية اكتشاف الدورة الدموية الصغرى إذ لم يؤمن بنظريته القائلة بأن الدم ينساب‬
‫من البطين األيمن إلى البطين األيسر عبر ثقوب وأن وظيفة الرئتين الرفرفة فوق‬
‫القلب لتبريده ‪.‬‬
‫فالمالحظة الموضوعية التي أمن بدورھا الرئيسي كل األطباء المسلمون ال تثبت‬
‫وجود ھذه الثقوب و من ثمة وجب إعادة النظر في وظيفة القلب والرئتين وفي ھذا‬
‫يقول ابن نفيسة ‪:‬‬
‫" فإن في جرم القلب ھنالك مصمت ليس فيه منفذ ظاھر كما ظنه جماعة ) أي‬
‫جالينوس وجماعته ( ‪ .‬فال بد أن يكون ھذا الدم إذا لطف نفذ في الوريد الشرياني‬
‫لينبث في جرمھا ويخالط الھواء ويتصفى الطف ما فيه وينتھي إلى الشريان‬
‫الوريدي ليصل إلى التجويف األيسر من تجويفي القلب "‬
‫وھكذا يظھر من خالل تعامل أكبر األطباء المسلمين مع جالينوس نبراس التراث‬
‫اإلغريقي الروماني تحامل الدعوى المبتذلة التي يروج لھا بصفة دورية البعض من‬
‫مؤرخي الغرب ‪ .‬فالطب اإلسالمي لم يكن مجرد ثالجة أودع فيھا التراث إلى أن‬
‫تلقته العقول النيرة إبان النھضة األوروبية ‪ ,‬بل بالعكس إذ شكل مرحلة عمل‬
‫إيجابي خالق واألھم من ھذا أننا نرى بجلية من خالل ھاته العالقة نوعية مساھمته‬
‫‪ .‬فمن المغاالة مثال أن نقول أن الطب اإلسالمي عرف كل شيء أو كان السباق في‬
‫كل الميادين وھذا ما يدعيه بعض المؤرخين المسلمين الذين يرتكبون الخطأ‬

‫‪89‬‬
‫المعاكس لمؤرخي الغرب وھذه المساھمة تمثلت في تكريس المنھجية العلمية‬
‫الصحيحة أي ‪:‬‬
‫‪ -‬رفض االعتماد على صيت األسماء الھائلة في تتبع الحقيقة‬
‫‪ -‬الدعوة إلى أعمال الماھر الحكيم برأيه كما يقول الرازي‬
‫‪ -‬تفضيل التجربة ألن الحس أصدق من السمع كما يقول عبد اللطيف‬
‫البغدادي‬
‫‪ -‬رفض تعميم المعارف المشتقة من الحيوان إلى اإلنسان ومحاولة دراسة‬
‫الجسم اإلنساني مباشرة ‪.‬‬
‫‪ -‬إخضاع النظرية للمعاينة العلمية فإن حصل التوافق قبلت وإن لم يحصل‬
‫لفظت كما فعل ابن نفيس باإلضافة إلى فكرة التفرغ للطب وحده كما فعل‬
‫ابن زھر ‪ ,‬والتركيز على أھمية ونبل الممارسة الجراحية المرتكزة على‬
‫معرفة حقيقية لعلم األعضاء كما فعل الزھراوي ‪.‬‬
‫إن األفكار التي تبدو لنا من البديھيات كانت ثورية وجديدة وخالقة ‪ ,‬وقد شكلت‬
‫بدون أدنى شك مساھمة الطب اإلسالمي الحقيقية ورافدا للنھضة األوروبية التي‬
‫مھدت النفجار المعازف الطبية ‪.‬‬
‫فنحن نجد خطا غير متقطع يربط بين دعوة الرازي إلى أعمال الحكيم الماھر برأيه‬
‫وثورة باراسلز ) ‪ ( 1541‬الذي أحرق كتب جالينوس وابن سينا في أول درس له‬
‫معلمنا بھذا وصول التمرد ضد التحجر والدغمائية الذي جمد الفكر في الغرب إلى‬
‫جامعات أوروبا وذلك بعد خمسة قرون من ظھور ھذا التمرد في الفكر اإلسالمي ‪.‬‬
‫كما أننا نجد صلة واضحة بين تعطش عبد اللطيف البغدادي إلى المعرفة الصحيحة‬
‫في علم األعضاء ورفضه لتشريح جالينوس والعالم اإليطالي الكبير فيزال ‪) .‬‬
‫‪ ( 1514 -1564‬الذي ترك كتب جالينوس ليبحث وينقب ويشرح بنفسه كذلك‬
‫نكتشفنفس الصلة بين ابن زھر وبين مورقاني )‪ ( 1711– 1682‬الذي جعل من‬
‫المقارنة الدائمة ركيزة الطب لمدة قرون وإخضاع النظرية إلى خصائص األعضاء‬
‫ومحاولة اكتشاف الصلة الموضوعية التي تربط بينھما ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وفي الختام أود التذكير بأنه من الغريب أن ھاته المنھجية العلمية الصحيحة التي‬
‫تشكل المساھمة الحقيقية للطب اإلسالمي ‪ ,‬لم تظھر في الغرب إال لتختفي في‬
‫عالمنا إذ تالشت الحرية الفكرية إبان عصور االنحطاط وعاد األطباء المسلمون إلى‬
‫كل تراث جامد إلى عودة الفكر الخرافي إلى الساحة ‪ ...‬أي أنه حصلت ردة خطيرة‬
‫تماشت مع كل مظاھر االنحطاط األخرى أدت بنا إلى الوضعية الحالية التي ال يجب‬
‫أن تغفل عنھا لحظة والتي نحاول أن نضع لھا حدا ‪ .‬وھذه الوضعية تتلخص في‬
‫المستوى المتردي للحالة الصحية ألغلب الشعوب اإلسالمية والناتجة عن تخلف‬
‫المجتمع ككل وتخلف القطاع الطبي على وجه الخصوص والغياب الكلي لألطباء‬
‫المسلمين من ساحة البحث والتنقيب إبان ھذا القرن الذي مھد له األجداد ولم‬
‫يسايره األحقاد ‪.‬‬
‫لذلك أنا أتمنى أن ال تركز على الماضي إال لكي نتعامل مع الحاضر والمستقبل‬
‫بفاعلية أكثر وما أحوجنا إلى ملتقى يكون موضوعه مستقبل الطب اإلسالمي وكيف‬
‫نستطيع التعجيل بعودته إلى ساحة البحث والتنقيب لكي يقع الربط بين ماضي‬
‫مش ّرف ومستقبل أشرف ‪ ,‬ونحن إذ نتطلع إلى تحقيق ھذا الھدف فليس من باب‬
‫الصراع العقائدي مع ھذا أو ذاك وإنما لكي ال نشعر تجاه من سبقونا بأننا قصرنا‬
‫في الرسالة ‪ ,‬وخاصة من باب المساھمة الالئقة بنا في مغامرة الفكر البشري‬
‫وصراعه ضد الجھل واأللم والمرض ‪.‬‬
‫***‬

‫‪91‬‬
‫من اجل نظرة موضوعيّة لظاھرة التخلّف‬
‫عودة أخرى إلى ھذه المشكلة التي ھي شغلي الشاغل وكيف ال تكون والتخلف ھو‬
‫المرض العضال الذي يعاني منه مجتمعنا ‪.‬‬
‫من البديھي أن علينا أن نحدد المقياس الذي نقيس به تقدمنا أو تخلفنا ‪ .‬والمقياس‬
‫ھذا بطبيعة الحال ھو المستوى الذي توصل إليه الغرب ‪ .‬وقد يقول القائل أن الغرب‬
‫ھو اآلخر يتخبط في مشاكل ال عد لھا وال حصر ‪ .‬وبالتالي أنه ال يمكن أن يشكل‬
‫نموذجا ‪ .‬واالعتراض صحيح ‪ ,‬لكن إلى مدى ‪ .‬فالمجتمع الغربي يعرف مشاكل‬
‫عويصة ولكن من مستوى أرفع بكثير من مستوانا ‪ ,‬والمھم أننا متخلفون بالنسبة‬
‫لتحقيق الھدفين الرئيسيين لكل جماعة بشرية ‪ :‬توفير الحد األقصى من الكرامة‬
‫والخبز فعلى الصعيد المادي مازال عدد كبير من أبناء ھذا الشعب يعانون من‬
‫الخصاصة والحرمان ‪ ,‬وھذا أمر ال يقبل ألنه يشكل إھانة جماعية ودليل قصورا في‬
‫عمل المجتمع ‪ ,‬باإلضافة إلى أنه خطر على تماسك وأمن المجموعة ‪ .‬فمن البديھي‬
‫أن الضمان األوحد لكرامة ورخاء الفرد ھو كرامة ورخاء المجموعة أما مشكلة‬
‫الكرامة ونوعية العالقات البشرية في مجتمعنا فھي اآلخر قائمة وبحدة متزايدة ‪.‬‬
‫فعالقاتنا مع بعضنا البعض مطبوعة بطابع الغلظة والقسوة والفضاضة واالحتقار ‪,‬‬
‫إال مع ابن العم والخال والميسور وصاحب )البستون ( ومن بين الخرافات الجميلة‬
‫التي نلھي بھا أنفسنا القول بأن المجتمع الغربي مادي بحت والحال أن نسبة‬
‫التعاضد واالحترام المتبادل والتأدب والضمير المھني أرفع بكثير من مستوى ھذه‬
‫الفضائل االجتماعية في بلدنا وجود الفقر إذ وانحطاط العالقات االجتماعية ھما‬
‫الظاھرتان الرئيسيتان للمرض االجتماعي والدليل على خلل في عمله ‪ .‬يبقى أن‬
‫نحدد األسباب الموضوعية التي ال تجعلنا في مصاف الشعوب الدانمركي أو‬
‫السويسري مثال ‪ .‬والتحليل الموضوعي ھو دائما المدخل اإلجباري لحل كافة‬
‫المشاكل ‪ .‬بيد أنه يتطلب شجاعة أدبية قلما ترضى خاصة وأنه يبتع إجباريا عن‬
‫المواقف الفكرية المبتذلة التي تشكل بدورھا ظواھر وعوامل التخلف ‪ .‬ما ھي ھذه‬
‫الظواھر التي يجب نقد وشجب دورھا في نشر التخلف الفكري والمادي ؟‬

‫‪92‬‬
‫‪ -1‬التفكير التطبيلي – التزميري‬
‫مھمة ھذا التفكير الذي تحمل لوائه أجھزة اإلعالم الرسمية التغطية على واقع‬
‫التخلف بالتھريج إلنجازاتنا الحقيقية والخيالية وھو يعمل على مستويين ‪.‬‬
‫المستوي التاريخي ‪:‬‬
‫كلكم تعرفون ھذه األبحاث الطويلة العريضة في أمجادا أجدادنا وفضلھم على الغرب‬
‫وھمة ھذه األبحاث بطبيعة ھذا الحال تجاوز عقدة نقص متأصلة تجاه الغرب وتجاه‬
‫واقعنا المخزي ‪ .‬أنا أشجب شخصيا ھذه الدراسات لألسباب اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬المطلوب أن نشعر بالخجل والعار ألننا صعاليك في سوق الحضارة بعد أن كان‬
‫األجداد أسيادا فيھا ‪ .‬ھل لشحاذ فضل ألن جدّه كان ثريا ‪ .‬وھل التذكير بالثورة يعين‬
‫على الفقر ‪.‬‬
‫‪ -‬إنھا تغالط وتكذب عندما تصور الماضي كجنة عدن التي طردنا منھا اقرأ وأكتب‬
‫أحمد أمين وستتضح لكم حقيقتان بديھيتان ‪ :‬إن عصور الحضارة الزاھرة من‬
‫الناحية العلمية واألدبية والفلسفية واكبت انحطاط الدولة العباسية وأن ظروف حياة‬
‫العربي أو المسلم طيلة ھذه العصور الذھبية المزعومة كانت غاية في القسوة‬
‫الشيء الذي يجعلني أقول أنه من الممكن أن العربي لم يعرف طوال تاريخه مماثال‬
‫لما نعرفه اآلن من العيش الكريم واألمان وحتى الوحدة ‪.‬‬
‫المستوى المعاصر ‪:‬‬
‫يقع على ھذا المستوى التعتيم على المشاكل وتسليط األضواء على اإلنجازات مع‬
‫تضخيمھا والمبالغة فيھا ‪ .‬والقاعدة ھنا ھي المبالغة و اإلسفاف وحتى الكذب‬
‫الصارخ ‪ .‬فعندما تسمع األبواق الرسمية في كل بلدان العرب يخيل لك أن التأخر‬
‫يلفظ أنفاسه ‪ ,‬وقد وصل ھذا النوع من التفكير إلى قمم منقطعة النظير في الغباء و‬
‫االستغباء ‪ .‬والمضحك أنه يحاول بكل الصور إقناع المواطن بصحة مبالغاته ‪ ,‬لذلك‬
‫تراه يعمد إلى إحدى الحيل الرخيصة ‪ :‬االستشھاد بأقوال " الرجل األبيض " مثال ‪:‬‬
‫طلعت علينا صحفنا وتلفزتنا باستشھادات من ھذا النوع كإعجاب نفر من السواح‬

‫‪93‬‬
‫بأثاث غرفتھم الجملية أو كتابة جريدة غريبة مغمورة في إحدى صفحاتھا الداخلية‬
‫عن تقدمنا الباھر ‪.‬‬
‫التفكير التبريري ‪:‬‬
‫ھنا يقع االعتراف بالتخلف المادي و الفكري واألخالقي ‪ ,‬لكن مھمة ھذا التفكير‬
‫إلصاق التھمة بعدو رئيسي واحد يحمل وزره أي أنه يتنصل من تبعاتة باعتبار‬
‫المجتمع ضحية بشاعة األقالم الرخيصة ‪ .‬يبقى تحديد ھذه البشاعة‪ .‬ھنا تتضارب‬
‫االجتھادات ‪.‬‬
‫‪ -‬االستعمار ‪ :‬لكن لماذا استعمرونا ؟ ھل تستعمر الشعوب العظيمة ؟‬
‫‪ -‬اإلمبريالية ‪ :‬لكن لماذا وقعنا فريسة اإلمبريالية ؟‬
‫‪ -‬نظام الحكم ! لكن كيف سمحنا لنظام الحكم بإجھاض طاقاتنا العظيمة إن كانت‬
‫موجودة‬
‫‪ -‬التخلي عن الدين ! طيب لكن عن أي دين تتحدثون ‪ :‬إسالم أبو ذر الغفاري أم‬
‫إسالم المتحجرين ؟ وعلى كل بماذا تفسرون االبتعاد عن الدين ؟ فالقول أن االبتعاد‬
‫عنه سبب التخلف ھو كالقول بأنه لوال المرض لكانت الصحة أي أنه كالم ال يقول‬
‫شيئا وزال يفسر شيئا إنما يصف ظاھرة بدون فھم معطياتھا‬
‫‪ -3‬التفكير العنصري ‪:‬‬
‫نحن متخلفون ألننا عرقيا الشعب من طراز أدنى وال أمل يرجى منا ويقول بھذا‬
‫الرأي عنصريو الغرب وأذيالھم المحليون وھو رأي ال يتطلب ردا وال يستحق تحيال‬
‫أو دخوال في نقاش مع أصحابه سكان األحياء الراقية الذين يسموننا بتقزز )‬
‫ليزاغاب (‬
‫المھم أن كل ھذه المنھجيات ال تفسر شيئا وال تقول شيئا ألن مھمتنا التغطية‬
‫والتبرير والثلب ‪ .‬والمنھجية الوحيدة الممكنة ھي النقد الذاتي على شرط أن ال‬
‫نجعل منه وسيلة للبكاء والنحيب عل تعاسة حالنا مع يفعل العديد من شعرائنا‬
‫المتخلفين بل مدخال موضوعيا إلى التعامل مع واقع نريد تغيره بأسرع وقت ممكن ‪.‬‬
‫لھذا النقد الذاتي إذا شروط أھمھا حسب رأي التقييم الموضوعي الھادئ الرصين‬

‫‪94‬‬
‫األمر الذي يتطلب إدارة الظھر لنظريات العقائدية وخاصة الغوغائية منھا وتتطلب‬
‫ھذه المنھجية أيضا عدم الدخول في حوار مع التفكير التطبيلي التزميري أو التفكير‬
‫العنصري أو التبريدي وإنما اعتباره مظھرا من مظاھر التخلف ‪ .‬واألھم من ھذا أن‬
‫نعي بأن العلم عندما يتعامل مع ظاھرة ما ‪ ,‬فإنه يحاول اكتشاف أكبر عدد ممكن من‬
‫عواملھا وخلفياتھا وأسبابھا – أي أنه ال يتوقف عند سبب واحد ليقول ھنا مكمن‬
‫الداء ولكنه يتوغل إلى أبعد من ھذا ‪ .‬فالخاصية المالزمة لطرق التفكير التي‬
‫تعرضت لھا ھي أنھا ذات بعد واحد ‪ :‬فالتخلف ھو حتميا نتيجة دناءة عنصرنا أو‬
‫غلطة النظام أو االبتعاد عن الدين فأنت لن تجد فيھا مھما حاولت ال ديناميكية وال‬
‫ترابط أسباب وال تعدد مستويات الخ ‪ ..‬ومن ثمة فجاجة تحليلھا وبدائيته ‪.‬‬
‫ھل من بديل ؟ الواقع إن عملية تقييم مرض اجتماعي خطير كالتخلف أمر فوق‬
‫طاقاتي المحدودة ‪ .‬لذلك فإنني أقدم ھذه األفكار كاجتھادات ‪ ,‬أمال أن ينتبه إلى‬
‫خطورة الموضوع الباحثون ممن ھم أوفر مني علما ومقدرة ‪ ,‬وأن يساھموا‬
‫بقسطھم في الرد على السؤال الھام الذي يواجھه مجتمعنا ‪ :‬لماذا نحن متخلفون ‪.‬‬
‫مستويات التخلف وعوامله‬
‫‪ – 1‬البعد التاريخي ‪:‬‬
‫يتحمل مجتمعنا الحالي ثقل عدة قرون من التخلف المادي والفكري ‪ .‬فقد بدأت‬
‫نھضة الغرب منذ أربعة قرون على األقل في حين أننا لم نبدأ الحركة إال منذ قرن‬
‫تقريبا ) والحق أم جيل آبائنا قد لعب دورا ھائال في إخراج مجتمعنا من التبعية‬
‫والتخلف ألنه تحمل جل العبء في المعركة ضد االستعمار فليتقبل ھذا الجيل امتنان‬
‫واعتراف شاب يدرك أھمية تضحياته ويقدر مجھوداته حق قدرھا ( ‪ .‬يبقى أننا إلى‬
‫حد اآلن لم تقوم أبعاد التركة الفادحة التي تركھا لنا جيل األجداد ‪ .‬كيف ولماذا‬
‫تحجر الدين ؟ من المسؤول عن ركود الفكر وخموله ؟ ھل اختفت عوامل التحجر‬
‫والركود التي كادت تقضي على حضارتنا ‪ ,‬ما ھي أسباب انحطاطنا الحضاري ؟‬
‫غياب الشورى ) أفضل ھذه الكلمة العميقة المعنى والفصيحة على كلمة ديمقراطية‬
‫(‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫خنق الفكر الحر باسم الدين ؟ طبيعة العالقات اإلقطاعية في المجتمع ؟ إجھاض‬
‫العلم ؟ نحن بحاجة ماسة إلى قراءة جديدة لتاريخنا تكون نقيض القراءة التطبيلية‬
‫التزميرية تغنينا ألف مرة وتدعم قوتنا وتفتح أعيننا ‪.‬‬
‫المھم أن دخولنا متأخرين إلى ميدان الحضاري ليس إال ظاھرة يجب أن نكتشف‬
‫أسبابھا ‪.‬‬
‫‪ – 2‬البعد البيولوجي ‪:‬‬
‫دخلت مجتمعاتنا حلبة الصراع مع المجتمعات المتقدمة وھي تعاني من نقص فادح‬
‫في ميدان الطاقات وذلك على مستويين ‪:‬‬
‫إخراج نصف المجتمع من ساحة اإلنتاج والخلق واإلبداع ‪ .‬بماذا يحتج السلفيون‬
‫من كل حدب وصوب إن اتھمتھم إنھم بتضييقھم على المرأة وإھدار حقوقھا قد‬
‫شلوا نصف طاقاتنا ‪ .‬ليتفضلوا بحججھم الخرافية عن كرامة المرأة النظرية‬
‫وليفسروا لي فضلھم على المرأة – عندما أقرأ أن في السعودية ‪ ,‬بنوكا مخصصة‬
‫للنساء أقول ‪ :‬مھما أخذنا على النظام من مآخذ ‪ ,‬فسابقي له مدينا بوقفته الحضارية‬
‫في تحرير نصف المجتمع من ربقة عبودية أربعة عشر قرنا ‪ .‬والتحرير ھذا بطبيعة‬
‫الحال نسبي لكن ذلك ناتج عن الثقل التاريخي والتركة البغيضة التي ورثناھا‬
‫والمھم تعميق ھذا التح ّرر وإعطاؤه كل أبعاد التطبيق الممكنة ‪ .‬فال حرية لإلنسان‬
‫إن لم تحرر المرأة كامرأة ثم كعاملة‬
‫ضعف المستوى الصحي لشعبنا ‪:‬‬
‫عانى مجتمعنا وال يزال من العديد من األمراض الفتاكة وقد انتبھت إلى خطورة ھذه‬
‫الظاھرة وإمكانية دورھا في انحطاطنا الحضاري عبر ممارستي الطبية اليومية ‪.‬‬
‫فمن البديھي أن مجتمعنا يعاني من األمراض الفتاكة ال يمكن أن يتحمل بكفاءة‬
‫عبء تغييرات جذرية وخاصة إن انتشرت فيه األمراض الوراثية ‪ .‬فقد شھدت لكثرة‬
‫ھذه األمراض في بالدنا مما يجعل شعبنا " يتوفر " على نسبة ھائلة من القاصرين‬
‫والمعروف عن ھذه العاھات الوراثية ارتباطھا بزواج األقارب الناتج بدوره عن‬
‫القبلية الجھوية والعشائرية ‪ .‬مثال الحظت أن منطقة ) ق ( تبعث إلى مركز‬

‫‪96‬‬
‫األعصاب بعدد من المرضى المصابين بالعاھات الوراثية أكثر بكثير من منطقة‬
‫تونس التي تكبرھا مائتي مرة والمعروف أن ھذه المنطقة من أكثر المناطق تخلفا‬
‫وفقرا ‪ .‬إذن يلعب ھذا العامل دوره في تأصل التخلف الذي يزيد في انتشار المرض‬
‫وھكذا ترانا على ھذا الصعيد ندور في حلقة مفرغة ال خروج منھا إال بتغيير‬
‫العقليات والتوعية فالصحة كما رددت مرارا أخطر من أن يعھد له على األطباء‬
‫وحدھم ‪.‬‬
‫‪ – 3‬البعد االقتصادي ‪:‬‬
‫أول ما يتبادر إلى الذھن ھو أننا متخلفون ألننا فقراء ‪ .‬لكنني ادعي أننا فقراء ألننا‬
‫متخلفون واألمثلة متوفرة في عالمنا على شعوب غنية بالموارد وھي متخلفة )‬
‫منھا كثير من البلدان الشقيقة ( وعلى بلدان فقيرة طبيعيا لكنھا خلقت الثروة‬
‫كاليابان وكوريا مثال ‪ .‬وقد خلقت ھذه األمم الثروة تقريبا من الشيء لكن بفضل‬
‫عامل أساسي ‪ :‬العمل ‪ .‬الواقع أنك تواجه عندما تريد أن تدرس أسباب تقدم‬
‫الشعوب العظمى التي تتحكم في العالم بظاھرة قارة تتشارك فيھا كلھا‪ .‬فالحضارة‬
‫الغربية بشقيھا اليساري ) الماركسية ( واليميني ) الليبرالية ( ھي تقديس العمل‬
‫فالكلفينية مثال واللوثرية التي تشكل الخلفية العقائدية للمجتمعات السكندنافية و‬
‫االنجلو سكسونية تجعل من العمل واجبا دينيا وتعتبره إحدى الوسائل للخالص ‪ .‬وال‬
‫تختلف الماركسية اختالفا جذريا عن اللوثرية من ھذه الناحية إذ تجعل من العمل‬
‫القيمة األولى في المجتمع ‪ ,‬واألھمية التي تضيفھا على الطبقة الشغيلة معروفة ‪,‬‬
‫وقد عرفت عمق ھذا التمذھب العقائدي البعيد الجذور عند الشعوب الغربية التي‬
‫عايشتھا سنين طويلة ‪ .‬بطبيعة الحال ھم أيضا يعرفون العمل الرديء لكن ليس‬
‫بالدرجة التي نعرفھا نحن ‪.‬‬
‫المواجھة مع العمل الرديء لإلنسان المتخلف تبدأ لحظة دخول الطائرة ‪ :‬المضيفة‬
‫التونسية ال ترى من واجبھا إعانة الراكبة المحملة بأربعة أطفال ورضيع ‪.‬‬
‫تصل إلى تونس وكلك شوق ومحبة وفي قلبك حنان دافق للوطن المقدس فتواجه‬
‫بالنظرة الساخطة الغضبى في كل مكان ‪ .‬ليلة أول رمضان نزلت تونس وكنا ما‬

‫‪97‬‬
‫يقارب الخمسمائة مسافر إذ وصلت ثالث طائرات في نفس الوقت ‪ .‬انتظرنا طويال‬
‫في جو خانق ‪ .‬تعالى صراخ األطفال ‪ .‬أغمى على بعض النساء لم تخلص من‬
‫اإلجراءات الروتينية إال بعد ثالث ساعات ‪.‬‬
‫تبدأ بعد ذلك قصتك المؤلمة المضحكة مع اإلدارة التونسية بشتى أصنافھا وأنواعھا‬
‫‪ .‬الغريب ھو مدى الغلظة والفضاضة والخشونة واالحتقار في معاملة المواطنين‬
‫اللھم إال إذا كنت ابن عم ولد خالة جدة صديق الموظف المحترم ‪ .‬أما البطء فھو‬
‫أمر يكاد يكون طبيعيا – مثال استلمت مرتبي بعد ستة أشھر من العمل وكدت أفقد‬
‫أعصابي وأھاجر ووصلت بي الحاجة حدا ال يوصف إداريا ال ترى حرجا في ذلك بل‬
‫ھو شيء طبيعي في نظرھا ‪ .‬أما معضلة األوراق فال نھاية وال حل لھا لكي تأخذ‬
‫ورقة يجب أن تكون حاصال على ورقة أخرى تتطلب بدورھا شھادة ثالثة وھكذا ‪..‬‬
‫إلى حد اآلن لم أنجح في التحصل عل ورقة التعريف ألن شھادة الجنسية التي أتيت‬
‫بھا كانت ثبوت الجنسية‬
‫) أو العكس ( وكل مرة أضيع نصف نھار في " الصف " وعشرات المرضى في‬
‫ذمتي ‪ .‬والتعامل مع العمل الرديء ينبوع ال ينضب واألمثلة باآلالف وكلكم عشتم‬
‫عينات منھا ‪ .‬مصعد العمارة التي اضطرت إلى السكن فيھا عاطل ثالثة أرباع الوقت‬
‫‪ .‬الماء بين الفينة واألخرى ‪ .‬الثالجة التي اشتريتھا ال تعمل مما يجعلني أرجعھا‬
‫لإلصالح وتعود كما كانت وأمل الجري و االحتجاج‪ .‬حالة طرقاتنا يرثى لھا ‪.‬‬
‫افتح التلفزة فتقھرني رداءتھا ‪ :‬رداءة البرامج المصرية ‪ ,‬رداءات البرامج الغربية‬
‫‪ .‬رداءة النشرة ‪ :‬نزل عمرو وطلع زيد ‪ ,‬طبّل فالن وز ّمر فالن ‪ ,‬تقبل وصل إلى‬
‫المطار ‪ ,‬ألقى كلمة عبر فيھا بالمناسبة عن عميق شكره وبالغ تأثره ليلة سالت‬
‫خالتي وھي امرأة أمية عما فھمته ضحكت قالت ال شي ‪ ..‬رداءة في اإللقاء – رداءة‬
‫اللغة ) الفقھية التي ال يفھمھا ثالثة أرباع الشعب – تفاھة المواضيع رداءة‬
‫المونتاج –‬
‫أنا اآلن مثل آالف الناس أصبحت ال أفتح التلفزة – ال أستمع إلى نشرة األخبار – ال‬
‫أقرأ جريدة تونسية إال بألف احتراز‪ ,‬ال أصدق ما يقوله مسؤول حتى ولو كان‬

‫‪98‬‬
‫صادقا ‪ .‬تلك ھي نتيجة أجھزة ) كيف تسمونھا ‪ ..‬اإلعالم ( بطبيعة الحال أمثلة‬
‫العمل الرديء ال تحصى وال تعد ‪ ,‬لذلك سأتوقف عن العد حتى ال يطالني القرف وال‬
‫يطالكم الوھن ‪.‬‬
‫لماذا ‪ :‬المھم التساؤل عن سبب ھذا العمل الرديء الضارب أطنابه في كل‬
‫المستويات ‪ .‬ھنا أيضا تجد أن األسباب عديدة ومتشابكة ‪.‬‬
‫تاريخيا وحضاريا نحن أمة ال تقدس العمل وال نمجده ‪ .‬بطل قصصنا الميثولوجية‬
‫تاجر ) ألف ليلة ( أو شاعر أو عسكري أو عالم في الفقه ‪.‬‬
‫ھل رأيتم مرة مسلسال بطله فالح يزرع الصحراء أو عامل كفء يستعمل اآللة‬
‫بحنكة وذكاء ‪ .‬ال بالطبع ‪ .‬أبطال مسلسالتنا خريج كلية التجارة والورثة وشعراء‬
‫البالط وفرسان ﷲ ‪.‬‬
‫حاليا ‪ ,‬مطمح الشاب المتخلف ليس العمل الخالق بل الوظيفة وھو على حق في ذلك‬
‫فھو يعمل بالمثل الفرنسي ‪ :‬إن كنت تريد أن تربح قوتك فأعمل وإن أردت أن‬
‫تستغني فأبحث عن حل آخر لذلك تتساءل عقليتنا لماذا التعب بما أن العمل الخالق‬
‫ال يضمن إال الكفاف ‪ .‬كل من يعمل شعاره " مكره أخاك ال بطل " سألت مرة عامال‬
‫وأنا أالحظه وھو‬
‫) يملغص ويبلبز ( في عمل بسيط في داري ) وكان عبوسا قمطريرا غاضبا ناقما (‬
‫عن ظاھرة العمل الرديء في بلدنا‪ .‬قال بصراحة ‪ :‬الخالص قلت له ‪ :‬حسب رأيك‬
‫ھل العمل الرديء ھو " سابوتاج " مقصود ؟ ابتسم وصمت ‪...‬‬
‫أضف إذن إلى الثقل التاريخي شيئا من صعوبة استيعاب التكنولوجيا الحديثة وكثيرا‬
‫من الوضعية المادية والمعنوية المزرية للعامل تجد أن النتيجة ھي ھذا العمل‬
‫الرديء الذي يشكل مظھرا من مظاھر التخلف وسببا من أسباب بقائه ودوامه ‪.‬‬
‫من البديھي إذن أن الصعوبات المادية وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه العامل‬
‫الخالق والشعور بالغبن واستحالة التعبير عنه بطرق قانونية يجعل من ھذا العمل‬
‫الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه‪ ,‬لكن فداحة الخطب‬
‫واضحة والخسارة مكفولة للجميع ‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫مثال ‪ :‬مصنع كذا ال يعطي لعماله التقدير المادي والمعنوي المطلوب و من ثمة‬
‫سوء عمل ورداءة اإلنتاج – نفور المستھلك التونسي – تھالك على السلعة األجنبية‬
‫– خسارة للجميع ‪ :‬العرف والعامل والمستھلك والدولة ‪ .‬لذلك أقول أننا عندما‬
‫نعطي العامل في كل ميدان اعتباره وحقوقه الكاملة فإننا ال نتكرم وال نتفضل وال‬
‫نأتي بعمل أخالقي إنما نكفل لمجتمعنا كل حظوظه للخروج من التخلف ‪ .‬فمن المؤكد‬
‫أن مجتمع بال طبقة عاملة خالقة نشيطة يحكم على نفسه باالنتحار على األمد البعيد‬
‫‪ .‬فأما العنف وإما " السابوتاج " وفي كالتا الحالتين قلة في اإلنتاج ورداءة في‬
‫المحصول الجماعي ‪.‬‬
‫نحن مقدمون على سنوات صعبة جدا بل وأقول حتى على مجاعة عالمية قبل نھاية‬
‫القرن ‪ .‬يجب أن نضمن إن أردنا أن ال نأكل بعضنا البعض وإذا توخينا أقصى قدر‬
‫ممكن من الفعالية آللة اإلنتاج أن نجعل الھدف الشورى والمشاركة والتخطيط‬
‫الذكي لألمد البعيد وتقديس العامل والمنتج وخاصة الفالح ‪ .‬ففي ھذا إعادة الفعالية‬
‫لقوة اإلنتاج التي ستطعمني وتطعمكم ‪ .‬فالضمان األوحد لشعبي وشعبكم ‪ ,‬ھو أن‬
‫يتمتع أكبر عدد ممكن منا بالحرية والشبع ‪ .‬خارج ھذا الضمان ال شيء ‪ .‬أما العنف‬
‫البدائي فقد جرب مرارا عبر التاريخ ولم يظھر نجاعته ‪.‬‬
‫‪ – 4‬البعد األخالقي ‪:‬‬
‫كلنا نعرف أن األمم باألخالق ‪ ..‬إن ذھبت أخالقھم ذھبوا ‪ .‬تعرض أحد قراء الرأي‬
‫لھزة كتف لھذا البعد جاھال أو متجاھال أھميته ‪ ..‬وتتضح مظاھر أخالق اإلنسان‬
‫المتخلف في كل تصرفاته وھذا بغض النظر عن وضعيته المادية والمعنوية ‪.‬‬
‫مثال السياقة في تونس عملية شائكة وخطيرة ‪ ,‬آخر إحصائيات تظھر أن نسبة‬
‫الموتى في حوادث الطرقات ستة أضعاف ما ھو موجود بالغرب ‪ .‬ھل تتصوروا‬
‫فظاعة ھذا الرقم‪ .‬لماذا ؟ السبب ھو اإلنسان المتخلف ‪ :‬عدم احترام األولوية ‪,‬‬
‫السرعة العنفوانية الخ ‪ ...‬ظاھرة الحظناھا كلنا ‪ :‬النرفزة الكالكسون وراء ظھرك‬
‫بعنف حال انتقال الضوء إلى األخضر ‪ ,‬تجاوز على اليسار والسائق يھددك بقبضة‬
‫يده ‪ ..‬سرعة مجنونة داخل المدينة ‪ ,‬عدم احترام المترجل الذي ال يحترم السائق ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫من أغرب التصرفات التي شاھدتھا ) وفضل الغربة أنھا تعلم المالحظة وتمكن من‬
‫المقارنة ( إن السائق التونسي يتجاوز بكثير السرعة القانونية وإذا صادف شرطي‬
‫المرور تراه يخفض فجأة في السرعة ويمر أمامه بعشرة كيلومترات في الساعة ‪.‬‬
‫ھذا التصرف دليل على نفسية المتخلف الذي ال يحترم القانون وإنما يھاب القوة ‪.‬‬
‫فأي تفسير آخر لھذا التصرف الخانع الذليل ‪ .‬من البديھي أن اإلنسان المتحضر‬
‫يسوق بسرعة ثمانين كيلومتر في الطريق وكذلك أمام الشرطي بدون أن يتنبه إليه‬
‫أو يعيره أدنى اھتمام ناھيك عن الخوف منه ‪.‬‬
‫مشكلة المشاكل من الناحية األخالقية انعدام حس المواطنية ومن ثمة كل التصرفات‬
‫المتخلفة ‪ " :‬الزبلة " في الشارع‬
‫" ألن الشارع ليس ألحد " عدم احترام قانون المرور ألن السائق اآلخر ليس‬
‫مواطنا بل خصما ‪ ,,‬انتشار القبلية والجھوية والعشائرية وسبب ھذه التصرفات‬
‫الفردية والالمباالة ھو انعدام المشاركة في تسيير شؤون الحياة اليومية‪.‬‬
‫إن أحسن وسيلة لرفع مستوى المواطنة ھو إفساح المجال لكل الطاقات الحية‬
‫للمشاركة ) ومن ثمة للشعور بالمسؤولية( في كل الميادين وعلى رأسھا الميدان‬
‫البلدي ‪ .‬فالمطلوب المسارعة إلى سحب الصبغة السياسية عن االنتخابات البلدية‬
‫وجعلھا شورية حقا تتداول عليھا الكفاءات والطاقات وتعميم المشاركة في كل‬
‫المستويات ) أطفال المدارس لتنظيم المرور ‪ ..‬الموظفون والطلبة والجنود لتنظيف‬
‫الشوارع في إطار حمالت ‪ ...‬حلقات درس في كل اإلدارات والمؤسسات للبحث عن‬
‫أحسن كيفية لتنظيم العمل‪ ,‬سن نظام الموفق ''االمبودسمان '' السكندنافي ليتلقى‬
‫شكايات المواطنين والتوفيق بينھم وبين اإلدارة ‪ ..‬حلقات تفكير للمتثقفين حول‬
‫المشاكل المصيرية ‪ .‬تفتح الراديو وأجھزة اإلعالم على كل االتجاھات في إطار‬
‫نقاش حر بناء ‪.‬‬
‫من البديھي أن اإلجراءات لتعميم المشاركة كثيرة وأنھا ستمكن من إنضاج الشعب‬
‫وخلق مناخ يقلل من كثافة ھذه الفظاظة وھذه الالأخالقية االجتماعية التي تجعلنا‬
‫نتعايش وكأننا أعداء وليس أبناء األم المقدسة ‪ ...‬تونس‬

‫‪101‬‬
‫‪ – 5‬البعد السياسي ‪:‬‬
‫ال أناقش أحدا في مشكلة التخلف إال ويقول كلھا مشكلة نظام الحكم ‪ .‬اسأل ‪ :‬ماذا‬
‫تقترح إذن ؟ وھنا تبدأ االختالفات ‪ :‬فلكل أحد وصفته السحرية التي ستجعل تونس‬
‫جنة الرخاء في أربعة أيام ‪ .‬فھناك الوصفة الحمراء ) الشيوعية ( والسوداء )‬
‫الدينية ( والبيضاء ) البرجوازية ( وبعض الوصفات الھجينة الباھتة اللون ‪ .‬وأنا‬
‫أالقى عادة صعوبة في إفھام أصحاب ھذا المنطق إن التخلف أعقد من مشكلة النظام‬
‫وأن احترازي من السياسة السياسية ليس نتيجة تواطؤ موضوعي مع نظام معين‬
‫بل نتيجة تحليل أعتقده موضوعيا‪ ,‬ورأيي الشخصي يتخلص في النقاط التالية ‪:‬‬
‫‪ – 1‬إن نظام الحكم في أي بلد ھو إحدى المؤشرات على تقدم أو تأخر المجتمع‬
‫وليس أكثر من ھذا ‪ .‬فمن البديھي أن نظام الحكم في السويد ھو ديمقراطي ألن‬
‫حالة المجتمع السويدي ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن تقبل إال ھذا النظام وعلى‬
‫العكس فإن مجتمعنا أفريقيا متخلفا إلى أقصى درجة ال يمكن أن يتمتع أو أن يفرز‬
‫نظاما مثل ھذا بل ديكتاتورية عيدي أمين أو بوكاسا أو حكومات أقل تأخرا لكنھا‬
‫بعيدة كل البعد عن األنظمة المتقدمة ‪.‬‬
‫‪ – 2‬أن ھناك مغاالة ساذجة في تقييم دور النظام السياسي ‪ .‬خذ أحسن نظام ممكن‬
‫من أي ناحية وضعه في المجتمع بالغ التخلف ‪ ,‬لن يحقق أي معجزة وسيبقى زمن‬
‫تكوين الطبيب أو المھندس ھو نفس الزمن ‪ ,‬معنى ھذا أن مركز الثقل الحقيقي في‬
‫عملية التطور ھو المجتمع نفسه ال إحدى تشكيالته ومؤسساته مھما بلغت‬
‫خطورتھا كالنظام ‪ .‬فمن الواضح أن التقدم يكون ألن المجتمع يفرز عباقرة في‬
‫األدب والفن والعلم وعماال مھرة الخ ‪ ...‬وإن الطاقات الخالقة فيه ھي التي تحدد‬
‫االتجاه الذي يتخذه تطوره ‪.‬‬
‫‪ – 3‬صحيح أنه يقع في بعض المراحل من التطور تناقض بين مجتمع له خصائص‬
‫وحاجيات ونظام عاجز عن مواكبة الركب والحالة القارة دائما ھي غلبة المجتمع‬
‫وتمزيقه لقميص يضيق عنه ‪ ,‬معنى ھذا ‪ :‬خلوا ثقتكم في المجتمع ‪ ,‬عبئوه‪ ,‬اشحنوه‬

‫‪102‬‬
‫بكل الطاقات ‪ ,‬فإن تبع النظام الحركة وقادھا وفر على نفسه وعلى المجتمع مصائب‬
‫‪ ,‬وإن أعوزه الذكاء فمصيره التغير أو االختفاء ‪.‬‬
‫‪ -4‬ال وجود لنظام مثالي فلكل نظام سياسي حدوده وتناقضاته ‪ .‬خذ مثال نظام‬
‫الحزب الواحد ‪ .‬أنت ال يمكن أن تحكم عليه إال إذا اعتبرت المرحلة التي يمر بھا‬
‫وھي إحدى ثالث ‪ :‬مرحلة األبطال ) الذي يخلقون الحركة والتاريخ ( ‪ ,‬مرحلة‬
‫اإلداريين ) الذين ينظمون اإلنجازات ( ‪ ,‬مرحلة االنتھازيين والمتحجرين ) الذين‬
‫يتسببون في موت الحزب (‪ .‬وھذه المراحل الثالث إجبارية ألن الحزب ليس كائنا‬
‫أزليا ‪.‬‬
‫خذ اآلن الشورى أو الديمقراطية ‪ .‬من البديھي أنه يمكن ممارستھا على الطريقة‬
‫اللبنانية ) شراء أصوات وأحزاب مسلحة ( أو على الطريقة السويدية ‪.‬‬
‫إن اعتبرنا كل ھذه التحفظات ‪ ,‬فإنه ال يسعنا إال أن نالحظ أن ھناك قانونا عاما‬
‫يقضي بأن البلدان المتقدمة ھي دائما بلدان الديمقراطية و إن البلدان الديمقراطية‬
‫ھي دائما متقدمة ) باستثناء حالة شاذة واحدة وھي الھند ( ‪.‬‬
‫والجدير بالذكر أن كل ھذه البلدان لم تصل إلى مثل ھذه األنظمة المتقدمة إال بعد‬
‫تجارب ومحن وثورات ونزاعات دموية وال أعرف مثاال عن شعوب اختصرت‬
‫الطريق ووفرت على نفسھا المصاعب إال مثال الشعوب السكندنافية وذلك لذكاء‬
‫ومھارة وحتى خبث برجوازيتھا التي استطاعت التخطيط للمستقبل وقيادته مع‬
‫الحفاظ على مصالحھا ‪ ,‬الظاھرة القارة في مثل ھذه األنظمة التي تعايش سلمي بين‬
‫قطاعات اجتماعية ذات مصالح متشابكة ومتناقضة وقبولھا لفض نزاعاتھا بدون‬
‫لجوء إلى العنف المدّمر والالفعال ‪ ,‬في حال أن األنظمة المتأخرة ترفض سحريا‬
‫وجود مثل ھذه التناقضات أو تحاول اجتثاثھا بالعنف عبثا ألن التناقضات سواء بين‬
‫الطبقات أو األفراد أو الجھات ھي أمر حتمي مرتبط بتركيب المجتمع وحياته ‪ .‬من‬
‫الواضح إذن أن تخلفنا راجع منذ قديم الزمان إلى سيطرة العنف والسلطة الفردية‬
‫وكبت الطاقات المخالفة في الرأي الخ ‪ .‬ومن الواضح أيضا أن تقدمنا مرتبط ارتباطا‬
‫وثيقا بقبول التناقضات االجتماعية وتعلم حلھا بالحوار والنقاش واالحتكام إلى‬

‫‪103‬‬
‫صندوق االقتراع ‪ .‬بيد أن وصولنا إلى ھذه النتيجة مثل وصولنا إلى مرحلة التقدم‬
‫بصفة عامة ليس أمرا أوتوماتيكيا كما يظن البعض معتبرين أن المسألة مسألة‬
‫وقت ‪ .‬فنحن كقدر تغلي بطبخة شھية لكن مصيرھا مجھول إذ ھناك احتماالت عديدة‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬يمكن أن تنفجر القدر لعدم نجانس المواد التي بداخلھا ) الصراعات‬
‫األھلية العنيفة (‬
‫‪ -‬يمكن أن تدعسھا قدم جبار فتھشمھا وتھرق ما فيھا ) حرب عالمية (‬
‫‪ -‬يمكن أن تفسد الطبخة ) فنبقى متخلفين وحتى نرجع القھقرى (‬
‫‪ -‬يمكن أن تستقيم الطبخة ويطيب أكلھا ) نصبح دانمارك إفريقيا (‬
‫وقد يتساءل القارئ ‪ :‬إن كانت عوامل التخلف متشابكة ومترابطة ومعقدة إلى ھذا‬
‫الحد ‪ ,‬فكيف يمكن للفرد أن يؤثر على مصير الطبخة ؟ ومن البديھي أن الفرد ال‬
‫يمكن بجرة قلم أن يجعل تونس تتمخض عن آالف العباقرة في الفالحة والصناعة‬
‫والطب والھندسة المعمارية وغزو األسواق الخارجية‪ ,‬وال يمكنه أن يھدي الحكام‬
‫إلى ممارسة المسؤوليات على الطريق السكندنافية أو يجعل المعارضة تعارض على‬
‫الطريقة البريطانية ألن ھذا النضج مرتبط بتجارب تاريخية مريرة قلما يمكن‬
‫تجاوزھا والقفز فوقھا‪ ,‬كما ال يمكنه جعل بلدنا تتوفر على ثروات طائلة يمكن أن‬
‫تسھل التقدم وتختصر طريقه ‪.‬‬
‫لكن كل ھذه االستحاالت ال تعني أن كل واحد منا عاجز عن لعب دورا ھاما في‬
‫محاربة التخلف بل العكس ‪ .‬فقد قلت أن المعركة الحقيقية ضد التخلف ستربح أو‬
‫تخسر في قلب المجتمع ‪ .‬فكلنا ‪ :‬أنا ‪ ,‬أنت ‪ ,‬نحن ‪ ,‬ھم ‪ ,‬مسؤولون عن عار التخلف‬
‫وقادرون على محاربته من مستوانا المتواضع ‪ .‬مثال أنا أعتقد أننا نستطيع كأفراد‬
‫محاربة التخلّف وإعطاء الطبخة بعض الحظوظ الزائدة ألن تستقيم ويطيب مذاقھا ‪,‬‬
‫على ثالث مستويات ‪:‬‬
‫الوعي ‪ :‬كل ما يزيد الوعي يجعلنا نتقدم خطوة ‪ ,‬لذلك أنادي أقالمكم يا مفكري‬
‫تونس وليكون النقاش في أعلى مستوي‬

‫‪104‬‬
‫) ومن البديھي أنني ال أعني بالمفكرين نخبة المثقفين وإنما كل إنسان يقبل على‬
‫التفكير ( المھم أن نبتعد عن الكليشيھات واألفكار المتحجرة الضحلة الرتيبة التي‬
‫خدرنا بھا عقولنا سنوات وقرون ‪ .‬فتخلفنا أيضا فكري وسنتقدم يوم تتكاثر الكتب‬
‫واألبحاث واألفكار المتضاربة من كل حدب وصوب ‪ ,‬ورأيي أن نضرب عن البكاء‬
‫والنحيب والحماسة والبالغة وأن نرتقي إلى مصاف التفكير الموضوعي العقالني‬
‫وأن نجعل من المرح والفكاھة والسخرية وسيلة لمحاربة التخلف الفكري ‪ .‬فأنا‬
‫أستمج أسلوب الحزن واأللم واليأس الذي تنضج به كتابات أدبائنا الشبان ألنني ال‬
‫ّ‬
‫أراه فعاال أو إيجابيا ‪ ,‬فال سالح أمضى من الفكاھة للقضاء على عيوبنا الشخصية‬
‫واالجتماعية ‪.‬‬
‫محاربة الرديء ‪ :‬لو أقنعت قارئا واحدا برفع مستوى عمله اليومي إلى أعلى‬
‫مستوى لما أضعت وقتي في كتابة ھذا الكتاب ‪ .‬فأنا أؤمن باألھمية القصوى لھذه‬
‫النقطة ‪ .‬فرفع مستوى الخدمات التي نقدمھا للمجتمع ھو أول واعظم واجب وكثيرا‬
‫ما رددت لشباب المتحمس أن التزامي السياسي ھو الوصول إلى المستشفى على‬
‫الساعة الثامنة كل يوم ‪ .‬والحرب ضد العمل الرديء ال يمكن أن تأتي من فوق‬
‫بقرارات وإنما ينبع من إرادة األشخاص ‪ .‬مثال يمكن للمكلفين بالمطار التساؤل عن‬
‫أحسن الوسائل لتسھيل مرور المواطنين والضيوف وإعطائھم فكرة مشرفة عن‬
‫البالد بحسن االستقبال كما يمكن المكلفين عن األخبار تقييم نتيجة عملھم والوعي‬
‫بأھمية وعمق أزمة الثقة التي يتسبب فيھا العمل االرتجالي ‪ ..‬كما يمكن للمكلفين‬
‫باإلدارات تقديم اقتراحات لتحسين عملھم وھكذا ‪ .‬ومن المھم أن ال نسكت على‬
‫العمل الرديء أن نشجبه بمنتھى الصرامة حتى تتحسن الخدمات التي نقدمھا‬
‫ونتلقاھا ‪ .‬مثال يجب تكوين جمعية الدفاع عن حقوق المستھلكين حتى يعرف المنتج‬
‫بسرعة أنه ال يمكن أن يغرق السوق القومية بالمنتوجات الخطرة أو الرديئة وھذا‬
‫ما يحملني إلى التعرض إلى النقطة الثالثة ‪.‬‬
‫االلتزام الجماعي ‪ :‬قلت أن كثيرا من تصرفاتنا اليومية تتسم بالالمباالة وبانعدام‬
‫حس المواطنة ‪ ,‬ومن ثمة كثير من مظاھر التخلف ‪ .‬والظاھرة التي الحظتھا في‬

‫‪105‬‬
‫المجتمعات المتقدمة ھي أھمية حس المواطنة الذي يتجسد في كثرة الجمعيات‬
‫ونشاطاتھا المتخلفة ‪ .‬لذلك أقول أن علينا نحن أيضا أن ننمي حس المواطنة‬
‫بااللتزام االجتماعي أي بتنمية إحساسنا بدورنا ومكانتنا في المجموعة والعمل‬
‫داخل أي تنظيم فني أدبي اجتماعي –سياسي ‪ .‬فالمرء ال يمكن أن يعتبر دوره‬
‫منتھيا عندما يقصر ھمومه على نفسه ومشاغله الخاصة لذلك أقول ‪ :‬لنتقدم إلى‬
‫االنتخابات البلدية أو لننخرط أو لنكون مختلف الجمعيات لمحاربة التخلف على‬
‫جبھات معينة متواضعة عوض انتظار الفرج الفجائي والكامل من السماء ‪.‬‬

‫العـــــــــــــــــرب والحــــــــــــــــريــــــــة‬

‫أسباب التخلف متعدّدة ومترابطة ومن ثمة يصعب الفصل بينھا أو تفضيل بعضھا‬
‫على البعض ‪ .‬لكن من ال ِمؤكد أن لغياب الحرية أو لندرتھا ضلع كبير في وجود‬
‫التخلف ‪ ,‬في تأصلّه وفي دوامه ‪ .‬والحرية في بالد العرب ھو المطلب العزيز األوحد‬
‫الذي ال زالت جماھيرنا تلھث وراءه منذ قرابة القرن على شكل التح ّرر من نير‬
‫األجنبي ‪,‬من الفقر ‪,‬من الجھل ‪,‬من المرض ‪ ,‬من بعض األنظمة التي تدّعي أنھا‬
‫نبراس الحرية ‪.‬‬
‫والمالحظ لتاريخ الشعوب ال يمكنه إال أن يسجل أن أكثر الشعوب تقدما ھي التي‬
‫تتمتع بأوفر قسط من الحريات )حرية االختيار وحرية التفكير وحرية التعبير الخ‬
‫‪ (...‬والعكس صحيح أي أن الشعوب التي تتخبط في التخلف ھي التي ال تنعم بشيء‬
‫منه ومن ثمة يطرح السؤال ‪ :‬ما ھو دور غياب الحرية في تخلف شعبنا وأمتنا أي‬
‫في بقائه في منزلة دون منزلة الشعوب واألمم المضاھية لنا ‪.‬‬
‫لنالحظ أوال خصائص الحرية وطبيعتھا في المجتمعات الغربية المتقدمة ‪ .‬سنكتشف‬
‫بطبيعة الحال أنھا محدودة وأنھا تخضع في ميدان العمل الصناعي مثال إلى قيود‬
‫مجحفة ‪ ,‬كما سنكتشف أنھا ال تعمل إال في إطار محدّد ) الديمقراطية البرلمانية في‬

‫‪106‬‬
‫ما يخص النظام السياسي ( ومن ثمة فھي ليست الحرية المطلقة التي تصورھا‬
‫الفوضويون في بداية القرن التاسع عشر ‪ .‬باإلضافة إلى ھذا فإننا سنالحظ أن‬
‫توزيعھا ظالم ‪ .‬فالبرجوازي الغربي يتمتع بعدد من الحريات ال يعرفھا عامل المناجم‬
‫‪ ,‬كما أن المرأة رغم ما يقال عن تحررھا ال زالت تعرف قيودا يجھلھا الرجل ‪.‬‬
‫الحرية إذن نسبية ونسبية جدّا في بعض األحيان ‪ ,‬وقد يدفع اإلنسان الغربي ثمنا‬
‫باھضا لھذه الحرية ‪ ,‬كالعزلة والوحدة وتفكك أواصر العائلة والعصبية الجھوية‬
‫والقبلية كما يعرفھا العربي ‪.‬‬
‫يبقى رغم كل ھذه التحفظات أن المجتمع الغربي يعرف الحرية وينعم بھا أكثر منا‬
‫بكثير على شكلين رئيسيين )وارتباطھما وثيق في الحقيقة ( ‪ :‬حرية التفكير ‪,‬‬
‫وحرية العمل السياسي ‪.‬‬
‫حرية التفكير ھي أول ظاھرة يشّده لھا العربي القادم من حضارة الفكر ذي البعد‬
‫الواحد وھي حرية ال تقف عند ح ّد ‪ .‬فكل موضوع مطروح للنقاش والجدل ‪:‬‬
‫المقوالت الدينية ‪ ,‬والنظريات الفلسفية ‪ ,‬واالكتشافات العلمية ‪ ,‬والتنظيم السياسي‬
‫الخ ‪ ...‬ويخيل للعربي أن القوم جنوا فھم ال يأتون برأي إال ويوجد من يتصدى له‬
‫وقليل منھم من يؤمن بجدية أو أزلية ما يقول ‪ .‬فحركة التفكير ال تھدأ وال تفتر‬
‫والنقاش والصراع محتدم على صفحات الكتب ‪ ,‬على أعمدة الصحف‪ ,‬في الراديو‬
‫والتلفزة الخ ‪ ...‬لكن العربي يخطئ في تقويمه لطبيعة ھذه الحرية إن لم يفھم أنھا‬
‫نتيجة صراع ھائل دام عدة قرون بين الحرية والفكر ذي البعد الواحد ‪ ,‬وتكفي عادة‬
‫نظرة خاطفة على تاريخ الغرب لتقدير أھمية ھذا الصراع ‪.‬‬
‫فقد عرف الغرب ھو اآلخر إبان العصور الوسطى فترة الفكر ذي البعد الواحد الذي‬
‫كان يضع الحياة في إطار قالب جامد متحجر غير قابل للتجديد أو التحسين ‪ ,‬قالب‬
‫يرتكز على الفكر الكھنوتي الذي جعل من نفسه وصيا على الحاجة الدينية وعلى‬
‫سلطة الفالسفة األقدمين ) وعلى رأسھم أرسطو ( الذين أوقف الفكر المتحجر تطور‬
‫العلم عند مقوالتھم‪ ,‬مع العلم بالطبع أن ھذا الفكر المتحجر كان في خدمة طبقة‬

‫‪107‬‬
‫معينة أخذت على عاتقھا مھمة الدفاع عن تصورات تتماشى مع مصالحھا أي مع‬
‫تمتعھا بسلطة تكاد تكون مطلقة في الميدان السياسي واالقتصادي والروحاني ‪.‬‬
‫لكن كل محاوالت ھذه الطبقة لحشر مظاھر العالم وحياة المجتمع داخل إطارھا‬
‫الجامد لم تثبت أمام التغييرات الھائلة التي أخذت تعصف بالفكر الغربي تحت تأثير‬
‫عوامل متعددة منھا تأثير الفكر العربي اإلسالمي وانطالقة الطبقة البرجوازية‬
‫الرافضة لقيم ومفاھيم الطبقة األرستقراطية والكھنوتية السائدة ‪.‬‬
‫وقد كانت معركة التحرر الفكري ضد الفكر المتحجر ذي البعد الواحد ملحمة قرون‬
‫النھضة ‪ ,‬وألجلھا وبھا كانت ھذه النھضة‪ .‬فنحن نعلم أن أول معركة مصيرية في‬
‫إطار ھذا الصراع الجبار وقعت بين قاليلي والفكر الكھنوتي ) سنة ‪ ( 1616‬المتنطع‬
‫للنقص العلمي الصارخ للتصورات الدينية الواردة في اإلنجيل ‪ .‬وانتصر قاليلي على‬
‫البابا أوربان الثامن وغزت التصورات العلمية للكون الفكر وأصبحت بال شريك أو‬
‫منازع ‪ ,‬كما ھدم قاليلي ما بقي شامخا من صرخ أرسطو ووقف الطبيب باراسلز‬
‫يوما على منصة جامعة بال ليحرق كتب ابن سينا وقالينوس داعيا الطلبة إلى الكف‬
‫عن االجترار وحفظ علم األقدمين و االعتماد على الفكر والفكر وحده ‪ .‬ثم تتالت‬
‫الضربات القاضية يسدّدھا ھذا الفكر اليافع إلى اإلطار المتحجر فوضعت كل‬
‫التصورات الدينية والفلسفية والعلمية تحت مجھر المنھجية العلمية وسنّ‬
‫اإلنجليزي فرانسيس بايكون قانونه الشھير ‪:‬ال يمكن إمالء إرادتنا على الطبيعة‬
‫طالما لم تخضع لقوانينھا ‪ .‬ومن ثمة أصبح الھاجس األوحد للفكر الغربي اكتشاف‬
‫القوانين الموضوعية للكون للتحكم فيھا بدون اعتبار ألي معيار غير معيار الحقيقة‬
‫الموضوعية ‪ .‬وغرق في خضم ھذه األبحاث التراث الكھنوتي وجبروت أرسطو‬
‫وجالينوس ‪ ,‬ولم يقف ھذا الفكر عند حاجز أو ح ّد فكانت نظرية النشوء واالرتقاء‬
‫لداروين التي نقضت ما بقى من تصورات اإلنجيل لإلنسان ثم جاء كارل ماركس‬
‫ليرفض بدوره اإليديولوجية البرجوازية السائدة وخالف اينشتاين آراء نيوتن في‬
‫الفيزياء وجاء فرويد بنظريته في علم النفس التي أدخلت تحويرا جذريا على‬
‫التصور المعاصر لإلنسان ‪ .‬وھكذا نجد أن األفكار والنظريات ما انفكت تتصارع‬

‫‪108‬‬
‫وتتالطم وكأنھا أمواج بحر ھائج ) في حين كان مستنفع الفكر العربي بعرف ھدوء‬
‫البحر الميت ( ‪.‬‬
‫بطبيعة الحال ال ولن تفتر ھذه الحركة الفكرية المجنونة التي أطلقھا من عقالھا‬
‫جاليلي وكبلر وداروين وكارل ماركس وفرويد ‪ ,‬بل ومن المضحك أن ترى ھؤالء‬
‫العظام ضحية الحرية التي نادوا بھا وأعطوھا كل فرصھا‪ ,‬فال يمر يوم إال ويوجد‬
‫من يكتب وينقد ويتجاوز آراءھم ‪.‬‬
‫ومن الطبيعي كذلك أن ھذه الحركة المحمومة عرفت محنا كبرى وتجاوزتھا‬
‫بصعوبات كبيرة ‪ .‬فالفكر المتحجر ذو البعد الواحد ھو خاصية الزمة من خصائص‬
‫الفكر البشري ومن ثمة يستحيل التغلب عليه كليا أو تجاوزه بسھولة ‪ .‬فقد دفع‬
‫العلماء والفالسفة في الغرب ثمنا ھائال للحرية ‪ .‬فمن المعروف أن جاليلي قضى‬
‫آخر أيام حياته في السجون وأن جيوردانو برونو أحرق بروما سنة ‪ , 1600‬وأن‬
‫كوبرنيك اضطر إلى االنتظار أربعين سنة قبل نشر اكتشافاته العلمية التي كانت‬
‫تنقض آراء األقدمين في الكون ‪ ,‬كما ھاجر الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى ھولندا‬
‫خوفا من القمع وعانى داروين من تھجمات رجال الكنيسة ما عانى الخ ‪ ...‬ومع ذلك‬
‫فقد انتصرت الحرية الفكرية في الغرب وغدت من األشياء المسلم بھا وتراجع الفكر‬
‫المتحجر ‪ .‬ومن البديھي أن ھذه الحرة الفكرية لم تر النور في إطار صراع فكري‬
‫بحت بل في إطار سياسي اجتماعي ‪ ,‬إذ ال يجب أن ننسى مقولة لويس التوسر‬
‫الشھيرة إن الصراعات النظرية ما ھي في الواقع إال صراعات سياسية في الميدان‬
‫النظري ومن ثمة نفھم ارتباط الطبقة األرستقراطية بالتفكير الكھنوتي والقديم ‪,‬‬
‫وكذلك ارتباط الطبقة البرجوازية بالفكر المتحرر ألنه كان الضمان والحجة النظرية‬
‫لمطالبتنا بحرية التجارة ونصيبھا في السلطة الخ ‪ ...‬ومن ثمة نستطيع الربط من‬
‫جھة بين التفكير المتحجر وتركيبة اجتماعية سياسية لمجتمع محافظ يرفض‬
‫الحركة والتطور ‪ ,‬وبين التفكير المتحرر ومجتمع ال يقول إال بالحركة والتطور ‪.‬‬
‫فلكل مجتمع إذن نظامه الفكري الذي يعكس اختياراته ومواقفه ولكل نوع من‬
‫التفكيرين المتحجر والمتحرر مجتمع يتماشى معه ويترجم اختياراته ‪ .‬ال غرابة إذن‬

‫‪109‬‬
‫أن يترجم المجتمع البرجوازي الغربي المبني على الحركية الدائمة نظامه أو بنيته‬
‫الفوقية الفكرية إلى تشكيالت سياسية متضاربة تتزاحم لقيادته‪ .‬فديدن ھذا المجتمع‬
‫وشعاره ‪ :‬البقاء لألفضل ‪ .‬البقاء للنظريات التي تصمد أمام النقد العلمي والتي‬
‫تخضع لقانون فرانسيس بايكون ‪ ,‬البقاء لألحزاب التي تستطيع أن تقنع وأن تحكم‬
‫والشعب يصفى في عالم السياسة مثلما تصفى التجربة العلمية في عالم النظريات‬
‫ومن ثمة التتابع السريع ) والمتصاعد السرعة ( لألفكار ولألحزاب في مثل ھذه‬
‫المجتمعات ‪.‬‬
‫ماذا عنا نحن العرب بالمقارنة‬
‫من الواضح أننا ال نعرف إال الضئيل من ھذه الحرية الفكرية والسياسية التي‬
‫يعرفھا المجتمع الغربي ‪ .‬فعلى صعيد الفكر نحن في بداية المعركة التي ربحھا الفكر‬
‫المتحرر ھناك ‪ ,‬نحن حاليا في سنة ‪ 1600‬من تاريخھم ‪ .‬فھناك جملة من المقوالت‬
‫الدينية والفلسفية والسياسية لھا كل صبغة القدسية ‪ ,‬وال يمكن التحرر إال في‬
‫إطارھا ‪ .‬والفكر الحر الذي يتحرك في ھذا اإلطار مجبر على التعامل معھا بمنتھى‬
‫الحذر ألن إمكانيات الحركة قليلة ‪ ,‬واألرضية ملغومة ‪ .‬فھناك برج مراقبة الفكر‬
‫الديني الرجعي المستعد لتتبع كل فكر ال يسبح بحمده وھناك عقبات التراث المقدس‬
‫الذي يجب أن تشحذ المھم إلثبات أولوية ال لنقده وتجاوزه ‪...‬‬
‫بطبيعة الحال نعكس نظمنا السياسية ھذه البيئة الفكرية فيما أنه ال وجود إال لحقيقة‬
‫واحدة أزلية ال يجوز الخوض فيھا ‪ ,‬وبما أنه ليس في اإلمكان أبدع مما كان ‪ ,‬وبما‬
‫أن خالص اإلنسان في التسليم واالستسالم ) حسب مقولة التيار الديني الرجعي (‬
‫فمن الطبيعي أن ال تكون لنا إال إيديولوجية سياسية واحدة وحزب واحد وزعيم‬
‫واحد الخ ‪...‬‬
‫وھنا يعھد إلى الفكر بمھمة التدليل والتبرير واإلثبات أي بحشر كل مظاھر العلم‬
‫والحياة في اإلطار المتحجر ‪ .‬مثال يسخر الفكر إلعادة قراءة التراث حسب المفاھيم‬
‫العصرية لتحميله ماال يطيق أو تأويل آيات قرآنية معينة حتى تبرز أسبقية القرآن‬
‫في التنبؤ بغزو القمر أو باكتشاف الذرة ‪ ,‬كما يقع تقييم كل االكتشافات العلمية التي‬

‫‪110‬‬
‫كانت حصيلة حركية الفكر المتحرر ‪ ,‬حسب النظرة القديمة ‪ ,‬أو يعھد للفكر بمھمة‬
‫التصدي لكل ھذه االكتشافات باسم مواقف وآراء ال دليل على فضيلتھا سوى‬
‫ادعائھا بذلك ‪.‬‬
‫ومن البديھي أن ھذا التفكير السطحي السجين ال يمكن أن يشارك في تطور الحركة‬
‫العلمية ألن ھذه الحركة ال تكون إال بمطلق الحرية وھو نقيضھا ‪ ,‬ومما ال غرابة‬
‫فيه أن يتمخض ھذا الفكر أو أن يكون الحجة النظرية لألنظمة السياسية ذات البعد‬
‫الواحد ‪ .‬فالعقلية واحدة والترابط بديھي ووثيق ‪.‬‬
‫خالصة القول أن مشكلة عالمنا العربي تتخلص في كون الفكر مقيدا وفي كون‬
‫محدودا بأحادية الفكر والتنفيذ ‪.‬‬
‫والمشكلة بطبيعة الحال ال تتعلق بالأخالقية ھذا النوع من التفكير ومن التنظيم بقدر‬
‫ما ھي تتعلق بفعاليته ‪.‬‬
‫قلت أن الفكر المتحجر والتنظيم السياسي الذي يترجم له ھما من خصائص مجتمع‬
‫ھدفه الحفاظ على تركيبته الفكرية الغيبية وعلى مكاسبه الخيالية وعلى توزيع‬
‫معين للسلطة والخيرات ‪ ,‬كما حاولت أن أظھر أن مجتمعا حركيا يتطور بسرعة ال‬
‫يمكن إال أن يمارس حرية التفكير وطريقة ديمقراطية في اتخاذ القرارات وتوزيعا‬
‫أكثر عدال للحقوق والواجبات ‪ .‬وھذه مالحظات موضوعية بديھية ال دخل فيھا‬
‫للحكم المعياري أي أن على التفكير الموضوعي مالحظة طبيعة المرحلة التي يمر‬
‫بھا المجتمع ووصف العالقة التي تربط بين تنظيمه وتفكيره ‪ ,‬معنى ھذا أن الفكر‬
‫الموضوعي غير مطالب باالنتصار لھذا التنظيم أو ذاك ‪ .‬وكل ما يسعه أن يقول ھو‬
‫أن مجتمعا متجمدا بحاجة إلى فكر متجمد أو أن الفكر المتجمد ال يكون إال أين يكون‬
‫المجتمع المتجمد ‪.‬‬
‫ومشكلة العالم العربي ھو أنه يريد التقدم بفكر وتنظيم المجتمع المتحجر‪ .‬ھو يريد‬
‫الربح على الصعيدين ‪ :‬االحتفاظ بالطمأنينة الفكرية التي يوفرھا الفكر المتحجر‬
‫واالنضباط المفروض من طرف نظام ھرمي مع الحصول على المكاسب الفكرية‬
‫والمادية التي يكلفھا الفكر المتحرر ‪ .‬والربح على الجبھتين بطبيعة الحال مستحيل ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫وقد يقول قائل ‪ :‬لكننا نتقدم فعال يوما بعد يوم بتفكيرنا ذي البعد الواحد وبأنظمة‬
‫الحقيقة الواحدة والحزب الواحد والرجل الواحد الخ‪...‬‬
‫وھذا صحيح ‪ .‬لكنه تقدم بطئ صعب ‪ .‬نحن كمن يدخل سباقا وفي رجليه أغالل‬
‫ويتعجب لماذا يفوز خصومه بقصب السباق ولماذا تزداد الھوة اتساعا كلما زاد ھو‬
‫في سرعته ‪ .‬السبب واضح ھم يجرون بدون قيود ‪ ,‬نحن نجري بقيود ‪.‬‬
‫ھم يضعون كل أفكارھم محل الشك والنقد ‪ ,‬ھم يراجعون مفاھيمھم دائما وأبدا ‪ ,‬ھم‬
‫ال يقدرون إال المجدد والخالق والمبدع ‪ ,‬نحن ال نقبل كلمة نقد واحدة نسارع إلى‬
‫اتھام كل مفكر حر بأنه كذا وكذا ) راجع قواميس الشتائم العربية ( نحن ال نقدر إال‬
‫من يسخر قلمه إلثبات أن القرآن أول كتاب علم وأن تراثنا ھو أعظم تراث وأن‬
‫أفضلنا على الدنيا كبير إلى آخره ‪ ,‬ھم يريدون اكتشاف القوانين للخضوع إليھا‬
‫ومن ثمة للتحكم فيھا ونحن نريد إخضاع قوانين الكون لتصورات أجدادنا ‪ ,‬ھم‬
‫يضعون تراثھم في خدمة القرن ‪ ,‬ونحن نخدم التراث باكتشاف القرن ومن ثمة ھذا‬
‫الفرق الشاسع المخيف بين ما يكتشفون وما نكتشف ‪.‬‬
‫على الصعيد السياسي والتنظيمي نحن مضطرون للعيش في إطار نظام ھرمي يفكر‬
‫دماغ واحد فيه ثم يأمر فتنفذ القاعدة والدماغ األوحد مھما كان ھو دماغ واحد‬
‫معرض للخطأ ‪ .‬لذلك سترانا نجند الفكر لالدعاء بأنه جزء احتوى الكل ‪ ,‬أي لندعي‬
‫أنه يضاھي كل األدمغة الموجودة في إطار المجتمع ‪.‬‬
‫خذ اآلن المجتمع الحركي ‪ .‬ھو يدرك بطبيعة الحال أن مثل ھذا التنظيم ال يصلح إال‬
‫للحفاظ على حالة جمود أما وقد اختار الحركة والفعالية ‪ ,‬فمن الطبيعي أن يعھد إلى‬
‫تنظيم أفقي لألدمغة ‪ .‬تقنية الحكم وتوزيع المسؤوليات في المجتمعات الحركية‬
‫تفترض وھي مصيبة في ھذا – أن األدمغة كالبطاريات ‪ :‬أضف دماغا ثان ثم ثالث‬
‫ورابع وھكذا يكون الحاصل قوة فكرية تفوق بكثير قوة كل دماغ معزول ‪ ,‬ومن ثمة‬
‫فإن ھذا المجتمع الباحث عن أقصى الفعالية يفرز تنظيمات تكفل إدماج أكبر عدد‬
‫ممكن من األدمغة للتفكير والتخطيط والتنفيذ ‪ .‬لذلك سترى توزيعا يجھله التنظيم‬
‫الھرمي للسلطات ) السلطة البلدية والجھوية والقضائية والصحفية ‪ ...‬الخ ‪( ...‬‬

‫‪112‬‬
‫ومن ثمة نجاعة وفعالية ھذه المجتمعات التي تجھل ثقل ومركزية وأخطاء )‬
‫وصعوبة التصحيح ( التنظيم الھرمي ‪...‬‬
‫الخيار إذن واضح ‪ :‬إذا أردنا ) وھو اختيار ممكن ( الجمود والتحجر فالوسائل‬
‫معروفة والمثل ھو يمن اإلمام أحمد‪ ,‬أما إذا أردنا الدخول إلى حلبة السباق مع األمم‬
‫الكبرى التي تحكم العالم أي إذا أردنا أن يكون ألطفالنا نصيب في عالم القرن الواحد‬
‫والعشرين فالحل ھو ‪ :‬الحرية فالحرية ثم الحرية ‪.‬‬
‫* حرية التفكير بدون قيد وال شرط واعتبار الحقيقة الموضوعية ھي الغربال الذي‬
‫سيصفي مختلف اآلراء والنظريات ‪.‬‬
‫* حرية التنظيم السياسي واشراك أكبر عدد ممكن من األدمغة في عملية التخطيط‬
‫والتنفيذ ومن مظاھرھا ‪:‬‬
‫‪ -‬الحرية على الصعيد البلدي في اختيار الممثلين ومحاسبتھم ‪.‬‬
‫‪ -‬الحرية على الصعيد الجھوي والجھة ھي حسب رأيي الوحدة الطبيعية لكل‬
‫عمل إنمائي ‪.‬‬
‫‪ -‬الحرية على الصعيد الوطني ‪ :‬حرية الكالم واالجتماع واختيار رئيس‬
‫المجموعة ‪.‬‬
‫‪ -‬حرية تكوين الجمعيات بدون قيد أو شرط ‪.‬‬
‫بحرية التفكير والتنظيم سنطلق إذن الطاقات الجبارة التي خنقھا ويخنقھا التفكير ذو‬
‫البعد الواحد والتنظيم الھرمي ‪ ,‬وبھذه الحرية التي مكنت الغرب من اللحاق بنا‬
‫وتركنا وراءه قرونا عديدة ‪ ,‬سنستعيد مكانتنا كأمة عظمى يكون لھا شرف‬
‫المساھمة في حضارة األجيال المقبلة ‪.‬‬
‫وإن لم نتعض ؟ سنبقى نعاني من الكبت والعنف والرداءة وقد نضيف إلى أربعة‬
‫قرون من التخلف ‪ ...‬قرنا آخر ‪ ...‬لكن ھذا غير وارد ألن أصحاب التفكير المتحجر‬
‫والتنظيم الھرمي ال يستطيعون عزلنا في جزيرة ‪ .‬نحن لحسن الحظ في خضم عالم‬
‫متحرك وفي إطار إيديولوجية عالمية ال تقول إال بالحركة وقانون الحركة ‪ ...‬الحرية‬
‫ونحن منھا على قاب قوسين أو أدنى ‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫تعـــــــــــاليـــــــــــــق وردود‬

‫أثارت ھذه المقاالت التي نشرت في جريدة الرأي التونسية ردود فعل عديدة وفي‬
‫بعض األحيان عنيفة وكانت مصدر نقاش دام على صفحات ھذه الجريدة قرابة‬
‫العامين وقد انقسمت مواقف القراء إلى قسمين ‪ ,‬قسم يؤيد ما ذھبت إليه وقسم‬
‫يرفض ھذه التحاليل ألسباب متنوعة ‪ .‬وقد رأيت إثراء لنقاش أن أنشر في ھذا‬
‫تصحح‬
‫ّ‬ ‫الكتاب آراء القسم األخير ‪ ,‬أما ألنھا تعكس مواقف شائعة جدا وأما ألنھا‬
‫بعض أخطائي أو تعطي للنقاش بعدا أعمق ‪.‬‬
‫يبقي أنني أود قبل إعطاء الكلمة للقراء األفاضل أن أعيد تحديد مواقفي بإيجاز وقد‬
‫وقع تفسير الكثير منھا غلطا ‪.‬‬
‫‪ (1‬التخلف بالنسبة لماذا ؟ ‪ :‬خالفا لما اعتقده البعض ‪ ,‬ال أعتبر أن الغرب نموذج‬
‫يحتذى به وقد ركزت على ھذا بما فيه الكفاية ‪ .‬نحن متخلفون حقا بالقياس إلى‬
‫اإلنجازات الموضوعية التي حققھا ھذا الغرب ) معدل الحياة المرتفع ‪ ,‬نسبة األميين‬
‫المنخفضة ‪ ,‬الخ ‪ ( ...‬لكننا متخلفون خاصة بالنسبة لألھداف التي لم ينجح حتى‬
‫الغرب في تحقيقھا ) المجتمع األخوى المسالم مثال ( ‪.‬‬
‫‪ (2‬السلطة ‪ :‬عاب عليه كثير من القراء القول بأن األنظمة السياسية ليست‬
‫المسؤولة األولى عن التخلف أو أن مسؤوليتھا ليست باھضة وأقول ‪ :‬أنا لست‬
‫مدافعا عن األنظمة لكنني ال أؤمن بأن ھناك سببا واحدا وراء كارثة حضارية مثل‬
‫التخلف ‪ .‬فاألسباب متشابكة ‪ :‬اقتصادية ‪ ,‬أخالقية ‪ ,‬فكرية الخ ‪ ...‬ومن ثمة فاألنظمة‬
‫نفسھا حصيلة ھذه العوامل الموضوعية تتأثر بھا وتأثر عليھا في إطار عالقات‬
‫جدلية بالغة التعقيد ‪ ,‬لذلك على كل نظرية موضوعية لتخلف أن تعتبر كل العوامل‬
‫ومن جملتھا األنظمة ‪ ,‬وان تحاول اكتشاف الصالت المعقدة والديناميكية التي‬
‫تربطھا ببعضھا البعض ومن الصحيح أن الشعوب المتخلفة تفرز أنظمة متخلفة‬
‫لكنھا ككل جسم حي تفرز أيضا أنظمة متحررة تحاول بھا تجاوز تخلفھا ‪.‬‬

‫‪114‬‬
115
‫‪ (3‬الدين ‪:‬‬
‫ھو حقا قوام الشخصية العربية اإلسالمية وعمادھا ومن ثمة نحن ال نستطيع أن‬
‫نبني أي صرح طالما لم نعتبر ھذه الدعامة يبقى أن التيار الرجعي المحافظ الذي‬
‫قتل الحالج ونكل بعبد الحميد الكاتب وابن المقفع وشرد ابن رشد وفرض العبودية‬
‫على نصف المجتمع ‪ ,‬ووقف على نفسه تفسير الثورة المحمدية ‪ ,‬أقول أن ھذا‬
‫التيار ھو المسؤول عن انحطاط اإلسالم ‪ .‬ومن عالمات دھائه ھذا الخلط الذي‬
‫يفرضه علينا بينه وبين اإلسالم وھذا الفخ الذي يحاول أن يوقع فيه الفكر المتحرر‬
‫تتھجم علينا فتتھجم على اإلسالم ‪ .‬أنا بالطبع ال أخلط بين اإلسالم وشكله المتحجر‬
‫ّ‬ ‫‪:‬‬
‫ومقولتي تتلخص فيما يلي ‪ :‬لنّغلب االجتھاد على االجترار ‪ ,‬لنعد إلى النقاش أين‬
‫تركه المعتزلة ‪.‬‬
‫‪ (4‬التراث ‪ :‬ھل من المعقول أن نغالي في التعلق به إلى درجة االدعاء – كما فعل‬
‫أحدھم أننا اكتشفنا شيء وأن شكسبير عربي اسمه الحقيقي ابن الزبير ‪ .‬أنا ال أنقد‬
‫عقدة التراث ‪ ,‬وھي في الواقع عقدتان ‪ :‬عقدة نقص تجاه الغرب المنتصر‬
‫المتعجرف ومن ثمة المباھاة الطفالنية بأمجاد األجداد وبفضلھم العظيم على ھذا‬
‫الغرب ‪ .‬وعقدة نقص تجاه ھؤالء األجداد الذين نجحوا أين أخفقنا حيث فرضوا على‬
‫العالم احترامھم بينما نحن نعيش في عالم ال يقيم لنا وزنا ‪ ,‬ومن ثمة المغاالة في‬
‫تقييم التراث حتى أن البعض يقرأون كتب الطب القديم الكتشاف وصفات صالحة‬
‫لعصرنا ھذا وأقول حان الوقت للتخلص من عقدة النقص ومن عالمات تجاوز ھذه‬
‫العقدة التقييم الموضوعي واالبتعاد عن اإلسفاف وأخيرا وليس آخرا ‪ :‬مواجھة‬
‫الغرب في ھذا الزمان والدخول معه في منافسة شريفة من أجل تجديد تراث‬
‫البشرية خدمة لھا وللفكر ‪ .‬يبقي أن النقاش وإن كان حادّا أظھر جدواه وفعاليته‬
‫وش ّكل في حد ذاته ظاھرة إيجابية في إطار حياة فكرية تأبى صراع األفكار‬
‫وتتحاشاه أي في إطار حياة فكرية متخلفة ‪.‬‬
‫***‬

‫‪116‬‬
117
‫المستقبــــــــــــــل المنثـــــــــــــود‬

‫‪118‬‬
‫األمــــم وصـــراع البقــــاء‬
‫الحرب في كل مكان ‪ ,‬في آسيا في إفريقيا في أمريكا الالتينية ‪ .‬ال تنطفئ نارھا في‬
‫أرض إال لتشتعل في أخرى ‪ .‬إبان العشرية األخيرة ) وصدى قنابل الحرب العالمية‬
‫الثانية الزال يرن في اآلذان والضمائر ( رأينا لبنان يحتضر ‪ .‬فيتنام تحت القنابل ‪.‬‬
‫رمال الصحراء الغربية تتضرج بالدماء قوات الكومندوس الروديزية تسحق‬
‫مخيمات الالجئين في زمبيا ‪ .‬أثيوبيا في حالة صراع ‪ .‬القوات الروسية تتأھب على‬
‫الحدود الصينية ‪ .‬القوات الصينية تتأھب على الحدود الفيتنامية ‪ .‬ميزانيات التسلح‬
‫في كل بلدان العالم في تصاعد رھيب في حين أنه يمكن إطعام واسكان وتعليم‬
‫وعالج كل سكان العالم بنصف االعتمادات المخصصة له ‪ .‬قوى التدمير الذرية‬
‫المسلطة أربع وعشرين ساعة في اليوم على رؤوسنا كافية لتدمير األرض ومن‬
‫عليھا أربعين مرة ‪ .‬البشرية على فوھة بركان ‪.‬‬
‫نقرأ ونسمع ھذه األخبار فنتعمد الالمباالة ‪ .‬نفتعل النسيان ‪ .‬نعتذر بالعجز ‪ .‬نرفض‬
‫تصور الكارثة ‪ .‬نسد آذاننا ‪ .‬نغلق أعيننا ‪ .‬ندير ظھورنا للواقع حتى ال نفكر ‪ .‬حتى‬
‫ال نعي بما تعنيه ھذه األخبار ‪ ,‬حتى ال يصيبنا مس من الجنون ‪.‬‬
‫ھل السالم موجود على األقل أي ال توجد الحرب ؟ بالطبع ال ‪ .‬فالفئات االجتماعية‬
‫في حالة صراع حاد أو مزمن داخل الوطن الواحد ‪.‬‬
‫محتشدات اليمينين مليئة بأھل اليسار في شيلي واألرجنتين ومحتشدات اليسار‬
‫مليئة بأھل اليمين في فيتنام وكمبوديا ‪ .‬أما القمع فواحد والشتابه مطلق بين‬
‫الجلديين و آالت التعذيب ‪.‬‬
‫نعم السلم االجتماعية في أغلب األماكن ليست إال حالة مؤقتة مفروضة بقوة السالح‬
‫وتوازنا مھددا طول الوقت بالثورات واالنتفاضات ‪ .‬تضطرني ھذه الخواطر المقلقة‬
‫إلى مواجھة الحقيقة المخيفة والتساؤل ‪ ,‬ما الفائدة من الطب أو تعليم الناس‬
‫االحتراز من الجرائم والحماة والطفيليات وسموم التلوث والحال أننا مھددون كلنا‬
‫بالموت العنيف ؟‬

‫‪119‬‬
‫أليست الحرب وباء ال يماثله وباء ؟ ألم يمت خمسون مليون نسمة إبان الحرب‬
‫العالمية األخيرة في ظرف خمس سنوات بالرصاص وشظايا القنابل ؟‬
‫أال يتوقع أصحاب الحل والعقد من سياسيين وعسكريين أن الحرب المقبلة ستقضي‬
‫في األيام األولى على نصف البشرية ؟‬
‫أليس اإلنسان أكبر خطر يھدد ّ‬
‫صحة وحياة اإلنسان ؟‬
‫والرد بالنسبة لي على ھذه األسئلة أساسي لوضع األمور في نصابھا وليس مجرد‬
‫سفسطة ‪ .‬نعم أنا أؤمن بأن اإلنسان ھو حاليا أخطر العوامل التي تتھدد صحة‬
‫اإلنسان النفسية والجسمية أو على األصح أن غريزة الكنف المتمكنة من أعماقه‬
‫ھي مصدر خطر داھم يتھدد كل واحد منا ‪ .‬ھل فكرنا في معنى العنف ودوره كتعبير‬
‫عن أقوى غريزة ‪ :‬غريزة حب السيطرة والتملك ؟ ھل ندرك أنه بلغ في عصرنا ھذا‬
‫ذروته ؟‬
‫ماذا نستنتج من القانون التاريخي القائل بأن فترات السالم ھي فترات ال حرب أي‬
‫أنھا مجرد مراحل تعقب أو تسبق حربا ما وأن اإلنسان ما اكتشف سالحا إال‬
‫واستعمله مھما كانت النتائج ؟‬
‫ألسنا حاليا أمام خيار مصيري تفرضه علينا نوعية األسلحة الحديثة المدمرة التي‬
‫اخترعھا اإلنسان ‪ :‬القضاء على العنف أو قضاء العنف علينا ؟‬
‫ومن ثمة فأول سؤال يعترضنا ھو معنى تواجد ھذا العنف ‪ ,‬وأسبابه ‪ .‬ھل اإلنسان‬
‫عنيف بطبعه ‪ ,‬أما ھل ھو مجبر عليه نظرا لظروف قاھرة ؟‬
‫وال يكون الرد على مثل ھذا السؤال الحيوي إال إذا تعرضنا إلى ظروف اإلنسانية‬
‫الموضوعية ‪.‬‬
‫فاإلنسان مضطر منذ البداية كما ھو معروف إلى االنصھار في بوتقة الجماعة التي‬
‫ال تكون الحياة بدونھا ‪ ,‬والجماعات اإلنسانية مضطرة منذ البداية نظرا لقلة الموارد‬
‫المترتبة عن الجھل والفقر والتخلف إلى التصارع المتالك أكبر مساحة ممكنة من‬
‫األرض لتنعم بخيرات أقل ما يقال عنھا أنھا ضرورية وحيوية ‪ .‬وقد تغيرت تركيبة‬
‫الجماعات عبر التاريخ إذ انتقلت من طور المجموعة الضيقة إلى طور القبيلة ثم‬

‫‪120‬‬
‫إلى طور الشعب فاألمة ‪ .‬لكن عالقة الصراع بين مختلف األطراف المتنازعة على‬
‫امتالك األرض لم تتغير بل ازدادت حدة ودموية بمر القرون ‪ .‬والمالحظ من دراسة‬
‫موضوعية لتاريخ أن ھناك بعض القوانين العامة التي يمكن للكل قبولھا بغض‬
‫النظر عن االنتماء إلى ھذه العقيدة أو تلك والتي تحدد كيفية عمل العنف وأھدافه‬
‫‪ (1‬تتكون الجماعات البشرية قبائل أو شعوبا أو أمما بالحرب ‪ .‬ھل أنا بحاجة‬
‫إلى التذكير بأن صورة عالمنا المعاصر )أي التقسيم الحالي لألرض بين‬
‫الشعوب واألمم ( ھي نتيجة الحروب والصراعات السابقة وأنھا صورة‬
‫لتوازن القوى الحالي بين مختلف المجتمعات المتنازعة والمتناحرة وأن‬
‫الوضعية قابلة لتغير الجذري بالحرب ‪ .‬ألسنا محقين في تساؤلنا ‪ :‬ھل‬
‫ستقبل الصين بامتالك روسيا ألراضي سيبيريا الشاسعة والخالية تقريبا‬
‫من السكان بينما تعاني من الضغط السكني داخل حدودھا الحالية المتزايد‬
‫يوما بعد يوم ؟ ھل سيقبل الغرب بامتالك العرب لثروات البترولية الھائلة‬
‫التي ال يستطيع االستغناء عنھا ؟ ھل ستتعايش القوتان العظميان روسيا‬
‫وأمريكا بسالم أبد الدھر أم ھل سيحاول أحد البلدين تغيير الوضعية‬
‫لصالحه بالحرب ؟ أال يعلمنا التاريخ أن روما لم ترض بھزيمة قرطاج‬
‫بديال وإن فترات السلم بين الروم والفرس لم تكن إال فترات مؤقتة تتلو‬
‫حربا وتسبق أخر ‪ .‬من يضمن لنا أن السيناريو لن يتكرر؟ أال نشاھد‬
‫يوميا تفاقم التناقضات وتكاثر الحروب األھلية واإلقليمية وآثار الحرب‬
‫العالمية األخيرة لم تنمح بعد ؟‬
‫‪ (2‬تطمح كل جماعة إلى توسيع الرقعة األرضية المسماة بالوطن بكيفية‬
‫مباشرة ) االحتالل ( أو بكيفية غير مباشرة ) االستعمار الثقافي أو‬
‫االقتصادي ( وال تقنع بما تملك إال عمال بالقول المأثور " مكره أخاك ال‬
‫بطل"‬
‫‪ (3‬يشكل الغزو العسكري ظاھرة تاريخية قارة مارستھا كل الجماعات بدون‬
‫استثناء مما يجعلنا نقر بأن الحكم المعياري على الحرب كتحميل اآلخرين‬

‫‪121‬‬
‫وزرھا أو شجبھا بصفة عامة غير فعاال وال يعني شيئا ألن الحرب‬
‫كالموت واقع ال عالقة له بإرادة اإلنسان ‪ .‬ال أعني بالطبع أنھا عملية‬
‫أخالقية ومشروعة أو أنه يجب تبريرھا بل أقول أنھا قوة داھمة تفرضھا‬
‫عوامل بيولوجية اقتصادية قاھرة أي أنھا تنتمي في الواقع إلى منطقة ما‬
‫وراء األخالق ‪.‬‬
‫‪ (4‬يفصل الصراع بين الغزاة وضحايا الغزو ) وھم عادة غزاة قدامى ( على‬
‫امتالك أرض حسب ثالثة سيناريوھات ‪:‬‬
‫أولھا إبادة الجماعة المغزوة عن بكرة أبيھا ) كإبادة األوروبيين للھنود الحمر‬
‫عند استعمارھم ألمريكا ( أو اندماج الغزاة المغزوين بعد فترة طويلة من‬
‫التعايش السلمي والالسلمي في قالب شعب واحد ) نشأة األمة العربية بھذه‬
‫الطريقة ( أو تغير ميزان القوة لصالح المغزوين وطردھم للغزاة عاجال أو آجال‬
‫) طرد العرب لصليبيين وطرد االسبان للعرب (‬
‫‪ (5‬يتطلب الحفاظ على األرض المغزوة سابقا والمھددة دائما كثيرا من الحذر‬
‫واليقظة لذلك ترى الجماعات البشرية حتى في حالة السلم ‪ ,‬مضطرة إلى‬
‫تنظيم العنف وإدماجه في مؤسساته فتخصص الكثير من مواردھا البشرية‬
‫واالقتصادية لتنظيم الجيوش وتدريس فنون الحرب في مدارس خاصة‬
‫يتعلم فيھا الضباط الجنود وسائل الكر والفر وأحسن اإلمكانيات لقتل أكبر‬
‫عدد ممكن من األعداء ‪ ,‬كما تسخر عبقرية أبنائھا الكتشاف أمضى‬
‫األسلحة وأكثر فتكا وتدميرا في انتظار استعمالھا الحتمي يوما أو آخر ‪.‬‬
‫وھكذا تعيش األمم قابعة وراء جيوش تحتمي بھا إذ لم تخضع لھا ‪.‬‬
‫وتواجھه الجماعة البشرية بعد تمكنھا من مساحة معينة من األرض تضيق أو‬
‫تتسع بتغيير موازين القوى ‪ ,‬مشكلة الموارد التي تدرھا أرض الوطن ‪.‬‬
‫والظاھرة القارة عبر التاريخ إذا استثنينا بعض القبائل البدائية ‪ ,‬ھي أن التوزيع‬
‫غير عادل بالمرة إذ تتمكن فئة قليلة من أغلبية الموارد في حين تضطر األغلبية إلى‬
‫التعيش على جزء ضئيل من اإلنتاج الجماعي ‪ .‬وترجع أسباب انقسام المجتمع إلى‬

‫‪122‬‬
‫طبقات ‪ ,‬إلى عدة عوامل منھا أنه ليس لفكرة العدالة االجتماعية جذور بيولوجية ‪.‬‬
‫فنحن نالحظ مثال في كل المجتمعات الحيوانية بدون استثناء وجود تفاوت ھام بين‬
‫األفراد إذ تظھر التجربة والمالحظة العلمية الدقيقة إن ھناك أفرادا يتمتعون داخل‬
‫المجموعة بامتيازات جنسية وفي ميدان السلطة ‪ ,‬ال تشاركم فيھا األغلبية ‪.‬‬
‫واإلنسان ھو حيوان وإن كان حيوانا عاقال " مع األسف" كما أضاف أحد الظرفاء ‪.‬‬
‫كذلك ال ننسى أن الحضارة التي تشكل ھدف اإلنسانية ال تكون في البداية إال‬
‫بالتفاوت الطبقي ‪ .‬فمن البديھي أنه لوال العنف لما شيدت االھرامات ولوال العنف‬
‫لما بنيت القصور ولوال الظلم االجتماعي لما تفرغ بعض الناس للفن والعلم‬
‫والفلسفة بينما األغلبية تكد لكسب لقمة العيش ‪.‬‬
‫وأخيرا تؤدي حالة الحرب الدائمة بين الجماعات البشرية إلى إفراز المجتمع‬
‫لتركيبات معينة كالدولة وما ينجر عنھا من جيوش وإدارات الخ تحمل على عاتقھا‬
‫مھمة توسيع رقعة األرض والدفاع عنھا ونعتبر أنه من الطبيعي أن تتمتع بأوفر‬
‫قسط من الخيرات التي تغزوھا وتدافع عنھا ‪ .‬ومن ثمة يولد العنف الموجه ضد‬
‫اآلخرين عنفا موجھا ضد األھل واألقارب من غير المتمكنين من ھذه السلطة أو‬
‫تلك ‪.‬‬
‫بيد أن األغلبية ال تقبل ھذه القسمة الالمتعادلة للموارد االشتراكية التي تنتج أغلبھا‬
‫فتدخل في صراع مزمن أو حاد مع األقلية الحاكمة فتكون ھذه االنتفاضات والثورات‬
‫المتعددة التي يحفل بھا التاريخ ‪.‬‬
‫العنف إذن عامل ھام في تاريخ الحضارة واإلنسانية لكنه ليس الممثّل الوحيد من‬
‫حسن الحظ وإال لدمر العالم منذ زمن بعيد ‪ .‬فھو مضطر دائما وأبدا للتعامل مع‬
‫الفكر الذي يخفف من خطر الغريزة وغلوائھا ويحاول ما استطاع التوفيق بين‬
‫متطلبات وحاجيات متناقضة ‪.‬‬
‫فالفكر يخلق الخيرات أين ال تعرف الغريزة إال استھالكھا وتوزيعھما الظلم ‪ ,‬والفكر‬
‫يؤمن بالعقل أين ال تؤمن الغريزة إال بالقوة ‪ ,‬والفكر يقول بالحرية أين ال تعرف‬
‫الغريزة إال االنضباط أو الفوضى ‪ ,‬والفكر يؤمن بوحدة البشرية أين ال ترى الغريزة‬

‫‪123‬‬
‫إال قبائل وشعوبا وأجناسا ‪ ,‬والفكر يؤمن باستحالة تحقيق الرخاء والسعادة ما لم‬
‫يتوفر للكل الحد األدنى من الخبز والحرية والكرامة بينما ال تؤمن الغريزة إال‬
‫بإرضاء شھوات الجماعة الضيقة ‪.‬‬
‫فتاريخ البشرية ھو إذن تاريخ تطور وصراع ھذين الممثلين الرئيسيين وأنا‬
‫أتصوره شخصيا كمفاعلة كيماوية تتوقف نتيجتھا على نسبة الفكر والغريزة وقوة‬
‫تأثير أحد العاملين إبان تطورھما عبر الزمن أي أن من الممكن وصف سيناريوھين‬
‫محتملين ‪ :‬انتصار الغريزة أو انتصار الفكر ‪.‬‬
‫أي االحتمالين سيتحقق ؟ ھل ھناك احتمال ثالث كأن تبقى الحرب سجاال بين الفكر‬
‫والغريزة بدون حل جذري إلى نھاية التاريخ ؟‬
‫أنا ال أعرف الرد بالطبع وال أظن أنه يوجد إنسان واحد على سطح األرض يعرف‬
‫اإلجابة أو يستطيع التكھن بنتيجة المفاعلة ‪ .‬نحن لألسف نالحظ إخفاق اآلمال‬
‫العظيمة التي علقتھا البشرية منذ قرن على العلم والصناعة أو على ھذا النظام‬
‫السياسي أو ذاك ‪ ,‬وكذلك تبخر المطامح واألحالم في ساحات الوغى وفي محتشدات‬
‫اليمين واليسار على حد سواء ‪ .‬كما نشاھد تصاعد العنف يوما بعد يوم وخاصة‬
‫التصاعد الرھيب في خطر األسلحة المتوفرة ‪ .‬إال يعلمنا التاريخ أن اإلنسان لم‬
‫يكتشف سالحا إال واستعمله في يوم ما مھما كانت النتائج ؟‬
‫ھل معنى ھذا أننا ضحية قوى بيولوجية اقتصادية قاھرة تحركنا بمنتھى العنف‬
‫وإن اإلنسانية ھي وقود التاريخ أكثر مما ھي محركة ؟‬
‫ال أظن ! ألن المفاعلة جارية ومن الممكن التأثير على نتيجتھا حتى ولو اتخذت‬
‫االتجاه الذي نعايشه ‪.‬‬
‫فمن البديھي أن تحقيق العالم األفضل رھين بارتفاع نسبة الفكر في المفاعلة أي‬
‫بارتفاع مستوى العمل الخالق ) للتغلب على الفقر ورديفه الظلم االجتماعي (‬
‫وارتفاع مستوى العقل ) بالعلم والثقافة ( وارتفاع مستوى األخالق ) باحترام اآلخر‬
‫واعتبار حريته وكرامته الضمان الوحيد لحريتي وكرامتي ( ومن البديھي كذلك أننا‬

‫‪124‬‬
‫لن نلجم الغريزة ولن نرفع نسبة الفكر ومستواه في العالم إن لم نركز فرديا‬
‫وجماعيا الجھود لتحقيق ھذا الھدف النبيل ‪.‬‬
‫حقا ‪ ,‬حظوظ النجاح قليلة إن اعتبرنا الماضي والحاضر ‪ .‬لكن المغامرة البشرية‬
‫جارية واإلنسانية في حالة تطلع وشوق جارف إلى العالم األفضل ونحن كلنا‬
‫مسؤولين عن النتيجة أيا كانت ‪.‬‬
‫يبقى أن األمة العربية ھي جزء من المفاعلة التي تغلي في قدر التاريخ ‪ .‬وإن‬
‫مصيرھا يتقرر حاليا داخل ھذه القدر في الوقت الذي تؤثر فيه بدورھا على مصير‬
‫الطبخة ‪ .‬والسؤال المطروح أمامھا ) أو باألحرى التحدي ( ھو ھل تساھم في رفع‬
‫نسبة الفكر في العالم أي ھل ستكون قوة سالم تدفع بالبشرية إلى ضفاف إنسانية‬
‫عليا ‪ ,‬أم ھل ستكون إحدى الروافد التي تصب في دنيا الغريزة لتقاسي منھا بدورھا‬
‫‪.‬‬
‫والمتأمل للوضعية الحالية لھذه األمة مضطر لمالحظة أنھا وضعية ال تحسد عليھا ‪.‬‬
‫فانقسامھا إلى شعوب وأنظمة متناحرة وضعيفة ووجود إحدى شعوبھا تحت نير‬
‫االحتالل األجنبي وھشاشة قواھا العلمية واالقتصادية والسياسية ومن ثمة‬
‫العسكرية تجعلھا عرضة لكل الضربات القاتلة في كل لحظة ‪.‬‬
‫والمستقبل بطبيعة الحال مجھول ‪ ,‬لكنه لن يكون لألمة غير طريقين ‪:‬‬
‫‪ (1‬يمكن أن تتزايد حدة الحرب األھلية بين األنظمة فتزيد من تعميق الھوة‬
‫بين الدول وحتى الشعوب ‪ ,‬ويمكن أن يتزايد عدد العرب القتلى بالرصاص‬
‫العربي وسيؤدي ھذا بصفة أوتوماتيكية إلى تزايد الثقل العسكري إلى‬
‫إسرائيل التي ستنخر في جسم األمة كسرطان يتزايد مفعوله بتزايد ضعف‬
‫جسم األمة وستكون نھاية ھذه المرحلة عودة االستعمار ‪ .‬فمن السذاجة‬
‫أن نتصور أننا أن نستعمر من جديد بصفة مباشرة إذا اضطرت األمم‬
‫األخرى القوية إلى استعمارنا لدفاع عن بقائھا ووجودھا ‪ .‬معنى ھذا أن‬
‫ضعفنا الذاتي ھو الذي يولد العنف بيننا وھو الذي يط ّمع فينا الشعوب‬
‫واألمم التي نتزاحم معھا على ركح مسرح التاريخ ‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫‪ (2‬لنفترض أننا تعلمنا قبل فوات األوان من تجاربنا التاريخية – مع العلم بأنه‬
‫ليس في اإلمكان إبداع مما كان – )فاألمم ھي األخرى بحاجة إلى التجربة‬
‫والوقت الزم لنموھا ولنضجھا مثلما ھو الزم لنمو ونضج النبات‬
‫والحيوان واإلنسان ( لنفرض أن ھذه السلبيات التي نشاھدھا حولنا وفي‬
‫أعمق أعماقنا ليست إال المحرك الذي يدفع بنا إلى األمام ‪ .‬ستكون نتيجة‬
‫المفاعلة كاآلتي ‪:‬‬
‫ستتغلب الشعوب واألنظمة على حزازاتھا لتنصھر في بوتقة أمة واحدة ودولة‬
‫واحدة أيا كان الشكل الذي ستتخذه ھذه الدولة ‪ ,‬وبتغلبھا على ضعفھا الداخلي‬
‫ستستطيع ھذه األمة العظمى أن تلجم إسرائيل وأن تقلم أظافرھا وأن تقبل بوجودھا‬
‫– إن قبلت – عن قوة ومناعة ال عن ضعف واستسالم ‪.‬‬
‫ھل سيصيب ھذه األمة العظمى جنون العظمة اإلمبريالية بدورھا آنذاك وھل‬
‫ستستخدم قوتھا لتسحق الشعوب واألقليات التي تدور في فلكھا أو تعيش في كفنھا‬
‫أي ھل ستعيد من جديد سيناريو العنف والغريزة مع استبدال األدوار فتكون الجالد‬
‫بعد أن كانت الضحية وتفشل اإلنسانية مرة أخرى في فترة الخروج من فترة ما قبل‬
‫التاريخ ‪ ,‬أم ھل ستستعمل عظمتھا وقوتھا وبعد تجربتھا التاريخية لتدفع بالعلم‬
‫والفكر والفن والسياسة خطوة جبارة إلى األمام ‪.‬‬
‫ذلك ھو السؤال ‪ ,‬ذلك ھو التحدي الماثل أمامنا ‪ ..‬والقول الفصل للمستقبل الذي‬
‫سيكافئ مجھوداتنا ‪ ,‬أو يحكم بال ھوادة على فشلك ‪ ..‬على فشلي ‪ ..‬على فشلنا ‪.‬‬

‫ي مستقبــــل للعــــرب بعـــد مائــة عام‬


‫أ ّ‬

‫طال الحديث بيننا وتشعب عن تونس ‪ ,‬عن مصاعبھا اليومية ‪ ,‬عن إمكانياتھا‬
‫المتواضعة ‪ .‬كأنه سئم الموضوع أو باألحرى واقعه المرير ‪ ,‬فغيّر مجرى النقاش‬
‫‪ ":‬تعال نتصور تونس بعد قرن ‪ ,‬كم أود أن أعلم إلى أي مآل ستؤول!"‬

‫‪126‬‬
‫قلت ‪ " :‬عملية التنبؤ بالمستقبل من الصعوبة بمكان لكنھا عملية مشروعة وواجبة‬
‫ألن التخطيط للمستقبل البعيد من واجبات الحاضر ‪ .‬ھل تعلم أنه توجد في الغرب‬
‫مؤسسات حكومية وخاصة تجمع خيرة علماء االجتماع واالقتصاد ونخبة من‬
‫المفكرين في شتى الميادين ‪ ,‬مھمتھا الوحيدة التكھن بالمستقبل البعيد وتصور كل‬
‫االحتماالت ووضع إستراتيجيات مختلفة ومتناقضة يمكن اللجوء إليھا عند الحاجة ‪.‬‬
‫والھدف من ھذا التفكير المبني على المعلومات الموضوعية والنقاش الحر ‪,‬‬
‫والمخيلة المعقولة ‪ :‬التكھن بخطوط القوة للمستقبل حتى بمكن التحكم فيه وتوجيھه‬
‫وتفادي المفاجئات الناتجة عن قصر النظر ‪.‬‬
‫الواقع أن مثل ھذا التفكير لم يثبت إلى حد اآلن فعاليته ‪ .‬أتذكر أن تقرير نادي روما‬
‫الشھير في بداية السبعينات تنبأ بكل شيء إال بزيادة أسعار البترول وبأزمة الغرب‬
‫االقتصادية ‪ ,‬وإن العقول اإللكترونية المكلفة بالسھر على نظام الشاه لم تتوقع‬
‫لحظة أن الخطر على الشاه سيأتي من عجوز متدين ال عالقة له ال بموسكو وال‬
‫ببكين وال بالضباط األحرار ‪.‬‬
‫كل ھذا ال يمنع العرب والتوانسة من األخذ بھذه المنھجية وتطويرھا حتى نعرف‬
‫أين نضع أقدامنا ‪.‬‬
‫ّ‬
‫يتمخض دائما‬ ‫قال ‪ :‬صحيح أن الحذر من التنبِؤات والتصورات مشروع وإن الواقع‬
‫عن مفاجئات مثيرة لم يتوقعھا أحد ‪ .‬لكنني سأحاول رسم صورة معقولة ‪ ,‬لمستقبل‬
‫معقول ألنني رغم كل الظواھر أعتقد أن لنا مستقبال ‪.‬‬
‫نحن في الخلدونية ) تونس سابقا ( سنة ‪ . 2079‬البالد مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل‬
‫جمھورية العرب ‪ ,‬وجمھورية العرب ھذه مقاطعة ذات حكم ذاتي داخل اتحاد األمم‬
‫المتحدة ‪ .‬خرجنا نھائيا من مرحلة التخلف الفكري واالقتصادي ‪ ,‬انتھت أزمة‬
‫السكن منذ أمد بعيد ‪.‬‬
‫مستشفياتنا على ما يرام ‪ ,‬طرقاتنا أوتوروت ‪ ,‬سياراتنا كھربائية ‪ ,‬أصبحت‬
‫الديمقراطية من األمور البديھية وكذلك العدالة االجتماعية ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫العالم في سالم ورخاء منذ ألغت اللجنة األممية العليا كل الجيوش باستثناء الجيش‬
‫األممي حارس السلم بين الشعوب ‪ :‬محور الحديث ھذه السنة في البالد ‪ ,‬موضوع‬
‫المفاعالت النووية التي ترد العاصمة الفيدرالية ) مكة الجديدة ( فرضھا على‬
‫المقاطعة ‪ .‬مفوض التوانسة للشؤون اإلدارية يجتمع اليم برئيس المعارضة التخاذ‬
‫قرار نھائي في ھذا الموضوع خاصة بعد رفض حكومات الناصرية ) القاھرة سابقا‬
‫( والعمرية ) القدس ( واإلدريسية ) الدار البيضاء ( إيواء ھذه المفاعالت الجبارة‬
‫الخطرة – بعبارة أخرى إني أرى آماال قد أينعت وطاب قطافھا ‪.‬‬
‫انفجرت ضاحكا ‪,,‬‬
‫"نسيت حق السفر للجميع إلى القمر ‪ ,‬وارتفاع معدل الحيات إلى ثالثة قرون ‪,‬‬
‫مشكلة تغيير أوقات صاروخ جربة المريخ ‪.‬‬
‫أجاب ممتعضا ‪ " :‬ولم ال ؟ ھل كان جدنا البدوي راعي اإلبل في دوز يتصور عالمنا‬
‫ھذا وإنجازاته ؟‬
‫قلت ‪ ,‬ھنا تكمن الغلطة المنھجية ‪ .‬نتصور المستقبل كتحسين للماضي ‪ .‬لو طلب من‬
‫جدنا رحمه ﷲ تصور تونس ھذا القرن في بداية شبابه لتصور في أحسن الحاالت‬
‫دوز عاصمة لتونس ‪ ,‬والرخاء على شكل امتالك كل تونسي لآلالف من البعير‬
‫والتقدم في تسلق النخل لھضاب عين دراھم ‪ ..‬وال أظن أنه كان يتصور أھوال‬
‫الحرب العالمية أو غزو الفضاء أو حلة بالدنا الحقيقية وتغيرھا الجذري ‪.‬‬
‫المستقبل ليس االمتداد األوتوماتيكي للحاضر بل ھو شيء مغاير ومن ثمة صعوبة‬
‫التكھن به ‪ .‬أضف إلى ھذا أن تصورك غير موضوعي ألنك لم تأخذ بعين االعتبار‬
‫إال عاملين ھما عامل الشھوة واإلرادة ) وھو عامل الزم لصنع المستقبل لكنه غير‬
‫كافي ( وعامل قدرة العلم والتكنولوجيا ) وھو عامل ھام لكنه ليس على كل شيء‬
‫قدير ( ‪ .‬تعال نستعرض بضعة عوامل ستلعب دورا ھاما في تكوين صورة مستقبلنا‬
‫‪.‬‬
‫‪ (1‬المناخ ‪ :‬السؤال الھام الذي أود طرحه على أھل االختصاص ھو ‪ :‬أسيكون‬
‫لتونس وجود بعد قرن أم ھل ستبتلعھا الرمال ؟ ھل صحيح أن كثبان الرمال تتقدم‬

‫‪128‬‬
‫سنة بعد سنة وإنھا قد تصل إلى البحر في يوم ما ؟ ھل يولي المسؤولون اھتمامھم‬
‫لھذا االحتمال الرھيب ؟ ھل توجد خريطة مفصلة لدى المسؤولين لتدلھم على‬
‫وضعية بلدنا الجيولوجية ‪ .‬ھل تخ ّرج معاھدنا علماء من الطراز األول لمراقبة‬
‫الصحراء وإيقاف تقدمھا ؟ لماذا ال نساھم مع إخواننا في الجزائر في مشروع‬
‫الحزام األخضر ؟ ھل ھناك اعتمادات كافية لدراسة المشكلة ومحاربتھا أم ھل أن‬
‫االتفاق على سفارة في الدانمارك والكونغو أھم ؟‬
‫الماء ‪ :‬أنت تعلم أننا بلد جاف وأننا نعرف من اآلن مشكلة مائية ‪ ,‬كما تعرف أن‬
‫أخوتنا الجغرافيين ما فتئوا يلفتون نظر الحكومة والشعب إلى خطورة المشكلة‬
‫واحتمال تفاقمھا ‪ .‬ترى ھل سنعرف يوما ما أھوال العطش الجماعي ‪ .‬ال تعجل عليا‬
‫بسخريتك وال تذكرني بقدرات العلم والتكنولوجيا ‪ ,‬فنحن في الوقت الحاضر أمام‬
‫مشكلة عويصة وخطرة ومن األحسن أن نعي الكل بأھميتھا قبل فوات األوان ‪.‬‬
‫سأقص عليك قصة ليست طريفة في شيء تدل على عمق اإلھمال وانعدام الوعي‬
‫عند الناس بقلة الموارد وأھمية المحافظة على كنز أثمن من البترول ‪.‬‬
‫منذ ثالثة أشھر وأنا أتناول طعام الغذاء في مطعم األطباء بمستشفى الرابطة ‪,‬‬
‫الحظت أول يوم حنفية القاعة معطوبة وإن الماء يسيل منھا وبدون انقطاع ‪,‬‬
‫نھضت من مكاني وكبست عليھا بمنتھى القوة فلم أنجح في إغالقھا ‪ ,‬قلت‬
‫سيصلحونھا ونسيتھا ‪ ,‬مرت أيام والماء يسيل من دون انقطاع ‪ .‬في األخير توترت‬
‫أعصابي ‪ ,‬ذھبت إلى الطباخ طالبا منه إصالح الحنفية فاعتذر بأنه أصلحھا وإنه‬
‫سيصلحھا وإنه ‪ ,‬وإنه الخ ‪ ...‬مرت األيام واألسابيع ولم تصلح الحنفية بطبيعة‬
‫الحال ‪ ,‬اتجھت إلى زميل طبيب مكلف ‪ ,‬فوعد وأخلف ‪ .‬بمضي األسابيع أصبحت‬
‫ھذه الحنفية اللعينة أصل عقدة نفسية أضفتھا إلى قائمة عقدي الطويلة وأطلقت‬
‫عليھا االسم العلمي الرنان ‪ ,‬عقدة حنيفة الرابطة ‪ ,‬والعقد كما تعلم مصدر إزعاج‬
‫نفسي ) كانت أعراضه عندي الغيظ والقھر ( ومصدر كوابيس ‪ .‬أذكر أنني حلمت‬
‫ليلة بھذه الحنفية تسيل منھا أنھار من الماء ‪ ,‬تضيع ھباء بينما أرض بلدي الجافة‬
‫العطشى تتشقق تحت شمس جھنمية ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫تسأل ما عالقة ھذا بالمستقبل وأقول لك ‪ :‬حنفية الرابطة رمز لھذا المستقبل‬
‫الصعب ‪ :‬قلة الموارد وتبذير مجرم يسنده الوعي بھيمي ‪ .‬كل الدراسات العلمية‬
‫تثبت خطورة المشكلة ‪ .‬ونحن نبذر ھذا الكنز في غسل السيارات في مسابح الفنادق‬
‫الفخمة ) المتاخمة للبحر ايه وﷲ ( والحنفيات المعطوبة ‪ .‬يا حضرات المسؤولين‬
‫عن إدارة الرابطة لقد ألردت أن أدفع ثمن اإلصالح من جيبي فلم أحد أتجه إليه لذلك‬
‫أرجوكم أصلحوا ھذه الحنفية ألنني ) في حالة تقاعسكم ( لن أخجل من رفع قضية‬
‫إلى الرأي العام ‪ .‬فالمسألة خالفا لما تعتقدون ليست تافھة أو ھامشية بل ھي رمز‬
‫لقضية مصيرية وبالتالي فھي قضية مصيرية وشكرا لكم على تسرعكم بمعالجة‬
‫األمر باسم حفدتي وحفدتكم ‪.‬‬
‫الغذاء ‪ :‬تتھدد المجاعة العالم الثالث نظرا لتزايد السكان المخيف ‪ ,‬وفشل الثورات‬
‫الخضراء ‪ ,‬وتقلبات الطقس ‪ ,‬وجشع تجار الحبوب من دول وشركات عالمية ‪,‬‬
‫واالحتياطي العالمي من الحبوب في زمن السلم ضعيف جدا ‪ ...‬ال يمكن أن يفي‬
‫بحاجة البشرية فما بالك إن نشبت حرب كبيرة أو أصيبت منطقة حساسة بجفاف ‪,‬‬
‫أضف إلى ھذا أن الدول التي تملك القمح ليست بشقيقة أو صديقة وبالتالي يمكنھا‬
‫تھديدنا بالتجويع في حالة قيام نزاع مصيري بيننا وبينھا ‪.‬‬
‫معنى خذا أننا سنبقى عرضة لخطر الجوع إن لم نصل في أقرب وقت إلى مرحلة‬
‫االكتفاء الذاتي من الناحية الغذائية ولن يتيسر ھذا إال بإعطاء الحكومة األولوية‬
‫المطلقة لھذا االستقالل الحقيقي ووقف االعتمادات التي توفرھا لصناعة ظرفية‬
‫ومھددة كالسياحة لتحويلھا إلى ميدان الفالحة واألھم من ھذا تغيير عقلية الناس‬
‫ونظرتھم إليھا ‪ .‬إذ يجب على مجتمع ال يريد الموت جوعا أن يجعل من الفالحة‬
‫أشرف مھنة وأكثرھا ربحا ومن الضروري أن بكون بطل المسلسالت العاطفية‬
‫الھزيلة التي تقدمھا التلفزة فالحا عصريا يقوم بحرث الصحراء ويخلق منھا‬
‫الخيرات ‪ .‬على كل أنا شخصيا ال أطمح إلى جعل ابني طبيبا أو محاميا أو مھندسا‬
‫وإنما أتمنى أن أراه ينقب عن الماء في الصحراء ‪ ,‬ويزرع آالف الھكتارات منھا‬

‫‪130‬‬
‫بالقمح والذرة ويحصد من بساتين دوز وضواحيھا الموز والتفاح ‪ ,‬كما أعرف أنني‬
‫لن أزوج بناتي إال لرجال يزرعون ويحصدون وتكون الحياة بعرقھم وجھدھم ‪...‬‬
‫الطاقة ‪ :‬العالم كما تعرف مھدد عاجال أو آجال بنضوب البترول ‪ ,‬والبديل النووي‬
‫غير جاھز ‪ .‬فماذا أعددنا لمرحلة ما بعد البترول ؟ ال شيء على ما يظھر ‪ .‬صحيح‬
‫أننا ننتج القليل منه ‪ ,‬لكن صحيح أيضا أنه إلى زوال وأننا نبذر مواردنا القليلة في‬
‫خزانات السيارات ‪ .‬الطاقة ھي كل شيء ھي حركة التقدم ‪ ,‬وھي الكھرباء ‪ .‬ھي‬
‫عمل المصانع ھي الفالحة العصرية الخ ‪ ...‬والبترول أيضا اآلن ھو كل الطاقة‬
‫والسؤال الذي يجب طرحه ھو بماذا سنتنقل ‪ ,‬بماذا سنشغل مصانعنا ونضيء‬
‫طرقاتنا عندما ينضب البترول ‪.‬‬
‫تستطيع التذرع بكل الجمل اللغوية ‪ ,‬لكنك لن تحل المشكلة فنحن نسير في طريق‬
‫مسدود ‪ .‬كل األخصائيين يعرفون الحقيقة والرأي العالمي واع خاصة في الغرب‬
‫بأھمية األمر ‪ .‬فھل سمعت مسؤوال واحدا في بلدنا يتحدث عن معضلة الطاقة وخطر‬
‫نضوبھا الحتمي ؟ العكس ھو الصحيح ‪ ,‬تصور أنني قرأت مؤخرا عن مشروع‬
‫صنع سيارة تونسية صغيرة ‪ ,‬فكدت أتميز من الغيض ) وأندب خدودي وأقطع‬
‫شعري ( ھذا ھو الالوعي بعينه والالمسؤولية بعينھا ‪.‬‬
‫ال يمكن تفادي أزمة الطاقة أو باألحرى تأخير وقت مجيئھا إال باالعتماد تقتير‬
‫وبخل أبطال الجاحظ في أھراق البترول الثمين ‪ ,‬وسياسة المحافظة على المورد‬
‫تتطلب تغير عقلية سمجة ورثناھا من الغرب أ ي عقلية االستھالك المفرط واألحمق‬
‫والسيارات الفردية رمز لھذه العقلية ‪ .‬أغلب البترول يضيع في خزانات السيارات –‬
‫االستنتاج المنطقي المعقول إذن ھو سن سياسة طويلة النفس لتخلص من السيارة‬
‫كوسيلة نقال تبذر البترول وتلوث المدن وتقتل األبرياء والتركيز على سياسة النقل‬
‫الجماعية التي يجب تعصيرھا وتحسينھا من ناحية الكم والنوع وتقليل كلفتھا من‬
‫ناحية الطاقة ‪ .‬إن كان ال بد من مصانع ‪ ,‬أوصيكم يا حظرات المسؤولين لتشجيع‬
‫صنع دراجة تونسية يقبل عليھا الكل وتنفع في التنقل والتمتع ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫نعم يا حضرات االخوة المسؤولين ‪ ,‬ستالقون صعوبات جمة ألن سياسة استبدال‬
‫السيارة الفردية ومحاربتھا حتى على األمد البعيد لن تكون شعبية بالمرة ) ألننا في‬
‫حالة إدمان على السيارات ( ‪ .‬لكنكم مسؤولون عن مستقبل البلد ال عن رضاء‬
‫الناس أم أنتم يا إخواني المواطنين من أصحاب السيارات وﷲ ليأتين يوم يصبح لتر‬
‫البنزين أغلى من لتر الويسكي فاحتاطوا وتعلموا المشي وركوب الدراجة وأسكنوا‬
‫المدن الصغرى ولقد أعذر من أنذر ‪.‬‬
‫يبقى بعد ھذا علينا اكتشاف مصادر أخرى للطاقة ‪ .‬ھل تعلم أن الشمس التي تحرق‬
‫جلودنا طوال الصيف ‪ ,‬ھي حل ممكن ‪ .‬كل الدراسات العلمية تدل على إمكانية‬
‫استعمال الشمس لتوليد الكھرباء ‪ ,‬أو لخلق حاالت أخرى من الطاقة ‪ .‬ھل تولي‬
‫الحكومة أھمية قصوى لھذه الدراسات ؟ ھل لنا معھد عالي لتتبع األبحاث في ميدان‬
‫الطاقة الشمسية والمساھمة فيھا ؟ ھل لنا جواسيس وعيون ومخبرون يجمعون كل‬
‫المعلومات عن صناعة المرايا الشمسية ؟ متى نبدأ في تصنيعھا وتجربتھا خاصة‬
‫في الجنوب ؟‬
‫‪ (3‬الحرب ‪ :‬ھناك قانون تاريخي يقول ‪ :‬السالم فترة تتلو حربا أو تسبق‬
‫أخرى ‪.‬‬
‫وھناك قانون ثان يقول ‪ :‬ما اكتشف اإلنسان سالحا إال واستعمله مھما كانت‬
‫العواقب ‪ ,‬وقانون ثالث يسن ‪ :‬عندما تصل التناقضات بين مصالح الشعوب إلى‬
‫مرحلة خطرة تتفجر الحرب بالرغم من أنف الجميع ‪.‬‬
‫نحن إذن مھددون بالحرب والذرية منھا على وجه الخصوص ‪ .‬وأنا واثق أن نھاية‬
‫ھذا القرن والقرن المقبل سيشھدان حروبا ضخمة في إفريقيا ‪ ,‬بين الصين واالتحاد‬
‫السوفيتي ‪ ,‬بين العرب وإسرائيل ‪ ,‬بين العرب والغرب الخ ‪.‬‬
‫بطبيعة الحال نحن شعب صغير ‪ ,‬فقير ‪,‬ومسالم وبالتالي ال نثير طمع أحد أو ضغينة‬
‫أحد لكننا عرب وبالتالي مصيرنا مرتبط بمصير العرب المقدمين على صراعات‬
‫جذرية ضد الصھيونية وضد الغرب الذي سيحاول ) عندما يقترب سكين نضوب‬
‫الطاقة من عنقه ( االستيالء على ارض العرب وخيراتھا مھما كان الثمن ‪ .‬ھل نحن‬

‫‪132‬‬
‫مستعدون لمواجھة ھذا االحتمال الرھيب ؟ من البديھي أننا ال نستطيع بناء شبكة‬
‫صواريخ مضادة للطائرات أو الدخول في سباق التسلح مع زيد أو عمرو وإن أقصى‬
‫ما نستطيع عمله ھو االستعداد لحب دفاعية قليلة االحتمال حقا لبعدنا عن المواقع‬
‫الحساسة كحقول النفط لكنھا ممكنة في إطار مجابھة شاملة ‪ .‬كيف ؟ باالكتفاء‬
‫الذاتي في ميدان الغذاء وبالالمركزية ‪ .‬باالكتفاء الذاتي في ميدان األدوية‬
‫الضرورية واألجھزة الطبية الحيوية ‪ ,‬بوجود احتياطي من الوقود وغيره ‪ .‬ھل‬
‫ھناك مخططات إلفراغ المدن بنظام وشبكة الالسلكية مستقلة توفرھا الدولة ليكون‬
‫لھا وجود وفعالية حتى في أحلك‬
‫الظروف ؟ وھل لنا السيناريوھات المختلفة المعقولة منھا والغير المعقولة في‬
‫ميدان الدفاع المدني ؟ يحق لك أن تبتسم بسخرية لكن مستقبل الشعب وحياته‬
‫يتطلبان أن تحسب الحساب لكل شيء وخاصة للمجھول والتخطيط السليم ال يكون‬
‫إال باعتبار المدى البعيد ‪.‬‬
‫قال وھو يغالب امتعاضه " يا شيخ فال ﷲ وال فالك ‪ .‬المستقبل إذن بالنسبة إليك‬
‫حرب ومجاعة وعطش وكثبان الرمل في شوارع قرمبالية تتأھب ليبتلع منزلنا‬
‫المتواضع في حمام األنف "‬
‫قلت ‪ :‬ھذا سيناريو ممكن خاصة إن تمادينا في عملنا وال مسؤوليتنا لمن المستقبل‬
‫" مساحة مفتوحة " ونحن صانعوه ‪ ,‬التحكم فيه للوصول إلى المدينة الفاضلة التي‬
‫تحلم بھا وأحلم بھا يتطلب ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬الكثير من العزيمة والكثير من التضحيات ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التخطيط الحكيم والبعيد المدى للعوامل الموضوعية التي رأينا أھمھا ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬محاولة التكھن ) بإجھاد المخيلة بالعوامل الطارئة والمجھولة التي يمكن أن‬
‫تفسد كافة حساباتنا ‪ .‬واعتبار السيئ لتفادي األسوأ ‪.‬‬
‫على كل واجبنا واضح ‪ ,‬نعم أقول وأكرر إننا ال يجب أن نردع بوھج السراب وأن‬
‫علينا االستعداد لمستقبل صعب ‪ ,‬لنقم بواجبنا في ميدان التخطيط واإلنتاج والتفكير‬
‫والتخمين ‪ ,‬لنجند الذكاء والمخيلة والعضالت وكلھا مواد خام ال تنقص ھذه البالد‬

‫‪133‬‬
‫ثم لنقل بعدھا ‪ :‬حظ سعيد يا تونس ‪ ,‬حظ سعيد يا ديار العرب ‪ ,‬حظ سعيد يا‬
‫إنسانيتنا المسكينة ‪.‬‬

‫العــــــــرب والعلــــــم ‪ :‬رسالــة إلى مســـؤول‬

‫يجب حاليا من المحيط إلى الخليج مليون عرب مصابون أو سيصابون في العشر‬
‫سنوات المقبلة بمرض السرطان وأملھم الوحيد في الشفاء من ھذا المرض الخطير‬
‫أن تكتشف العقول الغربية في جامعات برنستون وبركلي وستاند فورد بالواليات‬
‫المتحدة ‪ ,‬أو جامعات لندن وباريس وكوبنھاغن في أوروبا أو جامعات اليابان‬
‫واالتحاد السوفيتي‪ ,‬سر انقسام الخاليا المجنون وعد إطاعتھا لقانون الحد من‬
‫االنقسام ‪ .‬كذلك يتركز أملھم على قدرة مختبرات المصانع الكيماوية الكبرى في‬
‫سويسرا على تحضير الدواء بسرعة وبيعه إلينا في أقرب اآلجال ‪.‬‬
‫تجد حاليا فوق رؤوسنا العديد من األقمار الصناعية األمريكية السوفيتية والغربية‬
‫تحصى علينا أنفسنا وتعرف بالضبط كل شيء عن خيراتنا النجمية باإلضافة إلى‬
‫معرفتنا الكاملة لكل معداتنا العسكرية ‪ .‬واألھم من ھذا أن مواصالتنا الھاتفية‬
‫والتلفزية متعلقة بقدرة العقول الغربية على صنع األقمار التي سنحتاجھا عما قريب‬
‫لتقريب الشقة بينا وتبادل برامجنا التلفزية ‪ ,‬وبقدرة العقول الغربية أيضا على‬
‫اكتشاف أحس وأرخص الوسائل لبعث ھذه األقمار إلى الفضاء من صواريخ‬
‫ومكوكات ‪.‬‬
‫صلنا على ھذه اإلمكانيات مرتبط بمدى خضوعنا لبعض القيود ‪,‬‬
‫ومن البديھي أنّ تح ّ‬
‫ومن البديھي كذلك أن مثل ھذه الوسائل ستبقى دائما وأبدا عرضة للمصادرة‬
‫والمراقبة ‪.‬‬
‫تجد حاليا فوق رؤوسنا طاقة جبارة ھي طاقة الشمس التي تحرق جلودنا وتحرق‬
‫زرعنا وتجدب أراضينا وھي طاقة ال محدودة وسخية يمكن أن تكفل ألبنائنا‬

‫‪134‬‬
‫وأحفادنا عندما ينضب البترول ‪ ,‬ما يكفي حاجياتھم لالستنارة والتدفئة والتنقل الخ‪.‬‬
‫وأملنا األوحد في استغالل ھذه الطاقة الجبارة أن تكتشف العقول الغربية في‬
‫جامعات منبالي ومرسليا وأمستردام ‪ ,‬أحسن الوسائل العلمية والتقنية لصنع‬
‫المرايا أو الوسائل األخرى ‪ ,‬حتى نستطيع نحن العرب بإذن منھم التمتع بھذه‬
‫الطاقة التي ال تنضب ‪.‬‬
‫توجد حاليا في أعماق البحار المحيطة بنا وفي المحيطات الكبرى ‪ ,‬باإلضافة إلى‬
‫القطبين الشمالي والجنوبي ثروات ھائلة ‪ .‬منھا الثروات البيولوجية كالسمك‬
‫وبعض األمور األخرى التي تخطط الشركات العالمية الستعمالھا كأدوية ‪ ,‬ومنھا‬
‫المعدنية وأخص منھا بالذكر ما يسمى ) ‪ ( Nodules‬وھي جبال من المعادن في‬
‫قاع البحر والتي ستشكل كنز علي بابا ‪.‬‬
‫عندما تكتشف العقول في جامعات الغرب مفتاحھا العلمي والتقني ‪ ,‬وھناك في ھذه‬
‫اللحظة عشرات من البواخر الغربية والسوفياتية واليابانية تجوب البحار ال تحمل‬
‫مدافع وال ركاب وال بضائع وإنما أجھزة علمية بالغة التعقيد تقتصر مھمتھا على‬
‫دراسة كل خصائص البحر مخططة للمرحلة المقبلة ‪ :‬استنزاف خيراتھم ‪ ,‬بطبيعة‬
‫الحال سيتقاسمون الوليمة ‪ ,‬وسيلقي إلينا بالفتات باسم اإلنسانية والرأفة والعدالة‬
‫وتمكيننا من نصيب من الكنز ‪.‬‬
‫توجد حاليا في أراضينا المحتلة مفاعالت نووية جبارة وأدمغة صھيونية خططت‬
‫وتخطط لوضعنا تحت رحمة القنابل الذرية المصنوعة والجارية الصنع ‪ .‬أما‬
‫المفاعالت النووية التي تبيعھا لنا بعض الدول بعد تقليع أظافرھا ‪ ,‬فھي إن قارنھا‬
‫بالمفاعالت الموجودة في أوروبا وأمريكا واالتحاد السوفيتي ‪ ,‬كالعربة المجرورة‬
‫بالنسبة للبوينج ‪.‬‬
‫توجد حاليا في الوطن العربي مشكلة خطيرة تتفاقم يوما بعد يوم ھي مشكلة‬
‫التصحر ‪ ,‬وأملنا الوحيد أن تكتشف في كاليفورنيا أحسن تقنيات لوقف زحف‬
‫ّ‬
‫الصحراء ‪ ,‬بل واستخدامھا في ميدان الزراعة ‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫توجد حاليا في مختبرات البيولوجية المتقدمة بجامعات الغرب واالتحاد السوفيتي ‪,‬‬
‫دراسات حثيثة حول تطوير البرنامج اإلعالمي للخاليا حتى يمكن خلق جراثيم‬
‫وفيروسات ال يعرف ضدھا دواء ويمكن استعمالھا ضدنا إن تطلبت الحاجة ‪ ,‬كذلك‬
‫تجري محاوالت أخرى أقل خطر لتجعل الخاليا " مصنعا بيولوجيا " يعطي ما‬
‫تحتاجه اإلنسانية من أدوية كاألنسولين ‪ ,‬أو بروتينات للقضاء على الجوع الخ ‪..‬‬
‫ولربما ستذھلون إن قلت لكم أن بعض الباحثين ھم بصدد دراسة إمكانية التغلب‬
‫على الموت ‪ ..‬فقد استطاع عقالني غربيان ھما قوردون وكنشي إعادة صنع‬
‫ضفدعة بأكملھا ابتداء من خلية أخذت من الغشاء المعوي للضفدعة األولى وبھذا‬
‫يكونا قد فتحا البابا لتجارب رھيبة قد تمكن من إعادة نسخ أي واحد منا كما لو كان‬
‫مجرد نص يوضع في الناسخة كلما تطلب األمر ذلك ‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ھذا ‪ ,‬فإن العقول الغربية الجبارة في ''مونت نبالومار ''بكاليفورنيا‬
‫تجس نبض الكون فتقيس عمره وتحدد تاريخ ميالده بعشرين مليار سنة ‪ ,‬وتقيس‬
‫ّ‬
‫بعد المجرات وسرعة ابتعادھا عنا عما تزن النجوم والكواكب وتكتشف يوما بعد‬
‫يوم أسرار ھذا الكون المھيب ‪ ,‬متالعبة بأعقد النظريات الحسابية ‪ ,‬ومستعملة في‬
‫ھذا أعقد العقول اإللكترونية لمساعدتھا في وضع المجرات والنجوم والكواكب في‬
‫إطار معادالت حسابية تبھر روعتھا وتتألق جماال ‪ .‬واألغرب من ھذا أن القوم‬
‫بعضوا في سنة ‪ 1972‬بمركب فضائي اسمه ''بايونير'' وعليه رسالة مكتوبة‬
‫باللغة الكونية ‪ :‬الحسابيات ومھمة ھذا المركب ‪ ,‬أن يغوص في أعماق الفضاء‬
‫الالمتناھية طوال ماليين السنين عله يقع بين أيدي كائنات أخرى فتدخل في اتصال‬
‫مع البشرية ‪ .‬بطبيعة الحال إن وقع ھذا بعد آالف السنين ‪ ,‬فإن الذين سيشعرون‬
‫بالزھو والخيالء ‪ ,‬لن يكونوا أحفاد العرب ‪ .‬واآلن ماذا عن وضعيتنا نحن ؟ ما ھو‬
‫وزننا العلمي ‪ .‬ما ھي مساھمتنا في ھذه المغامرة الفكرية التي لم تعرف لھا‬
‫اإلنسانية ما فينا ؟‬
‫نحن نسمى علما الدراسات في الفقه واللغة واألدب والنحو والصرف وكم من مرة‬
‫سمعت الناس يتشدقون ‪ ,‬بعلميتھم وبأھمية البحث العلمي وبعلمية بحثھم ‪ .‬وفھمت‬

‫‪136‬‬
‫أن الكلمة ال تدل على منھج بقدر ما تدل على إيمان سحري واستعمال سحري‬
‫للكلمات ‪ ,‬وھي كما تعلمون بعض من خصائصنا العقلية فالعلم ليس بحثا وشكا ‪,‬‬
‫نقدا وحركية دائمة ‪ ,‬بل كلمة نلصقھا بكل ما نريد أن يقتنع به الناس ‪ ,‬أي أنھا في‬
‫الواقع ذلك البديل النظري للعنف الذي طالما مارسناه بيننا من قبل إلسكات المخالف‬
‫في الرأي بسم ﷲ والدين ‪ ,‬واألخطر من ھذا أن عملية التمويه على الخير والذات‬
‫اتخذت ھذه السنوات األخيرة طابعا مرضيا ال يحسن السكوت عنه فالناس تجنّد‬
‫قواھا لتشدق بأمجاد الماضي وبالتذكير على فضلنا على الغرب في كل ما يفعلون‬
‫متناسين دور الھنود والفرس واإلغريق على حضارتنا العربية ومتعامين عن تفاھة‬
‫ھذا التفكير الممل بأيادي أجدادنا على أناس وطأت أقدامھم أرض القمر وتخطط‬
‫للمشي على سطح المريخ‪ .‬وقد بلغت ھذه الھلوسة المرضية الناتجة عن محاولة‬
‫تخطي عقدة النقص بأبخس الوسائل إلى جد التطاول على القرآن الكريم نفسه‬
‫فجعلت منه كتاب فيزياء وكيمياء وطبيعيات الخ تھرع إلى آياته تفسرھا بعد كل‬
‫اكتشاف علمي كما تشاء وبأتم الحرية لتثبت أن ﷲ بحاث علمي يفوق باحثة الغرب‬
‫الذي عجزنا عن مواجھتھم في ساحة العمل الجاد ورافضين النصيحة المتمثلة في‬
‫استنباط االكتشافات المقبلة قبل أن تقع من قراءتھم العلمية للقرآن حتى نستطيع أن‬
‫نحصل على قصب السباق وإن نتخطى ونتجاوز ھؤالء المساكين الغربيين الذين‬
‫يعملون بدون وحي من ﷲ ‪.‬‬
‫وما كان أحرى بھذه العقول الذليلة أن تأخذ بقول ايليا أبو ماضي ‪:‬‬
‫سبيل العز أن تبني وتعلي‬
‫فال تقنع بأن سواك يبني‬
‫وألنك عالة في عنق جد‬
‫رميم العظم وعبئا على ابن‬
‫تبقي رغم ھذه الظاھرة أن لنا عشرات الجامعات وأن لنا عشرات وإن لم تكن مئات‬
‫اآلالف من الطلبة في الفروع العلمية ‪ .‬وإننا ال زلنا نبني المعاھد والمختبرات ومن‬

‫‪137‬‬
‫ثمة قد تتساءلون ‪ :‬أليس ھذا الدليل على أننا على الدرب سائرون وأقول بكامل‬
‫الصراحة ال وذلك اعتمادا على تجربتي الشخصية في ميدان البحث والتدريس ‪.‬‬
‫نحن ال نكلف أنفسنا حتى عناء ترجمة ما يأتينا والحال أن عملية الترجمة ومن ثمة‬
‫اإلدماج ھي أولى أسباب المناعة الحضارية والتقدم العلمي الحقيقي ‪ .‬ذلك ما أثبته‬
‫التاريخ مرارا ‪ .‬فنحن في أغلب جامعاتنا نأخذ ما يأتي من الخارج لندرسه لطلبتنا‬
‫باإلنقليزية والفرنسية ‪ ,‬والحال أنه يوجد في يوغسالفيا جامعات تدرس الطب‬
‫والفيزياء والنووية باللغة المحلية للمقاطعات الفيدرالية التي ال يزيد عدد سكانھا‬
‫عن بضعة ماليين ‪ .‬وأھمية وخطورة ھذه القضية ال تتوقف عند النقل المباشر دون‬
‫عناء الترجمة فالتبويب فاالنتقاء وإنما يتجاوزھا إلى ما أخطر ‪ .‬فالعربية كما‬
‫تعلمون ھي العمود الفقري ألمتنا ولحضاراتنا ‪ .‬إن انھارت انھار معھا كل شيء‪ .‬فال‬
‫شيء آخر يجمعنا في الواقع غير لغة القرآن ولغة محمد ابن عبد ﷲ القرشي‬
‫مؤسس ھذه األمة وحاميھا من التفكك منذ أربعة عشر قرن ‪ .‬ومن ثمة خطر‬
‫التطاول على ھذه الدعامة والركيزة األساسية ‪ .‬وإنه لمن المؤسف حقا أن تكون‬
‫الجامعات العربية ھي مصدر ھذا الخطر حاليا إذ تكون من نخبة أمة نخبة منبتة بال‬
‫جذور ‪ ,‬مرتبطة فكريا ومن ثمة مصيريا بالمنھل الذي تنھل منه بكل سلبية ‪ .‬مشيعة‬
‫التشوش الفكري أي الحضاري في عقول الشباب ‪ ,‬ومشيعة ھذه اللغة البشعة التي‬
‫أصبحت لغة مثقفي المغرب العربي الفرانكوا آراب ‪ .‬ھل أدت ھذه المصيبة على‬
‫األقل إلى ارتفاع في مستوى العلم وھو ما يحاول أن يھمنا به أعداء التعريب التعليم‬
‫العالي الذين يتحملون أمام التاريخ مسؤولية فادحة ؟‬
‫ال طبعا ‪ .‬فالسلبية المشوشة المضطربة ال تخلق وأقصى ما يمكن أن تصل إليه ھو‬
‫حس االستھالك ‪.‬‬
‫عندما أقرأ أن لنا في تونس وزارة للبحث العلمي أضحك وعندما أقرأ أن لموريتانيا‬
‫والصومال وزارة للبحث العلمي أضحك ولكنه أقرب إلى شھيق البكاء منه إلى ما‬
‫نسميه ضحكا ‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫في عمل اليوم أنا أكتفي عندما أحاضر في أمراض المخ بنقل آخر ما ورد في‬
‫النشرات العلمية الغربية وقد أناقض نفسي من سنة إلى أخرى فأقول بغير ما قلته‬
‫السنة الماضية ألن العقول الغربية غيرت رأيھا في الموضوع وبطبيعة الحال أنا‬
‫أحاضر بالفرنسية مما يقيني تعب الترجمة ويحفظ طلبتنا عن ظھر قلب المقاالت‬
‫العلمية في الغرب ومعرفتھم ألمراضه أعمق من معرفتھم لألمراض في بالدنا‬
‫وطريقة تعاملھم وتفكيرھم ھي نسخة تكاد تكون طبق األصل من تفكير زمالئھم في‬
‫الغرب مع فارق ھام ھو أنھم يتعاملون مع مريض ال عالقة له بمريض ھؤالء‬
‫الزمالء ‪.‬‬
‫ھذا ال يعني طبعا أننا ال نقوم في تونس مثال بأبحاث علمية والحق يقال أنھا متنوعة‬
‫وكثيرة ‪ .‬المشكلة أنھا تفسير التفسير‪ ,‬وتعليق على نص كتبه غيرنا ‪.‬‬
‫مثال اكتشف العقل الغربي المسمى ''ھونسفليد ''مبدأ جھاز السكانار ‪ ,‬وھو جھاز‬
‫يمكن من الكشف على أغلب أمراض المخ وكأننا ننظر داخله بدون أدنى حاجة إلى‬
‫فتح الجمجمة ‪.‬‬
‫قامت عقول المھندس وأيدي العمال المھرة في الغرب بصنع الجھاز ‪.‬‬
‫تھاطل الباحثون على الجھاز ودرسوا في سرعة رھيبة أغلب األمراض ثم اشترينا‬
‫الجھاز ودفتر االستعمال واستعرنا مھندسا ليصلحه في حالة وقوع عطب ما ‪.‬‬
‫نقوم ببحوث ھامشية ونعيد ما قاله اآلخرون أو نصف مرض غير موجود عندھم ‪.‬‬
‫وننشر ھذا البحث بالفرنسية أو اإلنكليزية في مجلة علمية نشرت آالف المقاالت‬
‫قبله وستنشر آالف المقاالت بعده ‪.‬‬
‫األغلبية الساحقة ألبحاثنا العلمية من ھذا النمط وعلى ھذا المستوى ‪ .‬ھل ھذا دليل‬
‫على عجز العقل العربي ؟ ال طبعا ‪ ,‬وتفسير الظاھرة يجرنا إلى التوقف عند أھم‬
‫خصائص البحث العلمي المعاصر ‪ :‬أھمية تكاليفه وتعقيد معداته أي استعصاؤه على‬
‫صغار الجامعات والشعوب ‪ .‬الزال كثير من الناس يتصورون أن الباحث العلمي ھو‬
‫إنسان عبقري منّ ﷲ عليه بموھبة ‪ ,‬تجعل عقله الجبار يتفتق بشيء من الحيلة‬
‫وبعض األجھزة البسيطة على االكتشاف العلمي الذي سيغير التاريخ ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫كان ھذا التصور صحيح لكن األحداث تجاوزاته ‪ ,‬ھل تعلمون يا سيادة المسؤول أن‬
‫مرصد "مونت بالومار " الذي م ّكن علماء أمريكا من دراسة الكون ‪ ,‬يكلف أكثر‬
‫من مصاريف الدولة التونسية وإن الدول األوروبية اضطرت لتجمع حتى تستطيع‬
‫مواجھة التكاليف المفاعل النووي التجريبي الموجود في ''جينف ''‪ .‬كذلك أنتم ال‬
‫تجھلون أن ميزانية بعض الشركات الصيدلية في سويسرا وألمانيا تفوق ميزانية‬
‫الكثير من الدول العربي الالنفطية ‪ ,‬وإن أوروبا لم تستطع إطالق الصاروخ''‬
‫أريان'' إال بعد التجمع واقتسام العمل وال يختلف األمر في االتحاد السوفيتي الذي‬
‫ينفق أمواال ھائلة على البحث العلمي مشيدا مدينة كاملة في سيبيريا ھي‬
‫''أكاديموجورود'' للباحثين وحدھم ‪.‬‬
‫ومن ثمة يتضح لكم سبب عجزنا عن الدخول في ساحة البحث العلمي الذي لم تعد‬
‫تقدر عليه إال كبرى الدول والجامعات والمؤسسات والمحزن في كل ھذا أن جامعاتنا‬
‫التي تكلف شعوبنا الفقيرة كثيرا من التضحيات تصدّر يوميا عددا كبيرا من األدمغة‬
‫لمثل ھذه المؤسسات الكبرى ألسباب بديھية ‪ .‬فالباحثون العرب من نوعين ‪ :‬النوع‬
‫المحلي الذي ال يضيره أن يقضي عمره في التغني بمجد األجداد أو في شرح الشرح‬
‫والتعقيب ما تكتشفه العقول الغربية ‪ .‬أما النوع الثاني فھو من جنس ھؤالء العقول‬
‫الجبارة لكن قلة اإلمكانيات وضيق السوق الفكرية وانعدام وجود جائزة نوبل عربية‬
‫لتقدير العلماء ‪ ,‬والتنظيم الھرمي للجامعة وتدخل السياسة في تقييم األشخاص‬
‫واألعمال ‪ ,‬وتجبره على مغادرة الوطن لتغذية ھذه المؤسسات التي ستصدر لنا فيما‬
‫بعد تكنولوجيتھا وأفكارھا عن الحياة والكون و ‪ 25‬بالمائة من األدمغة المھاجرة‬
‫في العالم عربية ‪ .‬وقد يعطيكم ھذا الرقم فكرة عن فداحة الخسارة التي تمنى بھا‬
‫أمتنا نظرا لعيبھا الرئيسي ‪ :‬سوء توزيع الموارد وانغالق األقطار على بعضھا‬
‫البعض اقتصاديا وعلميا وتبذير إمكانياتھا وتشتت طاقاتھا‪ .‬والنتيجة ؟ أخوف ما‬
‫أخافه أن نخسر المعركة الحضارية على الصعيدين ‪:‬‬
‫‪ -1‬صعيد الفاعلية ‪:‬‬

‫‪140‬‬
‫سنبقى متطفلين على علوم الغرب شحاذين في سوقھا وسنفقد الكثير من أسباب‬
‫المناعة واالستقالل ‪ .‬فمن البديھي أن أمة ال تنتج علما وال تكنولوجيا ال يمكن أن‬
‫تكالب بشيء وإن عليھا أن تقنع بفتات المائدة وتدفع " الجزية " لكي تنقل‬
‫برامجھا التلفزية والتليفونية عبر األقمار الصناعية وأن تدفع " جزية " ثمنا‬
‫الستعمال االختراعات في ميدان الطاقة وأن ال تنتظر شيئا من األمم التي ستستولي‬
‫على خيرات البحار والقطبين ‪.‬‬
‫‪ -2‬صعيد الشرف ‪:‬‬
‫األفراد واألمم بالنسبة لي ھم مجرد حملة الفكر في زمن ما ومكان ما ‪ .‬تمر‬
‫الحضارات ويموت األفراد لكن الفكر البشري خالد ‪ ,‬يمضي قدما في طريق تفسير‬
‫أسرار الكون ‪ .‬والمغامرة ھذه ھي الحقيقة األولى واألخيرة وكل ما عداھا فقاقيع‬
‫الصابون ‪ .‬المھم أن امتنا لعبت دورا ھائال في وقت ما ‪ .‬حملت مشعل الفكر لكن‬
‫المشعل انطفأ وأضاء لھبه عند اآلخرين ‪ ,‬وھم أبناؤه البررة وفلذات كبده ‪ ,‬بھم‬
‫مشعله يضيء الكون ونحن قابعون في زنزانة مظلمة نريد المساھمة في التنوير ‪,‬‬
‫نقدح علبة الكبريت المبتلة لعل وعسى ‪ .‬بصراحة أنا ال أقول أنه ليس من المھم أن‬
‫تكون لنا أقمار صناعية أو صواريخ قاذفة وجامعات بحرية ومولدات نووية‬
‫وشمسية ‪ ,‬لكن األھم من ھذا ھو أن نعيد لھذه األمة دورھا في ملحمة الفكر أن نعيد‬
‫لھا ‪ ..‬شرفھا الحضاري ‪ .‬أليس باإلمكان أن نحقق على صعيد البحث العلمي شيئا‬
‫من ھذه الوحدة التي عجزنا عن تحقيقھا سياسيا واقتصاديا ‪.‬‬
‫ھل فات األوان ‪:‬‬
‫إن المتأمل لواقعنا االقتصادي والفكري والسياسي اليوم والمقارنة لھذا الوضع بما‬
‫ھو موجود في الغرب ليصاب بخيبة أمل كبرى وبيأس عارم لكنني أقول أن النظرة‬
‫خاطئة ألنھا ال تطرح موضوع تطورنا في إطاره التاريخي صحيح واقعنا ھو واقع‬
‫التخلف والتشتت والتبعية ‪ ,‬ولكن صحيح أيضا أننا واعون بھذا الواقع وأننا بصدد‬
‫إصالحه ‪ ,‬فإن نظرة واحدة على تاريخنا تثبت أن األمة حققت في ظرف الربع قرن‬
‫األخير ما لم تحققه في عشرة قرون وأنھا لم تعرف يوما واحد في الماضي قدرا‬

‫‪141‬‬
‫مماثال من التقدم العلمي والصحي واالقتصادي وحتى من الوحدة وبالتالي فإن‬
‫مازوشيتنا في التكلم عن واقعنا ليست إال دليال على نفاد صبرنا وعجلتنا الشرعية‬
‫في تحقيق أھدافنا ‪ .‬أما الذين يضحكون علينا من الخارج وعلى شقاقنا ونزاعنا‬
‫الدائم فھم كمن يحتج على طفال يتعثر للقول بأنه لن يمشي يوما والحال أن الطفل‬
‫بصدد تعلم المشي بفضل تلك العثرات ‪ .‬أقولھا إذن بكل ثقة كما قالھا ايليا أبو ماضي‬
‫‪:‬‬
‫نضيء به الدنيا ونملئه حمدا‬ ‫إذا األمس لم يرجع فإن لنا غدا‬
‫نعم لن ينتھي القرن إال ونجد حلوال منطقية لمشاكلنا ألنه ال خيار لنا ‪ :‬فإما الزوال‬
‫وإما مواجھة التحديات ‪ .‬ومن جملة ھذه التحديات التحدي العلمي الذي نستطيع‬
‫مواجھته بتعبئة طاقاتنا وتوزيع المجھودات المالية بين األقطار والحد من ھجرة‬
‫أدمغتنا واستعادة من ھاجر منھا ‪ .‬إذن إيمانا مني بدور القاعدة وشرعية مبادراتھا‬
‫رغم ما يفرض علينا من صمت ورغم وعيي بأن ھذه الرسالة قد تكون صيحة في‬
‫واد تضاف إلى آالف الصيحات العربية التي لم تلق أدنى صدى ‪ ,‬فإنني أطالب‬
‫بتعيين لجان مختصة لتبحث موضوع بعث وتمويل وبناء وإدارة ومراقبة معاھد‬
‫عربية علمية على مستوى عالمي ‪ .‬وحال إعداد ھذه الدراسات عرضھا على أقرب‬
‫قمة عربية ليتحمل ملوك ورؤساء دولنا مسئوليتھم التاريخية ‪ .‬أما المعاھد التي‬
‫تحتاجھا األمة لكي تضمن مصالحھا وشرفھا وتنفع بھا شتى دولھا وشعوبھا في‬
‫إطار تقسيم الصالحيات والمنافع فھي ‪:‬‬
‫‪ -‬مركز المعلومات ومھمته ترجمة كل ما يكتب في العالم وخزنه في عقول‬
‫إلكترونية تكون تحت تصرف الباحثين العرب‬
‫‪ -‬المعھد العربي لألبحاث النووية المتقدمة‬
‫‪ -‬المعھد العربي لعلوم األحياء‬
‫‪ -‬المعھد العربي للعقول اإللكترونية‬
‫‪ -‬المعھد العربي للزراعة الصحراوية‬

‫‪142‬‬
‫‪ -‬المعھد العربي لدراسة البحور والقطبين‬
‫‪ -‬المعھد العربي للطاقات الجديدة‬
‫قال أجدادنا " زرعوا فأكلوا ‪ ,‬نزرع فيأكلون " فلنبادر بالزرع وكفى ما أضعنا من‬
‫وقت حتى ال يقال عنا أحفادنا تلك الجملة الفظيعة التي طالما رددناھا نشتم بھا آبائنا‬
‫" يا أمة ضحكت من جھلھا األمم "‬

‫الجامعـــــة الشعبيـــــــــة‬

‫الحلقة المفرغة ‪:‬‬


‫ما ھو الفرق الرئيسي بين الشعب المتقدم والشعب المتخلف ؟‬
‫أغلب اإلجابات في السوق الفكرية تخلط ‪ :‬النظام السياسي ‪ ,‬مستوى المعيشة الخ ‪..‬‬
‫لكنني أدعى أننا نخلط بين السبب والنتيجة ألن الثروة مثل النظام السياسي ھي‬
‫حصيلة التقدم وثمرته وليست سببه ‪.‬‬
‫إذن ما ھو العامل األساسي في عملية تطور الشعب ؟‬
‫أقول ‪ :‬كمية المعلومات المتوفرة داخل المجتمع ‪.‬‬
‫ھل تعلم مثال أن رأسمال بلدان كاليابان وكوريا والدانمارك ھو العلم ؟ وھل تعلم‬
‫أنھم يصدرون في ھذا البلد األخير مثال محصول اسمه ‪) The know How‬‬
‫وھما ما يسميه الفرنسيون ‪ (Le savoir faire .‬؟ بطبيعة الحال ال نملك ترجمة‬
‫عربية لھذه الثروة ألننا ال نملك أبسط جزء منھا ‪ .‬وبالتالي كيف تريد أن نكون اسما‬
‫لشيء نجھله ؟‬
‫لنع ّرف إذن بأن الثورة ‪ ,‬ابتداء من مثال بسيط ‪:‬‬
‫لقد عرفت شخصيا فالحا دانمركيا يبيع للخارج ‪ ...‬أفكارا ‪ ...‬نعم أفكارا ومخططات‬
‫حول أحسن طريقة لتنظيم اإلسطبل الصناعي ‪ ...‬أو الحفاظ على القمح ‪ ...‬أو ‪ ...‬أو‬
‫‪ ...‬وقد تجھل أن الثمن الباھظ الذي ندفعه عندما نشتري بضائع ومصانع ھو ثمن‬

‫‪143‬‬
‫الفكر الذي خلق وانتج إذ ال تتكلف " الخردة " المادية إال جزاء مأويا ضئيال من‬
‫ثمن ما نشتريه ‪.‬‬
‫الظاھرة القارة في المجتمعات المتقدمة ھي أھمية المعلومات التقنية المتوفرة عند‬
‫العامل والفالح وسرعة تجددھا وقابلية المجتمع إلفراز وخلق معلومات جديدة في‬
‫إطار تطوره المتسارع ‪ .‬ثقل المجتمع الغربي ووزنه ليس كما يخيل للسذج منا في‬
‫ثروته المادية بل في ثروته الفكرية التي ھي سبب ثروته المادية ‪.‬‬
‫واآلن ما ھي وضعيتنا بالمقارنة ؟‬
‫تخلفنا المادي ھو الواجھة للتخلف الحقيقي أي التخلف الفكري ‪.‬‬
‫من البديھي أن قبيلة بدائية معزولة ال يمكن اعتبارھا جاھلة طالما تماشت تقنياتھا‬
‫مع حاجياتھا وطالما وجد توازن بين أفرادھا والمحيط ‪ .‬افتح لھا أبواب العالم‬
‫العصري المعقد وستصبح ھذه القبيلة جاھلة كل الجھل إذ ستواجه بعجزھا الكلي‬
‫على التعامل معه وھذه وضعيتنا ولو أن عجزنا نسبي ‪.‬‬
‫فنحن نعاني من فرق فادح بين ما تتطلبه حاجيات مجتمع متقدم وبين إمكانياتنا‬
‫الفكرية والتقنية ‪.‬‬
‫لنعتبر مثاال معروفا ‪ :‬العمل الرديء ‪ .‬ھو ظاھرة شائعة إلى درجة أنني أصبحت‬
‫أعتقد أن شعار كل من يمارس عمال في ھذه البالد ھو " كعور وأعطي لالعور " ‪.‬‬
‫فالعمل الرديء في اإلدارة ‪ ,‬في المستشفى ‪ ,‬في الصناعة الخ ‪ ...‬بطبيعة الحال‬
‫ھناك مصدر نفساني للعمل الرديء ‪ :‬إيمان الناس المطلق بأن العمل ال يوفر الخبز‬
‫والكرامة وإن الطرق الملتوية التي يمارسھا االنتھازيون الذين طبعوا العشرية‬
‫الماضية بطابع قد لن ينمحي ‪ ,‬ھي الوسيلة الوحيدة لإلثراء ومن ثمة فال داعي "‬
‫لتكسير الرأس " ‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ھذا السبب الوثيق الصلة باعتبارات سياسية ‪ ,‬تجد دور قلة أو رداءة‬
‫المعلومات التي تتوفر عند الموظف والفني والطبيب والفالح الخ ‪ ...‬زد على ھذا‬
‫ظاھرة العصر األولى أي سرعة التغيير وتصاعد وتراكم المعلومات ‪ ,‬ومن ثمة‬
‫التغييرات لنكتشف أن مجتمعنا من ناحية وفرة وجودة المعلومات التي تمكن من‬

‫‪144‬‬
‫التعامل الصحيح والفعال مع الواقع ضعيف إلى أبعد حدود الضعف وھذا ما يفسر )‬
‫إلى مدى معين طبعا ( حالة العديد من مؤسساتنا ‪.‬‬
‫العمل الصناعي ‪ :‬متقدم عندھم ورديء إلى غاية درجات الرداءة عندنا ‪.‬‬
‫الفالحة ‪ :‬أي إنتاجية الفالح التونسي من إنتاجية نظيره الياباني ؟‬
‫البحث العلمي ‪ :‬ھم يبحثون ويجدون ونحن نستھلك‬
‫الصحة ‪ :‬معدل الحياة عندھم ‪ 75‬سنة وعندنا ‪ 57‬سنة ‪ ,‬نسبة وفيات األطفال ‪11‬‬
‫في األلف في السويد و‪ 80‬في األلف في تونس الخ ‪...‬‬
‫طبقات الجھل‬
‫أول ما يتبادر إلى الذھن عندما نقول إن شعبنا متخلف ھو أوال وقبل كل شيء شعب‬
‫جاھل ‪ ,‬وإن جھله ھو عدم التمكن من القراءة والكتابة ‪ ,‬أي أننا نجعل الجھل‬
‫مرادفا لألمية ولألمية فقط ‪ .‬ھذا صحيح نسبيا ‪ .‬يكفي أن نعلم أن نسبة األمية في‬
‫سويسرا أو اليابان ‪ % 1‬وأن نسبتھا في تونس ‪ % 60‬بينما تبلغ في اليمين أو‬
‫السودان ‪ % 90‬لكي نقدر خطورة الوضعية من ھذه الناحية ‪.‬‬
‫لكن جھل القراءة والكتابة وإن كان عامال ھاما في تعريف الجھل ليس أھمھا ‪.‬‬
‫لنتساءل مثال عن مدى فاعلية تعامل المتعلمين وأنصاف المتعلمين مع الواقع أي‬
‫ھل تمكنھم المعلومات التي تلقوھا على كراسي المدرسة من فھم عالمھم والتأثير‬
‫عليه ؟‬
‫وبعبارة أخرى يستطيع اإلنسان الذي أنفقنا أمواال باھضة في تعليمه القراءة‬
‫والكتابة الحفاظ على صحته وفھم أسباب غالء المعيشة وطبيعة النظام السياسي‬
‫واالجتماعي الذي يتعامل معه ‪ ,‬وھل ينفعه ھذا في إتقان عمله وھل تعلم كيف يتعلم‬
‫وكيف ينمي مداركه ويالحق تطورات العصر ؟ والرد ال بطبيعة الحال ‪ ,‬ألن نظامنا‬
‫التعليمي والتربوي ال ينتج إال ‪ % 1‬تقريبا من القادرين على مواكبة ھذه الثورة‬
‫الثقافية الدائمة التي يجھدھا العالم ‪ ,‬وجلھم من طلبة وأساتذة الجامعة وبعض‬
‫القطاعات النخبوية الھامشية من رجال العلم والفن واألدب والسياسة ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ومن ثمة فالسؤال المطروح ھو ‪ :‬كيف يمكن لشعب فيه ‪ % 60‬من األميين أن‬
‫يتقدم ‪ ,‬وھل للواحد في المائة من المتشبعين بتقنيات ومفاھيم العصر وزن كاف‬
‫لترجيح كفة الميزان ‪ ,‬وما ھو وزن الـــ ‪ % 39‬الذين نعرفوا أنھم يحسنون القراءة‬
‫والكتابة ؟‬
‫وقد تعترض بأننا نتقدم رغم ھذه األرقام ! وأرد ‪ :‬أال تعتقد أنه تقدم مغشوش ؟‬
‫عمارات شاھقة لكن المصعد فيھا ال يصعد ! جامعات تبني وتتقشر واجھاتھا بعد‬
‫ستة أشھر ! تلفزة تعمل ولكن لبرامج للمتخلفين ذھنيا ! سيارات وطرقات ‪ ,‬لكن‬
‫بضريبة ألف قتيل سنويا الخ ‪...‬‬
‫وقد تلح في اعتراضك مذكرا بأن الشعوب المتعلمة كانت جاھلة في يوم ما ثم‬
‫تعلمت وأن ھذا بالضبط ما ھو حاصل في بالدنا حيث يشيع التعليم ويعمھا رويدا‬
‫رويدا ‪ ,‬ومن ثمة فالمسألة مسألة وقت ال أكثر ‪ .‬فما ھي إال بعض سنوات ونلتحق‬
‫في ميدان " كمية المعلومات " بمصاف الشعوب المتقدمة ‪.‬‬
‫واالعتراض منطقي لكنه سطحي ‪ .‬فوضعيتنا ليست وضعية تلك الشعوب في بداية‬
‫طريقھا ذلك ألنھا بدأت في درجة معينة ثم نمت تقنياتھا شيئا فشيئا وتماشى تكور‬
‫العقلية مع نتاج التقنيات الحديثة مما جعل المجتمع يتطور بكيفية متوازنة‪ .‬أما‬
‫عندنا فالعكس ھو الصحيح ألن العالم الغربي فرض علينا تقنياته ومفاھيمه‬
‫وتسربت كلھا إلينا بسرعة كبيرة في حين أن المعرفة الموضوعية للتعامل الصحيح‬
‫مع ھذه التقنيات والمفاھيم لم تتوفر إال في قطاعات نخبوية ھامشية ومن مجتمعتنا‬
‫‪ ,‬فحصل انفصال حضاري خطير داخل النسيج االجتماعي إذ خلقت بھذا قطاعات‬
‫ھائلة من المجتمع يمكن أن نقول عنھا أنھا في نشاز كلي مع معطيات حضارة‬
‫مفروضة لكنھا لم تخلقھا ولم تواكب تطورھا لكي تستطيع التأقلم والتكيف مع في‬
‫األوان ‪.‬‬
‫أما الرأي الثاني القائل بدور التعليم في مسح ھذا الجھل رويدا فھو يجھل أو يتجاھل‬
‫أن تعلم القراءة والكتابة شيء والتعامل مع تقنيات العصر شيء آخر باإلضافة أنه‬

‫‪146‬‬
‫ال يفسر لنا ماذا نفعل بالـــ‪ % 60‬من األميين ‪ ,‬وكيف نستطيع التعامل معه وإدماجه‬
‫في مخطط التنمية الشاملة‪ ,‬مع العلم بأنه من السذاجة تصور اختفاء األمية والجھل‬
‫بفضل التعليم ألن مصير الــــ ‪ % 70‬من تالمذة االبتدائي الذين يطرودون من‬
‫التعليم ) والذي لن يجدوا إال في تلفزتنا العظيمة وقاعات السينما ما يزيدھم جھال (‬
‫ھو طبعا الضياع وال يمكن اعتبارھم عنصر فعال في عملية تقييم الوزن العلمي‬
‫للمجتمع ‪.‬‬
‫التشخيص إذن كاآلتي ‪:‬‬
‫‪ -1‬ھناك نشاز كبير بين الطلب والعرض الحضاري يؤدي إلى‬
‫شيوع العمل الرديء يھدد عملية التقدم ويؤخرھا ‪.‬‬
‫‪ -2‬تغلغل المعلومات المطلوبة بطئ وبطئ جدا ألننا نعتمد على تقنية‬
‫قديمة ھي تعلم القراءة والكتابة ومن ثمة اعتقدنا في بداية‬
‫االستقالل أن محاربة األمية ھي تعليم كل الناس مبادئ القراءة‬
‫والكتابة ونحن لن نتقدم في ھذا الميدان طالما لم نفھم أبعاد‬
‫الثورة العارمة التي نعيشھا حاليا في ميدان نقل المعلومات ‪.‬‬
‫فنحن نواجه منعطف خطير في تاريخ الحضارة ألننا ندخل بضفة‬
‫ال رجعة فيھا في عالم قلّت فيه أھمية القراءة والكتابة لنقل‬
‫التراث الحضاري وتعميمه والمحافظة عليه ‪ .‬حقّا ش ّكلت ھذه‬
‫التقنية تقدما ملحوظا بالنسبة لتقنية الشفوية لكنھا حاليا ضحية‬
‫التقدم الذي تسببت فيه إذ ستصبح بالنسبة للوسائل السمعية‬
‫المرئية أداة قليلة الفاعلية باھظة التكاليف ‪.‬‬
‫مثال بسيط ‪ :‬تكتب قصة تطبع منھا ثالثة آالف نسخة يقرأھا عشرة آالف شخصا‬
‫في أحسن الحاالت ‪ .‬واآلن أكتب نفس القصة للتلفزة المصرية وسيشاھدھا خمسون‬
‫مليون نسمة ‪ .‬والفارق بين الرقمين ھو الفارق بين إنتاجية التقنيتين في نشر‬
‫المعلومات ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الغريب أنه حتى ) محلّفو ( جائزة نوبل لم ينتبھوا إلى التحوير الخطير الذي أدخلته‬
‫الوسائل السمعية البصرية على عالم المعرفة وفي ميدان األدب على وجه التحديد ‪.‬‬
‫فھم يصرون على منح الجائزة ألدباء مغمورين متجاھلين أن أكبر أدباء ھذا العصر‬
‫ھم الذين يكتبون بالكاميرا من أمثال ايزنشتاين ‪ EISENSTEIN‬وكوروزاوا‬
‫‪ KUROSAWA‬وكوبريك ‪ KUBRIK‬وشابلن ‪ CHAPLIN‬الخ ‪...‬‬
‫واألغرب أن المسؤولين عن التعليم والثقافة لم ينتبھوا إلى األھمية الخارقة لھذه‬
‫الوسائل الحديثة ) وربما كان السبب استحواذ أعرافھم من رجال السياسة عليھا (‬
‫والحال أنھا وحدھا الكفيلة بنشر المعلومات الالزمة وأن محاولة محاربة األمية مثال‬
‫بنشر القراءة والكتابة في عصرا كھذا ليست فاشلة فحسب و لكنھا بدون أي أھمية‬
‫ألن فاعلية مثل ھذه التقنية ال تكاد تذكر ‪.‬‬
‫الحل ‪ :‬جامعة الشعب السمعية المرئية ‪:‬‬
‫لو كنت مسؤوال في وزارة االقتصاد أو مدير البنك المركزي ) الحظ أني ال أقول‬
‫مسؤوال في وزارة التعليم أو الثقافة ( لنادية بفتح جامعة الشعب السمعية المرئية‬
‫في إطار إنجاح خطة التنمية السادسة وذلك اعتمادا على البديھيات اآلتية ‪:‬‬
‫‪ -1‬ال يمنك اإلسراع بالخروج من التخلف إال بتزايد تشبع المجتمع‬
‫بأكبر عدد ممكن من المعلومات وكل مخططات التنمية مھددة في‬
‫مسيرتھا بوجود األمية والجھل بمفاھيم العصر وتقنياته ‪.‬‬
‫‪ -2‬ھناك في المجتمع معرفة كان لھا دورھا يوما ما لكنھا أصبحت‬
‫اليوم عائقا لتقدم ‪ .‬ومن ثمة يجب تغير البنية العقلية للناس قبل‬
‫محاولة تغير منازلھم أو مدارسھم أو الطرقات التي يتنقلون‬
‫عليھا ‪.‬‬
‫‪ -3‬إن أحسن حل للقضاء على جيوب الجھل وربح الوقت في‬
‫معركتنا الضاربة ضد التخلف والفقر والمرض ھو بعث جامعة‬
‫الشعب السمعية المرئية وتكون مھمتھا كاآلتي ‪:‬‬

‫‪148‬‬
‫‪ -‬مسح جيوب الجھل التي تؤدي إلى عرقلة مسيرتنا ‪ ,‬مثال ‪ :‬في ميدان‬
‫الصحة ‪ :‬نعرف أم مئات الرضع يموتون سنويا لجھل األمھات ‪ .‬ومن ثمة‬
‫تكون مھمة الجامعة التثقيف الصحي للشعب ‪ .‬كذلك نعلم أن أحد أسباب‬
‫ضعف إنتاجية الفالح جھله للقواعد العصرية للفالحة ) مع العلم أن ھنالك‬
‫أسبابا أخرى اقتصادية ومائية الخ ‪ ( ...‬إذن تقوم جامعة الشعب بتعليم‬
‫الفالح ولرفع مستوى كل من يعمل بصفة عامة‬
‫‪ -4‬إن التغيير المتصاعد السرعة للحركة العلمية يجعل حتى أعلم‬
‫قطاعات الشعب مھددة بالتسجيل ‪ .‬ومن ثمة فإن رسكلة الطبيب‬
‫والمعلم واألستاذ والمھندس ھي عملية مصيرية ‪ .‬إذن تكون‬
‫المھمة الثانية لجامعة الرسكلة الدائمة للقطاعات المتقدمة من‬
‫شعبنا حتى تستطيع مواكبة العصر ‪.‬‬
‫‪ -5‬للشعب التونسي معلومات عريقة في كثير من الميادين وخبرات‬
‫متعددة وحكم وآداب وأشعار الخ ‪ ...‬ونحن نجھل عنھا كل شيء‬
‫تقريبا رغم أنھا تراثنا الجماعي ومن ثمة فإن مھمة الجامعة‬
‫تعريفنا بتراثنا‪.‬‬
‫وقد يعترض القارئ بأن الراديو والتلفزة يقومان بھذه المھمة ولكن الواقع يكذب‬
‫ھذا ‪ .‬فدور ھذين الجھازين يتوقف على الدعاية السياسية والترفيه الرخيص أي في‬
‫الواقع على تجھيل الشعب ‪ ,‬أما ما يبث من برامج تثقيفية بين الفينة األخرى فمجرد‬
‫ذر الرماد في العيون ‪.‬‬
‫نحن بحاجة إلى برنامج ال يمكن إال أن يكون نابعا إن إرادة سياسية يخطط لھذه‬
‫الجامعة ويعطيھا كافة اإلمكانيات المادية والبشرية لكي تضطلع بمھمة على قدر‬
‫كبير من الخطورة ‪ .‬فعوض أن نعطي االعتمادات لقناة ثانية فرنسية لتشيع‬
‫إيديولوجية اإلنبتات والتغرب والتسلية الرخيصة لطبقة ضئيلة من الشعب ‪ ,‬يجب أن‬
‫نسخر مثل ھذه القناة للتثقيف العلمي والصحي واالقتصادي والرسكلة المتواصلة‬
‫بلغة ھذا الشعب بخبرات أبنائه ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫وفي االنتظار يجب أن تتضافر جھودنا ببعض نوات ھذه الجامعة في العاصمة وفي‬
‫كل المدن الكبرى ‪.‬‬
‫لقد تعودنا نظرا لمفاھيمنا القديمة انتظار الفرج من رجال السياسة أو التكنوقراطين‬
‫‪ ,‬وھذا نتيجة تربية ال تتالءم مع روح العصر ‪ .‬فتونس اليوم يجب أن تكون كشركة‬
‫متعددة األسھم ساطعة االسم ‪ ,‬يفوض المشاركون فيھا إلى مجلس إدارة يرأسه‬
‫مدير معين بمھمة تطوير أرباح الشركة والمساھمين ‪ ,‬ونجاح الشركة رھين حقا‬
‫بجدارة ذلك المجلس ‪ ,‬ولكنه رھين أيضا بعدد األسھم ووزنھا الذي يساھم بھا كل‬
‫فرد ‪ .‬لذلك أقول علينا نحن المواطنون التخطيط لھذه الجامعة ثم رفع المخطط‬
‫لمجلس اإلدارة لينفذ وإن نجعل من ھذا المشروع مطلبا مثل الترفيع في األجور أو‬
‫كرامة االنتخابات الحرة ‪ ,‬والعمل من اآلن من مواقعنا على إنجاح المشروع ‪.‬‬
‫ھذا المقال ليس تحديدا ولكنه نداء ‪ ,‬فھل من مجيب ؟‬

‫ي مستقبــــــــــــل لجامعتنــــــــــا‬
‫أ ّ‬

‫عيوب الجامعة التونسية أكثر من أن تحصى أو أن تعد ‪ :‬التنظيم الھرمي ‪ ,‬التحجر ‪,‬‬
‫انعدام الديمقراطية ‪ ,‬استعمال اللغة األجنبية ‪ ...‬لكن لنترك النقد جانبا ‪ .‬فمصير‬
‫الجامعة الطبيعي ھو التغير بفضل السلبيات ‪ .‬ومن ثمة فإن السؤال المطروح ال‬
‫يتعلق بالحكم المعياري على ھذه الجامعة بقدر ما يتعلق بمستقبلھا ‪ .‬فأي مستقبل‬
‫للجامعة تريد إذن ؟‬
‫الخطوط العامة ‪:‬‬
‫* أوال ‪ :‬يشھد العالم تغيرا جذريا ناتجا عن دخول الثورة اإلعالمية )‬
‫‪ . (Révolution informatique‬وقد أصبحت ھذه الثورة إحدى اإلمكانيات ‪ ,‬بل‬
‫وأھمھا للخروج سريعا من التخلف إذ يمكننا أن نقفز مباشرة إلى القرن الواحد‬
‫والعشرين ‪ ,‬إذا استطعنا استعمال التكنولوجيا الحديثة والمتوفرة من عقول‬

‫‪150‬‬
‫الكترونية ‪ ,‬وطاقة شمسية وھندسية بيولوجية‪ ,‬فنختصر الطريق ونقتصد مجھودات‬
‫شاقة م ّر بھا الغرب ‪.‬‬
‫السؤال إذن ‪ :‬كيف يمكن التمكن من ھذه التكنولوجيات ؟‬
‫الجواب ‪ :‬باستعمال الطاقة التي ال تنضب ‪ :‬الطاقة الفكرية البشرية ‪.‬‬
‫* ثانيا ‪ :‬الجامعة ملك للشعب التونسي دون سواء ‪ ,‬أي أنھا ليست ملك الحكومة ‪,‬‬
‫أو األحزاب السياسية والعقائدية أو األساتذة المتمركزين أو " شيوخ الجامعة " ‪,‬‬
‫وھي إحدى وسائل الشعب التونسي لمكافحة الجھل والفقر والمرض ‪ ,‬ومن ثمة فإن‬
‫مھمتھا تقتضي أن تسخر لھذا الھدف ‪ ,‬ولھذا الھدف وحده ‪.‬‬
‫جامعة شعبية‬
‫تعتبر الجامعة وسيلة للتقدم وتحدّد لھا مھمتان ‪:‬‬
‫‪ (1‬تكوين األخصائيين كمھندسين ‪ ,‬وأطباء ‪ ...‬وذلك لالستجابة إلى حاجيات‬
‫معينة للمجموعة الوطنية ‪.‬‬
‫‪ (2‬تصبح ھذه الجامعة مركز رصد يتابع تطور األفكار والنظريات في عالم‬
‫التكنولوجيا المتصاعدة التعقيد وتكون مھمتھا اكتشاف وتلخيص كل‬
‫المعلومات في شتى الميادين التي يمكن أن تشكل عامال من عوامل التقدم‪.‬‬
‫بطبيعة الحال يجب تعميم ھذه المعلومات الحيوية على جملة المجموعة ‪.‬‬
‫بعبارة أخرى يجب أن تكون الجامعة وكالة المخابرات علمية تضع‬
‫إمكانياتھا في خدمة الحكومة والشعب ‪.‬‬
‫وحتى تصل المعلومات إلى مختلف القطاعات التي نحتاجھا ‪ ,‬يجب أن تدخل اإلذاعة‬
‫والتلفزة تحت إشراف الجامعة ‪ ,‬أو على األقل أن تكون لھا قناة مستقلة ‪ ,‬تكون‬
‫مھمتھا بث المعلومات في كل الميادين ‪ .‬والمالحظ ھنا ‪ ,‬أن اإلذاعة والتلفزة على‬
‫شكلھا الحالي وبرامجھا المتدنية التي تقتصر على الدعاية البدائية والترفيه‬
‫الرخيص ‪ ,‬تشكل أداة تجھيل للشعب ‪ ,‬ومن ثمة يمكن اعتبارھا عامال من عوامل‬
‫التخلف وتأصيله ‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫بطبيعة الحال يجب أن تكون برمجة ھذه القناة محكمة لكي تعمم برامج مختلفة‬
‫حسب حاجيات القطاعات المختلفة للمجتمع ذات المستويات المتباينة مثال ‪ :‬التثقيف‬
‫الصحي لألمھات ‪ ,‬تحسين معلومات الممرضين و رسكلة األطباء الدائمة ‪.‬‬
‫لغة ھذه الجامعة الشعبية لن تكون بطبيعة الحال اللغة األجنبية أو شكلھا البشع "‬
‫الفرنكوآراب " وإنما لغة ھذا الشعب ‪ :‬العربية ‪.‬‬
‫جامعة مفتوحة ‪:‬‬
‫يجب فتح أبواب الجامعة على مصراعيھا لكل من يريد ‪ ,‬ولكن من يبحث عن العلم‬
‫‪ ,‬أي أن الطلبة واألساتذة القارين ‪ ,‬يجب أال يشكلوا إال قطاعا معينا من الجامعة ‪.‬‬
‫ق‬
‫لماذا ال يستطيع معلم القرى البعيدة متابعة دروسه في الجامعة ؟ لماذا ال يح ّ‬
‫ألرملة في الستين أن تدرس مبادئ العربية أو علم االعتناء باألطفال المعاقين ؟‬
‫لماذا ال تستعمل الجامعة المھارات الفائقة في إطار المجموعات الوطنية والتي ال‬
‫تحمل لقب " الدكتور البروفسور " ؟ من المؤكد أن الكثير من ھذه الكفاءات‬
‫تستطيع أن تنفع الجيل الناشئ والجامعة أكثر من عدد ال يستھان به من الدكاترة ‪.‬‬
‫معنى ھذا أن الجامعة المغلقة والمتقوقعة حاليا على مصالحھا ) أي مصالح نخبة‬
‫من أساتذتھا ( تھدر طاقات الوطن في ميدان العلوم والمعرفة ‪ .‬أقول إذن من جديد‬
‫وأركز على ھذه النقطة ‪ :‬يجب فتح الجامعة على مصراعيھا بإحداث وخلق‬
‫إمكانيات متعددة لمتابعة الدراسات بشتى أصنافھا ‪ ,‬كذلك يجب إقامة الجسور بين‬
‫مختلف الكليات الموجودة في الجامعة ألن في التخصص المفرط ضررا فادحا ‪ .‬فمن‬
‫البديھي أن طالبا في اآلداب ال يعلم شيء عن التقدم التكنولوجي ودعامته النظرية‬
‫ھو غير قادر على التعامل الصحيح مع العالم ‪ .‬ومن المؤكد أيضا أن طالبا في الطب‬
‫يجھل الخلفيات االقتصادية والسياسية واالجتماعية والنفسية للمريض ھو محكوم‬
‫عليه بالفشل ‪.‬‬
‫وقد يبدو كالمي ھذا غريبا والحال أن جامعتنا تتسبب في طرد ‪ % 80‬من طلبتھا‬
‫سمين ‪ ,‬فأنّي لھا أن تفتح أبوابھا وھي حصون وقالع منيعة ؟ لكن المالحظ‬
‫المر ّ‬
‫لسير الجامعة الحالي مجبر على مالحظة ما يلي ‪:‬‬

‫‪152‬‬
‫* يشكل المطرودون من داخل الجامعة ‪ ,‬والمحرومون من دخولھا خسارة فادحة‬
‫للشعب ‪ ,‬إذ يجھل السادة الذين يتحكمون في مصير البشر أن كل طالب للعلم يقصى‬
‫عنه ھو مخ يبعد عن جھاز األدمغة الخالقة الذي يقوى بتزايد المشاركين فيه ‪.‬‬
‫* تضيع بخروج ھذه األدمغة عن ساحة العمل الخالّق ثروة ال تقدّر بثمن ‪ ,‬إذ يجھل‬
‫ھؤالء السادة أن العامل الرئيسي للثروة خاصة في عصرنا ھذا ھو اإلنسان ‪ ...‬إن‬
‫فلسفة االنتقاء أظھرت دائما وأبدا فشلھا ‪ .‬كل كلية تتسبب في طرد‬
‫‪ % 80‬من طلبتھا تثبت بھذا أنھا ال تقدر على تأدية مھمتھا إال بنسبة ‪% 20‬‬
‫والكل يعلم أن أي مؤسسة يكون مردودھا متدنيا إلى ھذه الدرجة يجب إ ّما إغالقھا‬
‫أو إعادة النظر في كيفية عملھا ‪.‬‬
‫جامعة ديموقراطية‬
‫يجب إعادة النظر في صيغة العالقات داخل الجامعة وذلك عمال بالقانون اآلتي ‪:‬‬
‫لم يعد لمفھوم الطالب من معنى ‪ :‬أنا بصفتي أستاذا جامعيا ‪ ,‬طالب و سأبقى طالبا‬
‫إلى آخر حياتي أي أنني في حاجة دائمة إلى التعلم وإال فاتني قطار العلم في ميداني‬
‫) الطب ( إذ تتجدد فيه المعلومات كل خمس سنوات بصفة كلية ‪ .‬معنى ھذا أن‬
‫مفھوم األستاذ تغير ھو أيضا تغير جذريا ‪ .‬فاألستاذ اليوم ھو من يعلّم اآلخرين كيف‬
‫يتعلمون ومن يتابع تعليمه إلى آخر يوم من أيام حياته ‪ .‬بعبارة أخرى إن تصاعد‬
‫وتعقيد وتجدد الحركة العلمية تفرض علينا أن تكون مھمتنا األولى في الجامعة‬
‫تعليم الطلبة أن يكون أساتذة أنفسھم ال إعطاء معلومات تبلى بسرعة فائقة ‪ .‬لذلك‬
‫يجب أن نعلم ابتداء من السنة األولى تقنيات البحث والتعليم المبرمج الذاتي )‬
‫‪. ( AUTOENSEIGNEMENT‬‬
‫كذلك يجب أن نعلم الطلبة العملة المشترك ألن البحث العلمي اليوم عملية جامعية‬
‫ولو تعد عملية فردية ‪ .‬فمن البديھي أن دور الشيوخ الجامعة ) ‪Les‬‬
‫‪ (mandarins‬سيتضاءل ألن أوليتھم المطلقة وتسخيرھم للجامعة لمصالحھم‬
‫الشخصية ترتكز على مغالطة ھامة ھي استيعابھم المفروض لعلم لم يعد يخضع‬

‫‪153‬‬
‫في الواقع لمحاولة احتواء من أي عقل مھما سما‪ .‬ومن ثمة يجب إعادة النظر في‬
‫دوري ومھمة المسؤول الجامعي إذ يجب أن تلغ مھمة األستاذ القار ‪ .‬أو رئيس‬
‫القسم القار المسمى إلى آخر الحياة واستبدال ھذه الوظيفة بوظيفة األستاذ المنشط‬
‫التي تتلخص مھمته في إدارة األبحاث التي تقوم بھا مجموعة من الباحثين‬
‫المتساوين في الحقوق والواجبات ‪ ,‬أي استبدال النظام الھرمي القاتل للمواھب ‪,‬‬
‫والخانق لالبتكار واإلبداع ‪ ,‬بنظام أفقي وديمقراطي يعطي لكل المواھب فرصتھا ‪.‬‬
‫جامعة البحث‬
‫يجب إعادة النظر في برامج التعليم الجامعي حتى يخضع للشروط التالية ‪:‬‬
‫‪ (1‬يجب أن تشكل الجامعة منطلقا للبحث وأن تفسح المجال للعمل الذاتي‬
‫والمبرمج ‪ ,‬أي أن تكون منطلقا لعملية التعليم الدائم الذي ال ينتھي إال‬
‫بنھاية الحياة ‪.‬‬
‫‪ (2‬يجب أن تعكس البرامج مشاغل المجتمع الحقيقية ‪ .‬مثال ‪ :‬الحظت أن‬
‫برامج الدراسة الطبية ‪ ,‬ال تفسح المجال لموضوع المعاقين ) وھم‬
‫‪ 400.000‬نسمة ( ولو ساعة واحدة ‪ ,‬بينما تخصص ساعات طويلة‬
‫ألمراض منعدمة في بلدنا ‪ ,‬أي أنه يجب اعتبار رأي المستھلكين في‬
‫برمجة الجامعة ‪.‬‬
‫‪ (3‬مردود البحث العلمي حاليا ضعيف جدا ‪ ,‬ألنه ال يخضع لتخطيط محكم يأخذ‬
‫بعين اإلعتبار حاجيات المجتمع الماسة إذ يترك المجال للمبادرات الفردية‬
‫المتفرقة والحال أننا نواجه مشاكل عويصة في شتى الميادين تتطلب‬
‫أبحاث جادة ‪ .‬ومن ثمة يجب إحداث لجنة تخطيط متعددة األطراف ‪ ,‬تق ّرر‬
‫األولويات وتوزع العمل على مؤسساتنا الجامعية ‪ .‬مثال ‪ :‬نستطيع في‬
‫ميدان األدب أن نركز األبحاث على تحديث اللغة العربية بدال من إضاعة‬
‫مواھب وسنوات طويلة في التنقيب على بعض وجوه الماضي ‪ .‬كذلك ‪,‬‬
‫يمكن أن نعھد إلى رجال الحقوق بالتركيز على قانون البحار والعالقات‬
‫الدولية‪ .‬ومن البديھي أيضا أننا سنحث األطباء في إطار ھذا العمل‬

‫‪154‬‬
‫المشترك على تتبع وترجمة كل المعلومات الحديثة وإلى توجيه أبحاثھم‬
‫إلى األمراض األكثر انتشارا في بالدنا ‪ ,‬وسنبني أبحاثنا على المعلومات‬
‫المتوفرة في السوق العلمية ‪.‬ومن ثمة تتضح أھمية التكوين مركز وطني‬
‫للمعلومات تكون مھمته جمع كل المعلومات وخزنھا في بنك المعلومات )‬
‫‪ ( Banque de données‬يستعمل العقل اإللكتروني ‪ ,‬وھو ما تحاول‬
‫كل البلدان المتقدمة خاصة في إطار الثــورة العلمــية ‪Révolution‬‬
‫)‪. (informatique‬‬
‫ھذه مالمح جامعة المستقبل نفرضھا على أنفسنا قبل أن يفرضھا علينا الواقع‬
‫والواقع ال يرحم من يتخلف عن الركب ‪.‬‬

‫من أجل نظرة موضوعيّة لمفھوم التطور‬


‫نحن ضحية سراب خداع ‪ :‬النموذج الغربي للتقدم ‪ ,‬نقيس مجتمعنا بمقياسه فنقرر‬
‫أننا متخلفون ‪ ,‬وأننا سنعد من المتقدمين يوم تربض المرسيداس أمام فيلة كل واحد‬
‫منا ‪ .‬أقول نحن ضحية سراب خادع ألننا لم نكلف أنفسنا عناء التساؤل ‪ :‬ھل ھذا‬
‫نموذج ممكن التحقيق ؟ ما ھو ثمنه الحقيقي ؟ ھل يستحق ھالة القدسية التي‬
‫نضيفھا عليه ؟ ھل من مفھوم آخر ؟ أول سؤال ‪:‬‬
‫ھل النموذج الغربي للتقدم في متناولنا ؟ ال بالطبع فقد أظھرت دراسات نادي روما‬
‫أنه لو أراد كل فرد من أفراد البشرية التمتع بمستوى العيش الغربي لما كفت موارد‬
‫األرض الطبيعية من بترول وفحم ومعادن الخ ‪...‬‬
‫ھذا ما يؤدي بنا إلى التساؤل عن ثمن التقدم الغربي وكلفته الحقيقية ؟‬
‫على الصعيد السياسي ‪:‬‬
‫حقق الغربيون الكثير من المنجزات الحضارية العظيمة بفضل عملھم ونبوغھم لكن‬
‫ارتفاع مستوى معيشتھم كان وال يزال مرتبطا باستغالل خيرات العالم ‪ :‬مثال يشكل‬

‫‪155‬‬
‫األمريكان ‪ % 6‬من سكان األرض لكنھم يستھلكون ‪ % 40‬من الطاقة ويفرضون‬
‫ھذا االستھالك المجحف بشتى أنواعه القوى ‪ :‬العسكرية‪ ,‬التكنولوجية ‪ ,‬السياسية‬
‫الخ ‪...‬‬
‫معنى ھذا أن غناھم ھو النتيجة الحتمية لفقرنا وأن ازدھارھم مبني على ضخ‬
‫خيرات العالم بأبخس ثمن ‪ .‬فال غرابة أن يعانوا من أزمة اقتصادية خانقة ابتداء من‬
‫اللحظة التي فرض عليھم تغير ميزان القوى دفع الثمن الحقيقي للخيرات التي‬
‫تعودوا على ابتزازھا ‪ .‬معنى ھذا أيضا أننا لن نستطيع التمتع بمثل رخائھم في حالة‬
‫غياب موارد كافية أو قوة عسكرية لنھب خيرات اآلخرين ‪.‬‬
‫على صعيد البيئة ‪:‬‬
‫أدت فلسفة التقدم المطرد واالستھالك المحموم إلى تدمير رأس مالنا األول أي‬
‫البيئة الطبيعية وبشكل رھيب ‪ .‬ھل تعلم أن ھناك مناطق كاملة في اليابان وأمريكا‬
‫أصبح السكن فيھا خطرا على صحة الجسم والنفس ‪ ,‬ھل يجب ويمكن االستغناء‬
‫عن المال والھواء واألشجار والبحر والوقت من أجل التمتع بآلة غسل الصحون‬
‫الكھربائية وفرشاة السنان الكھربائية ‪ ,‬والسيارة الجديدة كل ثالث سنوات ‪.‬‬
‫و على الصعيد اإلنساني ‪:‬لم يؤد ارتفاع مستوى المعيشة في الغرب إلى ارتفاع‬
‫مستوى الفضيلة أو األخالق أو السعادة ‪ ,‬بل العكس ھو الصحيح ‪ ,‬ويسعني أن أقرر‬
‫ھذا اعتماد على تجربة عشرة سنوات في مستشفياتھم ‪ .‬ففي فرنسا وحدھا يشكل‬
‫اإلدمان على الكحول‬
‫) وھو ظاھرة على وجود خلل نفساني ( آفة اجتماعية ھائلة ‪ ,‬تمتص ‪ % 40‬من‬
‫اعتمادات الصحة ‪ ,‬كما يرتفع عدد المرضى النفسيين والعقليين سنة بعد سنة )‬
‫وھو عدد يقدر بالماليين ( والسبب في ھذا الصراع المحموم المفروض على الناس‬
‫‪ ,‬وتفكك أوصال العائلة والعزلة ‪ ,‬وتكديس البشر في وحدات سكنية ضخمة ال‬
‫إنسانية ‪ .‬ھل تعلم مثال أن االنتحارات في بلد كاليابان خاصة بين الكھول والطلبة‬
‫وحتى تالمذة الثانوي تصل إلى أرقام خيالية ؟‬
‫و على الصعيد البيولوجي ‪:‬‬

‫‪156‬‬
‫تتطلب العجلة االقتصادية استھالك أكبر عدد ممكن من األيدي العاملة أوقات النمو‬
‫السريع ومن ثمة تحرر المرأة المزعوم الذي ھو في الواقع العذر البراق لرمي‬
‫النساء في أتون اإلنتاج واالستھالك ‪ ,‬أضف إلى ھذا شيوع فلسفة اللذة والتمتع وزد‬
‫عليه انتشار وسائل منع الحمل ‪ ,,‬ماذا تكون النتيجة ؟ انخفاض مھول في نسبة‬
‫الوالدات تضاف إلى ارتفاع عدد الشيوخ نظرا الرتفاع معدل الحياة والخاتمة‬
‫الحتمية ‪ :‬أمم ھرمة في ألمانيا وفرنسا مثال عاجزة عن تحديد األجيال ‪ ,‬يموت منھا‬
‫أكثر مما يولد لھا وبالتالي مھددة بشبح االضمحالل وحتى االنقراض ‪ .‬الحضارة ھنا‬
‫ھي السم في الدسم ‪.‬‬
‫‪ -5‬على صعيد الفاعلية ‪:‬‬
‫يقول ريمون ر ّويار ‪ :‬أن األمم التي سترث العالم في القرون اآلتية ستكون األمم‬
‫التي منعھا نخلفه النسبي للمعرفة االضمحالل البيولوجي من جھة وتعقيد‬
‫ق ‪ .‬لنفكر قليال ‪ :‬المجتمعات المعقدة‬
‫المجتمعات الصناعية القاتلة ‪ .‬الرجل على ح ّ‬
‫والمغالية في التقنية التي نطمح لمحاكاتھا ھي فالواقع مجتمعات حساسة للغاية أي‬
‫ضعيفة للغاية ‪.‬‬
‫مثال ‪ :‬أصيبت منطقة أمريكية تمتد على طول ‪ 500‬كلم حوالي نيويورك سنة ‪1969‬‬
‫بشلل تام النقطاع تيار الكھرباء نتيجة خلل في إحدى مولدات الطاقة ‪ .‬توقف كل‬
‫شيء ‪ .‬انھارت دعائم الحياة ‪ .‬لم يعد المواطن قادرا على االلتحاق بشقته الكائنة في‬
‫الطابق السابع والسبعين ‪.‬‬
‫فسدت األطعمة في الثالجات انقطعت األخبار ‪ ,‬مات الناس من البرد ‪ ,,‬الخ ‪.‬‬
‫تكرر نفس السيناريو مؤخرا نظرا النقطاع جزئي ومؤقت في البترول ‪ .‬الواحد منھم‬
‫ال يتحرك أربع خطوات إال بسيارته ‪ .‬أقطع عنه البترول تقطع حياته ألنه يسكن في‬
‫ضاحية بعيدة ‪ ,,‬ألنه نسي المشي ‪ ,,‬ألنه الخ ‪..‬‬
‫حساسية ھذه المجتمعات إذن ظاھرة ھامة ‪ .‬يكفي أن يضع كمشة من المخربين‬
‫ثالثة قنابل في بعض األماكن اإلستراتيجية لتتوقف العجلة ‪ .‬امنع البترول كليا عن‬
‫الغرب يموت ‪ ,‬أمنع نفس البترول على أوغندا ‪ ,,‬لن يتغير شيء ھام بالنسبة‬

‫‪157‬‬
‫لألغلبية ‪ .‬ھذا ال يعني أنني أدعو لنموذج أوغندي للتقدم لكن علينا فھم وتقدير‬
‫أبعاد ھاته الظاھرة واستخالص العبر منھا ‪ .‬ھل يجب محاكاة نموذج يكون شكله‬
‫المتقدم والمنتھي خطرا على وجودنا نفسه ؟‬
‫السؤال الذي يطرح نفسه حاليا عندما نشاھد نوعية تطورنا ھو ھل فات األوان أي‬
‫ھل تغلغل فينا النموذج الغربي للتقدم إلى درجة أنه أصبح مرضا عضاال وھل سرنا‬
‫في طريقه إلى درجة أننا وصلنا إلى نقطة الالعودة ؟‬
‫يمكن الرد إيجابيا لألسف فيما يخص بعض القطاعات ‪ .‬لنأخذ مثالين بسيطين ‪:‬‬
‫السكن والمواصالت‬
‫السكن ‪:‬‬
‫بدأنا في تكديس الناس في العمارات الشاھقة في نفس الوقت الذي اكتشف فيه‬
‫الغرب آثام ھذا النوع من السكن ‪ .‬أنا ال أجھل الدوافع االقتصادية التي ترغم على‬
‫اختيار مثل ھاته الحلول ‪ ,‬لكن ھل أدخل المسؤولون الفنيون والسياسيون في‬
‫حساباتھم الثمن اإلنساني الباھظ ‪ ,‬ھل قدروا ثمن واھية اإلرھاق العصبي الخطير‬
‫الناتج عن الضوضاء واالزدحام ؟ ھل قدروا ثمن انحراف المراھقين الذي يكثر في‬
‫مثل ھذه التجمعات الالإنسانية ؟ ھل فكروا في استحالة إيواء الجد العجوز والجدة‬
‫المريضة في عمارة بال مصعد ؟ ھل أضافوا إلى حساباتھم ثمن مآوي العجز التي‬
‫تكثر أوتوماتيكيا أين تكثر مثل ھاته العمارات باإلضافة إلى المستشفيات العقلية ‪.‬‬
‫ألم يكن الحل االقتصادي الحقيقي بناء أصغر عمارات ممكنة واعتبار عاداتنا‬
‫وتقاليدنا إبان التخطيط وخاصة التركيز على المرافق االجتماعية من البداية كالنادي‬
‫والمكتبة والحديقة ‪ ,,‬حتى ولو تطلب ھذا مساھمة المتساكنين ‪.‬‬
‫التنقل ‪:‬‬
‫أصبح التنقل داخل تونس ال يقل صعوبة عن التنقل داخل أي مدينة غريبة ولو أنه‬
‫أخطر نظرا لقلة انضباطنا وقدم السيارات التي تشكل البعض منھا توابيت متحركة ‪,‬‬
‫والنتيجة ‪ :‬إھدار طاقة ثمينة ‪ ,‬تلوث ‪ ,‬موت جسد ‪ ,‬المترجلين وتطلعھم المحموم‬
‫المتالك السيارة التي أصبحت عالمة التوفق والرجولة والنجاح االجتماعي ‪ .‬ھل‬

‫‪158‬‬
‫ھذا معقول ‪ ,‬ھل ھذا ممكن ؟ ال بالطبع ‪ .‬التطور ھنا ھو طرد السيارة من وسط‬
‫المدينة لنتنفس – حث الناس على استعمال الدراجة التي تمرن عضالت القلب‬
‫وتطيل العمر وال تلوث – تحسين وسائل النقل الجماعية وتكثيفھا – استعمال وسائل‬
‫اإلعالم لتغيير نظرة الناس للسيارة – التمھيد البطيء لالستغناء عنھا كليا يوما ما ‪.‬‬
‫ھل ھذا ھو الطريق الذي انتھجناه ؟ ال ‪ ,,‬نحن نك ّرر تجربة فاشلة ونقرر صنع‬
‫سيارة تونسية ‪.‬‬
‫من البديھي إذن أنّ إعادة النظر في اختياراتنا األساسية ومعرفة عيوب ھذا‬
‫النموذج الذي نقلّده ‪ .‬فنحن لحسن الحظ متخلفون أي أنه الزلت لدينا في الكثير من‬
‫الميادين قدرة على التراجع والتغيير‬
‫بطبيعة الحال نحن ال نتطور في جزيرة معزولة بل في إطار عالم له خاصيتان‬
‫أساسيتان ‪ :‬التقلب والخطر ‪.‬‬
‫عالم متقلب ‪:‬‬
‫لو لي أحد سنة ‪ 1969‬أنه لن تنتھي السبعينات إال وتدخل الصين الشعبية في حرب‬
‫مع فيتنام الشعبية أو أن مصر ستتحالف مع إسرائيل ضد العرب وإن نصف الشعب‬
‫الكمبودي سيباد وإن الھند ستصبح بلدا مصدرا للقمح ‪ ,‬ال تھمته بالجنون ‪ .‬حصل‬
‫كل ھذا ‪ .‬لماذا تتھموني بالتشاؤم والمبالغة إن قلت أنه من الممكن أن ال تنتھي‬
‫الثمانينات إال وتحل القوات األمريكية الخليج جزءا واسعا من السعودية – مثال ثان‬
‫‪ ) :‬بعد اطالق أيدي الروس لتدمير الصين واحتالل مندشوريا ( وإن الغرب سيعلن‬
‫حظر تصدير القمح وإن المعدل السنوي للسواح في تونس سيبلغ ‪ 24‬نفرا ‪.‬‬
‫عالم خطير ‪:‬‬
‫تبخرت األحالم العظيمة التي كنا نؤمن بھا في بداية الستينات ‪ :‬لم يقع أي تقدم في‬
‫ميدان نزع السالح – فشلت الثورات الزراعية – ازداد عدد األميين في العالم )‬
‫‪ 800‬مليون نسمة ( االحتياطي العالمي من الغذاء ال يكفي شھرا واحدا – تراجعت‬
‫الحركات الثورية – انقسم العالم االشتراكي – لم تكن في يوم ما الوحدة العربية أبعد‬
‫عن التحقيق منھا اليوم – يعاني الغرب من أزمة حضارية واقتصادية خانقة –‬

‫‪159‬‬
‫الدول تملك ما يكفي من السالح لتدمير األرض ‪ 40‬مرة – خطر الحرب يزداد يوميا‬
‫بازدياد التناقضات واستحالة فضھا بالحوار ‪.‬‬
‫من البديھي أن ھدف التطور األول في ھذا العالم المجنون ) الذي ال نتحكم في شيء‬
‫في القوى الھائلة التي تسيره ( يجب أن يكون ‪ :‬البقاء على قيد الحياة أو بعبارة‬
‫أكثر تفاءال األسرع بتحقيق المنجزات الحيوية التي ال معنى لكلمة االستقالل بدونھا‬
‫‪.‬‬
‫طبيعة ھذا العلم إذن وإمكانياتنا المتواضعة ھي التي يجب أن تملي علينا‬
‫استراتيجية مرنة للتطور وفق مفھوم موضوعي ومحلي له ‪,,‬‬
‫إنّ من واجب الحكومة إجبار المھندسين المعماريين والبلديات وأصحاب النزل‬
‫على وضع مخطط محكم ودقيق الستعمال آخر للمنشئات في حالة توقف السياحة ‪,‬‬
‫وأن ال يرخص لبناء نزل طالما لم يظھر قابليته ألن يصبح مستشفى أو إدارة أو‬
‫مأوى للعجز الخ ‪...‬‬
‫مثال ثاني ‪ :‬يجب تحديد المرافق الحيوية التي ال يمكن العيش بدونھا كالح ّد األدنى‬
‫من األدوية ) لتعلم صنعھا ( واالكتفاء الغذائي ) للتوصل إليه ( الخ ‪...‬‬
‫اكتفى بھذين المثالين البسيطين ألنني أشعر بأنني وقعت في فخ كالسيكي ھو اللعب‬
‫بالنظريات بدون احتكام كاف‬
‫للواقع ‪ .‬صحيح أنه يجب إحكام النظر في المشاكل والتكھن بكل االحتماالت ‪ ,‬ونقد‬
‫نموذج للتقدم أؤمن بفساده واستحالة تطبيقه ولكن األھم أي خلق نموذج محلي ‪,‬‬
‫عملية تفوق قدرة شخص واحد وأربعة أشخاص يجتمعون في مقھى أو ناد‬
‫ويقررون أن يجب تحقيق كذا وكذا من المشاريع فتختفي المشاكل ‪ .‬لماذا ؟ ألن على‬
‫أي نموذج للتقدم إن أراد النجاح أن يفھم من أكبر عدد ممكن من المواطنين وأن‬
‫يقبل عن قناعة وان يطبق بفضل ھاته القناعة وإال بقي المصير معلقا بين نظريات‬
‫جوفاء وتصرفات تفرضھا علينا الصدفة والضرورة وال نتحكم فيه في شيء ‪.‬‬
‫معنى ھذا أننا مطالبون بفتح حوار بناء داخل بلدنا وبتعميم الوعي لدى مواطنينا‬
‫بالمشاكل العويصة التي نتخبط فيھا أي بأسبابھا الحقيقية واالمكانيات الحقيقية‬

‫‪160‬‬
‫لتقدّم معقول بدال من الجري وراء وھج السراب ‪ .‬لكن كيف يمكن تعميم ھذا الوعي‬
‫الضروري والحيوي طالما بقيت فلسفة اإلعالم الرسمي على حالھا ‪ :‬مواقفنا‬
‫أوتوماتيكيا موفقة – مسيرتنا المباركة في تقدم حثيث – كل شيء على ما يرام ‪.‬‬
‫النقد عالمة الخيانة والعمالة ‪ .‬أقول بكل بساطة ‪ :‬الشعب التونسي ذكي بالفطرة‬
‫– نخبته المثقفة متوفرة ومن أحسن الطراز – بلدنا لحسن الحظ صغير‬ ‫والحمد‬
‫وشعبنا قليل العدد ومتجانس ) أقول لحسن الحظ ألن أسعد المجتمعات نسبيا في‬
‫العالم ھي المجتمعات الصغيرة مثل السويسرية أو النيوزلندية ( ‪.‬‬
‫واتعس المجتمعات وأصعب الدول حكما وإدارة دولة المجتمعات الكبرى وأخطر‬
‫المدن كما يثبت علم االجتماع ما زاد عدد سكانھا عن المليون ‪ ,‬كل ھاته العوامل‬
‫اإليجابية من شأنھا أن تسھل حوارا بناء بين المفكرين والسياسيين والفنيين‬
‫وعامة أفراد الشعب للتفكير في نموذج محلي للتقدم يأخذ بعين االعتبار فشل‬
‫النموذج الغربي واستحاالته وامكانياتنا في إطار العالم المعاصر وأكرر من جديد أن‬
‫على وسائل اإلعالم أن ترفع إلى مستوى الشعب أي أن ترفع من مستواھا وأالّ تزيد‬
‫الطين بلة بدعاية محمومة وال شعورية للنموذج الغربي ‪ .‬مثال أنا أكره المسلسالت‬
‫العاطفية السخيفة‬
‫) واألفالم العربية ( التي يعرضھا التلفزيون ال لسخافتھا بل ألنھا تروج وتدعو‬
‫ضمنيا إلى نوع معين للحياة لن نقدر على تحقيقه أغلبية شعبنا ‪ .‬فالبطل مثال دائما‬
‫وأبدا برجوازي صاحب فيال فخمة وسيارة أنيقة ‪ ,‬والبطلة فتاة جميلة ترتدي آخر‬
‫موديل من فساتين باريس الخ ‪ ..‬بمض ّي الوقت يتغلغل ھذا النموذج في عقول الناس‬
‫ويصبح المقياس الذين يقيسون به تقدمھم المزعوم أو تأخرھم المزعوم ‪ .‬لنفرض‬
‫أننا حققنا ھاته الصورة المفروضة ‪ ,‬سنكتشف أن النموذج الغربي باھظ الثمن ‪,‬‬
‫قليل الفعالية ‪ ,‬وأبعد ما يكون عن تحقيق السعادة ‪ .‬لنفرض اآلن و ھذا أصح‬
‫االحتمالين – أن األغلبية عجزت عن تحقيقه ووقفت دونه ‪ .‬سينتشر الشعور‬
‫العميق والمرضي بالغبن والحرمان والنقمة وكلّھا مشاعر مدمرة وخاطئة ألنھا كما‬
‫قلت تخلط بين نوع من الغنى والسعادة وبين التقدم الحقيقي وصورة مشوھة له ‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫من الممكن أن يحقق بعض اآلالف من التونسيين النموذج بما يعنيه ھذا من ارتباط‬
‫مصيري بالغرب ‪ ,‬ومن المحقق أن عددا أكبر سيقترب من الھدف بصعوبة جمة ‪,‬‬
‫لكن األغلبية ستقف دونه ضحية شعور بالغبن والقھر ‪ ,‬وخطر ھاته الحالة واضح‬
‫والسيناريو معروف وھو يكرر نفسه عبر الزمان والمكان برتابة مملة ‪:‬‬
‫ستفرض تونس الغربية مصالحھا ونمط عيشھا بالقوة على تونس المحرومة ‪ ,‬لكن‬
‫القانون يسن ‪ :‬أن األقلية ال يمكن أن تفرض نفسھا على األغلبية إال لفترة تطول أو‬
‫تقصر لكنھا مؤقتة ‪ .‬لنفرض أن تونس المحرومة أخذت مكان تونس الغربية ‪ ,‬لن‬
‫تتحقق أي معجزة إن كان الھدف ھو نفسه لم يتغير أي النموذج الغربي للتقدم وذلك‬
‫نظرا لإلست حاالت السياسية واالقتصادية ‪.‬‬
‫فالھدف الوحيد الذي يجب أن يتفق عليه كل التونسيين ليس تحقيق مجتمع القوة‬
‫واالستھالك وإنما تعزيز أمنا تونس بكل ما تحتاجه من تجھيزات متينة ودائمة‬
‫وتحقيق مجتمع يتمتع فيه الجميع بالشورى والمشاركة الالمركزية واالستعداد‬
‫للمواجھة سنوات صعبة ‪ ,‬في إطار عالم خطير متقلب ‪ ,‬مھدد كل لحظة بشبح‬
‫الحرب والمجاعة ‪.‬‬
‫يجب أن نتذكر دائما أن مصير الباخرة تونس أما أن تصل إلى المرفأ بكل ركابھا أو‬
‫أن يبتلعھا اليم بكل ركابھا أيضا ‪.‬‬
‫***‬

‫‪162‬‬
‫لماذا ستطأ األقدام العربيّة سطح الم ّريخ‬
‫قال ‪ :‬حكمك على مجتمعنا قاس إلى أبعد حدود القسوة و صارم إلى أبعد حدود‬
‫الصرامة ‪ .‬ومن ثمة فھو متجن وسلبي ‪ ,‬وأنا أفضل عليه فلسفة أجھزة أعالمنا‬
‫رغم بدائيتھا وذلك لتركيزھا على إيجابيتنا القليلة المشجعة على مواصلة العمل ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬يقول ال وتسو ‪.‬‬
‫الجھل بالحقيقة مرض‬
‫واأللم منه بداية الشفاء‬
‫أم الحكيم فال يصاب به ألنه دائم األلم‬
‫وعيبنا الدائم أننا متخلفون أي مقصرون في حق أنفسنا وحق الحضارة ‪ ,‬وھي‬
‫بداية الشفاء ‪ .‬أما فلسفة الفخر بالماضي والتطاول على الحقيقة كما تمارسھا‬
‫العقول الذليلة ‪ ,‬فھي مظھر من مظاھر التخلف الحضاري وإحدى أعراض المرض‬
‫الذي نعاني منه ‪.‬‬
‫خذھا مني قاعدة ‪ :‬إن النقد الذاتي الموضوعي الدائم ھو البديل األوحد للتحجر‬
‫والتخلف أي للجمود والموت ‪ .‬على كل ھل تعلم أنني ال أحكم على تخلفنا المزري‬
‫ووضعيتنا المأساوية من موقع المازوشية ألنني واثق أتم الثقة أنه لن تمضي مائة‬
‫عام إال وتطأ األقدام العربيّة أرض الم ّريخ ‪.‬‬
‫فغر فاه وصمت دقيقة ثم انفجر ضاحكا وانتظرت دقائق طويلة أن تھدأ قھقھته‬
‫الصاخبة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬صحيح أنك طبيب أعصاب و صدق من قال " رب طبيب يداوي الناس وھو‬
‫عليل " ثم أضاف وھو يغالب ضحكه ‪ :‬يوم يطلق الصاروخ العربي ستكون أكبر‬
‫مھزلة في تاريخ الفضاء ‪ ...‬سيتزاحم أھل الرواد لزيارة قاعة المحركات وسيلعب‬
‫الصغار باآلالت اإللكترونية ‪ ,‬سيصل قائد الصاروخ متأخرا ‪ ,‬بالطبع سيكون من‬
‫قبيلة الديكتاتور األكبر ‪ ,‬ھذا إن لم يكن ابن أخته العزيزة ‪ ,‬ستتعطل أجھزة اإلطالق‬
‫لذلك سيعطي اإلذن باإلقالع بصفارة القطار ‪...‬‬

‫‪163‬‬
‫ستتشابك األوامر وستتضارب وسيتشاجر المھندسون ويتضاربون في غرفة‬
‫العمليات ‪ .‬سيكون خطاب الدكتاتور األكبر أطول من زمن الرحلة وأخيرا سيرتفع‬
‫الصاروخ مائة متر ثم سينفجر ألن زيت المحرك مغشوش والمحرك صنعته أيد‬
‫تونسية ‪ ,‬بالطبع لن تظھر تلفزتنا إال انطالقة المائة متر األولى لتدعى في ما بعد "‬
‫أنه بوحي من القائد الملھم ونظرا ألسباب تقنية طارئة قرر العلماء والفنيون إرجاء‬
‫مسيرتنا المضفرة نحو الم ّريخ إلى قرن آخر " ‪ .‬قلت ‪ :‬كالمك أصدق دليل على ما‬
‫أقوله دائما أي أن عمق وقوة عقدة النقص المتأصلة في نفوسنا والتي نحاربھا‬
‫تارة باالستنجاد بأمجاد أجدادنا الحقيقية والوھمية وتارة أخرى بالكذب على أنفسنا‬
‫وعلى الغير ھي مكمن الداء ‪ ...‬ھاك عينة أخرى من عقدة النقص ھذه ‪ :‬أنا ال أذھب‬
‫إلى أي مكان عمومي لقضاء أبسط الحاجات إال وأواجه بمعضلة اسمھا فوض‬
‫الناس وأنانيتھم وانعدام حس المواطنة واالنضباط عندھم ‪ .‬في البلدان المتحضرة‬
‫تنتظر دورك بصبر وراء من سبقك ويمتد الصف أحيانا مائة متر ‪ .‬عندنا ھذه‬
‫القاعدة مجھولة ‪ ,‬أمام شباك التذاكر يتزاحم الناس وتمتد األيدي فوق رأسك ويكثر‬
‫الصراخ والشتم وتتبادل اللكمات في بعض األحيان ‪ .‬ھذا المنظر البشع تراه في كل‬
‫مكان ‪ ...‬في اإلدارة ‪ ...‬في المحطة ‪ ...‬أمام المسرح ‪ .‬إنه المؤشر الحقيقي على‬
‫التخلف ‪ ...‬تشعر بأن شعار القوم المثل العامي ‪ " :‬ذراعك يا عالف ‪ ...‬حوت يأكل‬
‫حوت و قليل الجھد يموت " ‪ ...‬المضحك أنك تسمع وأنت تجاھد للحفاظ على‬
‫نظارتك فوق أنفك أصواتا ترتفع تارة بالفرنسية وأغلب الوقت بلغة ھذه المدينة‬
‫الھمجية الفرانكوآراب ‪ " :‬العربي عربي يا ريان آفار " كل ھذا على مرأى ومسمع‬
‫كثيرا من األجانب كيف أصل لك مشاعري وأنا أصلي بنظرات احتقار العرب من‬
‫األجانب واحتقار العرب ألنفسھم ‪.‬‬
‫قال وقد استعاد جدّه ‪ " :‬صحيح أن ھذه الظاھرة داللة على استشراء الحاجة‬
‫والخصاصة والجھل واألنانية ‪ ,‬ومن ثمة أسألك أنّى لشعب ال يحترم الصف ‪ ,‬ويجيد‬
‫احتقار نفسه أن تطأ أقدامه أرض المريخ " ‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫قلت ‪ " :‬أول خطوة على الدرب الطويل اسمھا استعادة الثقة بالنفس وبالمستقبل‬
‫وھذا أمر في متناول أيدينا " ‪.‬‬
‫تنظر إلى وضعيتنا الحالية فتراھا مزرية ‪ ...‬الوطن العربي ساحة حرب أھلية طاحنة‬
‫ساخنة تارة وباردة أخرى ‪ ,‬واقعنا واقع التشتت والتمزق والضياع ‪ ,‬طاقاتنا‬
‫وثرواتنا تھدر على طاوالت القمار وفي ترسانات األسلحة ‪ ,‬حازة أصغر الشعوب‬
‫اإلفريقية على استقاللھا وأمتنا تنظر إلى شعب من شعوبنا يعاني عار االحتالل وال‬
‫تحرك ساكنا " وكل على كل زار وله عدو وعليه عاتب " كما يقول ابن المقفع‬
‫والحال في وطننا الصغير كما تعرف ‪ :‬تقدم سطحي وقف على طبقة تمتاز بالجشع‬
‫والصفاقة وقلة الذوق ‪ ,‬تغرب ثقافي مھول ‪ :‬تحطم وتشوه لغتنا المقدسة ‪ ,‬جھوية‬
‫عشائرية ‪،‬عمل رديء ‪ ,‬تدھور مخيف على صعيد العالقات البشرية ‪ ,‬فضاضة ‪,‬‬
‫قسوة ‪ ,‬تواكل ‪ ...‬وأنا وابن عمي على الغريب ‪ ...‬سيادة الواسطة وتراجع القانون‬
‫‪ ...‬إعالم بدائي وثقافة تعاني من كثرة الرقباء الخ ‪ ...‬الخ ‪....‬‬
‫لكن الحق أن تتساءل وإني ألمة كھذه أن تصل المريخ ‪ .‬أقول ال تنظر إلى واقعنا وال‬
‫تزنه بمقياس اللحظة ‪ ...‬ضعه في إطاره التاريخي وستتضح لك الحقيقة ‪ :‬نحن أمة‬
‫عظمى ‪ ...‬نحن أمة توحد مصيرھا يوما بعد يوم ‪ ...‬نحن أمة فتية تزخر بكل‬
‫مقومات القوة ‪ ...‬بكل إمكانيات المشي على سطح المريخ ‪.‬‬
‫* أمة تتحدي الزمن‬
‫ھذه األمة موجودة على ساحة الحضارة منذ خمسة عشرة قرنا ‪ ...‬أنظر حواليك‬
‫وقل لي عمر ھذه األمة التي تحمك الدنيا ‪ :‬روسيا ‪ :‬قرنين ‪ ..‬أمريكا ثالثة قرون ‪...‬‬
‫األمم األوروبية ‪ :‬خمسة قرون ‪ ...‬نحن مع الصينين والھنود أقدم األمم وأعرق‬
‫مجدا ‪ .‬واألھم من ھذا أننا رغم قدمنا أمة فتية ‪ ,‬شابة ‪ ,‬يافعة ‪ ,‬تتفجر دماءھا حيوية‬
‫وطموحا ‪ .‬نسبة العجائز في األمم المسيطرة ھي مقتلھم ‪ ,‬ألمانيا بلد ال تجدّد األجيال‬
‫فيه ‪ ,‬ستمر فرنسا في ظرف قرن من ‪ 50‬مليون نسمة إلى ‪ 24‬مليون فقط والرجال‬
‫كما تعرف عتاد األمم ‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫واآلن راجع تاريخ ھذه األمة العريقة ‪ ,‬الفتية ‪ ,‬ستجده خطأ متصال لم ينقطع يوما ‪,‬‬
‫وكأنه نھر عات يشق طرقه عبر الھزائم واالنتصارات نحو ھدف يفوق مداركي‬
‫ومداركك ‪.‬‬
‫أبدا التاريخ بالقرنين اللذين سبقا الھجرة ‪ :‬إنھا فترة التحفز واالستعداد ‪ .‬ھاھي‬
‫المعلقات السبعة تصھر في بوتقتھا وتصقل كما تصقل سبائك الذھب اللغة الجبارة‬
‫الممھدة لبروز الحدث األعظم ‪ .‬واآلن ھاھي فترة المجد والخلق واإلبداع تبدأ‬
‫بھجرة الراعي البدوي محمد بن عبد ﷲ القرشي ‪ ,‬لتنتھي بموت المأمون خليفة‬
‫المكتبات ‪.‬‬
‫ھاھي اآلن أمتنا تدخل في كابوس طويال يدوم عشرة قرون اسمه االنحطاط ‪ .‬ترى‬
‫ھل ستضيع مياه النھر في صحراء الزمان ‪ ,‬وھل سيجف النبع الفياض ؟ ألم يكن‬
‫ذلك مصير كثير من األمم ؟ لكن ھذه األمة من معدن غير تلك المعادن ھاھي الحياة‬
‫تدب من جديد في أصولھا ‪,‬وھاھي تزاحم من جديد لتحتل مكانا تشعر أنه خلقت‬
‫الحتالله ‪.‬‬
‫لماذا لم تمت األمة ولن تندثر كما اندثر اإلغريق والرومان والتتر ‪ ...‬أقول ألن لھا‬
‫عمودا فقريا ال يكسر ‪ ,‬واسم ھذا العمود لغة القرآن ‪.‬‬
‫الحظ عدد األخطاء والھزائم والتراجعات التي يحفل بھا تاريخھا ‪ ...‬أنھا أكثر من أن‬
‫تعدى ‪ ,‬لكن الحظ أيضا أنھا فشلت في القضاء علينا كأمة تعبر الزمن وأقول إن ھذه‬
‫النكسات والھزائم ھي المحرك الرئيسي لتاريخنا ‪ .‬تناقضاتنا ونقائصنا ھي التي‬
‫تدفع بنا إلى األمام وھذا قانون ‪ ...‬فاألمور ال تتطور إال بسلبياتھا والسلبيات ھي‬
‫محرك التاريخ ‪ ...‬بصراحة لو كانت أمتنا تتربع على قمم المجد في ھذه اللحظة‬
‫لخفت عليھا ‪ .‬فالنكسة تتبع المجد والمجد يتبع النكسة كما يتتابع الليل والنھار‬
‫والبعد والقبل ونحن أمة تتحرك ‪ ...‬بسرعة ‪ ...‬حركتھا تشنجية وأنت عندما تنظر‬
‫إليھا ال ترى إال التشنجات ‪ ...‬أضبط أعصابك وحاول تصور الحركة التاريخية بدل‬
‫التوقف والضياع في آالف التفاصيل الثانوية عد بذاكرتك إلى ثالثين سنة خلة وھي‬
‫كما ترى لحظة عابرة من تاريخ يضرب في خور الزمان ‪:‬‬

‫‪166‬‬
‫االستعمار في أرجاء الوطن ‪ ...‬أوضاع اجتماعية متعفنة إلى أقصى درجات التعفن‬
‫‪ ...‬جھل فاضح ‪ ...‬فقر مخيف ‪ ...‬مرض قاتل ‪ ...‬أترك سلبيات تجربة التقدم فقط‬
‫تحدثنا عنھا بما فيه الكفاية ‪ .‬ھل بوسعك أن تذكر حقيقة ھذا التقدم أنظر إلى انتشار‬
‫التعليم والصحة وتصاعد مقومات القوة األخرى ‪ ,‬صحيح أننا وقعنا فريسة لمرض‬
‫خطير مزمن اسمه االنحطاط وإن ھذا المرض سھل لجرثومة االستعمار وطفيليات‬
‫اإلمبريالية وفيروس الصھيونية وسرطان الديكتاتورية واإلقطاعية العمل فكانت كل‬
‫ھذه العوامل تقضي علينا كأمة تخلق الحضارات ‪ ,‬لكن ھذا اآلفات المتعددة الخبيثة‬
‫فشلت في القضاء على الجسم المتماوت ‪ ,‬ألن جسم ھذه األمة أفرز األجسام‬
‫المضادة التي شلت عمل سرطان اإلقطاع وجرثومة االستعمار والطفيليات‬
‫الصھيونية وكان ھذا التطور السريع الذي تشھده فينا وحوالينا ‪ ,‬ھل تعتقد حقا أن‬
‫ھذه الحركة العاتية المتصاعدة السرعة ستقف عند حد ‪ .‬ال أقول أننا سنصل بصفة‬
‫أوتوماتيكية إلى القمة فتزايد حركية التاريخ ظاھرة تعرفھا كل المجتمعات بدون‬
‫استثناء ‪ ,‬بل من الممكن أن نعرف في المستقبل ھزائم ونكسات أنكر مما عرفنا إلى‬
‫حد اآلن ‪ ...‬لكن ذلك لن يكون أبدا خاتمة بل منطلقا جديدا ‪ ...‬نحن ال نتعلم إال من‬
‫وبفضل أخطائنا ‪ ,‬وإن كان خطأ يدفع بنا خطوة إلى األمام ولو لم يتضح ذلك ‪.‬‬
‫أدرس ھزيمة ‪ 1947‬سترى أنھا ولدت الملحمة الناصرية ‪ ,‬وھزيمة ‪ 1967‬وسترى‬
‫أنھا ولدت المقاومة الفلسطينية وجيال عربيا جديدا في تفكيره وھزيمة ) أو نصف‬
‫نصر ( ‪ 1973‬سترى أنھا أدت إلى استيالئنا على ثرواتنا البترولية وأنھا خضخضت‬
‫الغرب ‪ .‬كل معركة تزيدنا سالما وتمرسا بفنون القتال ‪ .‬كل نكسة ‪ ,‬كل ھزيمة – فما‬
‫بالك باالنتصار يعطي لجسم األمة مزيدا من مقومات القوة والصمود ‪ ,‬وضني أنه ال‬
‫شيء قادر على الوقوف بين العمالق المتماثل لشفاء وعلى مطمح يقرر بلوغه ‪.‬‬
‫الوحدة غدا أو بعد قرن ‪:‬‬
‫من البديھي أن العربي الذي سيمشي يوما على سطح المريخ سيكون سفير كل‬
‫العربي ومن ثمة فإن إحدى شروط الرھان أن نتحد بشكل أو بآخر ‪ .‬ال تسارع‬
‫بالقھقھة من جديد واسمع رأي في الموضوع ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫نحن شعوب قبلية بالفطرة‪ .‬والء العربي لحيّه قبل أن يكون للعرش وللعرش قبل أن‬
‫يكون للقبلة ‪ ,‬وللقبيلة قبل أن يكون للشعب وللشعب قبل أن يكون ألمته ‪ .‬تاريخنا‬
‫منذ قديم تاريخ صراع قبائلنا وإن غلفناه بغالفات عقائدية ‪ .‬كم مزقنا أوصال ھذه‬
‫األمة وكم ستمزق أوصالھا من جديد كل ما سمحة لنا الفرصة ‪ .‬لم نجد إلى يومنا‬
‫ھذا حال مرضيا لمشكلة ناقة البسوس ‪ ,‬لم يجر إلى حد اآلن العمل بوقف إطالق‬
‫النار بين داحس والغبراء ‪ ...‬بصراحة أنا لم أھضم إلى ھذه اللحظة ما فعلته بكر‬
‫بتغلب وفظائع تغلب تجاه بكر ‪ .‬أما حروب الملوك الطوائف وتواطأ البعض منھم مع‬
‫ملوك قشتالة فھو جرح ينزف في ذاكرتي ولن يندمل أبدا ‪.‬‬
‫ومن أين لي اإليمان إذن بأن قدر العرب الوحدة غدا أو بعد قرن ‪ .‬أھو تكتل الشعوب‬
‫واألمم المتزايدة ؟ أھو ضرورة اختفاء الدويالت المصطنعة في إطار لعبة سياسية‬
‫لم تعدى تقدر إال األمم العظمة ؟ لكن ھذه األسباب خارجية وظرفية بينما توحيد‬
‫األمة عملية داخلية متواصلة منذ أكثر من أربعة عشر قرن ‪ ,‬اسأل التاريخ عن‬
‫العرب والوحدة وستجد الصراع على أشده طوال ھذه القرون المصيرية بين قبلية‬
‫العربي الفطرية ودعوة ذلك البدوي الفقير المسمى محمد بن عبد ﷲ القرشي باعث‬
‫ھذه األمة ومؤسسھا‪ .‬الحظ انتصارات محمد المتتابعة عبر القرون وعلى امتداد‬
‫المكان ‪ .‬قبائل متحاربة يوحدھا محمد فيخلق لحمة إمبراطورية مترامية األطراف ثم‬
‫ھي القبائل تعود إلى حروبھا التي ال تفتر وھي اإلمبراطورية تتمزق أطرافھا لكن‬
‫صوت محمد يدوي في الذاكرة العربية ‪ ...‬نكسة تتبعھا أخرى ليليھا انتصار تخلفه‬
‫ھزيمة نكراء ‪ ...‬لكن اللغة تنتشر رويدا رويدا وتتجذر في أراضي شاسعة الرقعة ‪...‬‬
‫ھاھي القبائل متحاربة تنصھر شيئا فشيئا في قالب مجموعات امتن وأصلب عودا ‪:‬‬
‫الشعوب العربية ‪ ...‬واآلن ھاھي الشعوب التي ھضمت القبائل تتقارب فتتنافر ‪...‬‬
‫إنھا نكسات جديدة لكن محمد لھا بالمرصاد ‪ ...‬ھا ھو الوعي القومي يتسلل إلى‬
‫الشعور الجماعي كسارق ليل وكم ضحكوا منه وكم سخروا وھم أھل القبلية‬
‫والشعوبية ‪ " :‬أضف صفرا إلى صفر يكون الحاصل صفرا" لكن األصفار وكأن‬
‫شيء قاھرا يدفعھا تتقارب ولو كان ذلك رغم عنھا ‪ .‬إنھا قوة التاريخ ‪ ...‬إنه دفع‬

‫‪168‬‬
‫حركة ذلك الذي رفض أن يقايض بدعوته ولو وضعوا الشمس يمينه والقمر شماله‬
‫‪ ...‬واآلن ھاھي مالمح الوحدة الكبرى تتضح ‪ :‬تطالب مصالح مشتركة لغة واحدة‬
‫واألھم من ھذا أماني وطموحات واحدة وضغط ھذا العالم الذي يضع الخيار أمامنا ‪:‬‬
‫أن نتحد أو ال نكون ‪ .‬تنظر إلى ھذا االجتماعات العقيمة وتسمع إذاعتنا البلھاء ‪:‬‬
‫تقابل الرئيس زيد مع عمرو واتفق على قيام وحدة شاملة وفورية ومدروسة ‪,‬‬
‫ويتمخض الجبل فيرد خطابا ويسدل الستار على مھزلة أخرى من مھازل العرب ‪.‬‬
‫عندئذ تصاب بخيبة أمل وتقرر أنه ال خير ينتظر من ھؤالء الناس ‪ .‬منا كلنا ‪.‬‬
‫وتصب جام غضبك على رأسي ورأسك ‪ ...‬ويعز عليا أن تغضب وأن تيئس ألن‬
‫غضبك ويأسك ھو غضب األمة التي تتلھف وتتحرق شوقا إلى يوم يتحقق فيه‬
‫برنامج محمد ‪ .‬لكني أقول لك ‪ :‬ال تخاط بين الزبد والبحر وال تتعجل ‪ ...‬فمحمد‬
‫بالمرصاد ‪ .‬ھو يمھد لھذه األمة منذ أربعة عشر قرن ونحن على الدرب سائرون ‪.‬‬
‫ليجتمعوا‪ ,‬ليقرروا‪ ,‬ليتشاجروا ‪ ,‬ليخطبوا ما طاب لھم ‪ .‬ھم أيضا مثلي ومثلك تماما‬
‫‪ .‬حملة آمال ھذه األمة وعيوبھا ‪ .‬ويوم تتغلب آمالنا على عيوبنا أي يوم ننضج‬
‫سينضجون ھم أيضا يتعلمون من أخطائھم ثم ال ننس أن الوحدة ليست دولة أو‬
‫ھيكال سياسيا ‪.‬ھي أھم واشمل واعمق من ھذا ‪ .‬يوم صدرت أول جريدة عربية في‬
‫القاھرة ليقرأھا أھل بيروت وبغداد كان ذلك أول مسمار في نعش القبلية ‪ ,‬ويوم‬
‫يتمركز القمر الصناعي العربي فوق أرض الوطن لينقل برامجنا التلفزية ) على‬
‫غبائھا ( سنتقدم على درب الوحدة خطوة أخرى وھكذا إلى أن تطأ أقدامنا أرض‬
‫المريخ ‪ ...‬نعم الوحدة قدرنا غدا أو بعد قرن ‪...‬‬
‫من البديھي أن أمة تتحدى الزمن وتوحد قواھا بدون كلل أو فترو منذ أربعة عشرة‬
‫قرن ال يمكن أن تتمخض إال عن قوة جبارة تكون طموحاتھا في مستوى تلك القوة‬
‫الھائلة التي تنضح بھا ‪ ,‬وفي مستوى الطموحات التي حددھا لھا محمد بن عبدا ﷲ‬
‫القرشي ‪ .‬لقد طال غيابنا عن العلم ‪ :‬ھم في مخابر الغرب يدرسون النجوم‬
‫والكواكب ‪ ,‬ويدرسون أسرار المادة‪ ,‬ويتتبعون كل ألغاز الكون أكانت في أعماق‬
‫البحار ‪ ,‬أو في قلب المجرات البعيدة عنا بمليارات الكيلومترات ‪ ,‬ھم ينقبون عن سر‬

‫‪169‬‬
‫الحياة في قلب الخلية ‪ ,‬وفي نواة الشمس ‪ ,‬وألنھم قوة فكرية ضاربة غزوا العالم‬
‫وملئوا الفضاء بأقمارھم الصناعية ‪ ,‬ألنھم قوة ضاربة مشوا على سطح القمر ‪,‬‬
‫والعالم اليوم في بداية التاريخ ‪ ,‬واإلمكانيات المتوفرة للبشرية تفوق كل مداركنا‬
‫وكل أحالمنا المجنونة ‪ .‬من كان يتصور منذ قرن أننا سنعبر المحيطات على متن‬
‫طائرات بسرعة ألف كيلومتر في الساعة أو أن إنسانا سيمشي على سطح القمر ‪,‬‬
‫من سيستطيع اليوم التجاسر على تكذيب أولئك الذين يتنبئون بأننا سنبني‬
‫المستعمرات في القمر ‪ ,‬أننا سنزرع المريخ وعطار والمشتري ‪ ,‬أننا سنجعل من‬
‫الصحاري أراض زراعية ‪ ,‬أننا سننتج كل الخيرات في أعماق البحار ‪ ...‬وھذه األمة‬
‫العظمى التي فاتھا ركب الحضارة قرونا طويلة ستساھم في المجھودات الجبارة ‪...‬‬
‫ستمسك من جديد بمشعل الحضارة ليضئ طريق اإلنسانية ‪.‬‬
‫لذلك أقول أن قدر ھذه األمة أن تحقق جزءا من ھذه األحالم المجنونة التي ستصبح‬
‫غدا واقع أحفادنا ‪ .‬نعم ستزرع ھذه األمة الصحراء ‪ ,‬ستحرث البحر وستبني‬
‫كاتدرائيات للعلم ‪ ,‬وستمخر أساطيلھا الفضاء ولذلك سيمشي بكل بساطة أحد‬
‫روادھا يوما على سطح المريخ ‪..‬‬
‫قال وقد استعاد من جديته ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تھذي ‪ ...‬تخلط بين أحالمك وبين الواقع ‪ ...‬أحمد ﷲ أن أحدا ال يسمع‬
‫و إال اتھمت بالسكر والجنون ‪.‬‬
‫‪ -‬قلت ‪ :‬أنا واع ما في تقريري بأنه لن يمضي قرن قبل أن تطأ األقدام‬
‫العربية أرض المريخ من إثارة وغرابة بل من وقاحة إذا نحن اعتبرنا‬
‫حالتنا المزرية ‪ .‬لكنني خالفا لك واع بأن ھذه الحالة ھي نقطة في خط بدأ‬
‫منذ أربعة عشر قرن وقد ال ينتھي إال بنھاية البشرية نفسھا ‪ .‬تعال‬
‫نستعرض موضوعيا األربع اإلمكانيات التي يمكن أن يتمخض عنھا‬
‫المستقبل ‪.‬‬
‫‪ -1‬يمكن أن تبقى دار لقمان على حالھا ‪ :‬تخلف ‪ ,‬تشتت ‪ ,‬تبعية‬
‫حضارية ‪ ,‬اتساع عمق الھوة التي تفصل بيننا وبين األمم‬

‫‪170‬‬
‫الخالقة مع بعض التحسينات الجزئية ھنا وھناك التي لن تغير‬
‫شيئا من معادلة سعد زغلول ‪ :‬صفر ‪ +‬صفر ‪ +‬صفر = صفر ‪.‬‬
‫‪ -2‬يمكن أن تزداد األوضاع تدھورا كأن ندخل في حروب أھلية‬
‫تلوح مالمح البعض منھا في حين وصلت بعضھا إلى حيز‬
‫التنفيذ ومن ثمة يزداد ضعفنا وتزداد تبعيتنا ‪ ,‬بل من الممكن أن‬
‫يعاد استعمارنا من جديد في إطار حرب عالمية مثال ‪.‬‬
‫‪ -3‬يمكن أن يقلب عامل مجھول كل حساباتنا ومخططاتنا ‪ .‬مثال ‪:‬‬
‫نزول أھل الكواكب على سطح األرض‪ ,‬حدوث تغييرات جذرية‬
‫في الطقس ‪ ,‬نشوب حرب نووية ماحقة والبقية أتركھا لمخيلتك‬
‫الخصبة ‪.‬‬
‫‪ -4‬يمكن أن تتمخض آالم الوضع التي تعاني منھا أمتنا عن دولة‬
‫فيدرالية مھابة تضمن للشعوب إدارة شؤونھا بنفس مع توحيد‬
‫الجھود في إطار خطة متناسقة للتنمية االقتصادية والعلمية‬
‫تضع األمة في ظرف قرن في مصاف األمم األولى فيرفرف العلم‬
‫العربي على قمة جبل اإلفريست وعلى سطح الكواكب في الوقت‬
‫الذي ترصد مراقب جبارة في القطبين حركات النجوم ‪ ,‬وتعمل‬
‫فيه الجزر العائمة في قلب المحيطات الستخراج ما نحتاجه من‬
‫معادن وأدوية وغذاء ‪.‬‬
‫تسأل ومن أين لي العلم بأن ھذه الفرضية األخيرة ھي التي ستتحقق ‪ .‬أقول ‪ :‬أنا ال‬
‫أعلم إنما أتكھن ‪ .‬الفرضية األولى مرفوضة بطبيعة الحال ألن المستقبل ليس‬
‫امتدادا للماضي ومن ثمة يستحيل أن تبقي دار لقمان على حالھا ‪ .‬لو آمنت بھذه‬
‫الفرضية ال كنت كجدلك يتنبأ وھو في نھاية القرن التاسع عشر أن أمور العرب‬
‫ستبقى على ما ھي عليه أو أن أقصى ما يمكن انتظار ھو أن يھدي ﷲ الخليفة‬
‫العثماني فبصلح أمور الرعية ويعم الرخاء أرجاء الخالفة ويمتلك كل عربي قطعانا‬
‫كاملة من الجمال ‪ .‬تقول ومن أدراك بأننا لن نعرف نكسات ھائلة في إطار حروب‬

‫‪171‬‬
‫رھيبة ‪ .‬أقول االحتمال ممكن لكن ھذه النكسات حتى في إطار حرب نووية لن تزيل‬
‫الحضارة وال األمة كما يتصور البعض ‪ .‬كل ما في األمر سترجئ عملية المشي على‬
‫سطح المريخ قرنا آخر ‪ .‬أما دور العامل المجھول صعب التقدير وقد لن يلعب دورا‬
‫أخطر من دور الحرب النووية ‪ ,‬تبقى إذن الفرضية الرابعة ‪ ,‬وھي أمتن الفرضيات‬
‫على اإلطالق ‪ .‬بطبيعة الحال أنا ال أجزم بأنھا ستصدق وإنما أراھن على جديتھا‬
‫ومعقوليتھا ‪ .‬وأقول إن حظوظ تحقيقھا كبيرة جدا ومن ثمة يمكن ترجيح نجاحھا‬
‫على بقية الفرضيات األخرى ‪ .‬سيكون المشي إنسان عربيا على سطح المريخ‬
‫معجزة خاصة إذا اعتبرنا خصائصه في نھاية القرن العشرين ‪ .‬فھو كما تعلم إنسان‬
‫خيالي العقلية ‪ ,‬رديء العمل ‪ ,‬يجھل أنه يجھل ‪ ,‬عديم االنضباط كثير الفوضى‪ ,‬لكن‬
‫تحقق المعجزات ھو القانون العام واألوحد في الكون ‪ ,‬فھذا اإلنسان الذي يحتقره‬
‫الكل الذي يئس من نفسه إلى درجة أنه أصبح يؤمن بأنه أھل للتحقير ‪ ,‬زاخر بكل‬
‫المقومات التي تخلق المعجزات ‪ .‬نعم سيصبح العربي علماني العقلية ‪ ,‬كثير اإلنتاج‬
‫يعلم أنه يجھل دقيق العمل ‪ .‬منضبطا إلى أقصى درجات االنضباط وستطأ قدماه‬
‫أرض المريخ ‪.‬‬
‫وأركز من جديد ‪ .‬سيكون ھذا ألن تحقق المعجزات قانون من قوانين عمل الكون ‪.‬‬
‫عد بذاكرتك أو على وجه التدقيق بمخيلتك إلى بداية مغامرة الحياة أكنت تراھن‬
‫على أن تلك الخاليا البدائية المنسية على ضفاف المحيط ستتمخض عن شجرة‬
‫الحياة الباسقة التي يشكل اإلنسان خصنا من أغصانھا الوارفة ‪ .‬واآلن ھاھو‬
‫اإلنسان البدائي ‪ .‬أكنت تراھن على أنه سيروض السباع والفيلة وأنه بأنيابه‬
‫وأظافره تلك سيصبح سيد األرض ؟ أنظر ھاھي قريش قبيلة عربية مغمورة تعيش‬
‫في ظل اإلمبراطوريات العظمى ‪ .‬أكنت تراھن على أنھا سنغلب قيصر وكسرى وأنھا‬
‫ستبني مسجد قرطبة وأنھا ستنجب يوما ابن عربي والحالج وابن خلدون واآلن‬
‫ھاھو اإلنسان العربي يرفل في التخلف الفكري والمادي ‪ .‬ال تتوقف عند المظاھر‬
‫وال تنسى امتداد وعمق تجربته عبر التاريخ ‪ .‬آلمك وآلمي من وضعيتنا المزرية ‪,‬‬
‫مراجعتنا الصارمة ألنفسنا ‪ ,‬األحالم الغامضة التي تراود مخيالت وعقول شبابنا ‪,‬‬

‫‪172‬‬
‫ھذه الحركات العنيفة التشنجية التي تشھدھا مجتمعاتنا ال تعبر عن شيء وال تھدف‬
‫إلى شيء آخر غير تحقيق المعجزات لذلك أقول بمنتھى الج ّد ‪ :‬لن يمضي قرن إال‬
‫وتطأ األقدام العربية أرض المريخ ‪.‬‬
‫قال ماطّا شفتيه ‪ :‬سفسطة ‪ ,‬ونحن العرب أبطال أولمبيون في فن الكالم قلت غير‬
‫مكترث بمسحة الكآبة التي مرت على وجھه فجأة ‪ :‬ھل تعلم أنني قد بدأت أخطط‬
‫للرحلة ‪.‬‬
‫قال ضاحكا وقد استعاد مرحه فجأة ‪:‬‬
‫‪ -‬أعرفك متطفال على الدب والفكر ولكنني لم أفكر يوما انك ستقحم أنفك حتى في‬
‫ھندسة الصواريخ ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬بناء الصواريخ أسھل ما في العملية ‪ ,‬وستوكل األمة بالمھمة ألبنائھا‬
‫المتخصصين في الميدان في الوقت المناسب‪ .‬تعال نتحدث على األھم من البديھي‬
‫أن المشي على سطح المريخ ليس ھدفا في حد ذاته وإن األمة لن تتخذه ھدفا إال‬
‫وتوحدھا وسيطرتھا من جديد على عالم‬
‫ّ‬ ‫ألنه سيكون الدليل والمؤشر على تقدّمھا‬
‫العلم والتكنولوجيا ‪ ,‬من البديھي كذلك أن اإلنسان العربي الذي سيحقق المعجزة‬
‫سيكون مختلفا عنا اختالفنا عن أجدادنا ‪ ,‬ومن ثمة تفھم أن نقطة البداية التي‬
‫ستنطلق منھا المغامرة تتطلب إعادة صياغة اإلنسان العربي ‪ .‬قد يبدو لك األمر‬
‫مستحيال ‪ ,‬لكنه أبسط مما تظن ‪ .‬رحلة األلف ميل تبدأ بخطوة والخطوة األولى ھي‬
‫استعادة ثقتنا بأنفسنا وأولى عالمات ھذه الثقة أن نكف عن الشدّق بأمجاد األجداد‬
‫أو أن نلقي تبعية تخلفنا على ھذا أو ذاك ‪ ,‬بل أن نحكم على أنفسنا وواقعنا بأقصى‬
‫التجرد والموضوعية لكي نتعلم من أخطائنا ولكي نتقدم بفضلھا‪ .‬ثاني خطوة ‪:‬‬
‫خاصية العمل العربي ‪ :‬التخلف الرداءة ‪ .‬والمشي على سطح المريخ لن يكون إال‬
‫في متناول شعب يحب العمل ويتقنه ‪ .‬أتقن عملك أيا كان وسنتقدم ‪ .‬ثالث خطوة‪:‬‬
‫تھيئة الجيل الجديد لكي يكون جيل العلم والتكنولوجيا ال جيل الكتب الصفراء‬
‫والعقائد المتحجرة التي خدرت عقول أجدادنا ‪ .‬بطبيعة الحال يجب اعتماد كل‬
‫الوسائل لبلوغ ھذا الھدف وأنا قررت أن أضيف حبة رمل أخرى إلى الھرم الذي ما‬

‫‪173‬‬
‫انفكت ھذه األمة وھذه مساھمتي المتواضعة أقص عليك فصال منھا ‪ .‬قلت في نفسي‬
‫يوما ‪ :‬ھذه الكتب التي يقرأھا صغارنا ال تترجم إال للعقلية الخيالية المتخلفة ونحن‬
‫بحاجة غدا إلى غير ھذا ‪ ,‬اتصلت بناشر شاب وعرضت عليه فكرة سلسلة تحبّب‬
‫العلوم لألطفال وخاصة علوم الفضاء ‪.‬‬
‫قال الناشر في أول لقاء لنا‪ :‬فكرة عظيمة ‪ .‬تبدأ بكتابة قصة الطب لألطفال ‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫ويكون ثاني كتاب عن الكون ‪ ,‬عن تكنولوجيا الصواريخ ‪ ,‬عن غزو الفضائي ‪ ,‬قال‬
‫الناشر ‪ :‬ويكون كتابك عن الطب في عشرين صفحة ملونة ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ونقص في الكتاب قصة طفل أمريكي اسمه نايل أرموسترونغ يحلم بالمشي‬
‫على سطح القمر ويضحك منه أھله وزمالؤه ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وتسلمه لي في ظرف ثالثة أشھر ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ونظھر كيف أن نايل لم يكن يعيش في دولة متحاربة مع جارتھا بل في بلد‬
‫عظيم ألنه متحد يعطي األثرياء فيه ثرواتھم للجامعات وتعتبر الدولة فيه العلم‬
‫سالحا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يجب التفكير في تغيير العنوان ‪.‬‬
‫حب نايل للعمل اليدوي ولكل أنواع التكنولوجيا ثم‬
‫قلت ‪ :‬ثم نبرز في السيناريو ّ‬
‫ولعه بالبحث العلمي وجسارته وھو يركب الصاروخ في اتجاه القمر ‪ .‬إنه نوع من‬
‫األبطال الذي يجب أن يحاول أطفالنا التشبه به ‪ ,‬يكفي من عنترة بن شداد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ستقبض عشرة في المائة خمسة عند تسليم النص والبقية على عشرين سنة‬
‫‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وأنا أودعه ‪ :‬آخر لوحة ستكون عن نايل وھو يرفع العلم األمريكي على‬
‫أرض القمر ‪ ,‬وننھي الكتاب بصورة ضخمة للمريخ مع تعليق من نوع ‪ :‬أي علم‬
‫سيرفع يوما على ھذا الكوكب ؟‬
‫وتركت اليوم ذلك الناشر لمشاريعه ‪ .‬خرجت من عنده وفي مخيلتي آالف من‬
‫الصور المضطربة المجنونة ‪ .‬فجأة انفجرت ضاحكا والمدينة الھمجية تلطمني‬
‫بمظاھر تخلفھا وفوضاھا ورداءة عملھا ‪ .‬كان صوت شيطاني يسري في آذني ‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫ھؤالء على المريخ ‪ ...‬يوم " ينھق البھيم في البحر " ‪ ,‬ولم أستمع إلى صوت‬
‫شيطاني و أسكتت ضحكي و أنا اردد بثقة و طمأنينة أبيات شاعري المفضل إيليا‬
‫أبو ماضي ‪:‬‬
‫نضيء به الدنيا و نمألھا حمدا‬ ‫إذا األمس لم يرجع فإن لنا غـــــدا‬
‫و تنشرنا في الفجر أنسامه ندا‬ ‫وتلبسنا في الليل آفاقه سنـــــــــى‬
‫و تخفي ولكن ليس تبلى و ال تصدّى‬ ‫فإن نفوس العرب كالشھب تنطوي‬

‫***‬

‫‪175‬‬
‫ردود القراء‬
‫التخــــلـف بالـــنسبــة لمــاذا ؟‬

‫ن‪ .‬و‪.‬‬

‫ھذا السؤال الذي كان طرحه الدكتور المرزوقي للنقاش وإبداء الرأي ‪ ,‬أثار عدة‬
‫ردود وبالتالي فقط حرك بعض األفكار للتالقح والتفاعل والخروج بالفائدة المرجوة‬
‫من وراء ذلك أال وھي تشخيص األسباب الحقيقية لھذا الداء الذي ينخر المجتمعات‬
‫وإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجته ‪.‬‬
‫وقد ذھب أكثر المتكلمين في ھذا الموضوع إلى استعراض مظاھر التخلف عندنا‬
‫معتمدين في ذلك على مقارنة أوضاعنا الحالية بأوضاع المجتمعات الغربية الراقية‬
‫والمتحضرة في نظرھم ‪ .‬وھذا النقد الذاتي يعتبر إيجابيا إلى حد ما يصلح بدوره‬
‫منطلقا لتعمق أكثر في الموضوع وزيادة سبر أغواره ‪.‬‬
‫والشيء الذي أريد أن أتطرق إليه عالوة عن سرد مظاھر التخلف التي نالحظ في‬
‫حياتنا اليومية ‪ ,‬ھو مدى إدراكنا لحقيقة ھذا التخلف الذي نسعى إلزالته أو باألحرى‬
‫مفھومنا الصحيح للرقي وللحضارة التي ننشدھا ‪.‬‬
‫فإن كانت الحضارة المنشودة ما ھي عليه اليوم المجتمعات الغربية بدون تمييز بين‬
‫الغث والسمين ‪ ,‬فإن ذلك يدعو على األقل إلى بعض الجدل حول سالمة ھذا المفھوم‬
‫‪ ,‬بل أني أذھب إلى أكثر من ذلك والقول بأن سعينا لھا سيبوء بالفشل ألن ما ننشده‬
‫سيكون ھباء منثورا ‪ ,‬وما ھذا التقدم والرقي إال أعراض مدنية زائلة قوامھا‬
‫التطور العلمي المادي البحث سينتھي بھا حتما إلى االندثار مثلما باءت من قبلھا كل‬
‫الحضارات التي سادت ‪.‬‬
‫أما إذا كنا ننشد حضارة حقيقة يمكن أن نضمن لھا الديمومة والنجاح فعلينا أن‬
‫نعتبر بأخطاء غيرنا من قدامى وجدد وننظر في التاريخ ونتعلم منه كيف نشيد‬

‫‪176‬‬
‫حضارة خالدة ‪ .‬فقد علمنا التاريخ أنه ال دوام لحضارة قوامھا الجانب الروحي أو‬
‫المادي فحسب ‪ ,‬وال بقاء ألحدھما ما لم يقع شد أزره باآلخر ‪ .‬فكم من حضارة زالت‬
‫بسببي تھاون مشيديھا بالجانب الروحي منھا ‪ ,‬وانصرافھم إلى اللھو والمجون ‪,‬‬
‫وارتكابھم لألثام والظلم والجور والتعسف والرذيلة ! وكم من حضارة شابت بسبب‬
‫عزوف أھلھا عن الجد والعمل وزھدھم في العلم واستكانتھم إلى األقدار وخوفھم‬
‫من التجديد! إنھما شيئان متكامالن ‪ :‬الروح والمادة عليھما جبل اإلنسان منذ خلق ‪,‬‬
‫وإلى األبد يالزمانه ‪ ,‬وال يمكن له االستغناء بأحدھما عن اآلخر ‪ ,‬وھو – كلما فرط‬
‫في أحدھما ‪ ,‬إال وتداعى معه اآلخر للسقوط ‪.‬‬
‫ذلك ھو شـأن الحضارة البشرية ‪ .‬ال تكون إال بمسيرة جماعية لكل البشر ونھضة‬
‫روحية ومادية مزدوجة ‪ .‬والحضارة الغربية المعاصرة – كما ھو واضح – مبنية‬
‫على شقا واحد ھو الجاني المادي الذي بلغ أعلى درجات الكمال ‪ ,‬أما الجانب‬
‫الروحي فھو يتردى في الحضيض ويھدد شقيقه باالنھيار ‪ ,‬لذلك فإن مآل ھاته‬
‫الحضارة لن يخرج عن المألوف وسينفذ فيھا قانون الحياة وسنة ﷲ في خلقه "‬
‫ولن تجد لسنة ﷲ بديال " ‪.‬‬
‫فكيف نتصور حضارة إنسانية وصلت فيھا مقدمة الركب بالعلم والعمل إلى غزو‬
‫الكواكب والبحار وتسخير جميع قوى الطبيعة في حين أن ال ِمؤخرة مازالت تعيش‬
‫في األدغال عيشة بدائية مع الوحوش ؟‬
‫تصوروا قطار يحمل مسافرين أوله في نيويورك ‪ ,‬وآخره في مجاھل إفريقيا وآسيا‬
‫‪ ,‬من يضمن له السالم ؟‬
‫أي رباط مقدس يجمع بين ھؤالء ليواصل القطار سيره ‪.‬‬
‫‪ -‬أية حضارة ھاته التي فيھا اإلنسان ينفق في يومه آالف الدوالرات في‬
‫الترفه والبذخ ‪ ,‬وإنسان آخر يموت جوعا وعريا !‬
‫‪ -‬أية حضارة ھاته التي يدوس فيھا الكبار الصغار ‪ ,‬ويجرونھم وراءھم جرا‬
‫ويجلدونھم جلدا ‪ ,‬وقلوب الصغار تقطر حقدا وكراھية ودما !‬

‫‪177‬‬
‫‪ -‬أية حضارة ھاته يتربص فيھا الكبار ببعضھم وال يتورعون في سبيل ما‬
‫ربھم ونزواتھم عن إفناء العالم كله ؟‬
‫‪ -‬أية حضارة ھاته المبنية على براكين الدمار والخراب !‬
‫‪ -‬أية حضارة ھاته التي نتھافت عليھا ونسعى لھا بكل جھودنا بدعوى‬
‫العمل على الخروج من التخلف ! وأي تخلف أكبر من التخلف الروحي‬
‫الذي أصيبت به الشعوب المتقدمة ؟ وأي ويل على اإلنسانية من ويالت‬
‫الحضارة الغربية ؟‬
‫صحيح أننا متخلفون ‪ :‬ومظاھر تخلفنا تتمثل في فقرنا وجھلنا وأمراضنا ‪ ,‬ولكن ‪,‬‬
‫أو ليس من التخلف أيضا أن ينعم إنسان بأرغد العيش في حين أن جاره يئن الجوع‬
‫والبرد ؟‬
‫من التخلف أن يبقى اإلنسان جاھال أميا أو شريرا متشردا ‪ ,‬ولكنه من أكبر التخلف‬
‫كذلك أن يكون إنسان عالما ومثقفا أو فاضال ومؤدبا في حين أن صاحبه يشكو‬
‫الجھل واالمية أو متھما في سيرته وأخالقه ! أو ليس الطبيب الذي امتنع عن‬
‫العالج أو ھجر البلد طمعا في زيادة الكسب أكثر تخلفا من المرضى الذين لم يجدوا‬
‫من ينصحھم بالحمية ويعالجھم بالدواء ؟‬
‫ففي من تكمن العلة إذن ؟‬
‫من ھنا يتبين أن التخلف الحقيقي إنما ھو في العقليات وطريقة التفكير عند جميع‬
‫فئات البشر وأن التقدم الصحيح يجب أن يكون مبنيا على تفكير سليم ومجرد وروح‬
‫أخالقية عالية تنبذ األنانية وحب الھيمنة والمصالح الشخصية ‪ ,‬وتعتمد نكران الذات‬
‫وخدمة الغير والعمل على إسعاد اإلنسان في نطاق مجتمعه الصغير وكذلك في نطاق‬
‫مجتمعه الكبير ألن في ذلك عمال على صون الذات وتأمينا على النفس ‪.‬‬
‫أما إذا كنا ننشد الحضارة بصورة عشوائية ديننا في ذلك التقليد العمى واالنسياق‬
‫وراء المصالح الجاھزة وعدم اعتبار من حولنا ودوس قيمنا ‪ ,‬فسيكون مآلنا‬
‫الرجوع إلى الحيوانية والجاھلية األولى ‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫والرقي المادي ليس بعسير إذا توفرت األرضية الروحية الطيبة وأخذنا بأسباب‬
‫الحضارة الحقيقية ألن المجتمع سيتقدم آليا من الناحية المادية عندما يصبح متشبعا‬
‫بھاته الروح ‪:‬‬
‫األغنياء فيه " يؤثرون على أنفسھم ولو كان بھم خصاصة "‬
‫والفقراء فيه " يحسبھم الجاھل أغنياء من التعفف " و " ال يسألون الناس الحافا‬
‫"‪.‬‬
‫والعامة فيه " يأمرون بالمعروف وينھون عن المنكر " ‪.‬‬
‫وولي األمر فيه " خليفة في األرض يحكم بين الناس بالحق وال يتبع الھوى " ‪.‬‬

‫العـــــــــرب متخـــــلفـــــــون ‪...‬‬


‫ألن األنظــــــــــــــمة السيــــــــاسية متخـــــــلفــــة !‬
‫ابن‬
‫السباسب‬

‫شارك عدد من األخوة في الحوار الذي اقترحه المنصف المرزوقي وابرزوا عينات‬
‫من الواقع المتعفن ‪ .‬وإن كنت ال أشك في مصداقية تلك العينات ‪ ,‬أرى أن الشعوب‬
‫العربية شاعرة بالداء وبمواطنه وإن حاولت األنظمة إخفاء ذلك باطراد بإبرازھا‬
‫للواقع كجنة متوازنة تنمو ‪ .‬والشعوب العربية لم تحرك ساكنا ألسباب عديدة‬
‫سأعود إليھا من خالل مالحظاتي ھذه ‪.‬‬
‫وتصحيحا لمسار الحوار أعتقد أن الواجب يحتم وضع النقاط على الحروف واعطاء‬
‫كل ذي حق حقه ‪ .‬إذ أنه من غريب اإلدعاء بأن األنظمة العربية متخلفة ألن‬
‫الجماھير متخلفة ‪ .‬فالقيادة تعتبر من النخبة والنخبة اقرب إلى الحقيقة والكمال من‬
‫عامة الناس ‪ .‬وإنه لمن الدمغجة أن يدعي البعض إمكانية اإلصالح االجتماعي‬
‫والمدني من ناحية وتجاھل الجانب السياسي ‪ .‬ولنفرض أن الجماھير انضبطت‬
‫وقنعت بأنھا طبقة أكلت البيض ودقيق الذرة ‪ .‬فھل سنلحق عندئذ بالركب الحضاري‬

‫‪179‬‬
‫؟ ألن يدفع ذلك األنظمة للتمسك بسياساتھا الوھنة والمريضة ؟ عمال بالمثل القائل ‪:‬‬
‫" السكوت عالمة الرضى " وحتى ال أشھد شھادة زور أقول ‪ :‬أن األنظمة تحتكر‬
‫النفوذ وتتبنى السياسات في جميع الميادين وھي بالتالي المسؤولة بالدرجة األولى‬
‫عن فشل تلك السياسات ‪ .‬ثم من المسؤول عن الفوضى والمحسوبية وعمليات‬
‫االرتشاء والنھب التي تسود اإلدارات المؤسسات اليوم ؟‬
‫ولو ألقينا نظرة على شؤون الوطن العربي ‪ ,‬لنبھنا الواقع إلى وجود أنظمة تعمل‬
‫على خلق األزمات لتلھية الجماھير عن قضاياھا المصيرية ‪ .‬وھي تغذي الصراعات‬
‫داخل بوتقة حكمھا وبين ھذه األخيرة وبقية األنظمة العربية مما أدى بالمجتمعات‬
‫العربية إلى االنحالل ‪ .‬فال عالقات زوجية أ‪ ,‬رحمية تربط بين أفرادھا وال حتى‬
‫عالقات مصلحيّة موضوعية ‪ .‬وأصبح ھمھا الوحيد التھافت على الكسب بأيسر‬
‫السبل وأوضع الوسائل ‪ .‬فأين نحن اليوم من الحديث ‪ " :‬وإنما األمم األخالق " ؟‬
‫‪ ...‬وننسى أنھم تالمذة ألسوأ أساتذة ‪ .‬يأخذون يوميا عن القيادات دروسا مثالية‬
‫في التناحر والتطاحن واستعمال أوضع الوسائل كالنميمة والغش والمغالطة‬
‫والتعسف كل ذلك في سبيل الحفاظ على المواطن النفوذ ‪ .‬ألم تتتلمذ الجماھير عن‬
‫وسائل اإلعالم التي تفرض على السوق االطمئنان إلى البضائع الثقافية واإلعالمية‬
‫المتعفنة والوضعية ؟‬
‫انحمل عامة الناس المسؤولية ونتجاھل أمر أغلبية النخبة التي فرت التزاماتھا‬
‫وأصبحت تسبح بتلك األنظمة تمجد أعمالھا ولو تداعت وتسبح بحمدھا ولو زاغت ‪.‬‬
‫وھذا ال يعني التنكر لتضحيات األقلية المناضلة التي عانت وتعاني األمرين داخل‬
‫السجون وخارجھا وما بدلت تبديال ‪.‬‬
‫إن الرأي القائل أننا فقراء ال يخلو من قصر في النظر وتداع في البرھان فإن كانت‬
‫الجماھير في أغلبيتھا تشكو الخصاصة والحرمان ‪ ,‬فھذا ال يعني أن الوطن العربي‬
‫فقير ‪ ,‬بل ھو غني بخيراته ‪ :‬المواد األولية متوفرة واألرصدة المالية ضخمة‬
‫والتراث العربي غني فكريا وثقافيا والطاقات الفكرية والمھنية مھملة والسوق‬
‫قائمة الذات وھي لعمري أسس النھضة الشاملة والسريعة ‪ .‬ومن ھنا يتضح فشل‬

‫‪180‬‬
‫األنظمة في تحليل مسؤولياتھا ‪ .‬وأني ال تساءل ھل أقرت األنظمة يوما نھج سياسة‬
‫خير وفالح وقاطعتھا الجماھير ؟ كال ‪ ,‬فھذه األخيرة لم تتعود رفض مقترحات القمة‬
‫ولو اتضح ضاللھا ‪ .‬أن الجماھير تعلم أن الداء كامن في األنظمة وھياكلھا وھي مع‬
‫ذلك ال تقدم على عملية التصحيح ألنھا خائفة ‪ .‬فاإلصالح يعني مجابھة السلطة ‪.‬‬
‫سلطة الحديد والنار ‪ .‬والمجابھة تعني السجن وربما الموت ‪.‬‬
‫ولسائل أن يسأل كيف السبيل للخروج من الوضع الحالي ما دامت الجماھير تخاف‬
‫الساسة والسياسة ؟؟‬
‫ال شك أن الطريق صعبة وشائكة وتتطلب الكثير من المعاناة والتضحية وبما أن‬
‫كلمة " إيديولوجية " ترعب البعض ‪ ,‬أقول علموا الجماھير معنى الكرامة وذلك‬
‫بتمكينھا من حقوقھا قبل أن تطالبوھا بواجباتھا ‪ .‬مكنوھا من تصور موضوعي‬
‫للمجتمع العادل وأوضحوا لھا سبل تحقيق ذلك المجتمع ‪ ,‬حيث ال أنانية وال تسلط ال‬
‫حيف وال مغالطة حيث ال محسوبية وال رشوة حيث ال سلطة إال سلطة القانون‬
‫والشريعة ‪ .‬إن من يريد بناء مجتمع على أساس الواجبات كمن يريد تشييد مسكن‬
‫في سبيل ﷲ " أيھا األخوة المحترمون‬ ‫فوق كثبان من الرمال ‪ .‬أن " الحوار‬
‫يحتم رفع كلمة ﷲ والعمل بأحكام ﷲ ‪ .‬فلنعلم أوال ولنقفه آخرا أنه ال إصالح‬
‫اجتماعي ومدني بدون اإلصالح السياسي ‪ .‬وإن ال التزام وال صالح بدون اقتناع‬
‫الجميع بالعدالة ‪ ,‬وال عدالة بدون نظام ديمقراطي وال نظام ديمقراطي بدون التقاء‬
‫مصالح الجميع في خير وصالح المجموعة وأن في تحقيق األنظمة العربية‬
‫الديمقراطية التقاء مصالح جميع الشعوب العربية في خير ومصلحة األمة جمعاء‬
‫وبذلك فقط تستطيع األمة العربية خوض غمار معركة الرھان الحضاري في عالم‬
‫الساعة علم التكتالت ‪ ,‬عالم الحماية االقتصادية والمصالح الوطنية الضيقة ‪ .‬أما‬
‫أولئك الذين يأملون تحقيق معجزة الدھر بإمكانيات دولھم المحدودة عددا وعدة ‪,‬‬
‫فمثلھم كمثل الذي يطمح لھد جيل بفاس ‪.‬‬
‫وأني العتقد جازما أن األمة العربية تعيش حاليا فترة مخاض عسيرة ‪ .‬والواجب‬
‫يدعو الطليعة للتمسك بزمام األمور حتى ال تنتھي العملية بإجھاض المولود‬

‫‪181‬‬
‫وبالتالي إلى جر الوطن العربي إلى عھد جاھلي جديد ‪ .‬وليس من المحال أن نكسب‬
‫األمة العربية لرھان وتبرز بوجھھا الحقيقي ‪ ,‬وجه خير أمة أخرجت للناس رائدھا‬
‫في ذلك خدمة اإلنسانية جمعاء ال مصالح إقليمية ضيقة ‪.‬‬
‫وبادي ذي بدء ‪ ,‬فلتكن لنا في الرأي وأسرتھا خير قدوة على درب النضال الحق ‪.‬‬
‫ولنترك التربية الغذائية إلى وقت الحق ولنبدأ بترميم بنية المجتمع المتداعية وذلك‬
‫بمساندة إخواننا الذين يحترقون داخل السجون وخارجھا وفي المنفى بعد أن أقدموا‬
‫على التضحية بأنفسھم فداء لنا جميعا ولنشرع في معالجة عقدة الخوف واليأس‬
‫عند الجماھير ‪ .‬ولنجعل من الخبز النظيف ھدفا لھا بدل الخبز الملطخ ‪ .‬ولكن حذار ‪,‬‬
‫وألف حذار أن تكون كالمطاحن التي تصم األذان بجمجمتھا وتبخل بالطحين على‬
‫األفواه الجائعة ‪ .‬حافزنا في ذلك ﷲ يمھل وال يھمل ‪.‬‬
‫وﷲ ال يتخلى عن عباده المجاھدين الصادقين ‪.‬‬
‫مع تحيات ابن السباسب‬

‫النظـــــام والتخلـــــــــف‬
‫الھادي الفقية‬

‫إن الھيكلية التي أقام عليھا األستاذ مقالتيه ‪ ,‬والتي أظھرت أوجھا اجتماعية للتخلف‬
‫قد وقفت دون التدليل المنطقي على التخلف المطلق للتونسي كظاھرة خاصة به ‪ ,‬بل‬
‫ودللت في بعض األحيان على خير ذلك ‪ .‬المؤشر الذي التمسه الدكتور للتدليل على‬
‫تخلف التونسي يكمن في سلوك فردي أحيانا ‪ ,‬وجماعي أحيانا أخرى يتسم‬
‫بالتناقض مع ما تمليه مثل معينة ‪ :‬مثل الغربي ‪ ,‬وعادات الغربي‪ ,‬وعادات الغربي‬
‫والطقوس االجتماعية للغرب ‪ .‬مع أن التناسب وھاته المثل والعادات والطقوس‬
‫‪,‬وإن بدأ للدكتور ظاھرة تخلف ‪ ,‬فإنه يبدو لي دليال قاطعا على األصالة والوعي ‪,‬‬
‫يقول األستاذ ‪:‬‬

‫‪182‬‬
‫" من البديھي إذن أن الصعوبات المادية ‪ ,‬وعدم التقدير الكافي الذي يعاني منه‬
‫العامل الخالق ‪ ,‬والشعور بالغبن ‪ ,‬واستحالة التعبير عنه بطرق قانونية يجعل من‬
‫ھذا العمل الرديء نوعا من االحتجاج الصامت الذي يستحيل تتبعه وعقابه "‬
‫واألستاذ المرزوقي يحمل تبعة التخلف لمجتمع ما ‪ ,‬على المجتمع نفسه ‪ ,‬حيث‬
‫يلغي مسؤولية النظام القائم إذ يقول أن نظام الحكم ألي أي بلد ھو إحدى المؤشرات‬
‫على تقدم أو تأخر المجتمع وليس أكثر من ھذا ‪ .‬فمن البديھي أن نظام الحكم في‬
‫السويد ھو ديمقراطي ألن حالة المجتمع في السويد ال يمكن أن تفرز وال يمكن أن‬
‫تقبل غير ھذا النظام " ‪.‬‬
‫وأجيب األستاذ ‪ :‬متى كان للشعوب السائرة في طريق النمو اختيار ساستھا والنظم‬
‫المنصبة عليھا ؟ ھل نسي أعراض بعض الشعوب عن ساسة فرضوا أنفسھم‬
‫بالحديد والنار إلى درجة نزوح الواعين والمثقفين منھم إلى ديار الغربة ؟ ثم ماذا‬
‫يكون جواب األستاذ لو سألناه عن مدى مسؤولية الشعب األلماني كمجموعة في‬
‫الحرب ‪ ,‬عن األعمال البدائية التي قاموا بھا ‪ .‬ھل كان يمكن لھذا الشعب أن يخرج‬
‫عن المسار الذي سطره ھتلر ؟ إن لنظام دور فعال في تخطيط المسار الذي تتخذه‬
‫المجموعة ‪ .‬والقانون سالح فعال بيد النظام يمكنه من فرض اإلستراتيجية التي‬
‫يريد توخيھا أو بلوغھا ‪.‬وقد يكون لھذا السالح تأثيره الفعال على ماھية أمة كاملة‬
‫بحيث ال تمكن مؤاخذة الفرد بدون الرجوع إلى المحيط االجتماعي والسياسي الذي‬
‫يعيش فيه ‪.‬‬
‫وبعد فإني أقدم ھاته االحترازات ‪ ,‬فال أدّعي غير ما أص ّر عليه الدكتور ‪ ,‬ولكن ‪,‬‬
‫حيث يرى المشكل مشكال اجتماعيا يجب معالجته من الداخل بالتوعية والتربية ‪,‬‬
‫أرى أنه معضلة حياتيه ممالة من الخارج ‪ .‬أن التخلف في تونس ال تطھر أعراضه‬
‫لدى الجاھل والمعدم ماديا بنفس الحدة التي تظھر بھا لدى المثقف المحظوظ ماديا‬
‫– أسوق مثاال من جملة ما تزخر به حياتنا من الحاالت البالغة الداللة على مدى‬
‫سيطرة المادة وتكالب التونسي المعاصر عليھا ‪ :‬المھندس الذي يبيع رخصة‬
‫السياقة بطريقة يستحيل – لسبكتھا – مسكه متلبسا ‪ .‬فلو حللنا ھذا المثال ‪ ,‬لرأينا‬

‫‪183‬‬
‫أن المشكل يتعدى حدود شذوذ أو سلوك فردي إلى وضع " سوسير بسيكولوجي "‬
‫تطغى فيه المادة وحب الترف والتھالك على المادية وذلك على حساب كرامة الفرد‬
‫والمبادئ والقيم – فالغبن ھو غير الغبن عندما يصبح المعيار الوحيد للحكم على‬
‫الشخص أوله طاقته المادية ‪ .‬إمكانياته النفعية ‪ .‬إزاء ھذا الوضع ‪ ,‬تختل المقاييس‬
‫‪ ,‬وينقسم المجتمع إلى شقين ‪ ,‬فئة نفعية عميلة ديناميكية تبادر بمسك زمام األمور‬
‫والمبادرة الحتالل مراكز النفوذ مھما كانت الطرق والضريبة فھي إلى " الوعي "‬
‫سباقة ‪ ,‬وأخرى ‪ ,‬رافضة لنمط يتعارض مع مثلھا وتفكيرھا‪ ,‬فھي ‪ ,‬إذا ال تبلع في‬
‫رفضھا قدرا يتحتم عليھا فيه الصدام مع الفئة األخرى ‪ ,‬لتتخبط في " التخلف " ‪.‬‬
‫ولكنھا في " تخلفھا " ھذا ال تبقى مكتوفة األيدي ‪ ,‬بل" تناضل" بطريقتھا‪ ,‬وعلى‬
‫كل الجبھات ‪ :‬في المعمل ‪ ,‬واإلدارة ‪ ,‬والكلية ‪ ,‬وتتوخى طريقة التزييف المتواصل‬
‫والبطيء لطاقات األمة ‪:‬‬
‫" التكركير " و" دزان العجلة "‬
‫أن التخلف عندنا ھو إذن ليس تنكر آلداب المعاملة وال استخفاف بمستوى القراء‬
‫والمستمعين ‪ ,‬وھو أيضا ليس مجرد تعدى ھذا على قانون المرور أو عدم تخفيض‬
‫صوت جھاز التلفزة وعدم مراعاة راحة الغير ‪ .‬وإھمال مضيفة لواجبھا في المطار‬
‫– إن تخلفنا حقيقة رھيبة مھولة تدخل في استراتيجية الرجل األبيض الذي يعرف‬
‫أن خروجنا من التخلف ‪ ,‬معناه القضاء على ديناميكية اقتصادياته ‪ ,‬وتحقيق النمو‬
‫عندنا ‪ ,‬ھو خنق طموحاته و محدودية توسيعه ‪ ,‬والوعي عندنا معناه القضاء‬
‫الحتمي على حلمه بالسيطرة واإلشعاع ‪.‬‬
‫إن الصراع الذي أمتد إلى كامل حدود أوروبا ‪ ,‬واجتاح العالم بأسره في فترة من‬
‫فترات التاريخ المعاصر ‪ ,‬والذي كاد أن يؤدي إلى القضاء على البشرية قاطبة ألكبر‬
‫دليل على أن الرجل األبيض في نزوعه إلى السيطرة المطلقة ‪ ,‬ليتوخى طرقا‬
‫ووسائل أكبر ما يقال فيھا أنھا تتجاوز محدودية المنطق والمعقول – ولعلني أمام ما‬
‫توخوه من وسائل ألغراضھم وھم في أوج نضجھم ووعيھم ‪ ,‬أبقى حريصا على‬
‫تخلفي ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫نصل إذن إلى جوھر الخالف – فحيث يرى األستاذ أن التخلف ظواھر وحقائق‬
‫ملموسة ‪ ,‬حيث يقدمھا في شكل استنتاجات في سلوك فردي أحيانا وجماعي أحيانا‬
‫أخرى ‪ ,‬أجزم أنا أن التخلف ھو ظرف حياتي ‪ ,‬واختيار خطط له عن سابق إضمار‬
‫من طرف قوى ورادات رھيبة تمأل ‪ ,‬أو تسمح لنفسھا التملك في إرادة الجماھير ‪,‬‬
‫وتكييف مستقبليتھا وتسييرھا حسب مشاربھا ‪ ,‬وتسخيرھا إلى أھداف نفعية لھا ‪.‬‬
‫وھي لھاته األغراض لتسخر أجھزة عمالقة رھيبة إلمالء النظام الخاضع لھا ‪,‬‬
‫لخلق الظروف المتماشية مع مصالحھا) ولعل التخلف ھو المناخ األفضل لنمو‬
‫فيروس التبعية لھا ( ‪ ,‬وبطبع ھوية أصحاب البلد على النمط الذي ترتضيه في‬
‫مدارھا ‪.‬‬
‫ھل يعني ھذا أن دور التونسي ينعدم أمام جدار اليأس‪ .‬إن التحدي ھو أكبر وازع‬
‫للتحدي ‪ .‬وقد يكون اليأس أكبر دافع لبلوغ قمم األدب العالمي األستاذ المسعدي‬
‫على لسان غيالن ‪ " :‬ليس في الحدود والعراقيل حد واحد وال عقال واحد يعجز عن‬
‫كسره العزم " ‪ .‬وقديما نظر حنبعل إلى البحر ‪ ,‬وحلم بما وراءه ‪ ,‬وراوده حلم ‪ :‬لو‬
‫استطاع أن يتخطى البحر بخطوة واحدة – ولم يقتصر حلمه عن الحلم ‪.‬‬
‫أما ما أتى في مقال األستاذ المرزوقي ‪ ,‬فھو حديث الوجدان المتأجج ‪ .‬أن حب‬
‫التونسي لتونسه ‪ ,‬وغيرته عليھا وإيمانه بأزليتھا ‪ ,‬وتشبثه بانصھاره في ھويتھا ‪,‬‬
‫لھو أكبر ضمان على رفع التحدي يوما ‪ ,‬وكسب الرھان ‪.‬‬

‫كيـــف نخـــرج مــن التخلـــــف ؟‬


‫م ‪ .‬س ‪ .‬طالب‬

‫أن المتتبع للمقاالت التي نشرت بجريدة " الرأي " حول موضوع التخلف منذ مقالة‬
‫الدكتور المرزوقي حتى ما كتبه لنا األستاذ سعيد يالحظ اتجاھين ‪:‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ (1‬طرح األول مظاھر التخلف تكاد تكون أخالقية بحتة ما داموا قد قدموا لنا‬
‫مجموعة من األخالقيات التي اتسمت بھا بعض المجتمعات " المتقدمة "‬
‫ومقابلتھا في مجتمعنا " المتخلف"‬
‫‪ (2‬وفي الجھة المقابلة نجد محاولة تحليلية للبحث عن أسباب التخلف مع‬
‫تقديم بعض مالمح الحل في اعتقادي دون الوصول إلى السبب الرئيسي‬
‫في نظري ‪ .‬لكن يبقى مقال األستاذ سعيد أقرب إلى صلب القضية خاصة‬
‫باعتماده منذ البداية على تحديد لمصطلح التخلف وھو تحديد " مقبول "‬
‫في نظري دون أن أقول "علمي " ألني أرفض من يدعون بوجود مفاھيم‬
‫" علمية " لبعض المصطلحات من قبيل " التخلف " و "التقدم " و "‬
‫الثورة " والتي ھي تحديدات نسبية في نظري ترضخ إلى االنتماءات‬
‫اإليديولوجية لواضعي ھاته التحديدات من ناحية ‪ ,‬وفي غياب اديولوجية‬
‫لديھم ‪ ,‬ترضخ تحديداتھم إلى انتماءاتھم الحضارية والثقافية والطبقية ‪.‬‬
‫وعلى كل حال ‪ ,‬فإن قضية التخلف لسنا أول من طرحھا أو أنھا لم تطرح قبلنا بل‬
‫ھي ظلت الشغل الشاغل للمصلحين منذ أواخر القرن التاسع عشر بصفة عامة ‪,‬‬
‫وقبل ذلك بصفة نسبية وفي شتى أنحاء العالم اإلسالمي حيث ال حظوا الفارق‬
‫الحضاري الذي يفصلھم عن المجتمعات األوروبية ‪ .‬فحاولوا االھتداء إلى األسباب‬
‫وعلى ضوئھا وصلوا إلى تقديم أطروحات لحل " أزمة " التخلف ‪ .‬ومن المشاكل‬
‫التي خاضوا فيھا أثناء تحليالتكم قضية المصطلحات التي تعكس الواقع العربي ‪,‬‬
‫وتقفوا كثيرا عند عقبة ترجمة مصطلحات أوروبية أطلقت على وضعية المجتمعات‬
‫المتخلفة وأخرى على وضعية المجتمعات المتقدمة ‪.‬‬

‫وطرح القضية آثار جدال بين المھتمين باألمر تواصل إلى يومنا ھذا خاصة وأن‬
‫اليوم نشھد فشل بعض الحلول التي أرتاھا األوائل ممن طرحوا القضية ‪.‬‬
‫وملخص ھاته االطروحات ھي ‪:‬‬

‫‪186‬‬
‫‪ (2‬أن سبب التخلف يكمن في ھذا النمط من الحكم الذي ساد عصور االنحطاط‬
‫والمتميز أساسا بارتباطه بالدين مما خول للساسة آنذاك ممارسة استبداد‬
‫سياسي واحتكار للسلطة وعزل الجماھير عن السلطة ‪.‬‬
‫ويقترح أصحاب ھذا الرأي أنظمة بديلة معمول بھا بأوروبا التي أتخذت كمثال لتقدم‬
‫يجب النسج على منوالھا ‪ ,‬خاصة وأن أوروبا تسودھا أنظمة ليبرالية وعلمانية‬
‫لضرورة ‪.‬‬
‫وھذا التصور مازال سائد اآلن لدى االتجاھات المطالبة بتغير األنظمة السياسية‬
‫نحو ديمقراطية غربية أو ديمقراطية شرقية‪ .‬وكالھما ينطلق من نقطة أن الحل ھو‬
‫في تغيير نمط الحكم رغم االختالف الھام في التحاليل والبرامج المقترحة‪.‬‬
‫‪ (3‬أما الطرح الثاني فھو طرح تعقيدي تربوي إذ سبب التخلف في نظر رواده‬
‫والجھل واالنحطاط األخالقي والحل ھو انتشار التعليم واستبدال األخالق‬
‫السلبية بأخرى إيجابية ‪ ,‬ولذلك حاولوا تأسيس المدارس واھتموا‬
‫باإلعالم ‪...‬‬
‫وھذا االستقرار بھاته االتجاھات حاولنا فيه تقديم الصبغة األساسية لالتجاھات التي‬
‫وجدت – ومازالت توجد – أثناء طرحھا لقضية التخلف ‪.‬‬
‫والذين يھمنا ھنا ھو األول الذي يحتوي ضمنيا االتجاه الثاني ‪ ,‬خاصة وأن ھذا‬
‫االتجاه األول مازلنا نجد المتحمسين له اليوم ‪ .‬وھذا االتجاه يسقط التغيير من القمة‬
‫إلى القاعة مقترحا وسائل ومحتويات ضربة في مجتمعات تختلف عنا تاريخيا‬
‫وحضاريا وبالتالي نفسيا وعقائديا ‪ .‬ثم ھو ينظر إلى مجتمعنا ويحلل وضعيته على‬
‫ضوء المجتمعات المتقدمة وواقعھا ‪.‬‬
‫وھذا الحل وقع تجربته في البلدان اإلسالمية منذ أوائل القرن العشرين إلى اليوم ‪.‬‬
‫فبدأت تركيا منذ سنة ‪ 1924‬بالتخلص من الخالفة وبناء دولة " عصرية " على‬
‫أسس علمانية وقومية ‪ .‬وفي بقية البلدان اإلسالمية ‪ ,‬التي خرجت أو تحررت من‬
‫االستعمار حسب زعم البعض وخاصة الزعماء ‪ ,‬وجربت األنظمة الليبرالية‬

‫‪187‬‬
‫الدستورية – والجمھورية البرلمانية ‪ ..‬وبعضھا جرب األنظمة االشتراكية "‬
‫العلمية " حينا " المؤمنة " أحيانا أخرى ‪.‬‬
‫وما راعنا والتخلف قد أخذ أشكاال أخرى أكثر تعقيدا وخطورة مثل ‪ :‬التبعية‬
‫الحضارية والسياسية واالقتصادية وإجبار األمة على استھالك القيم والبضائع‬
‫والبرامج المستوردة بالرغم من أن جماھيرنا عبرت عن استحالة ھضم ھاتة‬
‫الحلول وواقعھا المتخلف المتردي ينبئنا بذلك ‪.‬‬
‫ومثل ھذا االحتكار البشع المقيت للسلطة من طرف أحزاب ومجموعات عسكرية‬
‫تمارس القمع ضد كل من يشتّم منه رائحة المعارضة ‪.‬‬
‫ثم ظھور ردود أفعال ھستيرية تارة كاالنقالبات العسكرية الدامية أو البيضاء ‪.‬‬
‫وتارة جماھيرية مثل الثورة اإليرانية والحركات اإلسالمية المتواجدة في كل البلدان‬
‫اإلسالمية رغم االختالف المسجل في حجمھا وتجذرھا ‪..‬‬
‫الشيء الذي يفسر مدى عدم ثقة األنظمة الحاكمة في نفسھا وفي شعوبھا وتخبطھا‬
‫وعدم استقرارھا عل برنامج معين يأبى االنتماء للكتلة الشرقية أو الغربية ‪.‬‬
‫وفي نظري أن ھذا الفشل يعود لألسباب التالية ‪:‬‬
‫‪ (1‬إن الحلول الليبرالية أو االشتراكية لم ترتبط بالخلفيات الحضارية والعقائدية‬
‫وبالتالي النفسية لمجتمعنا إذ أن التقدم األوروبي لم يحصل عن طريق تركيب حلول‬
‫– وجدت بمجتمعات تختلف عنه حضاريا وعقائديا –وواقعه ‪ ,‬بل حصل تقدمه‬
‫حسب تطور وضعية المجتمع األوروبي الذي له خصائصه الحضارية والعقائدية‬
‫والنفسية بل ھي أسس ھذا التقدم ومنطلقاته ‪.‬‬
‫فتجاھل خصائص المجتمع اإلسالمي – وتونس تنتمي إليه طبعا – أو وضعھا في‬
‫مرتبة ثانوية من األھمية يعتبر بمثابة الحواجز التي يستحيل تجاوزھا في مسيرة‬
‫التنمية والخروج من التخلف ‪.‬‬
‫‪ (2‬عملية إسقاط الحلول وعدم انطالقھا من داخل الجماھير فعملية اإلسقاط ھاته‬
‫يمارسھا من يجھل كيفية تطور المجتمعات األوروبية وبلوغھا الوضعية الحضارية‬
‫الحالية ‪ .‬فالتقدم األوروبي لم يحدث بمشيئة األنظمة الحاكمة أو اختياراتھا‬

‫‪188‬‬
‫وبرامجھا المسلطة على الشعب بقدر ما ھو ناتج عن تحركات جماھيرية وصلت‬
‫إلى إسقاط أنظمة وفرض أخرى ‪ .‬ولكنه يعلم أن منذ بداية النھضة العلمية‬
‫األوروبية ظھرت انتفاضات شعبية ضد وضعيات اقتصادية وسياسية وعقائدية‬
‫مغضوب عليھا ‪.‬‬
‫وھنا أطرح السؤال الھام الرئيسي ‪ :‬كيف يمكننا الخروج من التخلف ؟‬
‫وجوابا على ھذا السؤال فإني ال أذھب في نفس الخط الذي سار فيه األستاذ سعيد ‪.‬‬
‫إذ أن تحسيس الجماھير بقضاياھا وتشريك حقيقتھا في عملية التقدم ‪ ,‬ووعينا‬
‫وتركيزنا على الواقع المتخلف ‪ ,‬ليس ھو الحل بقدر م ھو خطوة نحو الحل أو بعض‬
‫مالمح الحل ‪.‬‬
‫فكيف نوعي الجماھير " بكيفية حل مشكالت التنمية والتقدم " ونحن لم نقدم إليھا‬
‫بعد الحلول الناجعة لقضية التخلف ؟‬
‫وھنا أخلص إلى القول بأن التخلف الذي تعانيه جماھير أمتنا منذ قرون إلى اليوم‬
‫ھو نتيجة غياب إيديولوجية تتفاعل معھا الجماھير وتبشر ھاته اإليديولوجية بحل‬
‫مشاكل الجماھير وتحقق لھا تطلعاتھا وآمالھا في العدالة والحرية والكرامة دون‬
‫إھمال عقائد األمة وتاريخھا ‪ ,‬وتكون الجماھير ھي غاية الخروج من التخلف‬
‫ووسيلته ‪.‬‬
‫وبذلك تتفجر مختلف طاقات الشعب لصالحه وبوعي منه الشيء الذي يؤدي إلى‬
‫توظيف لك اإلمكانيات المادية والبشرية المتاحة فعال في المجتمع ‪.‬‬
‫ويجب أيضا أن تكون الحلول التي تبشر بھا ھاته اإليديولوجية ال تنطلق من‬
‫منطلقات ال تؤمن بھا الجماھير ‪.‬‬
‫ولكن تبقى مسألة توعية الجماھير واقتناعھا بھاته اإليديولوجية وھي مسؤولية‬
‫المتبنين لھا والمؤمنين بھا ‪ .‬مع إحاطتھم علما أن محاولة إسقاطھا وفرضھا على‬
‫الجماھير من فوق ھي طريق مسدودة ال يمكن حتى مجرد التفكير فيھا ‪.‬‬
‫وبذلك إذا تنطلق التنمية من داخل الجماھير وبوعي وبطلب منھا ‪ ,‬وال بإغراق‬
‫الجماھير بالمال أو البضائع والتجھيزات المستوردة أو بتغيير محيطھا الخارجي‬

‫‪189‬‬
‫وھو الذي حدث إلى حد اآلن ‪.‬‬
‫م‪.‬س‬
‫– طالب‬

‫اإلعـــــــالم وتكـــــريس التخــــلـــــف‬


‫لقد طالعت باھتمام بالغ الحوار الذي دار منذ مدة على صفحات جريدة " الرأي "‬
‫حول موضوع " لماذا نحن متخلفين " وبدت – كما كان متوقعا – صعوبة تناول‬
‫ھذا الموضوع لعظمه واتساعه وتشابكه تسابك أوضاعنا وتأزمھا ‪ .‬وحاول كل‬
‫إرجاع تخلفنا إلى أسباب أحيانا سياسية وأخرى حضارية أو اقتصادية أو اجتماعية‬
‫‪ .‬وكانت كل ھذه التفسيرات معقولة ومقبولة إال أن رأس الداء – حسب رأيي –‬
‫يكمن في السياسة ‪ .‬فإذا صلح الحاكم ووفّر عواما الصالح واإلصالح من عدالة‬
‫اجتماعية وديمقراطية ومناخ ثقافي سليم يصلح المحكوم ‪ ...‬وبالتالي ال أوافق‬
‫الدكتور المرزوقي فيما ذھب إليه من أن تأخرنا السياسي ناتج عن عدم وعي‬
‫الشعب وجھله ‪ .‬فحسب رأي الدكتور أن الشعب الجاھل المتخلف ال يفرز إال حاكما‬
‫متخلفا يزيده تقھقرا وجھال وكبتا وتأخرا ‪ .‬وعليه ‪ ,‬فال نتصور أن يفرز الشعب‬
‫اإلنكليزي حاكما مثل عيدي أمين أو أن يتوج الشعب السويدي على نفسه ملكا مثل‬
‫" بوكاسا " ‪.‬‬
‫ومما ال ريب فيه أن ھذا المنطق سوداوي إلى أبعد الحدود ألنه يحكم على البلدان‬
‫المتخلفة أن تبقى متخلفة أبد الدھر ‪ .‬وتلد حكاما متخلفين يزيدونھا تخلفا ‪ .‬ثم تفرز‬
‫ھذه األوضاع المتدھورة حكاما أكثر تخلفا من أسالفھم تضاعفون تخلفھا الخ ‪..‬‬
‫وھكذا تبقى تدور في حلقة مفرغة يسلمنا تخلف ھذا إلى تأخر ذاك ‪.‬‬
‫ثم حتى المنطق التاريخي يشھد على بطالن ذاك وإال كيف نفسر ظھور زعماء‬
‫مصلحين واعين في شعوب متخلفة متأخرة ‪ .‬كيف نفسر ظھور ماو تسي تونغ وھو‬

‫‪190‬‬
‫" بوكاسا "‬ ‫شي منه وجمال عبد الناصر وغيرھم كثير ‪ ,‬ثم كيف نفسر ظھور‬
‫أوروبي أو أمريكي في دول " متقدمة " أمثال ھتلر وترومان ؟؟‬
‫لذا ‪ ,‬أعتق أن صالح المحكوم ال يكون إال بصالح الحاكم وحسن نيته ‪ ,‬وعلى ھذا‬
‫األساس سأحاول أن أنزل بالحوار من التحليل النظري إلى الواقع مسميا األشياء‬
‫بأسمائھا ‪ ,‬متناوال بالحديث ركنا أساسيا لعب دورا ھاما جدا في تخلفنا سخرته‬
‫النظم الحاكمة ومازالت تسخره لتوجيه الجماھير الوجھة التي تريد أال وھو وسائل‬
‫اإلعالم ‪.‬‬
‫ال أحد ينكر دور أجھزة اإلعالم في المجتمعات المتخلفة باعتبارھا جزءا من بنية‬
‫الطبقة المسيطرة تسعى إلى توجيه الرأي العام اتجاھات معينة لخدمة مصالحھا‬
‫وتحقيق أھدافھا المتمثلة في المحافظة على سيطرتھا على الطبقات الكادحة بخلق‬
‫اھتمامات غالبا ما تكون تافھة توجه إليھا الرأي العام قصد استنفاذ طاقاته فيھا ‪.‬‬
‫وال يترك النظام الحاكم منفذا إال ويطل منه برأسه على الشعب باثا برامجه‬
‫المسمومة تارة والمخدرة أخرى قصد تلھية الناس وإبعادھم عن مشاكلھم اليومية‬
‫الحياتية ‪...‬‬
‫وقد كان لإلذاعة الدور الرئيسي في ھذا المجال إذ تعتبرھا نظم الدول المتخلفة ال‬
‫وسيلة تثقيف وتوعية وتسلية بريئة بل اتخذت منھا منبرا لشعرائھا وأدبائھا‬
‫ومشائخھا ومطبليھا ومزمريھا ‪ ,‬يطلون منه على الشعب يخدرونه بحقن القناعة‬
‫والرضاء واإليمان بالمكتوب والقضاء ‪:‬‬
‫أطيع الخليفة ‪ ...‬أطيع والديك‬
‫أطيع التنابلة ‪ ...‬دا مفروض عليك‬
‫وع ّود عيالك فضيلة الرضا‬
‫ألن إحنا طبعا عبيد القضا‬
‫وإذا ما جادوا علينا ببعض النشوة فغالبا ما تكون ھذه النشوة ھابطة ھدفھا التخدير‬
‫وغسل األدمغة وخلق عالم صوفي كله لذة وأنين وحب حنين وفراق ولوعة‬
‫واستعداد للتضحية في سبيل أشياء تافھة ‪ .‬فليس غريبا إذن أن تكون القيمة‬

‫‪191‬‬
‫األساسية في الغناء البورجوازي ما زوشية ‪ ,‬وليس من الغريب أيضا أن يتخذ‬
‫النظام البورجوازي من "أم كلثوم " رائدة الفن وست الكل ‪ ,‬فكانت أھرامات مصر‬
‫و"‬ ‫طوال نصف قرن تبث في نفوس الناس فضيلة " الرضا بالھوان "‬
‫السكوت واالنتظار " والقناعة والقعود والسلبية التامة واالكتفاء بما بين اليدين‬
‫حامدين ﷲ شاكرين فضله ‪:‬‬
‫بدأت أم كلثوم حياتھا الغنائية بإنشاد ‪ :‬لي لذة في ذلتي وخضوعي‬
‫فكانت بذلك منبعا متدفقا من الذل والخضوع والمازوشية يصب في عقل ووجدان‬
‫أجيال وأجيال متتالية من العرب‬
‫وطيلة نصف قرن عشنا في حفلة ذكر مرددين مع " تومة " وتحول ھذا " الترديد‬
‫" بطول الممارسة إلى مرض مزمن ھو مرض الصبر واالنتظار والتعذب في صمت‬
‫والتألم في سكوت ‪ ,‬وعشش فينا ھذا المرض الخبيث فأصبحنا ال نقدر على العيش‬
‫دون عذاب أو الحب دون ألم أو االنتشاء دون قسوة ‪ ,‬فإذا ما أحببنا الورد فال‬
‫لشيء إال لشوكه ‪:‬‬

‫علشان الشوك اللي في الورد أحب الورد‬

‫وحتى حين نغضب ونثور ونريد االنتقام ألنفسنا والتشفي من معذبينا فإننا نتشفى‬
‫منھم ألنھم حرموا أنفسھم من أناس يندر أن يجدوا مثلھم في تعذيب ذواتھم‬
‫وتحطيم كبريائھم ‪ ,‬إنھم ال شك سيندمون على فراقھم لنا ‪ ,‬سيخسروننا ألنھم لن‬
‫يجدوا أمثالنا في التذلل والوجع والرضاء بالذل والھوان ‪.‬‬

‫وحين يرفضون ذلنا ال نتخلى نحن عنه وال ننساه ‪ ,‬بل نحنّ إليه !‬
‫كثرة ھذه األمثلة التي تنمي فينا ال فضيلة الرضاء فحسب بل حب الخنوع‬
‫واالستسالم والتلذذ واالنتشاء بالعذاب ‪ ,‬ھذه الفضائل التي كانت تحقننا بھا " ست‬

‫‪192‬‬
‫الكل " ‪ ,‬كانت تصور لنا في أغانيھا عالما خياليا صوفيا كله أنين ولوعة وحرقة‬
‫وتضحية وآھات من أجل أشياء تافھة ‪.‬‬
‫إنھا كانت تبيع لنا دينا ال تؤمن به ال ھي وال أسيادھا ‪ .‬فبينما تدعونا إلى الرضا‬
‫والقناعة واالكتفاء بما بين اليدين كان‬
‫" دخلھا اليومي قبل الحرب العلمية الثانية ثالثة آالف جنية يوميا من اإلذاعة‬
‫واالسطوانات ‪ .‬والمعروف أن كوكب الشرق تنفق بسخاء لتعيش عيشة بذخ وترف‬
‫‪ .‬فھي تقتني ) اليوم ( مجموعة ثمينة من المجوھرات واألحجار الكريمة لتتزين بھا‬
‫في حفالتھا "‬
‫لكن األخطر من ھذا كله أن " تومة " استحالة أفيونا يتلھى به الناس ويدخنونه‬
‫ليال نھارا ‪ .‬مھربا يلجئون إليه تنصال من مشاكلھم ومن الواقع والھروب من‬
‫المسؤولية مسؤولية التعبير والتغيير ‪.‬‬
‫وإذا شئت أن تحفظ نفسك من غضب الشيطان وغدر الزمان ووجه الحكومة وغناء‬
‫اإلذاعة الذي يشبه رأي حماتك‬
‫) ! ؟ ( فاستمع إلى صوت الجمال يناديك في صوت أم كلثوم ‪.‬‬
‫ويصف أحد عشاقھا حالة الھلوسة التي تنتابھا إذا ما استمع إلى صوت " تومة " ‪,‬‬
‫قائال ‪ " :‬إذا شئت أن يسقط إليك القمر من السماء أو يصعد إليك من الغدران‬
‫فأسھر على صوت سيدة العصر وأشرب العطر من صدور البنات ‪ ...‬ولتغني ما‬
‫شاءت وما شاء صوتھا العظيم ‪ .‬فھو الخمر في الدّن في الليل في حانات بغداد " ‪.‬‬
‫وكان المرحوم عبد الحليم حافظ ھو اآلخر جزءا من النسيج المتكامل للعالم‬
‫الكلثومي والعالم البورجوازي ‪ .‬فكثرت في أغانيه التأوھات وارتمى مغيره من‬
‫الفنانين والمازوشيين في بحر العذاب والحرقة واللوعة واليسر على الشوك‬
‫والبلور والمسامير ! ھو اآلخر كان يحترق بنار الحب ويتألم ‪ ,‬ويجد لذة في‬
‫احتراقه وألمه ويستحيل إلى تراب تحت أقدام يستعطف ويسترحم ‪.‬‬
‫وكان كلما ابتعد عن معذبه وازداد له حبا وبه تعلقا ‪ .‬ولم يطق صبرا عليه كيف ال‬
‫وھو الذي لم يكتف بتعلم فضيلة الرضا فحسب بل لقن فضيلة التلذذ بالظلم والركوع‬

‫‪193‬‬
‫واالنبطاح وخرج بذلك تلميذا نابغا من البورجوازية الحاكمة يبث سموم النشوة في‬
‫الذل والذل في النشوة والراحة في الخضوع والتسامح ‪ .‬لذا كان " قلبه أبيض "‬
‫فإذا ظلم كثيرا ما ينسي وإذا ما اعتدى عليه كثيرا ما يسامح بل وھو مظلوم يدوس‬
‫على كبريائه ويقوم بالخطوة األولى نحو محبوبه ‪.‬‬
‫اجري وأسأل عنك ما قبل ما إنت اتجيني‬
‫يعود ليمشي على الشوك والمسامير والحبال ليؤدي دوره على أحسن ما يكون في‬
‫ھذا السرك البورجوازي الھابط ‪:‬‬
‫راجع ‪ ,‬راجع ‪ ,‬راجع ثاني‬ ‫راجع بعد الشوق ما ضناني‬
‫فوق الشوك ‪ ...‬فوق الشوك‬
‫أما إذا تفق أن أفاق من لوعته واتخذ موقفا إيجابيا من األوضاع السائدة فأنه ال‬
‫يتعدى البكاء والنشيج أو على األكثر التحسر والتأوه ‪:‬‬
‫ناري يا حبيبي نار‬
‫وھذه المواقف في أغلبھا منبثقة عن رؤية شاملة ودقيقة ‪ ...‬ھذه الرؤية تعكس‬
‫بوضوح طبيعة الحكم المصري والسلطة المصرية ثم موقفه تجاھھا ‪.‬‬
‫يا سيدي أمرك ‪ ,‬أمرك يا سيدي‬
‫ما قدرش أخالفك‬
‫ألني عارفك‬
‫تقدر تحط الحديد في ايدي‬
‫إال أن المطرب الراحل لم يقتصر على ھذا الدور " السلمي " في خدمة‬
‫البورجوازية بل تعدى ذلك ليكون بوقا صدّاعا لالشتراكية والحرية على الطريقة‬
‫المصرية ‪:‬‬
‫لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت‬
‫الليلة حيتنھد ويغني ويموت‬
‫يشيلوه قال على لندن‬
‫علشان جده ھناك‬

‫‪194‬‬
‫من بعد يتاليم على دخل الشباك‬
‫ويھرب أموالك ويقولك ‪ :‬أھواك‬
‫يا شعب يا متلوع مانتش القي القوت‬
‫ولم تقف الصحافة مكتوفة األيدي تجاه ھذا الوضع بل أدلت بدلوھا مع الجماعة‬
‫فكان لھا دورھا المشرف ! في ھذه المسرحية ‪ ...‬وكان لھا نصيبھا في ھذه العملية‬
‫‪ ,‬عملية التلھية وغسل األدمغة وتوجيه االھتمام إلى مواضيع تافھة فاتخذت من‬
‫الرياضة مثال ال وسيلة تقارب وتعارف وتآخي بل أداة تفرقة وتجزئة متبعة سياسة‬
‫" فرق تسد " وكان ذلك يظھر في صفحاتھا األولى بعناوين كبيرة حول " مباراة‬
‫الموسم " والمباراة المصيرية " والمباراة الثأرية "‬
‫يقول نجم مصورا الدور التضليلي الذي تقوم به الصحافة لتلھية الناس عن‬
‫مشاكلھا األساسية ‪:‬‬
‫ال كورة نفعت‬
‫وال أونطة‬
‫وال المناقشة وجدل بيزنطة‬
‫وال الصحافة والصحفجية‬
‫شاغلين شبابنا‬
‫عن القضية‬
‫صص لھا الصفحات والصفحات‬
‫كما كانت تعمد إلى استغالل األحداث التافھة فتخ ّ‬
‫كاالحتفال بانتخاب ملكة الجمال أو أخبار زوجة كندي أو احتمال زواج الفنان فالن‬
‫من الفنانة فالنة مع نشر صور لھما إن أمكن في شكل خليع أبعد ما يكون عن‬
‫الذوق الرفيع ‪ ,‬أو خلق مواضيع مفتعلة وتكثيف النقاش حولھا قصد أبعاد الرأي‬
‫العام عن االھتمام بمواضيعه األساسية الحياتية ‪:‬‬
‫يحكى أن‬
‫والزم يحكى‬
‫وكان بإمكان‬

‫‪195‬‬
‫قبل الجنة‬
‫كان فيه بيضة‬
‫وفرخة كمان‬
‫ذبحوا الفرخة ‪ ,‬طبت سارخة‬
‫قامت البيضة‬
‫طقت شارخة‬
‫طقشت فقست فرخ فصيح‬
‫يدن ويھلل ويصيح‬
‫حتى إن كان على وش دبيح‬
‫يفضل يدن لما يموت‬
‫توت حاوي‬
‫حاوي توت‬
‫إال أن خطر الصحافة يبدو محدودا بالمقارنة مع اإلذاعة نظرا لمحدودية المتعلمين ‪,‬‬
‫إذ تؤكد النتائج األولية للتعداد العام للسكان واإلسكان أن نسبة األمية في مصر ھي‬
‫‪ % 56,5‬معنى ھذا أن أكثر من نصف الشعب المصري ال عالقة له بالثقافة‬
‫المكتوبة بل ھناك إحصاء – أقدم قليال – يذھب إلى القول بأن متوسط التوزيع‬
‫اليومي للصحف المصرية ال يزيد عن ‪ 626‬ألف نسخة يوميا في وقت كان تعداد‬
‫مصر فيه ‪ 31.5‬مليون نسمة ‪ .‬إذن فــ ‪ % 3‬فقط من المصريين ھم الذين يقرءون‬
‫الصحف وبالتالي فخطر ھذه الوسيلة محدود خاصة إذا قورن مع اإلذاعة التي تدخل‬
‫البيوت دون استئذان فتبث فيھا سمومھا وحقنھا المخدرة ‪..‬‬
‫سرب اإلعالم البرجوازي إلى وسيلة أخرى من وسائل التثقيف تعتبر مقدسة‬
‫كما ت ّ‬
‫ھي الكتاب ‪ ,‬فشوه رسالة ھذا األخير‪ ,‬من التثقيف وفتح أفاق القارئ باعتباره أداة‬
‫نوعية وترشيد وإطالع وإثراء إلى أداة ترويح لألفكار االستسالمية والتميّع‬
‫واالنحالل ممثلة خاصة في قصص يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس كما اتخذ‬
‫الكتاب بعدا آخر بما ينشره الصحفي " البرو – صھيوني " أنيس منصور في‬

‫‪196‬‬
‫كتاباته وبما يروجه من خزعبالت ومزاعم ضارة وتدجيل وشعوذة محاوال ربطھا‬
‫بالعلم واالختراعات العلمية ‪ ,‬فاستمع إليه في كتابه " القوى الخفية " يقول ‪,‬‬
‫بالحروف الواحد ‪ ,‬في حديثه عن الجراحات الورحية ‪ " :‬إن عددا من المعالجين‬
‫الروحيين في الفيليبين قد أذھلوا العالم كله ‪ .‬ففي الفيليبين تتوقف الطائرات الذاھبة‬
‫إلى أمريكا والعائدة منھا لترى رجال أسمر نحيفا قد عصب عينيه ‪ ,‬والناس يمرون‬
‫أمامه فيضع يده على المعدة أو على القلب أو على الظھر أو على المفاصل بسرعة‬
‫غريبة وبعد لحظات يشفى كل إنسان من مرضه ‪ ,‬إن ھذا يجري عمليات جراحية‬
‫بأصابعه على البطن ويعيده إلى ما كان عليه " ‪.‬‬
‫ويستطرد قائال ‪ " :‬يحدث ھذا اآلن باندونسيا ‪ ..‬والمجالت الطبية األميركية نصف‬
‫ذلك بالتفصيل واألطباء والعلماء أكثر دھشة من المرضى ‪ ,‬وقد صوروا الرجل‬
‫وأصابعه ثم كيف يعيده كما كان وكيف يمشي الناس على أرجلھم بعد ذلك دون أن‬
‫يصاب أحد بتلوث أو تسمم أو دون أن يموت الناس إن ھذا المعالج الروحي‬
‫الفيليبيني ال يستخدم األدوات المعقمة وال غرف اإلنعاش ‪ ,‬إن ھذا يتم يوميا أمام‬
‫الناس " ‪.‬‬
‫ونترك للقارئ يتبين بطالن ھذه االدعاءات لبعدھا عن التفكير السليم والمنطق‬
‫العلمي ‪ ,‬وبالتالي مساھمتھا في تكوين جيل ) مخرف ( مشعوذ يؤمن بالدجل‬
‫والخوارق ومصباح عالء الدين وخاتم سليمان ‪.‬‬
‫أما السينما فحدث وال حرج ‪ ,‬فنظرة بسيطة على األفالم المعروضة في قاعات‬
‫السينما تبين مدى انحطاط مستواھا الفني واألخالقي ‪ .‬فمن " الفاتنة والصعلوك "‬
‫إلى " الكروان له شفايف " إلى " أبي آخر من يعلم " إلى " عذاب فوق شفاه‬
‫تبتسم " سخرية من تفاھة ھذه الجماھير اليائسة المستغلة المعرضة لكل أنواع‬
‫العنف الثقافي وغسل األدمغة ‪.‬‬

‫مشكلة التخلف والفكر العربي الحديث‬

‫‪197‬‬
‫بقلم كمال‬
‫الذيب‬

‫رغم أھمية القضية المطروحة فإنھا لم تستقطب أنظار المثقفين في البالد ‪,‬‬
‫ولھذا األمر داللة خطيرة ‪.‬‬
‫بقطع النظر عن قيمة المحاوالت التي أسھم بھا بعض القراء فإنھا ذات أھمية‬
‫باعتبار أن مجرد اإلحساس بالتخلف والوعي به أمر ذو قيمة ‪.‬‬
‫‪ (2‬المالحظة الثالثة تتنازل طريقة طرح الموضوع من طرف الدكتور‬
‫المرزوقي وتتمثل في كون المحاوالت التي قدمت لم تجب رأسا على‬
‫السؤال المطروح – والذي كان من المفروض أن يحدد منھج الطرق – بل‬
‫كانت رصدا لبعض مظاھر التخلف العامة والجزئية ‪.‬‬
‫‪ (3‬أن المسألة المطروحة تستحق في رأيي اھتماما جديا ‪ .‬ونظرا لعدم قدرتنا‬
‫على إنجاز عمل أو مساھمة عملية دقيقة في ھذا المجال لظروف‬
‫موضوعية ‪ ,‬فإننا نكتفي على كل حال بإبداء بعض المالحظات التي تبقى‬
‫بمتطلبات العمل العلمي وكمحاولة منا في المشاركة في ھذا النقاش نرى‬
‫أنه يمكن النظر إلى ھذه القضية في محاور ثالثة متكاملة ‪:‬‬
‫‪ (1‬محور تاريخي تمھيدي‬
‫‪ (2‬محور تحليلي للقضية‬
‫‪ (3‬ومحور نستخلص فيه النتائج ونقترح فيه الحلول ‪ .‬وسأحاول طرح‬
‫المحور األول للنقاش اآلن مؤجال المحورين اآلخرين إلى رفص الحقة إذا‬
‫أمكن ‪.‬‬
‫‪ (1‬ھل نحن متخلفون ؟ ‪ ..‬قبل لماذا نحن متخلفون ؟‬
‫إن طرح القضية على الصعيد التاريخي والفكري في رأيي ھام ‪ .‬فاستقراء إفراز‬
‫الفكر العربي في ھذا المجال أمر ضروري ‪ ,‬والنظر إلى المسألة في محورھا‬
‫الزماني أكثر أھمية ألن التطور في النظر للقضية له داللة على مستوى الواقع‬

‫‪198‬‬
‫العربي والواقع الفكري على حد السواء وألن االطروحات التي ظھرت في بداية‬
‫النھضة مازالت متواجدة أو لھا أصداء على األقل في الفكر العربي المعاصر وھذا‬
‫ما يزيد من طرافة الموضوع وأھميته ‪ .‬ولھذا السبب أري ضرورة ھذا المدخل‬
‫التاريخي الفكري قبل الحديث عن القضية في حد ذاتھا ‪.‬‬
‫‪ -‬أول قضية تواجھنا في استقرائنا للفكر العربي الحديث ھي ‪ :‬ھل كان الفكر‬
‫العربي يسلم بواقع التخلف ويعتبره أمر حاصل ؟‬
‫أول ما يالحظ أن الفكر العربي الحديث على إثر اصطدامه بالواقع األوروبي الحديث‬
‫والقفزة النوعية التي أنجزھا العالم الغربي فكل المجاالت أحس بتغير الموازين‬
‫وأدرك أنه أصبح يعيش على وتيرة متخلفة جدا عن العالم الحديث ‪ .‬وزاد من ھذا‬
‫اإلحساس قوة ومفاجأة التدخل االستعماري في البالد العربية وامتزاج انبھار‬
‫البعض بالغرب ) أكان العربي وربما مازال إلى اآلن يقف مدھوشا أمام منجزات‬
‫الحضارة الغربية ويحس بالذوبان واالنسحاق أحيانا (‬
‫إال أن المالحظ أن ھذا اإلحساس بالتخلف الذي كاد يحظى بإجماع الجميع قد شد‬
‫عليه التيار المحافظ ‪ .‬فقد وجد في بداية النھضة من كان يرى أننا غير متخلفين‬
‫أصال ونحن ھكذا على أحسن ما يرام وينتھي إلى القول بأننا شرقيون وتلك طبيعتنا‬
‫منذ أقدم العصور ‪ .‬وقد حاول االستعمار تغذية ھذا اإلحساس وتدعيمه ومازال ‪..‬‬
‫وھذا التيار متكون من اإلقطاعيين الباشوات الذين كان من مصلحتھم إبقاء األمور‬
‫على ما ھي عليه حتى يتسنى لھم المحافظة على مصالحھم ‪ .‬قد بين التاريخ كيف‬
‫تحالف وتواطأ ھؤالء مع االستعمار إلجھاض حركة البورجوازية العربية النامية‬
‫وإجھاض كل فكر عقالني وتجديدي ‪ .‬وقد رأينا كيف وقعت محاربة مواجھة الفكر‬
‫الديني الداعي إلى النھضة واليقظة والمحاول لبعض الفكر اإلسالمي على أسس‬
‫جديدة ‪ .‬ورأينا كذلك كيف وقع التصدي لطالئع اللبرالية في مصر ثم التصدي‬
‫لطالئع االشتراكية ‪ ..‬الخ‬
‫فالتيار المحافظ فعل كل شيء من أجل إبقاء األمور على حالھا ‪ .‬ولكن لم يمنع ذلك‬
‫من تبلور رؤى جديدة متجاوزة ومختلفة وربما متناقضة ومتصارعة أحيانا ‪ ,‬رغم‬

‫‪199‬‬
‫اتفاقھا كلھا حول واقع التخلف ‪ .‬وسنتعرض إلى ھذه التيّارات بإيجاز مبينين‬
‫موقفھا من التخلف ‪.‬‬
‫‪ ... (2‬متخلفون ولكن لماذا ؟‬
‫لئن اتفق الفكر العربي الحديث منذ عصر النھضة حول واقع التخلف فإنه عند‬
‫تحليله لألسباب اختلف اختالفا جذريا‬
‫ولئن اتفقوا جميعا على معارضة اإليديولوجية المحافظة إيديولوجية الالفعل والجبر‬
‫‪ ,‬فإنھم اختلفوا جوھريا في طبيعة الفعل الذي يجب أن نقوم به للقضاء على التخلف‬
‫أو لتجاوزه‬
‫‪ (4‬رأى البعض أننا متخلفون ألننا تركنا اإلسالم أي أننا أحدثنا قطيعة معه‬
‫وبقدر ما نبتعد عن اإلسالم نبتعد عن الصواب وبالتالي نتقدم نحو التخلف‬
‫ومقياس التقدم ھو درجة االبتعاد أو االقتراب عن اإلسالم ) الصافي ( أي‬
‫عصر اإلسالم الذھبي ‪ .‬ھذا التيار يفسر المسألة بمعادلة بسيطة ‪ :‬تشبث‬
‫المسلمون باإلسالم فتقدموا وسادوا العالم وأشعوا فيه– ابتعدوا عنه‬
‫فتخلفوا وتشتتوا ‪ .‬ويضعون المسألة على صعيد شكلي ) ‪Shematique‬‬
‫( صارفين النظر عن الظروف التاريخية والحضارية ‪ .‬ويظھر جليا من‬
‫خالل ھذه المعادلة كيف أن الحل يبدو واضحا ‪ :‬يجب أن نبدأ من اإلسالم)‬
‫نعود إلى اإلسالم فنتقدم ( وھكذا يجد الحاضر أي الواقع العياني المعاش‬
‫حله في اللحظة الماضية ‪.‬‬
‫وإلنجاز ھذه العودة إلى اإلسالم وضع ھذا التيار مشروعا بدا في إنجازه ومازال إلى‬
‫اآلن ‪:‬‬
‫‪ -‬النضال ضد االستعمار بشكليه العسكري والثقافي‬
‫‪ -‬العودة إلى التراث وإحيائه‬
‫‪ -‬مشروع تجاوز الخالفات بين الفرق اإلسالمية ولم الشمل للتصدي ألعداء‬
‫اإلسالم وتأجيل الخالفات الداخلية‬

‫‪200‬‬
‫وقد أنجز الكثير من الرواد أعماال كثيرة في ھذا االتجاه‬
‫وتطور ھذا التيار عبر التاريخ وخاصة في مصر وفي منطقة الھالل الخصيب‬
‫وعرف منعرجين في تاريخه ‪:‬‬
‫أ( الحركة األولى ‪ :‬لم الشمل ومحاولة التجاوز األولى‬
‫‪ -‬ارتبط ھذا الفكر في مرحلته األولى بالنضال ضد االستعمار وكان للحافز‬
‫الديني أثر فعال في تحريك الھمم ‪ ,‬ومواجھة االستعمار والمحافظين على‬
‫حد السواء ‪.‬‬
‫‪ -‬محاولة عقلنة الشريعة اإلسالمية وإحياء أصولھا ) ولكن من منظور‬
‫سني في غالب األحيان (‬
‫‪ -‬قيادة حركة ضد التغريب ورفض قيم الغرب التي بدأت تتسرب إلى الواقع‬
‫العربي)ورغم ھذا التيار نفسه قد تأثر بالغرب دون وعي منه أحيانا حتى‬
‫في كيفية النظر إلى الدين وكيفية التوفيق بينه وبين الحياة المعاصرة‪(...‬‬
‫‪ -‬النضال ضد حركة التغريب التي قادھا بعض المفكرين األوائل من طالئع‬
‫البورجوازية ‪.‬‬
‫‪ -‬إذن حاول ھذا التيار في بداية النضال على ‪ 3‬جبھات ‪ :‬االستعمار –‬
‫التغريب الداخلي – المحافظة‬
‫وقد سار في ھذه المرحلة األولى شوطا كبيرا في خط العقلنة – وحاول قدر اإلمكان‬
‫بناء فكر جديد – قديم في نفس الوقت يستند إلى الشريعة اإلسالمية من ناحية‬
‫ويحاول األخذ بعين االعتبار التطورات الحاصلة في الواقع المعاصر ‪.‬‬
‫ب( الرد والتحجر ‪:‬‬
‫على إثر تنامي الحركة الثورية في مصر وبداية ظھور طالئع الفكر االشتراكي الذي‬
‫ھدد الفكر الديني في الصميم عرفت الحركة اإلسالمية ارتدادا وتحجرا ظھرا مع‬
‫حركة اإلخوان المسلمين سريعا ما أغلقا الباب الذي فتح في بداية الحركة اإلسالمية‬
‫‪ .‬وكان ذلك التصلّب كر ّد فعل ضد ھذا الواقع الجديد ‪ ,‬فأزداد التشبث بمفاھيم‬
‫قروسطية والتشدد في فھم وتقدير الشريعة اإلسالمية وعرفت الحركة مسارا جديدا‬

‫‪201‬‬
‫وبرز منھج العنف والتصلب في التعامل مع بقية التيارات فحوكم الفكر الحر وزندق‬
‫األباء وكفّر الكتاب وصودرت كتب كثيرة ) حوكم طه حسين وحوكم علي عبد‬
‫الرزاق ‪..‬الخ( ووقع وزن كل كتاب بميزان اإلسالم ) من وجھة نظر التيار طبعا ( ‪.‬‬
‫وھكذا وقع التيار في طريق مسدود وسقط في لعبة اإلرھاب وكان ھو أولى‬
‫ضحاياھا في مصر ‪ .‬فقد برز وكأنه كھنوت جعل من نفسه وصيا على اإلسالم‬
‫وأعطى لنفسه الحق في محاكمة الغير والقضاء عليھم إذا تبينت عداوتھم‬
‫وخطورتھم وكنتيجة لذلك اضطھد ھذا التيار اضطھادا بشعا لم يعرف التاريخ‬
‫العربي مثله ‪.‬‬
‫وال شك أن تلك التجربة القاسية والمريدة التي تعرضھا لھا ھذا القرن في البالد‬
‫المصرية خاصة قد أفادته كثيرا واستخلص منھا النتائج والعبر وعاد ليظھر من‬
‫جديد في أشكال أخرى وقد تبلورت بعض رؤاه في اتجاه إيجابي نسبيا إال أنه حافظ‬
‫على مقوالت كبيرة ال تنسجم ورغبته الجادة في إحداث تغيير إيجابي في صلب‬
‫الفكر العربي اإلسالمي الحديث وبقي دون برنامج واضح مسند إلى عموميات‬
‫معتبر أن مجرد التصريح بأنه تيار إسالمي كاف لتحديد طبيعته وبلورة رؤاه ‪ .‬مما‬
‫جعل أمر نقده وتھجينه سھال على خصومه في كثيرا من األحيان ‪.‬‬
‫وحتى ال ندخل مجال التقييمات السياسية التي ليست موضوعنا اآلن ‪ ,‬نكتفي بھذه‬
‫اللمحات التاريخية ونتحول لننظر في الشق المقابل وماذا كان يرى ‪.‬‬
‫‪ -‬متخلفون ‪ ...‬والحل في الغرب‬
‫رأى التيار المقابل وباألخص طالئع المثقفين ثقافة أوروبية والمتأثرين بالمنجزات‬
‫العقالنية والعلمانية في الغرب ‪ ,‬رأى ھؤالء أن فھم مسألة التخلف يمر عبر معادلة‬
‫بسيطة ‪.‬‬
‫‪ -‬تقدم الغرب لماذا ؟ وتخلفنا لماذا ؟‬
‫تقدم الغرب ألنه نھج نھجا جديدا في الفكر والسياسة والحياة االجتماعية خاصة )‬
‫ھؤالء الرواد لم ينتبھوا كثيرا إلى الجانب االقتصادي ‪ ,‬فالذي كان يھمھم ھو الجانب‬
‫الفكري الثقافي (‬

‫‪202‬‬
‫تقدم الغرب ألنه حقق الدولة العلمانية بفصله بين الدين والدولة ‪.‬‬
‫تقدم ألنه حصر ميدان الدين وتأثره في المعتقد الشخصي تقدم ألنه بنى الدولة على‬
‫أسس عقلية و ديمقراطية ‪ ,‬تقدم ألنه راجع تراثه وتجاوزه ألنه آمان بالعلم و في‬
‫الحضارة باالستناد إلى التقنية ‪ ..‬باختصار ألنه اختار العقل ‪.‬‬
‫ولھذا يمكن أن نفھم لماذا نحن متخلفون ‪ ,‬وبالتالي ال حل إال عبر الغرب عبر‬
‫سلوكه ومنھجه ‪ ..‬ولھذا ر ّكز ھؤالء الرواد على الفكر الغربي وعلى الجوانب‬
‫الثقافية‪ .‬شارك العديد منھم ومن بينھم حتى أصحاب االنتماءات الدينية في نقاش‬
‫طويل حول مفھوم الخالفة ومفھوم الدولة ‪ .‬ھل الخالفة ضرورية ؟ ھل الدين ال بد‬
‫أن يرتبط بالدولة ؟ وكرس ھؤالء حياتھم لنھوض بالفكر العربي وعقليته ‪.‬‬
‫إال أن نظرتھم كانت متسرعة ومنبھرة ولم يالحظوا حتى جوانب الضعف في‬
‫الحضارة الغربية وبالتالي لم يكن اقتباسھم نقديا ‪ ..‬بل كان دغمائيا في أغلب‬
‫األحيان ثم ‪ :‬إن رؤية ھؤالء لقضية الحل كانت في أغلبھا رؤية ال جدلية وال‬
‫تاريخية أي أنھا تسقط في التجاوز غير الواقعي ) إرادة تجاوز واقع متخلف‬
‫بإسقاط رؤى بعيدة على ھذا الواقع أضف إلى ذلك االفتقار إلى الرؤية المتكاملة‬
‫للمسألة للتركيز على الجانب الثقافي (‬
‫وھكذا لم يعالج واقع التخلف حتى مع ھؤالء معالجة صالحة ‪ ) ..‬الحل ال ينبثق من‬
‫الواقع ومؤشراته بل من رؤى مسقطة ( وھكذا يشترك مع التيار األول في كونه‬
‫يقفز عن الواقع بمنھجية أحادية الجانب ‪.‬‬
‫وعلى أية حال‪ -‬فإن ھؤالء األوائل قد القوا األم ّرين من نضالھم ضد التعصب وتجبر‬
‫السلط الدكتاتورية ‪ .‬وقد اسھموا في إخصاب الفكر العربي وفتح نوافذه ‪ .‬ومع ذلك‬
‫كانت رؤيتھم محدودة ‪.‬‬
‫‪ -‬تيارات أخرى ‪ ...‬أكثر تماسكا لكنھا مثالية ‪:‬‬
‫تيارات أخرى ظھرت على الساحة الفكرية واالجتماعية ‪ ,‬تيارات أكثر ثورية‬
‫وأكثر منھجية في طرح القضايا ومناقشتھا ‪ .‬إال أنھا جد مثالية ‪ .‬تأثرت ھذه‬
‫التيارات بما كان ير ّوج وقتھا من فكر اشتراكي بنوعية العلمي والمثالي وركزت‬

‫‪203‬‬
‫حلولھا وأطروحتھا على الھياكل االقتصادية ورأت الحل في الغرب ) ولكن بعد نقد‬
‫الغرب وتعريته ورفض الجوانب المظلمة فيه مثل االستغالل ‪( ...‬‬
‫إال أنھا بالغت وتطرفت ‪ ..‬أعدمت القوات ورأت ضرورة قطيعة ابستيمولوجية مع‬
‫الدين والتراث ‪ ..‬وھكذا سقطت ورفضھا الجسم االجتماعي والحضاري المعنوي‬
‫اإلسالمي ‪.‬‬
‫واصطدمت بالحساسية الدينية ‪ ..‬ولم تلق رواجا كبيرا ‪ ...‬فقد كان ھؤالء األوائل من‬
‫العلمانيين االشتراكيين متحمسين ولكنھم كانوا يحملون كثيرا ‪ .‬فوقعوا في‬
‫مجاوزات كانت سبب عقمھم وعدم قدرتھم على اإلشعاع والتأثير في أوسع‬
‫الجماھير ‪ ).‬وسيتطور ھذا التيار في ما بعد ويراجع أطروحته ويبني مفاھيمه‬
‫وحلوله على أسس أكثر علمية وواقعية ‪..‬‬
‫) وھذا يتجاوز حدود موضوعنا ‪ ..‬إذ التزمنا بالحديث عن األوائل ‪ ..‬أي الرواد ( ‪..‬‬
‫‪ -‬محاولة توسط‪ ...‬لكنھا فاشلة ‪..‬‬

‫بين ھذين النقيضين ظھر جماعة ) ھم من كل التيارات ( رأوا أن مسألة التخلف ال‬
‫تحل إال بمحاولة التوسط ‪ ..‬وطرحوا الشعار الذي مازال مطروحا إلى اآلن ولكن في‬
‫منظور آخر ‪ :‬األصالة المعاصرة ‪.‬‬
‫وكان ھذا يعني بالنسبة إليھم ‪ :‬االستناد إلى األصل ‪ :‬التراث وعدم التفريط فيه ألنه‬
‫ھو الحضور التي يشدنا إلى حضارتنا ‪ ,‬ومحاولة تطعيم ھذا األصل وإثرائه بمفاھيم‬
‫المعاصرة ‪ :‬االنفتاح على منجزات الفكر اإلنساني الحديث واقتباس منه كل ما من‬
‫شانه أن يعيننا على الخروج من التخلف ) التقنية والعلم (‬
‫واعتقد ھؤالء أن التقنية والعلم يمكن اقتباسھما خارج سياقھما الحضاري ‪ ...‬لقد‬
‫فتحوا الباب ولكنھم لم يستطيعوا بناء نظرية التوسط على أسس موضوعية ‪ ...‬فقط‬
‫كانوا يسقطون كثيرا في التلفيق أو تغليب شق على آخر ) المعاصرة أو األصالة (‬
‫فبقيت مسألة التوسط مسألة نظرية أكثر منھا مسألة واقعية ) ربما يرجع ذلك لكون‬

‫‪204‬‬
‫ھذه الطائفة كانت تشمل أفرادا من تيارا مختلفة ) التيار اإلسالمي ‪ ,‬التيار العروبي ‪,‬‬
‫التيار الليبيرالي ‪ ...‬الخ وكلھا متداخلة (‬
‫‪ ...‬المنظور الجدلي لم يوجد وقتھا ‪..‬‬
‫من خالل ھذا االستعراض الذي طال أكثر مما كنا نضنه ‪ ,‬تتبين لنا مجموعة من‬
‫الحقائق ‪:‬‬
‫‪ (2‬إن الفكر العربي الحديث كان عازما على معالجتھا وسعى فعال إلى طرح‬
‫البدائل والحلول ‪.‬‬
‫‪ (3‬إن الفكر العرب يقد توزع توزعا ملحوظا في أثناء طرحه للحلول ‪.‬‬
‫‪ (4‬إن جل االطروحات كانت تقفز فوق الواقع ) أما نحو الماضي أو نحو‬
‫الغربي أو نحو مثل بعيدة التحقيق (‬
‫‪ (5‬إن الفكر العربي كان يفتقر في النظر إلى مسألة التخلف إلى رؤية جدلية و‬
‫متكاملة ‪ .‬فقد كانت االطروحات أحادية الجاني في أغلبھا ‪.‬‬
‫‪ (6‬إن الطرح من أجل الخروج من التخلف انطبع بحدة كبيرة وصراع بين‬
‫التيارات نفسھا وتحولت المجھودات في أغلبھا إلى التناحر بين ھذه‬
‫الفئات ‪ ,‬وكان ذلك أمرا طبيعيا ‪ .‬فقد ارتبط الصراع ضد التخلف بالنسبة‬
‫إلى كل تيار بالصراع ضد التيارات السياسية المتواجدة معه ‪.‬‬
‫‪ (7‬الموضوعات التي كانت مطروحة للنقاش بالدرجة األولى ھي‬
‫الموضوعات السياسية والفكرية ) الخالفة – الدولة – الديمقراطية –‬
‫الحكم ‪( ...‬‬
‫‪ (8‬قضية نقطة البداية في الخروج من التخلف تطورت حسب خط تطور‬
‫حركة الفكر العربي نفسه ‪:‬‬
‫‪ -‬في البداية كان التركيز على السياسة‬
‫‪ -‬ثم التركيز على الثقافة‬
‫‪ -‬ثم التركيز على االقتصاد ودائما دون ربط جدلي متكامل ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫ھذه مجموعة من الحقائق ) رغم سطحية وتسرع عرضھا ( يجب وضعھا في‬
‫مكانھا ‪ ,‬وأخذھا بعين االعتبار عند حديثنا عن قضية التخلف ألن معرفتنا بالفكر‬
‫العربي الحديث ومناقشته لھذه المسألة تنيرنا وتوضح لنا السبيل وتساعدنا في فھم‬
‫ما يجري وفي تفسير االطروحات المعاصرة ومعرفة امتداداتھا وجذورھا وخلفياتھا‬
‫‪.‬‬
‫‪ ...‬ثم أن انطالقنا من ھذا المدخل التاريخي القصير قد يساعدنا على تجاوز المزالق‬
‫التي وقع فيھا الرواد ‪ .‬وبالتالي نتمكن إذا نحن عرفنا مواطن الخطأ والضعف أن‬
‫ننظر إلى المسألة نظرة أكثر صالبة وأكثر جدوى وفاعلية ‪ .‬وبالتالي أكثر واقعية ‪.‬‬
‫فالفكر العربي الحديث كان في أغلبه ينظر إلى أوروبا نظرة إما مثالية وإما خاطئة )‬
‫نظرة الصراع الدائم أو نظرة التضاؤل ( ‪ ...‬وإن نحن حاولنا أن نستثمر محصول‬
‫الفكر العربي الحديث في ھذه المسألة فإننا ال شك سنستطيع تجاوز الكثير من‬
‫األوھام واألخطاء التي وقع فيھا األوائل ‪.‬‬

‫الفكـــــرة الخطيـــــــــرة‬
‫ھشام عطاء ﷲ‬

‫منذ نشرنا مقال األستاذ المنصف المرزوقي " المبتذالت العشر وردي عليھا "‬
‫وردود الفعل ال تنقطع ‪ :‬عدة رسائل وردت علينا ضمنھا أصحابھا رأيه في المقال‬
‫‪ ...‬وبعضھم جاء إلى مقر الجريدة ليعلق عليه وغيره استوقفوا من أعترضھم من‬
‫أفراد أسرتي " الرأي " وتكلموا واستفسروا ‪...‬‬
‫كان ردود فعلھم فسيفساء كما توقعنا أن تكون ‪ :‬ھنا المؤيد المعجب ھناك من قال ‪:‬‬
‫" نعم ‪ ...‬ولكن ‪ " ...‬وھناك الساخط على المقال وصاحب المقال ‪ :‬بعضھم رأي في‬
‫ما كتبه األستاذ المرزوقي تجنيا على اإلسالم وھناك من رأي أن صاحبه ال يعدوا أن‬
‫يكون بوقا للفكر االستعماري اإلمبريالي ! ‪...‬‬
‫واستبد الحماس ببعض قرائنا فأطلقوا نعوتا واتھامات ليس ھناك مجال لذكرھا ‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫وليس ھذه أول مرة يثير فيھا إحدى مقاالت الرأي مثل ھذا الضجيج والحركة ‪ .‬إني‬
‫أذكر يوم فتح الزميل حمزة األسود باب " اإلسالم والسياسية " فكانت المساھمات‬
‫والردود بكثرة التي جعلت المساحة واإلمكانيات تضغط على رحابة صدرنا وتجبرنا‬
‫على إغالق ملف كان بودنا أن نمكن أكبر عدد من القراء للمساھمة فيه ‪.‬‬
‫وقد كان لألستاذ المرزوقي نفسه المبادرة في فتح حوار حول ظاھرة تخلف‬
‫مجتمعاتنا ‪ .‬وأذكر كم عانى وقضى من الوقت في قراءة سيل الردود التي أثارتھا‬
‫آراؤه في ھذه الظاھرة وقد كنا نشرنا العديد منھا وافق أم خالفا ما نشرناه ‪.‬‬
‫أمثلة قليلة سقتھا عن ما يعقب صدور ھذا المقال أو ھذه الدراسة من ردود فعل‬
‫ومساھمات ونقاش ‪.‬‬
‫إن للحوار الذي يفتح القرائح التي تتفتق واألقالم التي يستثيرھا ما ننشره لھي‬
‫أثمن لدينا من كل رصيد آخر‪.‬‬
‫ال نرتاح فوق اللزوم إذا ألقيت إلينا ورود االستحسان وال نسخط على من ينتقدنا‬
‫ويتھمنا ‪ ...‬وقد نأسف إذا أحد سبّنا ألننا قلنا ماال يالئم رأيه ومزاجه ‪ .‬ولكن ھذا‬
‫األسف سرعان ما يمحي عندما نرى أننا قد أثرنا القارئ ودفعناه لكي يحدثنا ويعبر‬
‫عن فكره ورأيه وكم ھي قليلة فرص التعبير في بالدنا ‪.‬‬
‫قد ال يعجبك كالم اآلخرين ولكن في استماعك إليه وردك عليه خروج من العزلة‬
‫وتطلع إلى آفاق تكون معرفتك لھا دوما أحسن من جھلك لھا ‪.‬‬
‫ويحدث أن يتدنى مستوى النقاش ويحمي وطيسه فيخرج بعضنا عن اللياقة فيشتم‬
‫ويتجنى على غيره بطريقة مجانية ‪ .‬ولھؤالء بعض العذر ألن تقاليد الحوار لدينا‬
‫مازالت في طور الحمل ‪ .‬وكلكم يعلم أن الحامل يتعكر مزاجھا في أشھر الحمل‬
‫األولى وقد يصيبھا الغثيان‪ ,‬ولكن الجنين إذا كان سليما ولقي من ال رعاية ما يكفي‬
‫ينمو ويصل إلى منتھى الرحلة ويبعث رسوال للحياة واألمل ‪ .‬فلنترفق بھذا الجنين‬
‫الذي يترصد به من ال رغبة لھم فيه ‪ ...‬أال يكفي أن قانون الصحافة يتحين كل‬
‫فرصة الجھاضه كي يحقق حلمه في أسرة إعالمية يسودھا " التنظيم العائلي " ال‬
‫يحق العيش فيھا إال للتلفزة وأخواتھا ‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫كلما كتبنا ورددتم ‪ ...‬كل ما حدثتمونا وشرفتمونا بإبالغنا أفكاركم وھواجسكم سواء‬
‫وافقت رأينا أم خالفته كان ذلك حافزا جديدا لنا لكي نكتب ونستمع منكم ‪.‬‬
‫ال يحز في أنفسنا أن تخالفونا أو أن تھاجمونا ولكن يحز في أنفسنا أن نراكم‬
‫المبالين ‪ ...‬فال شيء يغيظ الطموح مثل الالمباالة ‪.‬‬
‫وألننا نطمح أن نساھم في خلق حوار وحركية فكرية تفجر الطاقات وتنفض الغبار‬
‫عن مواھب وخامات عوملت وتعامل باالزدراء حينا وبالتكميم حينا آخر ‪ ,‬فإننا‬
‫سنحرص على آثاره ردود فعلكم وقد نغيظ بعضكم ونخالف ما يراه ‪ .‬ونحن نختار‬
‫ھذا الرھان الخطير ألنه ال نھضة فكرية بدون تالقح وتصادم ووفاق وخالف ‪.‬‬
‫وقد قال بعضھم ‪ " :‬الفكرة إن لم تكن خطيرة ليست فكرة ! " ‪.‬‬

‫‪208‬‬
209
210

You might also like