Professional Documents
Culture Documents
ال أزال أؤمن أبن مثة دورا كبريا ينتظر األمة املسلمة ،وال أزال أؤمن أبن حركة التاريخ اليت هي
من سنن هللا سوف توقف هذه األمة أمام قدرها احملتوم ..لتؤدي واجبها حنو البشرية التائهة ..
فإىل الذين يساعدون التاريخ ،كي تقف هذه األمة يف مكاهنا الصحيح ..وكي تؤدي دورها
الصحيح ...
2
بني يدي هذه الصفحات
املكتبة اإلسالمية والتارخيية حافلة ابلدراسات والقصص حول الصفحات الوضيئة من اترخينا .
ولكم كتب الكاتبون حول صناع احلضارة اإلسالمية ،ولكم أطنبوا يف احلديث عن أبطالنا ،وعن
فضلنا على أوراب ..وغري أوراب .
ولقد ظهر اترخينا من خالل الرتكيز ،وكأنه اتريخ أسطوري ،وكأن الذين عاشوه وأسهموا يف
صنعه مالئكة ليسوا بشرا !! ..
أوال :ألنه ترك مهمة التحليل العلمي لتارخينا كتاريخ بشر هلم مزااي وغرائز -ألعداء هذا
التاريخ ،فراحوا يركزون على اجلوانب السلبية يف هذا التاريخ ،وصادف هذا هوى من بعض
العقليات اليت كانت تسأم الرتكيز على املاضي هبذه الصورة غري املوضوعية ،وابلتايل ..انساقت هذه
العقليات وراء مجاعة املستشرقني الذين يدرسون اترخينا ...من نقطة االنطالق احملددة ،وهي تشويه
هذا التاريخ وأصحاب هذا التاريخ !!
اثنيا :ويف غمرة االنبهار العقلي ابملناهج االستشراقية ..ضاعت حبكم رد الفعل حقائق
موضوعية تتصل هبذا التاريخ ،وانقسم الناس حول هذا التاريخ قسمني :قسم يرفضه ابجلملة ،ويراه
عقبة يف طريق التقدم واملستقبل ،وقسم آخر يراه كل شيء ،ويراه من جانبه العاملي اإلجيايب هو
النموذج احلريف الذي جيب إعادته وتكرار منطه .
وبني طريف النقيض ..ميكن أن توجد احلقيقة ،وميكن أيضا أن تسقط احلقيقة !!.
اثلثا :لقد صرفنا منهج الرتكيز على املدح عن االستفادة احلقيقية من اترخينا ،ولعل بعض الناس
3
قد وقر يف أذهاهنم بفعل هذا الرتكيز ،أن ما نعانيه يف هذا القرن من مشكالت حضارية ،ومن
حتدايت مصريية ،هو منوذج مل يتكرر يف اترخينا ..وهم يشعرون -لذلك -بيأس شديد ،ولعلهم
حيسون ،وإن كانوا ال يفصحون أبننا لن نعود إىل استئناف مسريتنا -حنن املسلمني -وأبننا مل يعد
لدينا ما ميكن أن نعطيه للحياة يف عصر القوة النووية واملركبات الفضائية ،حنن الذين نستورد
الساعات والسيارات واآلالت البسيطة !! .
إن هذا الكتاب ..يتناول " أوراقا ذابلة من حضارتنا " من خالل تركيزه على سقوط دول
إسالمية بعضها كان درسا أبداي حني كانت األمراض خبيثة وفتاكة ،وحينما ذهبنا نطلب الدواء من
عدوان ..فكانت فرصته إلعطائنا السموم القاتلة ..ولعل هذا الدرس مل يتضح جبالء إال يف األندلس
وجزر البحر األبيض املتوسط كصقلية ..
ولعل من املالحظات التارخيية أن القرن الذي شاهد سقوط غرانطة -آخر مصارعنا يف
األندلس ( 2941م ) كان نفسه الذي شاهد سنة 2941م -الفتح اإلسالمي اخلالد للقسطنطينية
،ذلك الفتح الذي كان من آاثره عند اإلنصاف التارخيي محاية املسلمني لفرتة تزيد على مخسة قرون
..
لقد سقطت األندلس ..كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ،وكان ال بد من برته ..
فحقت عليه كلمة هللا !!
ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبين لإلسالم اترخيا جديدا ..ولقد
األحقاد األوربية الصليبية ثالثة قرون على األقل .
َ أرعبت هذه القوةُ
إن درس األندلس ال جيوز أن يغيب عن ابلنا ،ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من
عدة نقاط ابرزة :
4
أوال :الصراع العنصري اجلنسي
اثنيا :ارتفاع راايت متعددة بعيدة عن راية اإلسالم الواحدة املتصلة ابلنفوس والعقول .
وكل العوامل األخرى ..تدور حول هذه النقاط بطريقة أو أبخرى ! ! ولقد دفع مسلمو
األندلس مجيعا مثن أخطائهم :دفع احلكام الثمن حني أذهلم هللا وسلبهم ممالكهم ،وهل ننسى أشعار
ابن عباد البائسة ،حني أذله هللا على يد املرابطني يف " أغمات " ابملغرب األقصى ؟؟ وهل ننسى
قولة ابن صمادح حاكم " أملرية " وهو ميوت " :نغص علينا كل شيء حىت املوت " ؟ وهل ننسى
دموع ..أيب عبد هللا -آخر ملوك غرانطة ..حني رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسالمي
يف أوراب ..رحلت به على أنغام األمواج اهلائجة ..وكلمات أمه املسكينة تدوي يف عمعه " :ابك
مثل النساء ملكا مل حتفظه حفظ الرجال " !!
ولقد دفع الشعب اإلسالمي الثمن حني استسلم ألمثال هؤالء امللوك .ومل أيخذ على أيديهم ،
فأحرقت دوره ،وسلبت أمواله ،وأرغم على تبديل دينه ،بل وتغيري اعمه ،وحرمته الصليبية اآلمثة
أبسط حقوق اإلنسان !!
على أن " األوراق الذابلة من حضارتنا " كانت جمرد تغيري يف هيئة احلكم حبثا عن طموح
شخصي ،أو انطالقا من دعوى عنصرية ،أو دفاعا عن نعرة مذهبية ،أو فشال من دولة كبرية جامعة
كالعباسيني واألمويني يف السيطرة على كل ما حتت يدها ..مما مينح الفرصة للمطامع أن تظهر ،
وللنعرات أن حتكم .
وحنن ال نستطيع القول :أبن هذه األوراق كانت كلها خريا أو شرا ،ولعل بعضها كان لفتة قوية
للدول الكربى كي تسري يف الطريق اإلسالمي الصحيح ..كما أننا كذلك ال منيل إىل القول :أبن
5
هذه الصفحات اليت أدت إىل تغيري دولة بدولة أو حكم حبكم كانت تسري ابألمة يف طريق اهلاوية ..
فال شك أن مثة مزااي أخرى ميكن أن تكون قد تناثرت على الطريق .
إنين ال أميل إىل ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسري يف طريق عمودي ..سواء إىل أعلى أو
على أسفل ..عن جتربة اترخينا اإلسالمي تكشف لنا أن حركة التاريخ يف دائرة احلضارات الكربى
اجلامعة -كاحلضارة اإلسالمية -حركة لولبية -إن صح هذا التعبري -فثمة احنناءة إىل أسفل يف
جانب تقابلها احنناءات إىل أعلى يف جوانب أخرى ،فهي حركة دورية تنتظمها مراحل اهلبوط
والصعود ..اهلبوط بفعل التناحر والفساد الداخليني ،والصعود بفعل االستجابة لتحدايت خارجية
قوية .ومن الالفت للنظر أن مراحل اهلبوط -يف التجربة التارخيية هلذه األمة -قد ارتبطت أبوضاع
داخلية ،فهذه األمة مل تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ،بل إن األعداء اخلارجني مل
ينفذوا إليها إال من خالل السوس الذي ينخر فيها من الداخل ..ولقد أفادان األعداء بتدخلهم كثريا
،وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمري اإلسالمي ،أو إعالن اجلهاد العام ،أو إظهار "
صالح دين " أو " سيف دين " مما من شأنه أن جيمع املسلمني حتت راية واحدة .
لقد كانت األمة املسلمة قادرة مبا فيها من عناصر القوة الكامنة على االستجابة للتحدايت
اخلارجية ،كأروع ما تكون االستجابة للتحدايت ،ولو مل ترهق هذه األمة -يف أغلب مراحل اترخيها
-حبكام يشلون حركتها ،وخينعون أمام أعدائها ،ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم ..لو مل
تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ،ولو أن هذه األمة قد تركت لفطرهتا وتراثها وقيمها
وحضارهتا اليت غرسها ورعاها اإلسالم ..لو مت هذا لكان يف اإلمكان أن حتدث منعطفات كثرية يف
اتريخ هذه األمة .هي لصاحلها ..وحلساب رقيها وازدهارها.
لقد حاولت من خالل هذه األوراق الذابلة أن أمد الطرف -يف اترخينا اإلسالمي -إىل آفاق
ثالثة :األندلس (أورواب) ،واملشرق العريب خبالفتيه الكبريتني ( العباسية والفاطمية ) والدول اليت
تبعتهما ،مث املغرب العريب ..وهي األجنحة الثالثة الشهرية اليت تزعمت العامل اإلسالمي ،ومثلث
القيادة الفكرية والسياسية ابلنسبة ملسلمي العامل .
6
ومل تكن األوراق اليت اخرتهتا إال جمرد مناذج من هذه األجنحة .ولرمبا كانت هناك دول أخرى
كفيلة مبدان بشارات من شارات طريق السقوط ..لكن االستقصاء ،فضال عن صعوبته ،مل يكن
من أهداف هذه الصفحات .
إن هذا البحث ..وجبة خفيفة من وجبات اترخينا .لكنها وجبة من نوع خاص ..ليست
زاخرة أبنواع الدسم واملشهيات ،فإن جسم احلضارة كأجسام األفراد -ال يستقيم ابلدسم الدائم !!
وهذا البحث دعوة لتشريح اترخينا من جديد ..وجبرأة ،فألن نشرحه حنن -إبنصاف -أوىل
من أن نرتكه ألدعياء املنهج العلمي يشرحونه -حبقد وعنف وإجحاف !! ..
وهو كذلك حبث للذين يقرءون اترخينا ..ليتعلموا ،أو ليناقشوا ،أو ليعرفوا معامل املستقبل .
لسوف تبقى هذه األمة ،ولسوف تؤدي دورها ،لسوف تقوم من عثرهتا ..هكذا يقول لنا
معلمنا العظيم " ..اترخينا " ذو األربعمائة وألف سنة -أطال هللا عمره!!
ولقد حاربنا العامل كله ذات يوم ..وجنوان ..وانتصران ..فقط مثة شرط واحد :أن نعرف من
أين نبدأ ،وإىل أية غاية نريد !! ودائما يعلمنا اترخينا أن آخر أمتنا لن يصلح إال مبا صلح به أوهلا .
7
القسم األول :من قصص سقوطنا يف أورواب
قصة " الغنيمة " يف اترخينا غريبة ،والدرس الذي تلقيه علينا -كذلك -أغرب!!
لقد بدأت أوىل هزائمنا بسبب الغنيمة ،ولقد وقفنا مرغمني -عند آخر مدى وصلت إليه
فتوحاتنا ،بسبب الغنيمة -كذلك !!
كان قائد املعركة األوىل هو الرسول عليه الصالة والسالم ..وخالف الرماة أمره ،وخافوا من أن
تضيع فرصتهم يف الغنيمة ..فكانت " أحد " وشهد اجلبل العظيم استشهاد سبعني رجال من خرية
املسلمني ..بسبب الغنيمة ..نعم بسبب الغنيمة !!
وكان قائد املعركة األخرية " عبدالرمحن الغافقي " آخر مسلم قاد جيشا إسالميا منظما الجتياز
جبال الربانس ،ولفتح فرنسا ،وللتوغل -بعد ذلك -يف قلب أورواب .
8
وهزم الغافقي ..سقط شهيدا يف ساحة " بالط الشهداء " إحدى معارك التاريخ اخلالدة
الفاصلة ..وتداعت أحالم املسلمني يف فتح أوراب ،وطووا صفحتهم يف هذا الطريق ..وكان ذلك
لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس اهلزمية ..أعين بسبب الغنيمة .
ومنذ مت االستقرار يف املغرب العريب ،وإسبانيا اإلسالمية ،وهم يطمحون إىل اجتياز جبال
الربانس وفتح ما وراءها ،هكذا أراد " موسى بن نصري " لكن اخلليفة الوليد بن عبد امللك " خشي
أن يغامر ابملسلمني يف طريق جمهولة مث فكر على حنو جدي " السمح بن مالك اخلوالين " وايل
األندلس ما بني عامي ( 211 - 211هجرية ) ،وتقدم فاستوىل على والية ( سبتماية ) إحدى
املناطق الساحلية املطلة على البحر األبيض املتوسط جنوب فرنسا ،وعرب -بذلك " -السمح "
جبال الربانس ،وتقدم فنزل يف أرض فرنسا منعطفا حنو الغرب حيث جمرى هنر اجلارون ،مستوليا يف
طريقه على ما يقابله من البلدان ،حىت وصل إىل -تولوز -يف جنوب فرنسا -لكن مل يستطع أن
يستقر فيها ،وقتل السمح ،وتراجعت فلول جيشه حتت قيادة أحد قواده ( عبد الرمحن الغافقي )
فكأن السمح مل ينجح إال يف االستيالء على سبتماية .
مث واصل الوايل اجلديد بعد ( عنبسة بن سحيم الكليب ) التقدم حنو أوراب ،وإن كان قد غري
طريق السري ،ومتكن من الوصول إىل " أواتن " يف أعايل هنر الرون ،لكنه مل يكن حذرا فلم ِّ
يؤمن
طريق عودته فانتهى األمر بقتله وعاد جيشه إىل أربونة يف سبتماوية .
لكن عبد الرمحن الغافقي ،كان الشخصية احلاعمة اليت أرادت التقدم حنو أوراب وحرصت عليه ،
وكان عبد الرمحن مشبعا بروح اإلميان والرغبة يف الثأر ملا أصاب املسلمني من قبل حني قتل " السمح
" وحني رجع هو ابجليو اإلسالمية إىل سبتماوية ( وقد أعلن الغافقي الدعوة للجهاد يف األندلس
كلها ويف أفريقية ،وقد جاءته وفود املتطوعني من كل مكان ،كما أنه من جانبه استعد استعدادا
كبريا هلذا الغزو ) .
ولقد التقى املسلمون ( عراب وبرابرة ) ابملسيحيني بني بلدي " تورو " و " بواتيه " على مقربة من
ابريس ،وكان قائد النصارى ( شارل مارتل ) وزير دولة الفرجنة وأمني القصر ،بينما كان ( عبد
الرمحن الغافقي ) -يقود جيو املسلمني .وكانت املعركة شديدة قاسية استمرت قريبا من سبعة أايم
9
،وكان اجليش الفرجني وحلفاؤه أكثر من جيش العرب ،ولكن املسلمني أحسنوا البالء يف القتال ،
وكاد النصر يتم هلم ..لوال أن ظهرت قضية " الغنائم " !!
لقد عرف املسيحيون أن لدى اجليش اإلسالمي غنائم كثرية حصل عليها من معاركه أثناء تقدمه
من قرطبة حىت " بواتيه " ..
وقد أثقلت هذه الغنائم ظهور املسلمني ،وكان من عادة العرب أن حيملوا غنائمهم معهم ،
فيضعوها وراء جيشهم مع حامية حتميها .
وقد فهم النصارى هذا ،وجنحوا يف ضرب املسلمني عن طريق الرتكيز على هذا اجلانب ،لقد
شغلوهم من اخللف .من جانب احلامية املكلفة حبراسة الغنائم ..ومل يفطن املسلمون للتخطيط
النصراين ،فاستدارت بعض فرقهم حلماية الغنائم ..وابلتايل اختل نظام اجليش اإلسالمي ..ففرقة
تستدير حلماية الغنائم ،وأخرى تقاتل النصارى من األمام ..
وعبثا حاول عبدالرمحن الغافقي إنقاذ نظام اجليش اإلسالمي ،إال أن سهما أصابه وهو يبذل
حماوالته املستميتة ..فوضع حدا حملاوالت اإلنقاذ ،وأصبح جيش املسلمني دون قيادة ..وتقدم
النصارى فأخذوا خبناق املسلمني من كل جانب وقتلوا من جيشهم الكثري !!
لقد كانت " بالط الشهداء " سنة 229هجرية آخر خطوات املد اإلسالمي يف اجتاه أوراب ،أو
على األقل آخر خطواته املشهورة .
مث توقف املد ..ألن بريق املادة غلب على إشعاعات اإلميان !!
والذين يسقطون يف هاوية البحث عن الغنائم ال ميكن أن ينجحوا يف رفع راية عقيدة أو حضارة
.
10
أحفاد " صقر قريش " يسقطون
خالفة ولدت من خالفة ..ولئن كان أبو مسلم اخلراساين ،وأبو عبيد هللا السفاح قد استطاعا
أن يقضيا على دولة اخلالفة األموية بدمشق سنة 211هـ ،وأن يقتال مروان بن حممد حبلوان مصر ،
فيقتال بقتله آخر خليفة أموي يف املشرق العريب ،فإن هذه اخلالفة املنهارة ،قد نبتت هلا بذرة غريبة
الشكل والتكوين يف أرض تفصلها عنها حبار ،وآالف األميال .
وقد استطاع عبد الرمحن بن معاوية بن هشام بن عبد امللك بن مروان ،أن يكون هو الفارس
هلذه النبتة يف األندلس ،بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عمال روائيا عظيما ..
وجنح " صقر قريش " العجيب يف أن يهرب أمام اجلنود العباسيني حىت وصل إىل فلسطني ،
ومنها إىل مصر ،مث إىل املغرب بعد مخس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيني ...
لقد كان حيكم األندلس آنذاك يوسف بن عبد الرمحن الفهري نيابة عن العباسيني ،وقد حاول
الفهري مقاومة تسلل وجتمعات عبدالرمحن الداخل ،لكنه هزم أمامه عندما التقيا سنة 214هـ ،
ودخل عبد الرمحن قرطبة ،فتأسس بذلك لألمويني الذين سقطوا يف دمشق على يد العباسيني ،ملك
جديد يف األندلس اإلسالمية .مل تنجح كل حماوالت العباسيني على عهد جعفر املنصور يف اسرتداد
األندلس ،كما مل تنجح حماوالت ملك الصليبيني ( شارملان ) يف استغالل الظروف والقضاء على
صقر قريش ،واستتب بذلك األمر للفرع األموي الذي تكون يف األندلس .
لقد عا عبد الرمحن الداخل يبين ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثالثني سنة بعد ذلك .
فلما مات سنة 271هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده ..توالها
هشام ابنه ،مث عبد الرمحن الثاين ،إىل أن وصل األمر إىل عبد الرمحن الثالث امللقب ابلناصر ،الذي
اعترب عهده قمة ما وصلت إليه األندلس األموية من ازدهار وتقدم .
11
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان .نعمت األندلس فيه خبري فرتات حياهتا يف
ظالل اإلسالم ،وطلبت ود الدولة املماليك النصرانية احمليطة هبا ،وأصبحت قرطبة ،واملدن
األندلسية األخرى ،كعبة العلوم ،ومقصد طالب العلم ،وعواصم الثقافة العاملية الراقية ..
ويف سنة 141هـ مات عبد الرمحن الناصر هذا ،فرتبع على عر األندلس من بعده ولده
احلكم بن عبد الرمحن الناصر ،مث حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه احلجاب وأبرز هؤالء
احلجاب املنصور حممد بن عبد هللا بن أيب عامر ،الذي حكم ابسم األمويني مبعونة أم اخلليفة " صبح
" ومتكن من حتويل اخلالفة لنفسه وألبنائه مدة قصرية ،مكوان خالهلا الدولة املنسوبة إليه ،واملسماة
ابلدولة العامرية .
مث عادت أمور األمويني إليهم فرتات قصرية قلقة ،إىل أن قضي عليهم قضاء أخريا يف األندلس
سنة 911هـ ،وعلى أنقاضهم قامت جمموعة دويالت هزيلة يف األندلس عرف عهدها بعهد ملوك
الطوائف ،الذي كان من أكثر عهود املسلمني يف األندلس تفككا وضعفا واحندارا حنو هاوية
السقوط .
لقد قضى على األمويني يف األندلس عامالن ابرزان -أوهلما :أن هؤالء األمويني مل يفهموا
طبيعة التكوين األندلسي ،أو فهموه ومل يقوموا مبا تتطلبه طبيعته ،وأبرز عمات هذا التكوين ،وجود
النصارى يف ترقب دائم ألية ثغرة ينفذون منها ،وتباين األجناس اليت تعيش على أرضهم وتستظل
برايتهم ،ال جيمعها إال أقوى وشيجة يف التاريخ وهي اإلسالم .ومل يكن هناك من حل حضاري
ملواجهة طبيعة هذا التكوين إال تعميق " اإلسالمية " وجتديدها بني احلني واحلني ،حبركات جهاد
مستمرة ضد املماليك النصرانية املتحفزة ..وحركات جهاد متتص املشاكل اجلنسية الداخلية ،ويف
الوقت نفسه توقف النصارى عند حدودهم وجتعلهم يف موقف الدفاع ال اهلجوم .
والعامل الثاين البارز كذلك ،هو ترك بعض هؤالء اخللفاء األمور حلُ َّجاهبم أو نسائهم ،مما مكن
لرجل كاملنصور بن أيب عامر سرقة اخلالفة دون جهد .
12
ومن حقائق التاريخ اليت نستفيدها من الوعي به وبقوانينه ،أن الدولة اليت ال تفهم طبيعة
تكوينها ،وتعمل على إجياد حل دائم مالئم هلذه الوضعية ،تكون معرضة للزوال ..وهذا هو األمر
الذي آلت إليه أمور بين أمية يف األندلس بعد حياة دامت قريبا من ثالثة قرون ..
عندما أوشكت اخلالفة األموية يف األندلس على السقوط ،مل تسقط دفعة واحدة .
لقد جرى عليها ما جرى على الفاطميني بعد ذلك يف مصر ،وما جرى على املماليك أيضا ..
لقد ضاعت الزعامة منهم عرب انقالب سلمي مل ترق فيه قطرة دم -ابملعىن املباشر لالنقالابت
الدموية !! -
لقد ويل أمر اخلالفة طفل يف السابعة من عمره يدعى " هشاما " وملا مل يكن إبمكانه حكم
البالد ،فقد كانت أمه " صبح " وصية عليه ،ومل تستطع صبح هذه أن تنفرد ابلسلطة ،فقد
أشركت معها يف األمر رجال من أغرب الرجال وأقدرهم يدعى " املنصور بن أىب عامر " ..
وقد جنح هذا املنصور يف أن يعرب االنقالب السلمي بنجاح ،وحيول اخلالفة األموية يف األندلس
إىل ملك ينتسب إليه ،ويرثه أبناؤه من بعده !! وإن كان لبين أمية االسم الرمزي واخلالفة الصورية .
ومل ميض أكثر من أربعني سنة حىت كانت دولة العامريني قد أصبحت آخر ومضة متثلت فيها
دولة اخلالفة األموية يف األندلس ،وبسقوط دولة العامريني اليت قامت على غري أساس ،انفرط عقد
األندلس ،وظهر هبذه األرض الطيبة عصر من أضعف وأردأ ما عرف املسلمون من عصور الضعف
والتفكك والضياع .
لقد ورث خالفة األمويني أكثر من عشرين حاكما يف أكثر من عشرين مقاطعة أو مدينة ،وقد
انقسم هؤالء احلكام إىل بربر وصقالبة وعرب ،وكانت بينهم حروب قومية مل خيمد أوارها طيلة
السنوات اليت حكموا فيها ،ولقد ترك هؤالء امللوك املستذلون الضعاف امللوك النصارى يعيشون هبم
13
ويتقدمون يف بالدهم ،وانشغلوا هم حبروهبم الداخلية ،وابستعداء النصارى ضد بعضهم البعض ،
وتسابقوا على كسب النصارى ،وامتهنوا يف ذلك كرامتهم وكرامة اإلسالم ،فدفعوا اجلزية وتنازلوا
طوعا عن بعض مدهنم للنصارى ،وحاربوا يف جيو النصارى ضد املسلمني من إخواهنم يف املدن
األخرى من أرض األندلس اإلسالمية .
وال يستطيع املرء أن يزعم أن ابستطاعته أن حيصي كل مساوئ الفرتة املسماة بفرتة ملوك
الطوائف .
ولقد أدى التنافس بني هؤالء امللوك إىل رفعة منزلة الشعراء واألدابء واملطربني ،ومل يكن ذلك
حبا يف األدب ،وال إعجااب بفن الطرب ،وإمنا كان ذلك من مجلة أساليبهم يف حرب بعضهم البعض
،ويف حماولة حتصيل اجملد والشهرة املزيفني.
وقد اشتهر من بني هؤالء امللوك املتنافسني أسرة بين عباد ،اليت نبغ فيها املعتمد بن عباد كأمري
مشهور عاطفي ،وكشاعر كبري ذي قلم سيال !!
ولقد استفحل اخلالف والتنافس بني هؤالء امللوك ،كما استفحل كذلك ضعف كل منهم ،
وكان من نتائج ذلك طمع النصارى يف إشبيلية ويف املدن األندلسية األخرى .
ولئن كان للمعتمد بن عباد من فضل ،فإن ذلك الفضل لن يكون إال يف حماولته مقاومة هذا
اخلطر حني رأى دنوه من أبواب املسلمني .
ومل يكن أمامه من خمرج غري االستعانة بقوة املغرب العريب ..فاستعان ابملرابطني يف املغرب
األقصى ،وعندما كان بقية ملوك الطوائف يبدون خشيتهم من املعتمد ،قال هلم كلمته املشهورة " :
ألن أرعى اجلمال يف صحراء العرب خري من أرعى اخلنازير يف أرض الصليبيني " .
ولقد تقدم زعيم املرابطني يوسف بن اتشفني فعرب البحر و ( جبل طارق ) لنجدة املسلمني يف
األندلس وحقق يف ( معركة الزالقة ) سنة 974هـ ( 2101م ) انتصارا كبريا ساحقا على النصارى
14
كان من أثره مد عمر اإلسالم يف األندلس فرتة أخرى من الزمن .
ولقد تبني ليوسف بن اتشفني بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤالء ليسوا أهال للبقاء يف مراكز
السلطة يف األندلس ،وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء كالغزايل بوجوب االستيالء على
األندلس فاستوىل على األندلس وأعاد إليها وحدهتا ،وطرد هؤالء الطائفيني الذين كانوا خيشون
قدومه ،ويفضل بعضهم النصارى عليه .
ويف مدينة ( أغمات ) ابملغرب األقصى عا ( ابن عباد ) أشهر ملوك الطوائف بقية أايمه فقريا
ذليال ال جيد ما يكفيه !!
إن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف يف كل عصر ،فالذين خيشون املوت سيموتون
قبل غريهم ،والذين حيسبون للفقر حسابه مضحني بكرامة دينهم ووجود أمتهم ..سوف يصيبهم
الفقر من حيث ال يشعرون .
ولقد نسي ملوك الطوائف هذه احلقائق ..فنغص هللا كل شيء عليهم حىت املوت ،كما قال
ابن صمادح الطائفي حاكم ( أملرية ) وهو حيتضر ويسمع أصداء اهلجوم على قصره ،فليبحث ملوك
الطوائف يف كل عصر عن احلياة ،حىت ال يبحثوا ذات يوم عن املوت فال جيدوه ،وحىت لينغص هللا
عليهم كل شيء حىت املوت ..فتلك سنة هللا .
15
قصة الفردوس املفقود
كانت السنوات األوىل من القرن اخلامس اهلجري " احلادي عشر امليالدي " حتمل يف أحشائها
وابء خطريا على األندلس اإلسالمية .
لقد سقطت الدولة العامرية ،آخر حامية للدولة األموية يف األندلس ،ولقد ظهر أن أحفاد
عبد الرمحن الداخل األمويني أقل من أن يقوموا بعبء محاية اإلسالم األندلسي .
وكان الرببر قد هاجر كثري منهم إىل األندلس حبثا عن سلطة أو زعامة ،وكان الصقالبة وهم
جمموعة من النازحني إىل األندلس من طوائف مسيحية خمتلفة ،كان هؤالء الصقالبة يشكلون بدورهم
عنصرا من عناصر الوجود يف احلياة اإلسبانية اإلسالمية .
ومن هذه القوميات املتناطحة تشكل الوجود األندلسي غرة القرن اخلامس اهلجري ..فلما
سقطت خالفة األمويني اإلسالمية يف األندلس ،نتيجة امتصاص طاقتها يف مشاحنات داخلية ..
حتركت كل هذه الطوائف املقيمة فوق أرض األندلس اإلسالمية تبحث عن السلطة واالمتالك .
وبدال من أن تتحد قواهم يف وجه املسيحيني اجملاورين هلم وبدال من أن يرفعوا راية اإلسالم
واجلهاد ..كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصلييب املرتبص هبم ..بدال من هذا ..أعلنوا أحقاد
القومية الطائفية والنعرات اجلنسية !!
وظهر يف األندلس أكثر من عشرين دولة يتقاعمها األندلسيون والرببر والعرب والصقالبة ..ففي
كل مدينة دولة ،بل رمبا اقتسم املدينة أكثر من طامع ومنافس.
واستمر أمر هذه الدول أو هذه املدن املتنافسة اليت عرف حكامها مبلوك الطوائف ..استمر
أمرها أكثر من مخسني سنة ..امتهن فيها اإلسالم واملسلمون ،وتوسل كل ملك منهم ابلنصارى
ضد إخوانه املسلمني ،ووقف ابن حيان " -مؤرخ األندلس -يستشف ما وراء احلجب ويقول
ألبناء جنسه :
اي أهل أندلس شدوا رواحلكم ** فمـا املـقام هبا إال من الغلـط
16
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ** ثوب اجلزيرة منسوال من الوسط
من جاور الشر ال أيمن بوائقه ** كيف احلياة مع احليات يف سفط
لقد فشل ملوك الطوائف يف أن يلموا شعثهم ،وأن يتكتلوا ضد النصارى ..ومن عجيب
املقادير أن " ألفونسو السادس " ملك قشتالة وليون واستوراي ،كان يتظاهر حبماية هؤالء امللوك
املسلمني ،وأيخذ منهم اجلزية واإلاتوات اليت يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى ،واستطاع أن يعد
عدته من اإلاتوات اليت يفرضها عليهم ليلتهمهم هبا كلهم ..وكان آخر ما التهمه ألفونسو من أرض
املسلمني حتت عمع وبصر هؤالء اإلسالميني بل ومبساعدة بعضهم ..مدينة طليطلة سنة 970هـ
2104م .
وعند هذه املوقعة أتكد لدى أكرب ملك من ملوك الطوائف " املعتمد بن عباد " أن ألفونسو
يريد االلتهام ..وال أقل من االلتهام الكامل ..وفكر املعتمد يف وسيلة اإلنقاذ ..وضعته األقدار أمام
حل واحد مل يكن له خيار فيه .
لقد قرر أن يستنجد ابملرابطني املسلمني املوجودين يف املغرب األقصى كقوة إسالمية انشئة ..
وقد جنح املرابطون يف إيقاف الزحف النصراين ،وأذلوا كربايء ألفونسو ،واسرتدوا كثريا من مدن
اإلسالم ،ومل حياول األندلسيون بناء أنفسهم ..مل حياولوا صنع التقدم من خالل الذات ..لقد
اعتادوا تسول النصر واسترياد البقاء من إخواهنم املغاربة املسلمني .
وحقيقة ..نعم حقيقة ..بقيت األندلس إسالمية ابستريادها النصر أايم املرابطني مث أايم
املوحدين مث أايم بين مرين ..وبقيت مملكة غرانطة اإلسالمية وحدها أكثر من مائيت سنة تصارع
املوت -كوهجة الشمس قبل الغروب .
ولكن قانون احلضارة كان قد قال كلمته ..فإن الذين فشلوا يف أن خيلقوا من أنفسهم قوة قادرة
على احلياة ما كان ينفعهم أن يشرتوا النصر أو يستوردوه .
17
ويف سنة (047هـ ) 2491م سقطت غرانطة آخر ممالك اإلسالم يف األندلس ،وطرد املسلمون
شر طردة .وكانت هذه هي النهاية اليت تنبأ هبا الشاعر ابن حيان وغريه من هؤالء الذين أدركوا قانون
البقاء الذي هو من سنة هللا .
نعم :أدركوا أن التاريخ ال يقوم ابالسترياد ،وال تنتصر حركة تقدمه ابملتسولني !
كانت احلالة سيئة للغاية ..وعندما تصل حركة التاريخ إىل طريق مسدود بعد أن يفسق أهل
القرى وخيلعوا طاعة هللا ..يف هذه احلال يكون ال أمل إال يف شيء واحد ..هو الزوال ..وهذه هي
املعادلة الوحيدة الصحيحة يف تفسري التاريخ :خروج على قوانني هللا ..إمهال نسيب من هللا قد يغري
اخلارجني على القانون ابلتمادي ..جتمع لعوامل الفناء .إغالق لباب العودة .إابدة وموت يف شكل
جمموعة من الكوارث !!
وإىل احلالتني األخرية وما قبلها ..وصلت حال األندلس يف القرن السابع اهلجري ..ذلك القرن
الذي شهد سقوط معظم القالع واملدن اإلسالمية األندلسية ،ومل تفلت منه -إىل حني -سوى
مملكة غرانطة ،اليت مل تلبث بعد قرنني -أن لقيت حتفها .
وعلى امتداد األندلس -شرقيه وغربيه -بدأت حركة ما يسمى ابالسترياد الصلييب تسوق
املسلمني املفككني ،املتناطحني ابأللفاظ ،املقسمني يف والئهم بني ملوك النصارى ..تسوقهم إىل
حتفهم األخري .
وبعد سقوط املوحدين يف األندلس ،انفرط عقد هؤالء ،فلم يعد جيمعهم جامع من خالفة
إسالمية جامعة ،أو من استجابة لتحد خارجي ،أو من عقيدة متفوقة تشتعل أعماقهم هبا ،
ويبحثون عن رفعها أكثر مما يبحثون عن رفعة أنفسهم ..ولذا ؛ فقد تبع سقوط املوحدين التمهيد
لسقوط كثري من مدن األندلس كمرسية وبلنسية وقرطبة والشرق األندلسي ..مث الغرب األندلسي
الذي كانت عاصمته إشبيلية !!
18
لقد عرف أهل إشبيلية بعد سقوط املوحدين ،أهنم ال بد هلم من محاية خارجية بعد أن فشلوا يف
االعتماد على الذات ..وقد أرسلوا بيعتهم إىل األمري أيب زكراي احلفصي أمري احلفصيني يف تونس
هؤالء الذين ملعوا بعد سقوط املوحدين ،لكن الرجال الذين أرسلهم األمري احلفصي إىل إشبيلية
أساءوا معاملة الناس وأظهروا الفساد ..فاضطر أهل إشبيلية إلخراجهم ،وبدءوا يف االعتماد على
أنفسهم ،وألغوا معاهدة ذليلة كانت قد عقدت بينهم وبني ملك قشتالة النصراين فرانندو الثالث ،
وقتلوا " ابن اجلد " صاحب مشروع املعاهدة املذكورة ونصري السياسة املستذلة للنصارى .
وكان هذا نذيرا ببداية النهاية إلشبيلية ،إال أهنم قد فقدوا العون اإلسالمي اخلارجي ..وأعلنوا
-بقطعهم املعاهدة -حراب على قشتالة ،مل تكن ظروفهم مهيأة لدخوهلا .
وقد شهدت سنة 199هـ بداية التحرك النصراين ضد إشبيلية ،واستوىل الصليبيون على حامية
إشبيلية يف هذا العام ..وكان ذلك مبساعدة ابن األمحر ملك غرانطة وفقا ملعاهدته مع فرانندو ! ..
ويف العام التايل تقدمت اجليو النصرانية مرة أخرى على إشبيلية ،وقد جنحت يف االستيالء
على عشرات من املدن اإلسالمية بفضل تدخل ابن األمحر ،ومنعه هذه املدن من القتال حبجة أن
القتال عبث !!! ...
ومت حصار إشبيلية وتطويقها من مجيع اجلهات ابلكتائب النصرانية .وابلكتيبة اليت يقودها ابن
األمحر املسلم ،مشرتكني مجيعا -ابسم وحدة الطبقة العاملة فيما نظن !! -يف تشريد أهلها وسحق
دعوة اإلسالم هبا ..ولعل وجود راية حماربة إسالمية يلمحها املسلمون احملاصرون ..كان أشد ضربة
تلقاها بعيون وقلوب ابكية أهل إشبيلية املستبسلون !!
لقد وقف أهل إشبيلية الشرفاء حنوا من سنة يدافعون احلصار النصراين املدعوم من ابن األمحر ..
وقد جنحوا يف إيقاع النصارى يف أكثر من كمني وأصابوهم ابهلزمية غري مرة .
وقد حاولوا -وهم يف حصارهم ،االستنجاد ابملغرب دون جدوى ..بينما توالت النجدات
على النصارى ،حىت جنحوا بسببها يف منع املؤن عن املسلمني احملاصرين يف إشبيلية ..فنفدت
19
األقوات وبدأ شبح اجلوع يدب يف أوصال املدينة اجملهدة !! ...
وكان قضاء هللا ..وخرج املسلمون اإلشبيليون من مدينتهم وفق شروط املعاهدة ..خرجوا
انزحني إىل مدن إسالمية أسبانية أخرى مل تلبث أن أسقطت !!
لو كان هؤالء املسلمون يف مئات املدن اليت استسلمت دون قتال بواسطة ابن األمحر أو خوفا
من املوت ..لو كان قد احتدوا وقاتلوا ..أو لو أهنم قاتلوا حتت أي ظرف ..أكانت النتيجة ستصبح
شرا من هذا احلال الذي لقيه املسلمون يف األندلس ؟
لكنها سنة هللا يف حركة التاريخ ..فعندما يتم اخلروج على قوانني هللا تتجمع عوامل الفناء فيغلق
ابب العودة ..فتتحقق اإلابدة ..ويتحقق املوت يف شكل جمموعة من الكوارث ..سنة هللا ولن جتد
لسنة هللا تبديال !!
حني تذهب إىل التاريخ تتلقى منه تلقي التلميذ املتعلم ،وليس تلقي التلميذ املتحجر املكابر ،
يروعك أنك تقرأ نفسك وجمتمعك وأحداث عصرك يف بعض صفحاته ،وتكاد حتس أبن ما يدور
حولك ليس إال آخر طبعة من كتاب التاريخ ،وأن الذين يظنون أنفسهم آخر حلقات التاريخ -أي
أفضلها -أو يظنون أنفسهم خارج دائرة التاريخ ..هؤالء وأولئك قوم خمدوعون ،ميتازون ابلغباء
الشديد والسذاجة املفرطة .
إن قصة خروجنا من األندلس مل تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزميتنا
أمام أنفسنا ..قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما أتكل احليواانت املنقرضة بعضها بعضا .
وكان سقوط ( قرطبة ) أكرب معاقل اإلسالم يف األندلس سنة 111هـ النهاية لسقوطنا التام يف
األندلس .
20
وقد اضطر ابن األمحر مؤسس مملكة غرانطة إىل أن يهادن ملك قشتالة الصلييب ،وأن يعقد معه
صلحا ملدة عشرين سنة ،وأن يسلم له -بناء على شروط الصلح -مدينة جيان وما يلحق هبا من
احلصون واملعاقل ،وأن ينزل عن أرجونة وبيع احلجار وقلعة جابر وأرض الفرنترية ..واعرتف ابلطاعة
مللك قشتالة وتعهد أبن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة ومخسون ألف مرافيدي ( العملة اإلسبانية
) وأن يعاونه يف حروبه ضد أعدائه ( املسلمني ) ! وعندها استغل ملك قشتالة هذا الصلح ليتفرغ
لضرب املسلمني اآلخرين ،هاجم مدينة إشبيلية قاعدة غريب األندلس كله ..وكانت هناك كتيبة
إسالمية أرسلها ابن األمحر هتامجها معه ( ابسم التقدمية !!) فسرعان ما سقطت إشبيلية اإلسالمية
حاضرة الثقافة اإلسالمية الرفيعة -بيد فرانندو الثالث ملك قشتالة سنة 191هـ ومبعونة ابن األمحر
-1مؤسس مملكة غرانطة العظيم .. ،ومل تعد إشبيلية إىل اإلسالم منذ ذلك اليوم !!
وعندما كاد أمد الصلح بني ابن األمحر وبني ملوك قشتالة ينتهي بعد ( العشرين سنة ) سعى ابن
األمحر لتجديد الصلح ..ويف سبيل ذلك تنازل لقشتالة عن عدد كبري من بالد اإلسالم قيل إهنا
بلغت أكثر من مائة بلد وحصن !
وأان ال ألوم ابن األمحر وحده ..إمنا ألوم ملوك الطوائف مجيعا ..لقد كان كل شيء ممكنا
ابلنسبة هلم -ويف عرفهم -عدا شيئا واحدا ..
كان الرتامي يف أحضان العدو ممكنا ..وكان التنازل له عن األرض ممكنا ..وكان اخلالف بني
بعضهم وبعض لدرجة االستنجاد ابلعدو ممكنا ..أجل ..كان كل هذا ممكنا إال شيئا واحدا ..إال
العودة إىل اإلسالم الصحيح اخلايل من حب السلطة واستعباد الدنيا ...واألمر ابالعتصام حببل هللا
وحده وعدم التفرقة ..كل شيء كان ممكنا -يف عرفهم -إال هذا .
وابلطبع ..فإن لنا أن نتوقع ظهور كثري من احلركات التقدمية والقومية واجلدلية يف مثل هذا
املناخ الفاسد ..وابلتأكيد .لوال بروز مثل هذه النزعات اليت ال شك يف أن النصارى قد ساعدوا
على تروجيها ،لوال هذا ألصبح املكان خاليا ومالئما لربوز احلل الوحيد الصحيح ..احلل اإلسالمي
.
21
ويف الشرق األندلسي كان شيء من هذا حيدث على حنو أعىت وأقسى ،ففي " بلنسية " ..كان
آخر أمراء املوحدين هناك " أبو زيد بن أيب عبد هللا " يلجأ بعد اهنيار ملكه يف بلنسية حتت ضرابت
منافسه " أيب مجيل زاين " ..وكان هذا املوحدي العاق اجلاحد يشهد مع ملك أرجوان كل غزواته
ضد املسلمني ..ومل يكتف هبذا املصري التعس ..فاختذ قراره الثوري احلاسم " ابعتناق
النصرانية"!!...
وبينما كانت مدن بلنسية الكربى وقراها وحصوهنا تتداعى ما بني سنوات ( 111-11هـ ) كان
( أبو زيد ) يبذل جهوده مع النصارى يف حروهبم ضد اإلسالم ..ويعاوهنم يف التعرف على نقاط
الضعف لدى أبناء دينه السابق .ويف الوقت نفسه كان ابن األمحر يساعد ملك قشتالة بكتائبه ضد
إخوانه املسلمني .
وتسألين ملاذا طردان من األندلس ؟ فأقول لك :ألن هللا ال يظلم الناس شيئا ولكن الناس
أنفسهم يظلمون ..مث أقول لك عربة التاريخ ..قانون سقوطنا " :حني يبحث كل عضو منا عن
نفسه تسقط سائر األعضاء " .
سقوط غرانطة
كان بقاء مملكة غرانطة اإلسالمية يف األندلس قرنني من الزمان معجزة من معجزات اإلسالم.
فهذه اجلزيرة اإلسالمية العائمة فوق حبر الصليبية املتالطم األمواج والطافح ابحلقد واملكر
التارخييني ..هذه اجلزيرة ما كان هلا أن تصمد صمودها املشهور إال ألن طبيعة الصمود كامنة يف
العقيدة واملبادئ اإلسالمية .وبدون العقيدة اإلسالمية ..ما كان هلذه اجلزيرة أن تصمد وحدها يف
األندلس بعد أن سقطت كل املدن والقالع اإلسالمية منذ قرنني من الزمان .
كان قانون " االستجابة للتحدي " هو الذي أبقى غرانطة حية زاخرة ابلفكر اإلسالمي والرقي
احلضاري هذين القرنني ..وكان شعور الغرانطيني أبهنم أمام عدو حميط هبم من كل جانب ،ينتظر
الفرصة اللتهامهم ،وأبنه ال أمل هلم يف استرياد النصر من العامل اإلسالمي ،وأبنه ال بد هلم من
22
االعتماد على أنفسهم ..كان هذا الشعور ابعثهم األكرب على االستعداد الدائم .؟ ورفع راية اجلهاد
والتمسك إبسالمهم .
وهبذا جنحت غرانطة يف أن تظل إىل سنة 2941م ( 047هـ) سيدة األندلس اإلسالمي ومنارة
العلوم وشعلة احلضارة اإلسالمية الباقية يف أوراب .
لكن األعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا يف احلياة األندلسية ..فعلى املستوى
النصراين بدأ " احتاد " كبري يضم أكرب مملكتني مسيحيتني مناوئتني لإلسالم ..ومها مملكتا أرجوان
وقشتالة ،وقد اندمج االثنان يف احتاد توجاه بزواج " إيزابيال " ملكة قشتالة من " فرانند " ملك
أرجوان ..وكان احللم الذي يراود الزوجني امللكني الكاثوليكيني ليلة زفافهما هو دخول غرانطة ..
وقضاء شهر عسلهما يف احلمراء ،ورفع الصليب فوق برج احلراسة يف غرانطة -أكرب أبراجها -
وعلى املستوى اإلسالمي ..كان " خالف " كبري قد دب داخل مملكة غرانطة وال سيما بني أبناء
األسرة احلاكمة ،ومت تقسيم مملكة غرانطة احملدودة قسمني ،يهدد كل قسم منهما اآلخر ويقف له
ابملرصاد ..قسم يف العاصمة الكبرية ( غرانطة ) حيكمه أبو عبد هللا حممد علي أبو احلسن النصري (
آخر ملوك غرانطة ) وقسم يف ( وادي آ ) وأعماهلا حيكمه عمه أبو عبد هللا حممد املعروف ابلزغل
.
وقد بدأ امللكان الكوثوليكيان هجومهما على ( وادي آ ) سنة 049هـ ،وجنحا يف االستيالء
على وادي آ وأملرية وبسطة ..وغريها ،حبيث أصبحا على مشارف مدينة غرانطة .
وقد أرسال إىل السلطان أيب عبد هللا النصري يطلبان منه تسليم مدينة احلمراء الزاهرة ،وأن يبقى
هو حيا يف غرانطة حتت محايتها ..وكما هي العادة يف امللوك الذين يركبهم التاريخ وهو يدور إحدى
دوراته ،كان هذا امللك ضعيفا ..مل حيسب حسااب لذلك اليوم ..ولقد عرف أن هذا الطلب إمنا
يعين االستسالم ابلنسبة آلخر ممالك اإلسالم يف األندلس فرفض الطلب ودارت احلرب بني املسلمني
والنصارى واستمرت عامني ..يقودها ويشعل احلمية يف نفوس املقاتلني فيها فارس إسالمي من هؤالء
الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب " موسى بن أيب الغسان " .
23
وبفضل هذا الفارس وأمثاله وقفت غرانطة يف وجه امللكني الكاثوليكيني عامني وحتملت
حصارمها سبعة أشهر ..
لكن مع ذلك ..مل يكن مثة شك يف هناية الصراع ..فأبو عبد هللا الذي مل حيفظ ملكه حفظ
الرجال .واالنقسام العائلي واخلالف الداخلي يف اململكة يف مقابل احتاد اتم يف اجلبهة املسيحية ..
مضافا إىل ذلك حصاد اتريخ طويل من الضياع والقومية اجلاهلية والصراع بعيدا عن اإلسالم ..
عاشته غرانطة وورثته مما ورثته عن املمالك اإلسالمية اإلسبانية الساقطة .
كل هذه العوامل قد عملت على إطفاء آخر مشعة إسالمية يف األندلس .
وعندما كان أبو عبد هللا ( آخر ملوك غرانطة هذا ) يركب سفينته مقلعا عن غرانطة اإلسالمية ،
مودعا آخر أرض تنفست يف مناخ إسالمي يف أورواب بعد مثانية قرون عاشتها يف ظالل اإلسالم ...
يف هذا املوقف الدرامي العنيف ..بكى أبو عبد هللا ملكه " وملك اإلسالم املضاع ،وتلقى من
أمه الكلمات اليت حفظها التاريخ ( ابك مثل النساء ملكا مل حتفظه حفظ الرجال ) .
واحلق أن أمه بكلمتها تلك ،إمنا كانت تلطمه وتلطم حكاما يف اإلسالم كثريين ..بكوا مثل
النساء ملكا مل حيفظوه حفظ الرجال !!! .
24
القسم الثاين :سقوط خالفات ودول شرقية
* األمويون -أصحاب دولة الفتوحات -يسقطون
* سقوط الدولة الطولونية يف مصر
* الصفاريون ،وقصة سقوطهم
* اإلخشيديون على خطى الطولونيني
* سقوط السامانيني يف فارس
* البويهيون الذين سطوا على اخلالفة ..يسقطون
* سقوط االنفصاليني يف طربستان
* وقصة سقوط احلمدانيني
* السالجقة .منقذو اخلالفة .يسقطون
* سقوط دولة الفاطميني
* سقوط دولة صالح الدين
* من عوامل سقوط العباسيني
* املماليك ..أبطال عني جالوت يسقطون
يف عام ( 92هـ 112 -م ) ويسمى عام اجلماعة -تنازل احلسن بن علي بن أيب طالب رضي
هللا عنه ،عن حرب معاوية بن أيب سفيان ،الذي كان واليا على الشام منذ عهد عمر بن اخلطاب ،
والذي رفض مبايعة علي بن أيب طالب -رابع اخللفاء الراشدين -متذرعا أبن عليا قد فرط يف الثأر
من قتلة عثمان بن عفان اثلث اخللفاء الراشدين ...رضي هللا عنهم مجيعا .
وبتنازل احلسن استقر األمر ملعاوية فأصبح خليفة املسلمني ،وقامت دولة بين أمية اليت تنتسب
إىل أمية بن عبد مشس بن عبد مناف ،فحكمت حنو تسعني عاما ( 211 - 92هـ ) ( - 112
741م ) ونقلت عاصمة احلكم من مدينة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ابحلجاز إىل دمشق ابلشام
.
25
كان نظام احلكم يف عهد بين أمية عائليا ،وقد تداول احلكم أربع عشرة خليفة أوهلم معاوية
وآخرهم مروان بن حممد الذي قتله العباسيون يف " أبو صري " من حلوان مصر ..
- 2كان معاوية أول اخللفاء األمويني ومؤسس دولتهم ،وكان مولده ابخليف من مىن قبل
اهلجرة خبمس عشرة سنة وأمه هند بنت عتبة ،وأبوه أبو سفيان ،وقد أسلموا مجيعا يف فتح مكة .
وأصبح معاوية من كتاب الوحي لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،واشرتك يف حروب الردة مع
أخيه وأبيه ،مث واله عمر جزءا من بالد الشام ،فلما جاء عثمان رضي هللا عنه مجع الشام كلها حتت
حكمه .
- 1ومبوت معاوية سنة 11هـ ابيع املسلمون ابنه يزيد ،ما عدا احلسني بن علي وعبد هللا بن
الزبري وعبد هللا بن عمر ،وقد وقف األوالن منه موقف العداء ،وقتل يف عهده احلسني ،يف كربالء ،
وحكم ثالث سنوات مث مات سنة 19هـ ،وعمره مثانية وثالثون عاما .
- 1مث توىل معاوية بن يزيد ،بوصاية أبيه ،لكنه كان ورعا زاهدا فتنازل عن اخلالفة بعد ثالثة
أشهر .
- 9وقد وقعت حروب انتهت يف ( مرج راهط ) بني األمويني وعبد هللا بن الزبري ،وأصبح
مروان بن احلكم خليفة على الشام وحدها ،وبقي ابن الزبري خليفة على سائر األمصار ،حىت ظهر
عبد امللك بن مروان ،فتمكن من توحيد العامل اإلسالمي الشرقي حتت إمرته ،ولذا اعترب املؤسس
الثاين للدولة األموية .
- 4وكانت لعبد امللك أايد عظيمة ،فقد عرب الدواوين وضرب العملة ،وبقي يف احلكم اثنني
وعشرين عاما ،وتويف سنة 01هـ ،فتوىل بعده ابنه الوليد بن عبد امللك ،الذي حكم عشرة أعوام ،
ومتت يف عهده إصالحات داخلية عظيمة وفتوحات إسالمية كربى على يد قادة عظام مثل حممد بن
26
القاسم الثقفي فاتح السند ،وموسى بن نصري فاتح األندلس .
- 1مث جاء بعده أخوه سليمان بن عبد امللك فحكم ثالثة أعوام مل تتقدم فيها الدولة شيئا ،ال
من الداخل وال من اخلارج ،ومات سنة 44هـ ،فوسد األمر ألعظم شخصية يف اتريخ بين أمية ،
على الرغم من أنه مل حيكم إال عامني ،وهو عمر بن عبد العزيز ،الذي اعتربه البعض (خامس
اخللفاء الراشدين ) لكثرة ما عمل من إصالحات خالل الفرتة الوجيزة اليت حكم فيها .
لقد راقب عمر الوالة حبذر ،وأخذ على أيديهم وطرد القساة منهم ،وانتشر اإلسالم يف عهده
انتشارا كبريا ألنه وضع اجلزية عمن يعتنق اإلسالم ،وكان والة السوء ال يفعلون ذلك ،ويروي ابن
عبد احلكم ،ملخصا عهد عمر بن عبد العزيز ،يف قوله الوجيز " إمنا ويل عمر بن عبد العزيز سنتني
ونصفا فذلك ثالثون شهرا ،فما مات حىت جعل الرجل أيتينا ابملال العظيم فيقول :اجعلوا هذا
حيث ترون يف الفقراء ،فما يربح حىت يرجع مباله يتذكر من يضعه فيهم فال جيده ،فقد أغىن عمر بن
عبد العزيز الناس " .
- 7مث ويل األمر بعده يزيد بن عبد امللك ،بعهد من أخيه سليمان بعد ابن عمه عمر بن عبد
العزيز ،وهو ابن تسع وعشرين سنة .فدامت خالفته أربع سنوات وشهرا ،مث مات بعدها دون أن
يرتك أثرا ذا ابل اللهم إال إمخاده لفتنة يزيد بن املهلب .
- 0وويل بعده هشام بن عبد امللك ،فمكث يف اخلالفة عشرين عاما حاول فيها تقليد عمر
بن عبد العزيز ،ومل ينجح يف ذلك جناحا كبريا ،وإن كانت الدولة قد اتسعت يف عهده ،ففتحت
قيسارية وبالد اخلزر ،وأرمينية ،ومشال آسيا الصغرى ،وجزءا كبريا من بالد الروم .
لكن األحوال الداخلية مل تكن مستقرة على عهده وتويف يف عام 214هـ ،وترك احلكم للوليد
بن يزيد بن عبد امللك الذي يعترب عهده -الذي مل يدم أكثر من عام إال قليال -من أسوأ عهود
الدولة األموية ،ظلما وانتقاما من أبناء سلفه هشام فضال عن عنصريته وخالعته .
- 4ومل يكن للخليفتني اللذين وليا بعده يزيد بن الوليد بن عبد امللك ،وإبراهيم ابن الوليد أثر
يذكر ،ومل يدم حكم كل منهما إال ثالثة أشهر ،ومل تستقم هلما األمور ،وكانت أايمهما ،وأايم
27
سابقهما الوليد بن يزيد ،فرصة ذهبية جنح فيها العباسيون يف تعبئة النفوس وتنظيم الصفوف ،
لالنقضاض على الدولة .
- 21فلما آلت اخلالفة ملروان بن حممد -آخر خلفاء بين أمية يف املشرق مل يستطع أن يقر
قواعد الدولة ،على الرغم من أنه " كان أشجع بين أمية وأقدرهم على حتمل األخطار " ..فسقطت
الدولة يف عهده ،بعد فتنة واضطراابت دامت مخس سنوات ،وكان سقوطها يف سنة 211هـ .
وكانت دولة بين أمية دولة عربية تتعصب للعرب وللتقاليد العربية ،وللغة العربية ،ومل يستطع
معظم خلفائها أن يرتفعوا على مستوى املساواة والعدل يف اإلسالم .
لكن مع ذلك كان هلذه الدولة أايد طوىل على املسلمني لعل من أمهها جهودها العظيمة يف جمال
الفتوحات اإلسالمية .
اتسعت فتوحات الدولة األموية اتساعا عظيما ،منذ عهد معاوية الذي مل تكد تستقر له
األوضاع حىت جهز اجليو وأنشأ األساطيل ،وأرسل قواده إىل أطراف الدولة لتثبيت دعائمها ،بعد
أن حاول الفرس والروم استغالل فرتة الفتنة بني علي ومعاوية رضي هللا عنهما .
*وقد أخضعت هذه اجليو ثورة فارسية هدفت إىل االمتناع عن دفع اجلزية .مث توغلت جيوشه
شرقا ،فعربت هنر جيحون ،وفتحت خبارى وعمرقند وترمذ .
*ومن اجلهة الرومانية ،كان الرومان قد أكثروا من الغارات على حدود الدولة اإلسالمية يف
الناحية الشمالية الغربية ،فأعد معاوية هلم اجليو ،وانتصر عليهم يف مواقع كثرية .
وأبسطوله الذي بلغت عدته ( )2711سفينة ،استوىل على قربص ورودس وغريمها من جزر
الروم -كما قام ابحملاولة األوىل لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية سنة 90هـ ،
فأرسل جيشا إبمرة ابنه يزيد ،وجعل حتت إمرته عددا من خرية الصحابة كعبد هللا بن عباس وعبد هللا
28
بن الزبري وعبد هللا بن عمر وأيب أيوب األنصاري ،لكن احملاولة مل تنجح !!
ومن الشمال اإلفريقي ( تونس واجلزائر واملغرب األقصى ) امتد الفتح اإلسالمي ،فأرسل (معاوية
) عقبة بن ابن انفع سنة (41هـ) يف عشرة آالف مقاتل ،لتثبيت فتحها ،وقد عمل عقبة على نشر
اإلسالم بني الرببر مث بىن مدينة القريوان ،ويف عهد ابنه اخلليفة (يزيد) وصل عقبة يف اكتساحه
للشمال اإلفريقي حىت احمليط األطلسي غراب ،وقال هناك كلمته املأثورة " وهللا لوال هذا البحر ملضيت
يف سبيل هللا جماهدا " .
ويف الشرق اجتهت جيو عبد امللك بن مروان -اخلليفة األموي اخلامس -إىل التوسع يف بالد
ما وراء النهر ،وكانت القيادة يف هذا الركن للمهلب بن أيب صفرة وليزيد بن عبد امللك .وكان من
أبرز الفتوحات يف عهد الوليد بن عبد امللك فتح بلخ ،والصفد ،ومرو ،وخبارى ،وعمرقند ،وذلك
كله على يدي قتيبة بن مسلم .
أما حممد بن القاسم الثقفي فقد فتح السند ( ابكستان ) .وفتح مسلمة بن عبد امللك فتوحات
كثرية يف آسيا الصغرى ،منها فتحه حلصن طوالة وحصن عمورية ،وهرقلة ،وسبيطة ،وقمونية ،
وطرسوس ..كما حاصر القسطنطينية أايم سليمان بن عبد امللك .
ويف أوراب فتح موسى بن نصري األندلس ،وبقيت يف حوزة املسلمني مثانية قرون ( .. 040-41
هـ ) وكان جزاؤه من بين أمية جزاء سنمار !!
وقد حاول عنبسة بن سحيم الكليب غزو جنوب فرنسا وفتح سبتماية ،وبرغونية ،وليون -
وجنح املسلمون يف ذلك جناحا مؤقتا ،حىت انتهت هذه احملاوالت بعيد موقعة بالط الشهداء اليت
قادها عبد الرمحن الغافقي -بقليل .ومل يكن هلذه الفتوحات صدى حقيقي ،ألهنا كانت أشبه
حبمالت جهادية فردية .
29
وملاذا سقط هؤالء العظماء ؟
كان معاوية رضي هللا عنه -بال ريب -أحد دهاة العرب القالئل ،وكان رجل دولة وخبري
سياسة مبعىن الكلمة ..بيد أنه كانت هناك حقيقة حضارية ينبغي عليه إدراكها وهي :أن احلضارة
حني ينفصل جسدها عن دماغها ال ميكن أن تكون قابلة للبقاء ..حني حيدث انشقاق بني روح
األمة وجهاز عملها املادي حتدث اآللية القاتلة وتسري القافلة بال روح ..متاما كما يسري الذي قطع
رأسه من جسده ..إنه ال بد من أن يسقط بعد خطوات !!
ومنذ قامت الدولة األموية ،واعتمد فيها نظام وراثة اخلالفة كرها عن األمة ..
منذ هذا احلدث ومثة انفصال بني جسد األمة وروحها ذاقت منه األمة اإلسالمية مر األهوال
..وكان أحد األسباب ،بل أهم األسباب يف سقوط الدولة األموية .
لقد تشكلت طبقة تعطي نفسها امتيازا جنسيا غريب الشكل ..فهي جملرد أهنا من البيت
األموي ،حىت ولو افتقدت كل صالحيات الوجود واحلكم بعد ذلك ،ال بد أن تقف يف الصف
األول ..وأن تقود وحتكم !! ..واألدهى من ذلك أن هذه الدولة اعتمدت العنصرية العربية املستعلية
حقا تتكئ عليه يف سيادهتا ..وظلمها !!
وهذه الظاهرة ..تلد أمراضا حضارية خبيثة كلها شؤم وبالء ..فإن هذه الطبقة سرعان ما
حياول كل واحد منها احلصول على حق ..أكثر شرعية جنسية ..لكي يصل إىل احلكم ،وابلتايل
يلجأ إىل الدس واخلديعة والقتل واالغتيال ويسود الطبقة احلاكمة جو من الصراع الداخلي مينعها عن
أن تؤدي لألمة أي شيء ،ويكون كل هم احلاكمني أن حيافظوا على املوقع الذي يقفون فيه ..
هكذا كان األمر بني األمويني وال سيما يف األايم األخرية من عمرهم ..أايم الوليد بن يزيد ،ومروان
بن حممد .
ومن األمراض اخلطرية اليت تلدها ظاهرة االنفصام املشئومة استعانة هؤالء احلاكمني بطبقة تتوىل
هي يف احلقيقة األمر ،وتستبد ابألمة ،وحني تستغيث األمة ال جتد من يغيثها ،إذ يكون احلكام يف
واد آخر بعيد عنها ،بل إن هؤالء احلكام يعتقدون أهنم بوجودهم يف مراكز السلطة مدينون هلؤالء
30
العمال أو الوالة الغامشني الظاملني .
وقد زخرت صفحات التاريخ بعديد من هؤالء اجلبابرة الذين أساءوا إىل املسلمني واإلسالم
إساءات ابلغة كاحلجاج بن يوسف الثقفي يف املشرق ،والوايل عبد هللا ابن احلبحاب يف املغرب .
ولقد أساءت هذه الطبقة املصطنعة العازلة إىل اتريخ األمويني نفسه أميا إساءة ،وزينت للخلفاء
األمويني كل جور ،وعملت يف املسلمني عمل كسرى وقيصر يف شعبيهما ..وكانت -يعلم هللا -
بالء على املسلمني أي بالء !! وقد كانت سببا يف جناح اخلوارج ،ويف إشعال ثورات بربرية ،يف
ساحة األندلس واملغرب .
وبتأثري الطغيان الذي ساس به الوالة مجاهري املسلمني ،انصرف الناس إىل أمورهم ،اتركني أمور
الدولة يف يد الفئة احلاكمة بل انصرفوا إىل االندماج يف كل حركات اخلروج على الدولة ..وقد متخض
كل ذلك عن ميالد تنظيم من أدق التنظيمات يف اتريخ االنقالابت السياسية ،وهو التنظيم العباسي
الذي رفع الراية العلوية ( الرضا من آل البيت ) أايم سريته ..إىل أن وصل إىل احلكم .
ومل يك هذا التنظيم لينجح وجيد املناخ والعناصر الصاحلة إال نتيجة سياسة الوالة الغريبة عن روح
اإلسالم .
وقد اختلف املؤرخون يف سقوط هذه الدولة العظيمة ..دولة الفتوحات ..وقد رأى بعضهم ،
وهم حمقون ،أنه النزاع بني املضرية واليمانية ،الذي ابتدأ منذ أايم مؤسس الدولة األموية معاوية ،قد
أدى إىل ضياع بين أمية .
ويرى بعضهم أن مصرع احلسني بن علي يف كربالء كان الداء القاتل الذي تفاقم حىت قضى
عليها .
ورأى آخرون أن العامل اهلام الذي أدى إىل سقوط بين أمية هو تعصب األمويني للعرب ،مما
أدى إىل خروج املوايل على الدولة األموية وهم غري العرب الذين دخلوا يف اإلسالم عقب الفتح العريب
يف فارس ومصر واملغرب .
31
وما لبث هؤالء أن أصبحوا أعداء للعرب من بين أمية وال شك أن سلوك الوليد ابن يزيد الذي
أدى إىل مصرعه كان من أبرز األسباب املباشرة يف فساد األحوال.
كما أن االستبداد الفردي عامل من عوامل سقوط الدولة قال به كثريون .
وقد تكون كل هذه األسباب صحيحة ،بل قد تكون متداخلة ،لكننا منيل إىل سبب جوهري
نراه أكرب األسباب وأبرزها ،وهو العنصرية األموية اليت جعلتهم يرفعون العرب على حساب غريهم،
ويثريون األحقاد يف بقية الطوائف املسلمة!!
وتبقى عربة التاريخ األخرية يف سقوط الدولة األموية .فإن نصر بن سيار ( وايل خراسان ) كان
على عهد مروان بن حممد آخر خلفاء األمويني ..وكان نصر هذا ..كما كان مروان ..كان كالمها
من خرية من أجنبت الدولة األموية ..هذا يف الوالة ،وذلك يف اخللفاء .
لكنهما ظهرا بعد أن اتسعت خروق الدولة على أي راقع ،وكان رصيد الدولة من الفساد
والتحلل والظلم والضعف ،قد أصبح أكرب وأضخم من طاقة أي إنسان .
لقد كانت حركة التاريخ اليت هي من سنة هللا قد قالت يف الدولة األموية كلمتها ..وقد حاول "
نصر " أن يستعمل ذكاءه يف إنقاذ الدولة ،إذ كان يستشف ببصريته الوقادة أن مثة أمورا تبينت
للدولة ،وأن دولة األمويني على وشك الرحيل ،وكم كاتب اخلليفة األموي األخري " مروان " يف ذلك
..ولكن دون جدوى ..لقد اتسع اخلرق ووجب أن ينهار البناء !!
وكان مروان ..مشغوال بسداد " شيكات " سابقيه من الديون ..يف بنك الضياع ..فلم ميكنه
أن يستجيب ال " لنصر " وال لضمريه الذي كان حيس بقرب الكارثة ..هكذا تفعل الدول بنفسها
..نتيجة ظلمها .وتراكم هذا الظلم .
وعندما سقطت الدولة األموية سنة 211هـ ،ولقي مروان املسكني مصرعه يف حلوان مبصر ..
32
كان كتاب التاريخ يطوي إحدى صفحاته ..يطويها بعنف ألن أبطاهلا أرادوا ألنفسهم هذا ...حني
راحوا ينفصلون عن ضمري األمة ووجداهنا ،ويعزلون أنفسهم عن شعوهبم -بطبقة من العمال
الظاملني الغامشني وبعنصرية عربية قومية ظاملة ..لقد فتحوا كثريا من األراضي ،لكنهم فشلوا يف أن
يفتحوا القلوب ...والعقول !!
االنتصار يف معركة ..واحلصول على مكسب وقيت ...والوصول إىل السلطة ..هذه كلها ليست
هي قضية التاريخ ..وال معركة التقدم البشري ..بل هي عموما ليست من عوامل حتريك التاريخ إىل
األمام أو اخللف على حنو واضح وضخم ..إن االنتصار يف معركة ..قد ال يعين اهلزمية احلقيقية
لألعداء ،فحني ال تتوافر العوامل احلقيقية للنصر ..يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ،
واستمرارا للسري اخلطأ ،ومتاداي يف طريق الوصول إىل اهلزمية احلقيقية ..هكذا سار التاريخ يف مراحل
كثرية من تطوراته ..كان النصر بداية اهلزمية ،وكانت اهلزمية بداية للنصر !
وحني يصل إنسان ما إىل احلكم ..دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ،ودون أن يكون
يف مستوى أمته ..يكون وصوله على هذا النحو هو املسمار األخري الذي يدق يف نعش حياته
وحياة املمثل هلم ! ..
والتاريخ يف دوراته غريب وهو يعلمنا أنه ال توجد قاعدة اثبتة للتحول ترتكز على أسس متينة ،
اللهم إال قاعدة التغيري من الداخل املرتكزة على عقيدة هلا جذورها يف أعماق النفس ،وهلا انسجامها
مع حركة الكون وهلا صالحياهتا يف البقاء واالنتشار واخللود !
وعندما أعلن " أمحد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية يف مصر انفصاله عن الدولة العباسية
بعد سنة 149هـ ،كان ينقصه الوعي حبركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيري ،وكان إبنشائه هذه
الدولة ليس أكثر من " انقاليب " سيطر على احلكم يف ظل أوضاع معينة مرت هبا الدولة العباسية ،
33
عمحت له وألمثاله إبظهار مطاحمهم يف مزيد من السلطة والشهرة والرغبة اجلاحمة يف السيطرة .مل
حياول هذا الرجل -ما دام قد وصل إىل مستوى الثقة لدى اجلهاز العباسي احلاكم -أن يتقدم
إبصالحاته ،وأن يبحث عن السبل املؤدية حلماية الدولة اإلسالمية اجلامعة ،وإمنا راح يف إغراق يف
عبودية الذات يبحث عن استغالل الظروف لصاحله .
ومنذ استقر يف مصر سنة 149هـ وهو حياول مجع كل مقاليد السلطة يف يده ،فيتخذ من
اإلجراءات ما جيعله الرجل الوحيد يف مصر ،وليس الرجل التابع لدولة إسالمية كربى تستطيع عزله
وتولية غريه .وقد عزل -يف سبيل ذلك -عامل اخلراج الذي عينه العباسيون على مصر -ومتكن
من التحكم يف الشئون املالية إىل جانب الشئون اإلدارية والعسكرية .
ودخل أمحد بن طولون يف صراع مع الدولة العباسية اجلامعة وانتصر على أخي اخلليفة أيب أمحد
" املوفق " واختذ من اإلجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .
لكنه يف احلقيقة مل يكن يف حاجة إىل هجوم ..فنشأته على النحو السابق حتمل يف أحشائها
النهاية الطبيعية العاجلة .ورأت اخلالفة من احلكمة أن تستغله .بدل أن تدخل معه يف صراع ،
وكلفته مبهام جديدة ،منها محاية الثغور الشامية ..ومات أمحد بن طولون اتركا دولة تقف كلها على
أقدامه وحده وليست هلا أقدام أخرى ..من عناصر احلياة التارخيية واحلضارية ولذا فإهنا مبوته وقعت
على األرض ..وعلى الرغم من كل ما أبداه " مخارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ،ومن متسك مبعامل
استقالل وقوة دولته املستقلة ..إال أنه مل يعد أن يكون مرحلة عربها التاريخ ليدخل ابلدولة -فورا -
يف مرحلة األفول والفناء .
فبعد مخارويه انغمس األمراء الطولونيون يف هلوهم ،وتفشت ظاهرة حب السلطة واالستقالل
لدى عماهلم يف األقاليم .وانقلب الثوريون على أنفسهم ،أو ابلتعبري الدارج ..بدأت طالئع الثورة
أيكل بعضها البعض .وقد ويل األمر بعد مخارويه ثالثة من آل طولون مل يزد حكمهم على عشر
سنوات ،ومل تستفد البالد املصرية أو الشامية منهم شيئا غري الفوضى والتنافس بني الطامعني يف
السلطة أو الفساد الذي جنم عن الرتف ،وعن االستبداد وغيبة األمة عن الرقابة أو احلكم ..ويف
34
هذه احلال ..مل يكن األمر متعبا ابلنسبة للدولة العباسية ..فتقدمت جيوشها السرتداد مصر من
خامس الوالة الطولونيني وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت يف عهده قمتها وأعلى
معدالت خطورهتا ،وشهدت سنة 141هـ دخول هذه اجليو إىل القطائع يف القاهرة ..ومن فوق
املنرب أعلن إزالة الدولة الطولونية اليت مل تستطع أن حتكم أكثر من أربعني سنة عاشتها يف صراع
خارجي وعاشت معظمها يف صراع داخلي ،مع شعب مل يهضم حركتها اليت مل يكن هلا املربر
احلضاري اهلام إلحداث التغيري .
وعادت مصر إىل حظرية الدولة العباسية ..وعلى امتداد اترخينا سجلت صفحاته عشرات من
االنقالابت وسجلت أعماء مئات االنقالبيني ..ولكنهم -مجيعا وبال استثناء -مل يقدموا ما يتوازى
مع أحجام اخلسائر اليت كبدوها ألمتهم ..ألن االنقالب ليس الوسيلة التارخيية املهيئة للتغيري ،إذ هو
موجة انفعالية سرعان ما تنحسر حمدثة رد فعل احنساري عنيف ..ودائما ...دائما أثبتت كل
تقلبات اترخينا كما أثبتت كل تطورات احلضارة " أن االنقالب يدفع إىل انقالب ..وأن حركة التاريخ
ال تندفع ابلعنف واالنفعال " !!
اترخينا اإلسالمي العظيم كتاب كامل من التكاملية التارخيية ،يضم بني صفحاته كل صور التقدم
والتأخر .
وهو معلم عظيم ..اشتملت جتاربه على نوعيات من كل جتارب التاريخ البشري ،وليس ذلك
ألن القرآن العظيم قد حكى على حنو تركييب كل صور التقلب واحلركة واهلبوط واالرتقاء اليت مر هبا
املوكب البشري ،واليت تغين التطور التارخيي اإلسالمي وتكفل له االندفاعة العاقلة ..ليس مرد األمر
إىل ذلك وحسب ..بل ألن كتاب التاريخ اإلسالمي نفسه قد شاء هللا له أن يكون من التكاملية
واحلبكة والتنوع حبيث يصلح كمرجع اتل للقرآن والسنة يرجع املسلمون إليه ويتعلمون منه ،ويتلقون
تلقي التلميذ من األستاذ ..
35
إننا ال ندعو إىل رفض أتمل املوكب البشري املتحرك الذي يتحرك إىل جانبنا ومن حولنا ..أبدا
..فكل ما هنالك أننا ال بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس اآلخرين .
والعجيب يف أمر الدولة العباسية اليت عاشت أكثر من مخسة قرون ..أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا
-مع اختالف يف الدرجة -العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على ابب كامل من أبواب اترخينا
تكاملت له البداية ..والعقدة ..والنهاية.
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل االنفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث اهلجري بربوز
الدولة الطولونية يف مصر ،فإهنا كانت تتعرض على امتداد النصف الثاين من القرن الثالث املذكور
هلذه العلل على امتداد أرضها كلها ..كانت حركات االنفصال اليت كانت ال تزال ختطب يف املغرب
ابسم اخلليفة العباسي " حركات األغالبة والرساميني واألدارسة " بدال من هذا أصبح الفاطميون حركة
عصيان ومترد علين ..بل وخروج على األيديولوجية العباسية .
ومن الغريب أن حركة خروج أخرى حتمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ،
وإن كانت مل خترج أيديولوجيا ،كانت قد برزت يف خراسان ومتخضت عن صراع عسكري اتبعه
انفصال عن الدولة يف سنة 149هـ وهي السنة نفسها اليت برزت فيها الدولة الطولونية وعميت حركة
االنفصال يف خراسان هذه ابسم " الدولة الصفارية " !!
وكان خلراسان -كما هو معروف -وضع خاص يف الدولة إذ كان هؤالء اخلراسانيون يشعرون
أبهنم أصحاب فضل على الدولة العباسية ،وأبن سيدهم " أاب مسلم اخلراساين " هو املؤسس األكرب
يف رأيهم للدولة العباسية ،لكنهم -وهذا رأيهم كذلك -جوزوا جزاء " سنمار " حني قتل أبو
جعفر املنصور الثاين اثين اخللفاء العباسيني أاب مسلم هذا .
وقد جتاوزت اخلالفة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء واجملاملة ،وتركت "
لطاهر بن احلسني " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم يف خرسان ..له وألبنائه من
36
بعده يف إطار اخلالفة اجلامعة والسمع والطاعة لدولة اخلالفة عاصمة وخليفة ..حراب وسلما .
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز مجاعة من اجملاهدين احلريصني على بقاء هيبة اخلالفة .
متكن " يعقوب بن الليث الصفري " من االتصال هبا ..والسيطرة عليها ..وحتويلها إىل مجاعة
خادمة له ..جنح هبا يف أتسيس " الدولة الصفارية".
وقد استطاع يعقوب أن جيتذب إىل أتييده عددا من املتطوعني اجلدد ،فعظم جيشه ،واستطاع
أن حيدث القلق لدى دولة اخلالفة ،وابلقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ،وحروبه تظاهرا ملصلحتها ،
مث ابصطدامه هبا ..اصطداما فاشال كاد
يلقى حتفه فيه ..بكل هذا سكتت اخلالفة عن هذه احلركات اليت ولدت لتموت ،ومل يلبث
يعقوب أن مات متأثرا جبراحه سنة 141هـ يف سابور .
وخلفه أخوه عمرو بن الليث ..وأقرت اخلالفة واليته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان
وكرمان وفارس وأصبهان ..فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخالفة ،لكنه -أمام كرم اخلالفة -قد
زاد يف أطماعه ،ودخل يف معارك مع السامانيني يف بالد ما وراء النهر ،واستطاع السامانيون بقيادة
إعماعيل بن نصر الساماين أسره يف إحدى املعارك ،وسريوه مكبال إىل اخلليفة العباسي املعتضد
..وأحضر إىل جملس اخلليفة املعتضد حمموال على مجل ذي سنامني ،وسجن حىت مات يف سجنه
سنة 107هـ .
واضطرب أمر الصفاريني ملدة ثالثة أعوام بعد ذلك ،وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية
ترتكز على طموح شخصي ،وتفتقد الوعي حبركة التاريخ وأبيديولوجية قتالية واضحة تستأهل املوت
يف سبيلها .
ودائما يعلمنا التاريخ اإلسالمي العظيم من جتربة االنقالب ،الذي عماه املؤرخون غري احملددين
بعمق لرصيد املصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمنا التاريخ اإلسالمي العظيم أن " االندفاع غري
37
املوضوعي وغري املتناسق مع روح التطور ال مصري له إال املوت السريع " !!
يف قوانني احلضارة :أن املادة والروح ال تفنيان فناء مطلقا ..وأن بذور اخلري والشر ال ميكن أن
متوت موات أبداي ..وأن اخلري أو الشر يتحوالن إىل مادة خام ...مليالد جديد سواء كان هذا امليالد
انبعاثة خري أو انبثاقة شر .
وبوسع علماء احلضارة أن يقدموا مناذج عديدة تبني بوضوح أن " اخلمر العتيقة " ال ميكن أن
تذوب دون أن تدخل يف صنع مآدب حضارية جديدة ..متاما كاجلسم امليت الذي يدخل يف
أجسام أخرى حية مينحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة واإلبداع ،وكما أيكل
اإلنسان حلوم الدواجن واحليواانت األخرى احلالل واألعماك ..مث يتحول هو يوما إىل طعام يسهم يف
إحياء حيواانت أخرى ..أو يف منح األرض بعض املواد الكيماوية واحلضارات متر بنفس الطريق
الدائري اخلالد ..فأثينا برقيها الفلسفي واألديب ..تتحول إىل مخرية حضارة لروما .واحلضارة األوربية
تقوم على مخرية احلضارة اإلسالمية وبقااي احلضارات الرومانية .
وعندما زرع أمحد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أوىل بذور احلركات االنفصالية يف مصر عن
اخلالفة العباسية اجلامعة واألم ،بدأت بزرعه هلذه البذرة اخلبيثة بذور االنفصام تدب يف نفوس قوى
كثرية جياشة ابلفوضى .زاخرة ابلطموح الشخصي ،انقمة على قيادة العباسيني ..اجلامعة .متأثرة
بعوامل قومية من تلك العوامل اليت تدمر روح احلضارة وتبشر مبستقبل ضائع ميت ..لقد كانت دولة
ابن طولون مثاال لكثري من الدويالت اليت شذت على اخلالفة ،وشيدت أبنيتها املتداعية على أنقاض
اخلالفة ،ومل يعد لكثري منها عالقة ابخلالفة أكثر من االعرتاف بسلطة اخلليفة االعمية .
وبعد السقوط املتوقع هلذه الدولة عادت مصر وسورية إىل حكم العباسيني ،بيد أن بذرة
االنفصال -كما ذكران -كانت قد زرعت يف نفوس قوى كثرية ،جائشة ابلفوضى فوارة ابلنوازع
القومية الوثنية ..فما كادت دولة ابن طولون متوت حىت حلت حملها بعد برهة زمنية قصرية -يف
38
مصر -دولة اإلخشيديني اليت أسسها " حممد بن طغج " واليت عاشت آيلة للسقوط بني سنوات (
140 - 111هـ ) ( 414 - 414م ) .
وكانت بداية الدولة نظرية لنفس البداية اليت انطلقت منها الدولة الطولونية ،فمحمد ابن طغج
وكل إليه من قبل اخلالفة العباسية أمر مصر لتنظيم أحواهلا ..فنظم أحواهلا لنفسه واستقل ابألمر ،
واستوىل على سورية وفلسطني وضم مكة واملدينة إىل دولته .
ومبوت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغريان مل يكن هلما من احلكم إال اعمه ..وكانت مقاليد
األمور يف احلقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور " " أاب املسك " -كان ابن طغج
الذي لقب ابإلخشيد -قد اشرتاه من اتجر زيت بثمانية داننري .
وقد استقل هذا العبد احلبشي إبدارة مصر ( ..وكانت له مع شاعر العصر أيب الطيب املتنيب
قصص مشهورة) كما أن هذا العبد اخلصي انفس دولة احلمدانيني اليت ظهرت يف مشال سورية .
وعرب مخسة حكام ضعاف ابستثناء أوهلم حممد بن طغج -مشت الدولة مسرعة يف طريقها إىل
املوت احملقق ..فلم يكن احلاكمان التاليان ملؤسسي الدولة إال اتبعني لكافور -كما ذكران -ومبوت
كافور وتويل ( أيب الفوارس أمحد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد املعز
لدين هللا الفاطمي سنة 140هـ .
ومل يقدر هلذه الدولة أن ختلف شيئا يذكر من املآثر العامة ،كما أن احلياة األدبية والفنية مل تكن
ذات ابل فيها ،ومل يظهر كلمعة الشمس املتوهجة إال ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس
احلكم ..يدعم هبا غروره الشعري وتفوقه اجلدير ابلتقدير يف ميدان الكلمة املسيطرة اآلمرة !! وعندما
ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " أتشرية خروج " ولقي حتفه جزاء له ..بعد أن
ترك حقده على السلطة ممثال يف أشهر أبياته :
ال تشرت العبد إال والعصا معه ** إن العبيد ألجناس مناكيد
39
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة اإلخشيدية " كافور " .
ولو مل يصل جوهر إىل حدود مصر لسقطت الدولة اإلخشيدية بفعل عامل آخر ،فعندما ال
يكون هناك مربر للوجود ..ال يكون مثة مربر للبقاء ..وال تفعل القوى اخلارجية اليت تسيطر على
األمم والشعوب سوى أن تتقدم يف فراغ دون أن تصطدم جبدران حضارية أو صخور قوية راسخة
ابلعقيدة " مبربر الوجود ...ومؤهل البقاء " !
كما ال تلد الطفرات غري الطبيعية إال طفرات مضادة اندفاعية -هكذا حتولت أرض خراسان -
منذ أن ابتدع فيها سنة االنفصال عن العباسيني بنو طاهر ،ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب
املضاد ،ألهنم مل يكونوا حركة ثورية عنيفة ،وإمنا كانت انفصاال هادائ يف حدود السلطة الرعمية
املشروعة ،سلطة اخلالفة العباسية األم ..لئن كان هذا قد مت هلم ..فإن األمور قد استفحلت من
بعدهم ..وأصبح الشذوذ هو القاعدة ..وانقلبت األرض اخلراسانية إىل أرض للثورات املذهبية
واجلنسية ..ولعل هذا كان من أكرب عوامل القضاء على الدور التارخيي الذي كان ميكن أن يلعبه
اخلراساين يف صنع احلضارة اإلسالمية اإلنسانية .
فحيثما حل العنف والالمشروعية ..وانساقت اجلماهري دون تعقل خلف راايت متعددة ،
وخلف كلمات مبهمة ..فقدت ابلتايل قدرهتا على الرؤية ..وقدرهتا على العطاء احلضاري .
أصبحت لعبة يف يد كل انعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع .
وهكــذا شــرب الطــاهريون االنفصــاليون مــن نفــس الكــأس الــيت أذاقوهــا للعباســيني،فقام الصــفاريون
عليهم .واستولوا على حكم خراسان سنة 112هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إىل سامان أحد نبالء " بلخ " قد نشأوا عماال مسلمني
لبين طاهر .مث مل يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 079هـ إىل سنة 444م وكان ذلك على
40
أشالء االنقالبيني االنفصاليني :الطاهريني والصفاريني ..وكان مؤسس دولتهم األول هو نصر بن
أمحد ،إال أن موطد الدولة هو إعماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن
يصيبه جبروح قاتلة .
ويف عهد ملكهم نصر الثاين بن أمحد ( ) 491 - 421وهو الرابع من ملوكهم ،وسعوا ملكهم
إىل أعظم حدود وصلوا إليها ،فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان
ومتتعوا بسلطة مستقلة ،وإن كانوا مل يقطعوا الصلة الرعمية اإلسالمية ابخلليفة العباسي يف بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي واألديب سواء من انحية اللغة أو األدب
شعرا ونثرا ..وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من انحية فكرها وطابعها العام
ابعتبارها دولة فارسية ،ففيها ظهر الرازي الشهري ،وقدم كتابه املنصوري يف الطب إىل أحد ملوكها
..وكان ابن سينا أحد املرتددين على مكتبات خبارى عامة الدولة ...ووضع الفردوسي أشعاره
ابلفارسية ألمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غري الطبيعية اليت ال بد هلا أن تلد طفرات مضادة انفعالية ،مل يلبث
أن ظهر كقانون حضاري ال بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ،كما أداه مع الطاهريني
ومع الصفاريني ،ومع الطولونيني واإلخشيد ،فلم تنج الدولة ابلتايل من عناصر التهدمي والفوضى اليت
قضت على ما سواها من احلركات االنقالبية يف ذلك العصر .
وابإلضافة إىل املشاكل اخلارجية اليت كانت تسببها اخلالفة للدولة كلما أتيح هلا ذلك ،وفضال
عن سرعة توايل األمراء على احلكم بتأثري الصراع الداخلي بني األسرة احلاكمة ،وبتأثري مطامع الكرباء
العسكريني الذي يظنون أنفسهم أوىل ابحلكم ألنه ال يوجد من يفوقهم يف حكم البالد ،فكلهم
أصحاب حق يف مغامن االنقالب االنفصايل .
ابإلضافة إىل هذا وذاك ..ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيني ويؤذن أبفول مشسهم ..
ولقد بدا أهنم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخالفة ..متاما كما شرب غريهم من االنفصاليني
.
41
وقد ظهرت القبائل الرتكية البدوية ..وارتفع جنمها يف الدولة ،وسيطرت على الشئون الداخلية
للدولة ،وحتولت القوة تدرجييا من أيدي السامانيني إىل أيدي األتراك املوايل ..وحىت قصورهم كان
األتراك يتمتعون بنفوذ كبري فيها .
وقد جنح الغزنويون الذين كانوا من املوايل األتراك يف انتزاع اجلنوب ،كما وقعت املنطقة الشمالية
من هنر جيحون يف أيدي خاانت تركستان " االيالق " الذي قدر هلم أن يستولوا على عاصمة
السامانيني " خبارى " مث مل يلبثوا -بعد تسع سنوات -أن التهموا الدولة السامانية !!.
ومل تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت يف إحياء تراثها اخلاص ،كما أهنا مل تكن
أكثر من حركة انقالبية قامت أبسلوب الطفرة غري الطبيعية وانتهت كذلك أبسلوب الطفرة غري
الطبيعية سنة 110هـ بعد أن عاشت يف ظل محاية ( ضعف اخلالفة ) قران من الزمان !!
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد ختلصها من حركات االنشقاق
يف خراسان ومصر أخرايت القرن الثالث للهجرة ،بينما هذا ..كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل يف
طور جديد ذي معامل جديدة مل تشهدها من قبل ..وبدخوهلا هذا الطور شهدت انفصاال ضخما
بني رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة املسيطرة عليها حلني زواهلا رعميا من حماضر التاريخ سنة
141هـ .
إن األمر مل يكن جمرد حركة انشقاق هذه املرة ،كما أنه مل يكن جمرد االستئثار حبكم جزء من
الدولة ،مع رفع راية الدولة ،كما أنه مل يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية ..لقد كان األمر أعمق
من ذلك بكثري ...لقد كان أسلواب جديدا يف التعامل مع الدولة العباسية اجلامعة ..لقد كان احتواء
هلا أو بتعبري آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها ..وألول مرة يف اتريخ الدولة
اإلسالمية نرى بعض اخللفاء -على حنو واضح وعنيف -لعبة يف يد بعض املغامرين ،ونرى بعض
اخللفاء يعزلون ويولون دون أن يكون هلم من األمر شيء ..يفعل ابعمهم كل شيء وخيطب هلم على
كل منرب وتعلن ابعمهم احلروب اليت ال انقة هلم فيها وال مجل ..وليس هذا وحسب ..بل ألول مرة
42
تصبح اخلالفة عبثا يهرب منه اخللفاء ..وينأى عنه احملرتمون ألنفسهم ألن مصري اخلليفة غالبا اجلر
من قدميه أو اجلوع الشديد ..
وبدأ العامل اإلسالمي يرتنح منذ هذا احلدث الضخم الذي انفصل فيه رأس األمة عن جسدها.
وقد محل كرب هذا األمر اخلطري ،األتراك من اجلند الذين كانوا ميرون آخر القرن الثالث فرتة متزق
داخلي ،وانقالب ضد اخللفاء الذين أتوا هبم ،ابدئ األمر حلمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة
السيئة .
فلما وصل ( أمحد بن بويه ) املؤسس احلقيقي للدولة البويهية ( ) 997 - 119إىل بغداد،
بعد أن كاتب اخلليفة املستكفي ،ووافق األخري على دخوله بغداد فدخلها يف يسر ودون مشقة
وفتحت له أبواب بغداد ،واستقبله اخلليفة ( املستكفي ) ولقبه معز الدولة ..وفرح الناس به لينقذهم
من الفوضى اليت أحدثها اجلند األتراك يف جهاز الدولة وبني الشعب .
ملا مت هذا الدخول وحتولت به الدولة إىل محاية البويهيني الرعمية ،بعد أن كان خضوعها لألتراك
جمرد نشاز أو انقالب يف داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ ال بد أن يزول .
ملا مت هذا كانت اخللفية التارخيية يف ذهن البويهيني واضحة ،وكان دخوهلم بغداد مبثابة تقلد
صريح لقيادة اخلالفة ..وقيادة املسلمني ..وقد فهم اخللفاء أنفسهم هذا ...فلم حياولوا منافسة
البويهيني يف السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن األمر مل يقف عند هذه احلدود ابلنسبة للبويهيني ،فلقد متادوا يف األمر ،وقد زعموا
ألنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا ،ومبا أهنم كانوا يعتنقون املذهب الشيعي الزيدي ..فقد حاولوا فرض
املناخ الشيعي على الناس ،بل إن أمحد بن بويه املذكور حاول تغيري اخلالفة العباسية إىل خالفة
شيعية لوال نصيحة أصحابه له أبن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ومل يعد للخليفة يف ظلهم حىت حق تعيني كتابه ووزرائه ،وقد منع وارد اخلليفة عنه ،ومل يعد
يصله إال مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي ..مث اقتطع منه بعد ذلك حبجج واهية ،وقد بلغ
إذالل بعض اخللفاء مبلغه ==املستكفي عن اخلالفة وعزل اخلليفة الطائع وعزل غريمها ،وقد عزل
43
املطيع هلل نفسه بعد أن رأى أنه ال قيمة له !!
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه األتراك ،فقد أحدثوا الفوضى يف البالد وصادروا األموال ،
ودخلوا مع الناس يف صراع عنيف من أجل احلصول على األموال .
وخالل أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خالفة العباسيني ،ومل يفعلوا فيها شيئا ذا
ابل سوى أن يضيفوا إىل صورة اجلند األتراك مزيدا من مالمح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة يف أمثال هذه األسر املتسلطة ..أهنا سريعة االنقسام على نفسها شديدة
التنافس فيما بينها ،وهكذا سقطت األسرة البويهية إىل حضيض االنقسام والتناطح الداخلي ..وعاىن
املسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثري .
إن سيطرة عنصر من العناصر املتعصبة قوميا أو املتأثرة خبلفية اترخيية مل تتخلص من شوائبها ...
هو أبرز ما واجه ركب مسريتنا احلضارية والتارخيية .
وابلقومية املتعصبة وأبصحاب النزعات املشبوهة وذوي الوالء حلضارات معاكسة لنا وخلطنا
احلضاري ،هبؤالء متت عملية سقوطنا املتكرر يف مراحل اترخينا .
لكن اترخينا ..الذي تتدخل فيه إرادة هللا حبفظ هذا الدين كي يظل املعلم الثابت املضيء يف
ليل البشرية الطويل املظلم ...
هذا التاريخ جيد مع كل نكبة اترخيية ،أو فرتة من فرتات التداعي واهلبوط ،من يعيد إىل اجلسم
حيويته ومينع عنه السقوط القاتل ..وهكذا انبعث -من جديد -من بني األتراك أنفسهم عنصر
إسالمي جماهد ..أعاد للخالفة شباهبا ،وجنح قائد األتراك السالجقة " طغرلبك " سنة 997هـ يف
أن يقضي على دولة البويهيني .
وبني عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت اترخيهم أهنم غري أهل لتحمل أماانت التاريخ
..وقد تعبت األمة من جراء سياستهم أشد التعب ..ألن التاريخ يعلمنا دائما أنه " ابنفصال رأس
األمة عن جسدها ..تتعطل طاقات احلياة فيها " .
44
سقوط االنفصاليني يف طربستان
يف كل دولة جامعة كالدولة العباسية ،ميكن ألي راغب يف السلطة أن جيد مندوحة للقيام بثورة
ولرفع راية االنفصال ،وإقامة حكم ذاي له وألبنائه.
فثمة قوميات خمتلفة ..من السهل استجاشة عواطف كل منها القومية ...
ومثة أوطان خمتلفة ..من السهل الضرب على وتر االستقالل ودعوى احلرية الذاتية فيها .
ومثة عقائد خمتلفة .سواء عقائد خمالفة متاما ،أو عقائد منشقة على العقيدة األصل ،وابلتايل
ميكن الضرب على وتر من ينضمون إىل هذه العقيدة املضادة أو املنشقة ،من أجل سيطرة العقيدة
املضادة على العقيدة األصل .
ومثة الفتات أخرى كثرية ميكن أن جيد فيها كل راغب يف التمرد -التربير الذي يسهل له أمام
اجلماهري -السيما الغوغاء الذين جيرون وراء كل انعق بدون وعي -عملية الثورة واالنفصال ..
وكانت هذه أكرب التحدايت اليت واجهت الدولة العباسية اجلامعة .
وكان طابع االنفصال يف طربستان وبالد اليمن خمتلفا عن حماوالت االستقالل ابلسلطة فقط ،
كان حيمل بذرة االنشقاق الروحي عن اخلالفة العباسية ..كان حيمل بني يديه دعوى آل البيت
والرتويج ألحقيتهم يف اخلالفة .
ويف طربستان يف النصف األول من القرن الثالث للهجرة ضغط على الفالحني اإلقطاع املتزايد ،
وقد أقطع اخلليفة العباسي حممد بن عبد هللا بن طاهر -حاكم بغداد -أراضي يف طربستان مل تكفه
،فقام بوضع يده على األراضي اجملاورة له ،مما جعل الفالحني يضجون من ذلك .
وقد استغل بعضهم هذه الفرصة ،فقاموا إبعالن الثورة على اإلقطاع ووعدوا السكان برفع
اإلجحاف والظلم ويف سنة 141هـ وابلتحديد -قام احلسن بن زيد إبعالن ثورته ومجع حوله عددا
كبريا من الفالحني ،واستوىل على طربستان وجرجان ،وجنح يف إقامة إمارة مستقلة ابعمه -وظلت
45
دولته قائمة حىت سنة 107هـ حني ظهر السامانيون فأزاحوها -بسهولة -عن املنطقة كلها .
ومع ذلك ظلت هذه الدعوة الشعار املسكني أو قميص عثمان الذي يتمسح فيه الراغبون يف
السلطة ..وهم يصلون إىل أغراضهم عن طريق رفع راايت خمتلفة حبسب الظروف ..ليكن الشعار
القضاء على االستغالل ،أو حماربة اإلقطاع املهم الوصول إىل الغاية .
ومل ميض إال قليل ..أربعة عشر عاما فقط ..حىت ظهر متمسح جديد يف آل البيت !! ومن
الغريب أن هذا الثائر اجلديد " حسن بن علي األطرو " الذي لقب نفسه " بناصر احلق " سار
على نفس الطريق الذي سارت فيه احلركة السابقة اليت تزعمها احلسن بن زيد ..فقد قام يف طربستان
..وقد رفع شعار " القضاء على اإلقطاع " وأبرز سالح آل البيت ،وكما هو املرتقب ،التف حوله
الفالحون ...وجنح يف الوصول إىل السلطة .
وكما هو املنتظر كذلك ،مل تلبث هذه احلركة على مسرح السلطة يف طربستان أكثر من ثالثة
عشر عاما ( 129 - 112هـ ) وانكشفت حقيقتها ..ولقيت حتفها بفعل عاصفة " الزايريني "
الذين أطاحوا حبكم األطرو ،وحكموا جرجان وطربستان بني أعوام ( 927 - 124هـ ) مث زالوا
كما زال غريهم .
ويف جنويب اجلزيرة العربية ظهرت دعوة الزيديني رافعة راية آل البيت ،متمسحة يف شعار القضاء
على اإلقطاع ..وقد جنح حيىي بن احلسني من أحفاد القاسم الرسي أحد كبار علماء املذهب الزيدي
يف إقامة حكم لنفسه متخذا من ( صعدة ) عاصمة له .وقد حكمت الدولة الزيدية مدة طويلة
بلغت قريبا من أربعة قرون ونصف .واعتمدت هذه الدولة يف تكوينها على أسس أكثر أصالة من
جمرد " القضاء على اإلقطاع " ..وبذا حققت لنفسها انتصارا وشهرة كبرية على امتداد العامل
اإلسالمي ..وكانت يف احلق من احلركات املمتازة يف التاريخ اإلسالمي .
وأاي كان األمر ،فقد كان شعار " القضاء على اإلقطاع " قميص عثمان الذي متسحت فيه
دول كثرية وحركات أكثر ..ومل تتضح الرؤية عند هذه احلركات أو تلك الدول إال أن حتقيق عالج
اقتصادي مؤقت ال يكفي إلقامة دولة ،فضال عن أن ينشئ حضارة ال تضيف جديدا ملوكب البشرية
.
46
إن حجم العالج ال بد أن يكون مساواي حلجم املرض .كما أن من الضروري أن تكون نوعية
الدواء مناسبة لنوعية املرض ...أما عالج ظاهرة اقتصادية ابلوصول على قمة السلطة السياسية ..
فهو جرعة كبرية من العالج قد تكفي للقتل واملوت .
ومن هنا أخفقت كل احلركات الزاعمة القضاء على اإلقطاع ،ألهنا بعد أن جنحت ،أو أصدرت
قرارها إبصالح الوضع االقتصادي -إذا حدث -جتد نفسها يف فراغ ،وجتد أن مربر وجودها قد
انتهى ومل يعد مثة ما وجب االستمرار والبقاء
من " تغلب " -إحدى قبائل العرب الكربى -انبثقت دولة بين محدان ،جاعلة من املوصل -
أول األمر -عاصمة هلا ..وكان ذلك سنة 127هـ (414م) على يد زعيم الدولة محدان بن محدون
.
كان على هذه الدولة الناشئة أن تلعب دورا مصرياي يف عدة جبهات :
يف حماولة تضميد جروح الدولة العباسية من الطعنات املتتالية من األتراك الذين استبدوا هبا،
وحولوا خلفاءها إىل دمى للتسلية واللهو ..وأيضا من الطعنات االنفصالية اليت تصيب الدولة من كل
صوب .
يف مقاومة الغارات البيزنطية اليت يقودها اإلمرباطور الروماين ( مشيشق) رغبة يف االستيالء على
بيت املقدس ،ويف مقاومة اإلمرباطور البيزنطي " نقفور فوقاس " الذي حاول بكل قوته السيطرة على
حلب والثغور املتامخة حلدود الدولة الرومانية .
يف مقاومة احلركة االنفصالية اليت حتكم مصر اإلخشيدية ،وتريد فرض سيطرة كاملة على مصر
وبالد الشام واحلجاز ،وتناوئ ابلتايل أية حركة انفصالية أخرى حتاول بناء نفسها على حساهبا .
47
لقد جنح احلسن بن عبد هللا احلمداين يف أن يشل نفوذ الرتك .وأن ينقذ اخلليفة العباسي املتقي
ابهلل من استبداد األتراك به ،وقد رضي اخلليفة العباسي عن صنيعه ومنحه لقب أمري األمراء ومنح
أخاه املرافق له لقب " سيف الدولة " لكنهما سرعان ما هزما أمام األتراك وخرجا من بغداد عائدين
إىل عاصمتهما املوصل ..سنة 112هـ " 491م " .وملا توىل سيف الدولة -وكان شجاعا كرميا -
قام بعدة غارات لصد البيزنطيني ،وجنح يف أن يطردهم من املناطق اليت تسللوا إليها ،وواصل زحفه
حىت دخل بالدهم واستوىل على بعض حصوهنم ..واملهم ،زرع هيبته يف نفوسهم ..وجدد شباب
اإلرادة القتالية ،ومل تستطع بيزنطة أن متد نفوذها إىل بالد الشام وفلسطني .
ويف اجلانب اإلخشيدي استمر احلمدانيون يف مقاتلتهم تتبع نفوذهم ،لكنهم أايم سيف الدولة
خسروا أمامهم معركة يف قنسرين ..وانتهى األمر بصلح وضع حدود الصراع املستمر بني جبهتيهما .
كانت هذه هي التحدايت اليت واجهتها دولة احلمدانيني ..وقد جنحت الدولة يف بعضها
وأخفقت يف أكثرها ،ولقد بدا سيف الدولة احلمداين ..وكأنه الرجل الوحيد املمثل هلذه الدولة .
كان سيف الدولة حبق ميلك أكرب رصيد من أجماد الدولة ..ومل يرفعه يف سجل التاريخ ما قام به
من حروب خارجية وحسب ،بل كانت له يف جمال احلضارة والعمران الداخلي جماالت برز فيها أكثر
من بروزه يف اجملاالت اخلارجية .
ولقد يبدو سيف الدولة يف أعني كثري من املؤرخني وكأنه هارون الرشيد أو املأمون ،وإنه ليعيد
إىل األذهان ذكرى تلك الساحة العلمية الفكرية اليت مثلتها بغداد ..يف عصرها الذهيب ..لكن
الساحة كانت على عهده ..حلب الشهباء !!
كان سيف الدولة -الذي احتضن املتنيب وأاب الفرج األصفهاين والفارايب وابن نباتة فضال عن
أيب فراس احلمداين " شاعر الدولة " -كان هذا الرجل ميثل قوة الدولة وقمة ما وصلت إليه من رفعة
.
48
وظهرت الدولة بعده وكأهنا بناء مائل للسقوط .
وقد توىل احلكم بعد وفاة سيف الدولة ثالثة خلفاء ضعاف حىت زالت يف عهد أيب املعايل
شريف سنة 149هـ ..أي أهنا مل تعش بعد سيف الدولة الذي مات سنة 141هـ أكثر من أربعني
سنة !! .
لقد متثلت قوة الدولة احلمدانية يف شخص ،وكعادة الدول اليت ترتبط أبشخاص تسقط
بسقوطهم ..وكان أكرب عامل حضاري زحزح الدولة احلمدانية عن مكانتها يف التاريخ أهنا فشلت يف
االستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها ،ومل تنهج النهج السليم يف مقاومته ..عن طريق إجياد
وحدة إسالمية تتجاوز الصراعات اجلزئية لتواجه اخلطر احلضاري الكبري ..وعندما تفشل دولة يف
االستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها ..فإهنا ،وإن قاومت قليال ،فإهنا ال بد أن تسقط من
قطار التاريخ .
يف تركستان -بدولة االستعمار السوفييت -نشأت هذه األسرة ..ولظروف ما هاجرت هذه
األسرة بقيادة كبريها " سلجوق " الذي تنسب األسرة إليه ..وبني خراسان ،وخبارى ،وأصبهان ،
تراوحت إقامتها حىت استقرت مبرو حيث هامجها السلطان الغزنوي مسعود ولكنه هزم أمامها ..
وأصبحت اخلطبة تلقى مبرو ابسم داود السلجوقي ..جنل سلجوق الكبري ،وكان هذا يف سنة
911هـ .
ومن مرو انتشر سلطان السالجقة إىل الري وإىل خوارزم ،وبدأ اترخيهم يظهر كقوة هلا كياهنا
املستقل يف العامل اإلسالمي خالل القرن اخلامس للهجرة .
وقد جنحوا يف السيطرة على بالد كثرية ..كخراسان وأصبهان ومهذان وخبارى ،وامتد نفوذهم
حىت العراق .والتحموا ابلدولة العباسية ،مث أتيحت هلم فرصة ذهبية .إذ استنصر هبم اخلليفة
العباسي " القائم " ضد اثئر شيعي يدعى " البساسريي " عجزت اخلالفة العباسية عن مقاومته ،
49
فأسرعوا إىل انتهاز الفرصة التارخيية ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد منتصرا على البساسريي سنة
997هـ وكان هذا العام حدا فاصال يف اتريخ السالجقة إذ اعترب بداية عصر نفوذ السالجقة
وسيطرهتم على مصري اخلالفة العباسية الكربى .
امتاز السالجقة األتراك يف معامالهتم ابلتدين ،وكانوا مظهرا لإلنسان الفطري الذي هذبه
اإلسالم ،وإذا ما استثنينا صورا قليلة حتتمها الطبيعة البشرية اليت ال ختلو من بعض القصور ،فإن
هؤالء السادة كانوا منوذجا طيبا حىت يف معاملتهم للخليفة العباسي الذي حفظوا له عرشه ..إهنم مل
يكونوا كالذين انتصر هبم املعتصم ،ومل يكونوا كالبويهيني حينما سيطروا على اخلالفة وأذلوا كربايء
اخللفاء ..أبدا لقد احرتموا اخللفاء وأجلوهم ،وكان هلم -كذلك -فضل كبري يف رفع راية اإلسالم ،
ويف مد عمر اخلالفة العباسية أكثر من قرنني من الزمان ،كما أهنم بدأوا مرحلة جديدة من التوسع
اإلسالمي يف اجتاه آسيا الصغرى ،ويقال إن هذا التوسع كان أحد أسباب قيام احلروب الصليبية .
ومن الظواهر املتعلقة بسياسة هؤالء القوم االجتماعية والفكرية ..إلغاء أشهر ملوكهم " ألب
أرسالن " لنظام املخابرات وجلوء أحد ملوكهم " نظام امللك " إىل نظام اإلقطاع ..إبعطاء
الشخصيات السلجوقية والشخصيات األخرى الكربى إقطاعات أو " أاتبكيات " حلساهبا اخلاص .
ومن الظواهر كذلك احلمالت اجلهادية شبه املنتظمة اليت كانت خري عالج للفوضى الداخلية ..
كذلك من الظواهر صراع السالجقة املستمر ضد حركات اإلعماعيلية ،وجناحهم يف تقليم أظفارهم .
وبعد صفحة اترخيية رائعة من صفحات احلضارة اإلسالمية امتدت بني سنوات _ - 911
) 124قدر للسالجقة أن أيفل جنمهم وأن تغرب مشسهم بعد أن حكم منهم واحد وثالثون زعيما
سلجوقيا ،وبعد أن قدموا للخالفة اإلسالمية الكربى أجل اخلدمات ومحوها من كثري من عثرات
السقوط ،وقدموا للحضارة اإلسالمية يدا من أروع ما قدمت الدول اإلسالمية من أايد .
بيد أن السالجقة ،وقعوا ،وهم يسريون يف الطريق ،يف أخطاء ظنوها خريا ..فانقلبت على
دولتهم شرا .
50
لقد جلأ السالجقة -كما ذكران -إىل نظام اإلقطاعات وأسندوا معظمها إىل شخصيات
سلجوقية ،وقد حسبوا أن هذا من شأنه أن يشغل السالجقة عن التفكري يف احلكم ،وأن يرضيهم
ابلبعد عن السلطة ،لكن اإلقطاعيني السالجقة سرعان ما حاول كل منهم أن يكون لنفسه من
إقطاعاته إمارة صغرية حاولت كل منها االنفصال عن السلطة وهو عكس ما كان يهدف إليه
السالجقة احلكام ،وقد أدى هذا إىل تفكك وحدة السالجقة وإىل إجهاد السلطة السياسية احلاكمة
،وإىل توزع الدول بني عديد من األمراء .
كما أن هذا اخلطأ أدى إىل عدول السالجقة عن طريقة اختيار زعمائهم القدمية اليت كانت
تعتمد على الكفاءة ..إىل طريقة جعل الزعامة ووراثية .نظرا لكثرة تنازع أمراء اإلقطاعات عليها .
ومن املضاعفات كذلك هتاون السالجقة -يف ظل تفككهم -أمام حركات التمرد الباطنية ال
سيما احلركة اإلعماعيلية بزعامة قائدها احلسن الصباح ..وقد قدر هلذه احلركة أن تستنفذ طاقة كربى
من طاقات السالجقة اليت كان يف اإلمكان استخدامها يف القضاء على حركات التفكك اليت أصيبت
هبا الدولة أو الزعامة السلجوقية للخالفة العباسية .
وتبقى كلمة التاريخ املوحية :فإن السلطة غري احلازمة ،واليت تقبل التهاون يف وحدة الدول إرضاء
لبعض العناصر أو الشخصيات ..هذه السلطة ستدفع مثن هتاوهنا يوما .
إن عقال بعري مينع من احلاكم -بغري حق -هو انتقاص لسيادة الدولة ..هكذا فهم أبو بكر
رضي هللا عنه األمور ..وهبذا جنح يف القضاء على املتمردين .
وهكذا كان جيب أن يفهم السالجقة وغريهم من زعماء الدول ..الذين يقبلون نصف احلكم ..
أو شيئا من احلكم دون وعي منهم أبن سيادة الدولة ال تتجزأ ،وأبن أنصاف احللول أو أرابعها ..
مقدمة طبيعية لزوال احلكم كله .
51
سقوط دولة الفاطميني
حني تستعني بعدوك التارخيي وتفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ..فال ضري يف أن متوت ..
فأنت ـ يف البدء ـ إنسان منتحر !! ..
والتسامح قضية كربى من قضااي حضارتنا ،ومبدأ عظيم من مبادئ إسالمنا ،لكن هذا
التسامح ـ برتك الناس حييون وفق معتقداهتم ـ شيء ،وتسليمك مقاليد األمور هلذا الذي ينتمي روحيا
إىل أعدائك ،ويشعر بتعاطف حنو من حتارب ،وتقل حضانته ـ مهما يكن ـ عن أخيك املسلم ..
تسليمك هذا شيء آخر بعيد عن التسامح ..إنه نوع من الغفلة واحلماقة ..أو بتعبري آخر نوع من
االنتحار!!
ويف الدولة الفاطمية اليت قامت يف املغرب العريب سنة 140هـ وانتقلت قيادهتا إىل مصر سنة
111هـ ..كانت ظاهرة االعتماد على اليهود والنصارى عمة من عمات احلكم يف الدولة ،فمن هؤالء
كان كثري من الوزراء وجباة الضرائب والزكاة ،واملستشارين يف شؤون السياسة واالقتصاد والعلم ،
ومنهم األطباء والثقات لدى احلكام ،وإليهم حتال معظم األعمال اجلسام .
ولقد أحدثت هذه الظروف انفصاما بني الفاطميني والشعب ـ إىل جانب عوامل أخرى هامة ـ
حىت لقد كان الناس يستجريون من تسلط اليهود يف البالد فال جيارون ،وقد ظهرت يف ذلك أشعار
كثرية معروفة ،بل إن الناس قد اضطروا إىل أن يلفتوا نظر العزيز ( احلاكم الثاين يف مصر ) إىل هذه
الظاهرة اليت كان يبدي تغافال عنها ،وقد وضعوا له صورة من الورق لرجل يطلب حاجة أثناء مرور
موكبه ..وقد مد الرجل يدا بورقة مكتوب فيها " :ابلذي أعز اليهود مبنشا ،وأعز النصارى بعيسى ،
وأذل املسلمني بك إال ما قضيت ظالميت " وقد ملعت يف عماء الدولة الفاطمية أعماء كثرية من هؤالء
،فقد ملع يعقوب بن كلس ( وسنورد تفصيال عنه بعد ) ،ومنصور بن مقشر النصراين الطبيب
صاحب الكلمة السامية يف قصر العزيز ،وعيسى بن نسطورس الكاتب ،واملنجم ابن علي عيسى ،
52
وجيني بن وشم الكواهي ،ومنشا اليهودي الذي كان انئب العزيز يف الشام ..وغريهم كثري .وعندما
وصل احلاكم أبمر هللا إىل احلكم ..وهو رجل أمجع املؤرخون على اضطراب عقله حىت أنه كان أيمر
ابلشيء وينهى عنه ـ أمر هبدم الكنائس اليت مبصر ،لكنه سرعان ما عاد فأمر ببنائها ،وأطلق من
جديد يد اليهود يف البالد ،واستمر أمر اليهود والنصارى يف عهد الظاهر ،وعندما قدر للحاكم
الفاطمي السادس يف مصر " املستنصر بن علي الظاهر " أن يصل إىل احلكم سنة 917هـ كانت
احلالة قد بلغت قمتها من التدهور .ويف ظل سياسة اليهود وحتكمهم يف مرافق البالد أصبح قصر
هذا احلاكم زاخرا ابلدسائس اليت حييكها القواد ورجال البالط واخلصيان والنساء ،ويقف وراء كل
هؤالء هذه الطوائف يديرون املعارك لصاحلهم ،ويرقبون الفائز ،ويفسحون يف شقة اخلالف.
وقد ذاقت البالد من اجلوع والبؤس والنزاع على السلطة ما أحاهلا إىل فوضى مل يشهد اتريخ
مصر مثلها .وقد صور املقريزي هذه احلالة يف قوله " :مل جتد البالد صالحا وال استقام هلا أمر ،
وتناقضت عليها أمورها ،ومل يستقر عليها وزير حتمد طريقته " ..على آخر كالمه الطويل الذي قال
يف آخره أبنه " :تالشت األمور واضمحل امللك " وقد فكر ابن محدان زعيم األتراك يف مصر يف
تغيري اخلالفة الفاطمية إىل العباسية ،وكانت حال البالد والفاطميني تسمح بتحقيق كل ذلك ..لوال
سوء سياسة ابن محدان ألتباعه وانقالهبم عليه ..ويف هذه السنوات أكل الناس بعضهم بعضا ،وبيع
الرغيف مبائة دينار ،وأكل الناس حلوم الكالب واحلمري ،ومل ينته األمر إال بسقوط الدولة الفاطمية
السقوط احلقيقي حني ترك حكامها السلطة متاما وقبعوا يف قصورهم ،ومحل أمانة احلكم الوزراء
العظام الذين كان أوهلم وأعظمهم " بدر اجلمايل " .
وقد أصبح بيد هؤالء الوزراء كل مقاليد األمور حىت أهنم مل يدعوا للخالفة وال للخليفة يف أغلب
األوقات إال ابالسم ،وكانوا يتحكمون يف اختيار اخللفاء ويف عزهلم ،واملؤرخون املنصفون يعتربون
سقوط الدولة هو اتريخ تولية بدر اجلمايل أمور مصر سنة 919هـ ..ومل يفعل صالح الدين األيويب
حني أسقط اخلطبة للفاطميني دون أية معارضة أو مقاومة حقيقية سنة 417هـ ـ إال إسقاط عهد
الوزراء العظام الذين كان آخرهم شاور ..أما الفاطميون فقد سقطوا منذ مدة طويلة أي قبل ذلك
بقرن .
ومن الغريب أن العزيز الفاطمي ..بلغ من حبه لوزيره يعقوب بن كلس اليهودي أن ترك له أمر
53
الدعوة إىل املذهب الفاطمي ،وكان هذا األخري جيلس بنفسه يعلم الناس فقه الطائفة اإلعماعيلية ،
وقد ألف نفسه كتااب يتضمن الفقه على ما عمعه من املعز والعزيز الذي قال له " :وددت لو أنك
تباع فأبتاعك مبلكي " ومل يدرك العزيز أن ملكه كان قد بيع فعال هبذه السياسة اليت جعلت عهد
الفاطميني يف مصر عهد شدة وتناطح وبؤس .ووقف هؤالء يستثمرون كل هذا ويتملقون الغرائز ..
وبقيت عربة التاريخ عربة للذين يطلبون النصر من األعداء ،والذين يطلبون احلياة من السم ،والذين
ينسون " االسرتاتيجية اإلسالمية العالية " " :ولن ترضى عنك اليهود وال النصارى حىت تتبع ملتهم "
!! .
من أسرة كردية من أذربيجان هاجرت إىل العراق ،انبثق فجر قائد هذه الدولة ـ اليت لعبت
بقيادته ـ دورا من أروع أدوار اترخينا .
ولعل " صالح الدين األيويب " أروع بطل قدمته احلضارة اإلسالمية على امتداد القرنني السادس
والسابع للهجرة ،وبه أفلت املسلمون وأفلتت احلضارة اإلسالمية من غزو عاملي صلييب كاسح كان
يقوده أخبث صلييب عرفته أورواب اهلمجية يف عصورها املظلمة " بطرس الناسك " .
وقد كان الشرتاك صالح الدين مع عمه أسد الدين شريكوه يف احلمالت العسكرية اليت كان
يرسلها نور الدين إىل مصر ،أثر كبري يف تعميق خربته وإبراز مواهبه ،وما إن مات عمه أسد الدين
سنة 419هـ حىت أسند إليه اخلليفة الفاطمي يف مصر " العاضد " الوزارة ،ولقبه ابمللك الناصر ،
فظفر صالح الدين حبب الشعب واحرتامه نظرا حلزمه وعدالته.
ومل أتت سنة 417هـ أي بعد توليته الوزارة بثالث سنوات ـ حىت مات اخلليفة العاضد " فطويت
صفحة اخلالفة الفاطمية يف مصر وغريها ،وعادت مصر ـ العاصمة الفاطمية األوىل ـ عاصمة كربى
للعباسيني حتت قيادة الدولة األيوبية وقائدها صالح الدين األيويب .
كان أمام صالح الدين حتدايت داخلية يف مصر ،فإن اآلاثر الفكرية اليت خلفتها الدولة
54
الفاطمية كانت حتتاج إىل إعالن ثورة فكرية .
وكان أمام صالح الدين خلل اقتصادي منذ أايم اجملاعة العظمى ..أايم " املستنصر " وما جر
على مصر والعامل اإلسالمي احلكم الفاطمي من ويالت تسلط الوزراء العظام منذ " بدر اجلمايل " (
919هـ ) إىل شاور وضرغام .
وكان إبمكان صالح الدين ،لو أنه قائد خمادع ،أن يعلن ثورة اقتصادية واجتماعية ،ويلهي
الناس عن حقيقة اخلطر الصلييب الذي يواجهونه !!
لكن صالح الدين مل يكن هذا القائد املخادع ،حبيث يشغل الناس حلساب األعداء عن
معركتهم احلقيقية مبعارك جانبية .
وكان إبمكان صالح الدين أن يبحث عن " اتفاقية جالء " مع الصليبني أو عن " حل سلمي
استسالمي " حىت تنتهي فرتة تثبيته يف احلكم ،مث يعلن للناس أن احلكام السابقني يتحملون املسؤولية
،وأنه جاء إىل احلكم بعد فوات األوان ،وابلتايل خيضع العامل اإلسالمي هلذا الغزو اخلبيث !!
ويف مواجهة غزو صلييب عاملي أعلن صالح الدين ثورة إسالمية عاملية ،وأصبح هو رمزها
وحمورها ،وكان هذا هو الطريق الوحيد وال يزال هو الطريق .
لقد جاء توحيد العامل اإلسالمي جنبا إىل جنب مع اجلهاد املستمر ضد الصليبية العاملية احلاقدة
،ومل يكن صالح الدين ابألبله الذي يبحث عن أي حل بديل للجهاد ،فوسط احلروب اليت هتز
الكيان املادي واملعنوي والفكري لألمة ال ميكن إجناح أي هدف بعيد عن اهلدف األول ،وكل
األهداف أتي من خالل هذا اهلدف ،ألن اجلماهري تعتقد أهنا عملية تلهية وخداع ..وقد دخل
صالح الدين عديدا من املعارك قبل حطني الشهرية ..كموقعة " مرج عيون " جنوب لبنان سنة
474هـ وموقعة " مدينة صفد " يف السنة نفسها .
وعلى امتداد كل السنوات كانت هناك معارك ال حتصى بني صالح الدين والصليبني .
55
وقد شن صالح الدين على الصليبيني حرواب واسعة من أجل استخالص إمارات إسالمية استوىل
عليها الصليبيون وأسسوا فيها إمارات صليبية مضى على استيالئهم عليها قريبا من تسعني سنة
كأنطاكية وطرسوس والرها وبيت املقدس وطرابلس ..مل يكن صالح الدين ساذجا ضعيفا متهاوان
فيدعو إىل حدود ما قبل " معركة " ما ،أو " ..اتفاقية " ما !! ..
لقد كان احلق اإلسالمي يف عقيدته مقدسا ال يقبل التفريط واملساومة !!
هكذا كان هذا الرجل العظيم .صالح الدين الذي انتصر يف حطني واسرتد بيت املقدس !!
وبوفاة صالح الدين بقيت الدولة األيوبية اليت تنسب إليه تؤدي دورها قريبا من ستني سنة .
لكن هؤالء احلكام كانوا أقل من صالح الدين ،فلم يستطيعوا لعب الدور الذي لعبه ..وكان
بعضهم متخاذال يؤمن إبمكانية املفاوضات مع العدو الصلييب التارخيي ،كامللك الكامل الذي
استجلب سخط العامل اإلسالمي كله ،حني قام بتسليم القدس للصليبيني ،وقد متكن الصاحل أيوب
الذي جاء بعده من اسرتدادها .
ومن الغريب أن هذه الدولة اليت بدأت بعظيم من أعظم الرجال هو صالح الدين ..وانتهت
مبلك عظيم كذلك هو امللك الصاحل ،كانت هنايتها على يد امرأة مملوكة من هؤالء الالئى يظهرن يف
عصور الضعف ،ويساعدن على سقوط الدول .
إهنا واحدة من هؤالء النسوة القوايت الالئى جيدن اللعب يف خفاء القصور ودستورها ،
متجردات من كل خصائص األنوثة احلقيقية ،مستغالت مظاهر هذه األنوثة يف القتل والتدمري ..
إهنا شجرة الدر ..اليت قتلت ابن زوجها " توران شاه " لكي تنفرد ابحلكم ،مث شربت من نفس
الكأس حني قتلها املماليك أخذا بثأر زوجها منها .
وعجبا ..لقد قضي على الدولة اليت قامت على أكتافها واحد من أعظم الرجال على يد مملوكة
ـ مهما اختلفنا حوهلا ـ فإهنا كذلك من أبرز نساء العامل .
56
من عوامل سقوط العباسيني
من أعرق الصفحات اليت قدمناها للحضارة اإلنسانية ،وللتاريخ البشري صفحة الدولة العباسية
.
مخسة قرون وأكثر ( 211هـ ـ 141هـ ) مرت على التاريخ البشري ،وهو حيين جبهته هلذه
الدولة .
وابلطبع ..فليس من خصائص املسرية البشرية أن تظل على وترية واحدة ،وهكذا كان شأن
الدولة العباسية يف مسريهتا ،يتعاورها املد واجلزر ،واختلف عليها احلماة بني أتراك وبويهيني وأتراك
سالجقة ،لكنها بقيت مع ذلك رمز اهليبة التارخيية اليت تفرض نفسها على كل القوى ،مستمدة
هذه اهليبة من رصيد اخلالفة اإلسالمية اليت مثلت وحدة الوجود اإلسالمي إىل فرتة قريبة من عمر
التاريخ .
كان قيام هذه الدولة حركة سياسية قامت على ختطيط ،لعله مل يتوفر للمسلمني يف كل اترخيهم
..دقة وعمقا ..وصربا على النتائج ،واستغالال لكل القوى وسرية ،وتوافر لكل مقومات النجاح .
مث كان السري التارخيي هلذه الدولة معجزة عجيبة ،فوسط حبار متالطمة األمواج ،وعامل إسالمي
فسيح ال ميكن ،بل يتعذر استمرار متاسكه ..وأعداء خارجيني من عناصر متباينة املذاهب واجلنس
وامليول .
وسط هذا كله شقت الدولة طريقها ..وال شك يف أهنا كانت بني احلني واحلني تتعرض حلركة
تفكك من هنا ،وحركة مترد من هناك ،وبروز حلركة خروج يف انحية اثلثة ..وغلبة عنصر من العناصر
يف مكان رابع .
ولكن مهما يكن ..فهذه هي طبيعة املسرية البشرية ،ومل يقدم لنا التاريخ على كثرة ما قدم
57
مدينة فاضلة خلت من كل النوازع البشرية وخلت من الصراع ..واملد واجلزر !!
وعرب القرون اخلمسة تقلب يف احلكم عشرات من احلكام ..بلغوا سبعة وثالثني خليفة ،أوهلم
أبو العباس السفاح مث أبو جعفر املنصور ..وقد برز منهم كثريون كاملأمون والرشيد واملعتصم والواثق
واملتوكل واملهدي .
وكان آخرهم ـ ومن أشأمهم ـ أبو أمحد املستعصم الذي استسلم للتتار .
وظهرت أسر قوية وعناصر كبرية سيطرت على الدولة أحياان كالربامكة وبين بويه والسالجقة .
ومتتعت دول كثرية ابالستقالل الفعلي عن الدولة كالطولونيني واإلخشيديني يف مصر ،وبين
طاهر يف خراسان ،وبين سامان يف فارس وما وراء النهر ،والغزنويني يف أفغانستان والبنجاب واهلند ،
وبين بويه ـ الذين مل يستقلوا وحسب ـ بل حتكموا يف اخللفاء أنفسهم يف شرياز يف فارس ..مث
السالجقة .
وهكذا ـ كما ذكران ـ تعاورت كل ظروف املسرية التارخيية هذه الدولة ذات القرون اخلمسة !.
وخالل رحلة الدولة العباسية الطويلة يف التاريخ ،مل جيد املؤرخون بدا من تقسيم هذه الدولة إىل
عصور ثالثة :العصر األول ( 211هـ ـ 111هـ ) وفيه كانت السلطة للخلفاء ما عدا املغرب
واألندلس .والعصر الثاين ( 111ـ 441هـ ) وفيه ضاعت السلطة من اخللفاء لتكون يف يد األتراك
والبويهيني والعصر الثالث ( 441ـ 141هـ ) وفيه عادت السلطة إىل أيدي اخللفاء يف حدود بغداد
وما حوهلا ،دون بقية أمالك اخلالفة اليت سطا عليها الطامعون .
ويف مثل دولة جامعة كبرية ذات حياة حافلة كالدولة العباسية يصعب الوصول إىل رأي أخري يف
أسباب احنالهلا ...
ال :إن حركات االنشقاق هذه ظاهرة أو نتيجة من نتائج بروز عوامل االحنالل .
58
أكان ظهور أو حتكم عناصر غري عربية يف احلكم من أسباب هذا االحنالل ـ ال ،فهذه العناصر
قد وجدت يف حضارات كثرية وأين هي الدولة اليت ختلو من خدمات عناصر ليست منها ؟ ..مث إن
هؤالء مل يصلوا إىل ما وصلوا إليه إال يف ظل مظاهر االحنالل احلقيقية ،وأدى معظمهم خدمات
للدولة كانت سببا من أسباب بقائها وصمودها .
أكان ظهور حركات التمرد الديين كالقرامطة واحلشاشني وغريهم هو السبب األقوى يف حتلل
الدولة ؟
ومما ال شك فيه أن هلذه احلركات أثرها الكبري يف ضياع " الوحدة العقائدية " ويف ضياع كثري من
مثل اإلسالم الصافية خالل هذه العصور ..ويف خلق جو من الفوضى الفكرية واالجتماعية
واالقتصادية ،لكن مع ذلك ،وإن كان هذا سبب قواي ،فليس هو السبب األقوى يف سقوط الدولة
العباسية .فما هي إذن ـ عوامل حتلل الدولة العباسية ودخوهلا يف طور االضمحالل ؟
ال شك يف أن العوامل السابقة وغريها ،كان هلا أتثريها الكبري يف اضمحالل الدولة العباسية ويف
دخوهلا مرحلة األفول .
بيد أن أخطر العوامل اليت أسقطت خالفة العباسيني ،إمهاهلم لركن هام من أركان اإلسالم ..
وهو ( اجلهاد ) ،فبعد املعتصم املتويل أمور الدولة سنة ( 011م ) مل نسمع عن معارك ذات شأن
قامت هبا الدولة ،ومل يكن مبدأ " اجلهاد الدائم " محاية هلذه الدولة املرتامية األطراف أحد أركان
السياسة العباسية .
لقد تقوقعوا يف مشاكل الدولة الداخلية ..فحصرهتم مشاكلها ..وماتوا ببطء ،ولو أهنم وجهوا
طاقة األمة حنو " اجلهاد " ضد الصليبيني ،لتغري أمر احلركات اهلدامة اليت قدر هلا أن تظهر وتنتشر ،
وذلك أن هذه احلركات ال تنتشر إال يف جو مليء ابلركود والفساد ،واملناخ الوحيد الصاحل للقضاء
عليها هو املناخ القتايل الذي يكشف املعادن النقية ويذيب املعدن الرخيص .
لقد كانت احلاجة اإلسالمية ملحة يف ضرورة رفع راية اجلهاد ،وكانت الدولة اإلسالمية اليت
59
تعرضت لالنشقاق والتمزق حتتاج إىل هذا الصمام ليحميها من جو السكون واالستسالم .
لكن العباسيني غزوا يف عقر دارهم ..فذلوا ،ومل يرفعوا راية اجلهاد ضد العدو اخلارجي ..
فارتفعت راايت العصيان الداخلي .
وكان إبمكاهنم أن يشغلوا األجناس املختلفة اليت ضمتها الدولة يف هذه احلروب اجلهادية املستمرة
ضد الغزاة والوثنيات املختلفة ..لكنهم مل يفعلوا ،فتحركت النعرات القومية اجلاهلية لتفتت الدولة،
وتقسم جسمها حتت راايت خمتلفة ليست هلا ابإلسالم أو اجلهاد صلة .
ويف سنة 141هـ ( 2140م ) كان هوالكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يؤدب الذين اجتهوا إىل كل
الطرق إال طريق اجلهاد ..وحاولوا العالج بكل الوسائل إال الوسيلة اإلسالمية القوية اخلالدة .
وقد هاجم هوالكو بغداد وهدم أسوارها ،وأعمل املنجنيق فيها ،وحصد بغداد ،حىت مل يعد
ممكنا اإلقامة فيها لشدة روائحها املنفرة ،وعندما خرج اخلليفة املستعصم إليه مستسلما بصحبة
ثالمثائة من أصحابه وقضاته دون شرط ،أمر هوالكو بقتلهم مجيعا ،وطويت صفحة اخلالفة العباسية
.
ذلك أن أسلوب األحالم الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد احلضارات ..
فالذين ال ميلكون إرادة اهلجوم ..يفقدون القدرة على الدفاع !!
كانوا دائما أهل طعان ونزال ..كانوا أشقاء للسيف والرمح ،هو هويتهم وهو مؤهلهم للحياة
والبقاء ..وعلى امتداد اترخيهم كان السيف مقروان هبم .وكانوا عضد الدولة اإلسالمية يف كثري من
املواقف ،وكانوا محاهتا من أعدائها .
ويف مقابل ذلك عاشوا ..وحتملتهم شعوب مصر والشام ،وعمحت هلم ابلسيطرة عليها ..وهم
بدورهم كانوا جيشها وأسطوهلا ومحاهتا أمام كل غزو خارجي ،وكانوا خيضعون لتقاليد البالد وال
60
يعرفون هلم والء إال للدين الذي عاشوا به وربوا على تعاليمه ،وإال للسلطان الذي حيكم ...
مث مع تطورهم الداخلي أصبح والؤهم للسلطان الذي حيكمهم منهم ..
ولقد شكلوا جمتمعا ذا هوية خاصة ،له أسلوبه اخلاص يف احلياة ،وله تربيته اخلاصة وله فكره
اخلاص ..لقد كان جمتمعهم أشبه ما يكون ابجملتمع العسكري أو اجملتمع البحري الذي يعيش للبحر
أو اجلندية ،فاجلندية عقله وهي عاطفته ..وال والء عنده لسواها .
وعندما مات فجأة آخر سالطني األيوبيني امللك الصاحل أيوب ..تكتمت زوجه شجرة الدر
اخلرب ألن بالد مصر كانت يف حرب مع لويس التاسع الذي هزم وأبيد جيشه يف دمياط واملنصورة ،
مث استدعت الزوجة امللكة ابن زوجها " توران شاه " لينقذ البالد ،فلما جاء توران وأنقذ البالد من
الصليبيني ،وحاول أن يستأثر ابلسلطة دبرت املرأة قتله ..مث أقامت نفسها مبساعدة املماليك ملكة
على مصر ،وقد اختار املماليك كبريهم عز الدين أيبك ليقوم مبساعدة " اململوكة " اليت صارت "
ملكة " ( شجرة الدر ) يف إدارة شؤون مصر ،وتطور األمر فتزوجت شجرة الدر من مساعدها عز
الدين ،وتنازلت له عن السلطة .
وهكذا مت تنازل آخر من ينتسبون إىل دولة األيوبيني بنسب إىل كبري املماليك ،ومع أن شجرة
الدر تعترب البداية التارخيية لدولة املماليك ،لكن البداية األكثر عمقا وأحقية هي اليت مثلها هذا
التنازل ،مث استأثر عز الدين أيبك ابلسلطة سبع سنوات أحست فيها اململوكة القاتلة أبهنا سلبت كل
سلطة ،فقامت بقتل زوجها اجلديد مثلما قتل من قبل ابن زوجها القدمي .
لكن املماليك سرعان ما قتلوها أثرا وانتقاما ..واستقر األمر لدولة املماليك يف مصر والشام .
واملماليك قسمان :برجية نسبة إىل أبراج القلعة اليت كانوا يسكنون فيها ابلقاهرة ..وحبرية نسبة
إىل جزيرة الروضة املطلة على النيل اليت كانوا يسكنون فيها كذلك ،ومن أشهر املماليك األول برقوق
..وآخرهم قانصوه الغوري الذي سقط حتت سنابك خيل السلطان سليم سنة 2417م ..
ومن أشهر املماليك البحرية عز الدين أيبك وبيربس واملنصور قالوون ..وقد انتهى هؤالء من
قبل املماليك الربجية حبوايل قرنني وكان املماليك الربجية ـ أبطال عني جالوت ـ ميثلون امتدادهم
61
التارخيي .
لقد لعب املماليك الربجية خباصة يف اترخينا دورا مل تقم به إال دول قليلة يف التاريخ ..لقد صدوا
غارتني حضارتني من أكرب وأشهر الغارات اليت عرفها اترخينا واتريخ اإلنسانية .
كانت األوىل ميثلها زحف هوالكو الذي ينتمون إليه جنسيا ،لقد صدوه بعقيدهتم اإلسالمية
اليت مل يعد هلم والء إال هلا ( احلمد هلل أن نظرية القومية العنصرية مل تكن ظهرت بعد ) وقد وقفوا
أروع وقفاهتم يف صده يف عني جالوت الشهرية رافعني راية واإسالماه !!
مث كانت الثانية يف معاركهم الدائمة ضد الصليبيني الذين كانت هلم بقااي بعد صالح الدين ،
فعلى يد السلطانني املنصور قالوون الذين تسلم احلكم سنة 170هـ والسلطان األشرف خليل ـ الذي
توىل احلكم سنة 104هـ ..على يد هذين السلطانني ـ فضال عن جهود بيربس ـ هتاوت قالع
الصليبيني الباقية واليت كانوا قد تقدموا يف بعضها بعد صالح الدين كحصن املرقب وعكا وغريمها ،
وطويت على يد املماليك آخر صفحات الغزو الصلييب الذي استمر قرنني من الزمان وكان ذلك سنة
411هـ .
وقد تضافرت ظروف عاملية ،كاكتشاف رأس الرجاء الصاحل ـ وظروف إسالمية كربوز األتراك ـ مث
حممد علي ،وظروف داخلية كانقسام األتراك على أنفسهم .
تضافرت كل هذه الظروف على إهناء الدور الذي قام به املماليك ،لكن كان أكرب سبب هوى
ابملماليك وزحزحهم من مكاهنم يف التاريخ ،هو أهنم نسوا الرسالة اليت عاشوا من أجلها وتعاقدوا مع
الشعوب اليت حكموها بشأهنا .
نسو رسالتهم يف الدفاع اخلارجي ..نسوا السيف ،وتبلدوا عند أسلوب معني ،ومل يطوروا
أنفسهم ،مث تطوروا فانقلبوا من محاية خارجية لألمة إىل متسلطني داخليني عليها مينعون حركتها
وتطورها .
62
وبذا فقدوا دورهم يف التاريخ ..وسقطوا بعد أن أدوا للحضارة اإلسالمية الكثري ..وأنقذوها من
أكرب خطرين عامليني ومها التتار والصليبيون ..
63
القسم الثالث :دول مغربية تسقط
احلركات االنفصالية يف العامل اإلسالمي ارتكزت على عديد من األسس املتباينة ،وجنحت كل
منها إىل حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء ،فبعضها قد التمس السبب يف االنفصال من نزعة
سياسية ،وبعضها قد التمسه من نزعة مذهبية ،وبعضها قد التمسه من نزعة قومية ،وبعضها قد
التمسه من ( ضعف اخلالفة ) .
ومل جند يف اتريخ هذه احلركات ذلك الشجاع الصريح الذي يعلن أن رغبته يف االنفصال ترجع
إىل سبب حقيقي واحد هو الرغبة يف الوصول إىل السلطة ..ومتلك احلكم ..واجملد األديب واملايل .
ويف فرتة متقاربة بدأت احلركات االنفصالية تظهر يف العامل اإلسالمي ،وكأهنا خصيصة جديدة
من خصائص التطور التارخيي هلذه الفرتة ،فاألندلس انقسمت عن اخلالفة العباسية بقيادة عبد
الرمحن الداخل ( صقر قريش ) ومثلت بوجودها آخر ومضة من ومضات وجود بين أمية ،وظلت
64
ابقية ثالثة قرون متثل هذه الومضة ،وانقسم بنو طاهر يف خراسان انقساما تبعوا فيه دولة اخلالفة
العباسية عكس بين أمية يف األندلس ،وانقسم يف مصر ابن طولون يف اتريخ قريب من هذا .
وكان ال بد للمغرب العريب ،وهو األرض الواقعة كجسر اترخيي بني االمتداد العقائدي الذي
وصل إىل مشارف ابريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بالط الشهداء و استشهاد عبد الرمحن الغافقي ..
بينه وبني مركز اإلسالم األصيل ومهبط الوحي وأرض العرب أن تظهر فيه هذه الظاهرة .
واحلق أن احلركات االنفصالية يف املغرب العريب كانت متلك املربر يف االنفصال ،فإن عمال بين
أمية كانوا قد أساءوا السرية فيهم وعاملوهم " كرببر " أي كمواطنني من الدرجة الثانية ،كما أن أهل
العراق بكل ما أثري بينهم من جدل كالمي وفنت عقائدية ..قد محلوا هذا اجلدل وهذه الفتنة إليهم
وحرضوهم على خلفاء بين أمية ،وولدوا فيهم الرغبة يف االنفصال .وعلى مشارف القرن الثالث
اهلجري كانت هناك دول ثالث منفصلة حتكم املغرب العريب وال ختضع للخالفة العباسية إال اعما ..
وهي :األدارسة واألغالبة والرستميون ..وكانت هذه الدول بوضعها ذاك متثل األرض القابلة ألي
امتداد طموحي ..ووجد فيها الفاطميون فيما بعد األرض الصاحلة لغرس بذورهم .
وكانت دولة األغالبة اليت قامت يف تونس سنة 209هـ أبرز الدول االنفصالية يف املغرب العريب
.
وكان مؤسسها إبراهيم بن األغلب الذي أرسله اخلليفة العباسي هارون الرشيد خللق االستقرار يف
املغرب العريب يف ظل محاية العباسيني ،يتمتع بقدر كبري من الشجاعة والذكاء ،وقد اختذ إبراهيم
مدينة القريوان عاصمة له ،وبعد وفاته سار بنو األغلب على منواله يف توطيد أمن املغرب وتقوية
أسطوله وجيشه وتنمية موارده .
وكان أبرز ما قدمه األغالبة لإلسالم هو فتحهم لصقلية وضمها إىل أرض اإلسالم ،بقيادة
قائدهم أسد بن الفرات يف عهد أمريهم زايدة هللا بن إبراهيم األغلب ،الذي توىل احلكم سنة 112هـ
،كما أهنم تقدموا فاستولوا على جنوب إيطاليا ،ويقال :إهنم واصلوا زحفهم حىت دقوا أبواب روما .
65
وقد ازدهرت احلركة االقتصادية والعمرانية يف أفريقيا التونسية على عهدهم ،كما أن األمن قد
ساد البالد وأصبحت تونس ـ على اجلملة ـ عامرة مزدهرة ازدهارا عظيما ..وقد أسسوا ابلقريوان عدة
مساجد لعبت دورا كبريا يف تدعيم احلضارة اإلسالمية ،ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح يف
املغرب كاألزهر يف الشرق ولعب دورا مهما يف احلياة العلمية اإلسالمية .
وقد اشتهر بعض ملوك األغالبة ابلقسوة الشديدة ،وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب
املاء ،ولعل هذا من أبرز ما أخذ عليهم ،وقد مد من عمرهم يف املغرب انصراف اخلالفة العباسية إىل
مشكالهتا املشرقية ..وعدم قطعهم لكل أواصر املودة مع اخلالفة العباسية ،وابلتايل رضيت اخلالفة
يف ظل ظروفها ابلقدر الذي يدينون به ابلطاعة هلا .كما أسكتها انتصارات األغالبة يف معارك اجلهاد
ضد الصليبيني يف أورواب والساحل اجلنويب األورويب وجزر البحر األبيض املتوسط .
هذا كله قد غفر هلم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرن من الزمان حيكمون تونس
وملحقاهتا ،وحيكمون صقلية ويفرضون هيبتهم على الدول األوروبية .
لكن الدول االنفصالية ال ميكن أن تقف أمام احلضارات اجلامعة اليت متثل كياان وجوداي له أبعاده
احلضارية املتكاملة .
ومن هنا فلم يستطع األغالبة الصمود أمام الفاطميني الذين برزوا يف املغرب بقيادة داعيتهم أيب
عبيد هللا املهدي ..فسقطوا على يد الفاطميني هؤالء سنة 141هـ .
لقد سقطوا ـ أوال وقبل كل شيء ـ ابعتبارهم حركة انفصالية ال تستطيع أن تصمد أمام كيان
حضاري زاحف له راية األيديلوجية يقف حتتها ،مهما اختلفنا يف أبعاد هذه الراية ..أو هذه
األيديلوجية .
66
سقوط دولة اخلوارج يف اجلزائر
منذ خرج " اخلوارج " عن طوع علي بن أيب طالب رضي هللا عنه ،وتسببوا يف قتله على يد عبد
الرمحن بن ملجم ،وهم يشكلون على امتداد التاريخ اإلسالمي املادة اخلام لكثري من احلركات الثورية
.لقد انتشر اخلوارج على امتداد األرض اإلسالمية ولقد دخلوا يف عديد من املعارك واجهوا يف
بعضها تصفية جسدية هائلة ..لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة يف األرض اإلسالمية ،
وشعارهم قول أحد روادهم " قطري بن الفجاءة " :
فصربا يف جمال املوت صربا ** فما نيل اخللود مبستطاع
سبيل املوت غاية كـل حـي ** فداعيه ألهل األرض داع
وابلطبع مل يكن املغرب اإلسالمي ،وهو تلك األرض اإلسالمية العذارء ليفلت من أيدي
اخلوارج .
لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسالمية خارجية ينشرون من خالهلا مبادئهم
اخلارجية .
وقد كان أهم بروز هلم سنة 211هـ يف طنج برائسة " ميسرة املطغري " ،وقد عرف املغرب من
مذاهب اخلوارج :الصفرية واإلابضية ،وقد انتشرت الصفرية يف اجلهات الغربية ،بينما انتشرت الثانية
يف النواحي الشرقية ،وكانت أكثر القبائل الرببرية ( املغربية ) املوالية للخوارج زانتة وهوارة .
بيد أن حركاهتم ظلت حركات ثورية فوضوية ،مل يقدر هلا إىل منتصف القرن الثاين اهلجري أن
تنتظم يف دولة ..ولذا فمعظم حركاهتم ماتت وكانت تذوب يف بوتقة اجملتمعات املنظمة ،ال سيما
وقد أصيبت كثري من حركاهتم مبا أصيبت به احلركات اليت تقف على الطرف اآلخر منهم ..أي أهنم
أصيبوا بكثري من املغاالة والتطرف ،وامليل إىل نزعة التكفري وإراقة الدماء والقتل ألوهى األسباب .
67
لكن مع بروز سنة 299هجرية بدا وكأن اخلوارج يستمتعون إبقامة دولة مستقرة هلم ابملغرب .
وقد جنح عبد الرمحن بن رستم اإلابضي عرب سلسلة من املغامرات والتعرض للموت غري مرة ،
والتحايل على جذب القبائل الرببرية .جنح يف إقامة دولة خارجية تعتمد على الرببر وعلى العرب
والعجم وتتمركز يف مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراء اجلزائرية أكثر من مائيت كيلو مرت ،وتقع يف
منطقة النجود ،وتتبوأ مكاان جيدا حيميها من اإلغارات ،وحيميها كذلك من الشمس اليت ال تكاد
تظهر يف عمائها ( !!) وهي مدينة " اتهرت " .
وقد جنح عبد الرمحن بن رستم هذا يف توطيد دعائم دولته خالل الفرتة اليت قدر له أن حيكمها (
299ـ 210هـ ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذي بقي يف حكم الدولة اليت تنسب إىل
أبيه " الدولة الرستمية " عشرين سنة ..مث " أفلح ابن عبد الوهاب " الذي عمر أطول مدة عمرها
حاكم رستمي ،فقد بقي يف احلكم أكثر من مخسني سنة ( 200ـ 110هـ ) ،مث تتابع يف حكم
الدولة الرستمية مخسة من األمراء ( أبو بكر بن أفلح ..فأبو اليقظان ،فأبو حامت ،فيعقوب بن أفلح
،فاليقظان ابن أيب اليقظان آخر أمرائهم ) والذي مل يتمتع ابحلكم أكثر من عامني عاشهما يف
اضطراب ،مث غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه يف شوال سنة 141للهجرة ،وانتهت به الدولة
الرستمية اليت حكمت جزءا كبريا من أرض اجلزائر " تيهارت وما حوهلا " قران ونصف قرن من الزمان
( 299ـ 141هـ ) ( وكان ظهورها الذي دعمه الرخاء االقتصادي واالجتماعي أبرز مثل لربوز دولة
خارجية ) .
إن اخلوارج الذين اشتهروا ابحلمية والتفاين يف سبيل املبدأ ،قد حتولوا يف ظل دولتهم الرستمية إىل
رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة .
وقد عاشت طوائف كثرية خمتلفة النزعة يف ظل دولتهم الرستمية حياة رغدة طيبة سهلة ..وبعد
أن كان اخلوارج أرابب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبو بكر بن أفلح ،وقد رضوا بسلم ميكن
هلم البقاء يف حدود ما حول اتهرت ،عقدوه مع جرياهنم األغالبة واألدارسة .
68
وجلي أن الذي ال يتقدم يكون عرضة للتأخر ..وهكذا أتخر الرستميون بعد أن فقدوا روحهم
النضالية ..ودعنا من احنرافات كثرية منهم لدرجة املغاالة والتطرف ..ودعنا كذلك من سذاجة آخر
ملوكهم " اليقظان " واضطراب امللك يف يديه .
لقد عمل ذلك عمله يف سقوط الدولة الرستمية ..كما عمل يف سقوطها كذلك أخطر قانون
من قوانني احلضارة ..وهو أن الدولة اليت تفتقد راية حضارية جديرة ابالنتشار والبقاء ..دولة جديرة
ابالحنسار والفناء
يف ختوم السنوات اليت تصل شطري القرن الثاين اهلجري تفككت وحدة املغرب العريب ( تونس ـ
اجلزائر ـ مراكش ) وبدال من خضوعه للدول اإلسالمية اجلامعة سواء دولة األمويني أو دولة العباسية
..بدال من هذا انقسم املغرب اإلسالمي على نفسه إىل قوى ثالث حتكمها زعامات ثالث ..
الرستميون يف تيهارت ( اجلزائر ) واألغالبة يف تونس ،واألدارسة يف املغرب األقصى .
وليس من السهل تلمس األسباب احلقيقية هلذا االنفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض
شخصية ومذهبية .
بيد أن كثريا من املؤرخني ال يفوهتم البحث عن أسباب لكل الظواهر ،حىت ولو كانت الظاهرة
جمردة حادث مفتعل خيلف نتائج مضادة ويكون حصاده وابال على األمة اليت خضعت له.
وليس من شك يف أن احلياة ليست سلبا كلها ..وابلتايل ليست إجيااب كلها ..فنحن لن نعدم
أن جند يف الدولة احلضارية اجلماعية سلبيات ..كذلك لن نعدم أن جند يف كل احلركات االنفصالية
اليت متثل ـ يف رأينا ـ بوادر غروب للحضارة اجلامعة ..لن نعدم أن جند فيها إجيابيات ،بيد أنه ال
السلبيات تصلح للحكم على الدولة اجلامعة ابملوت وابالنقضاض عليها من داخلها ،وال اإلجيابيات
تصلح كمربر للوجود ..إذا قيست هذه اإلجيابيات اجلزئية مبا ختلفه حركات االنشقاق من هدم يف
روح احلضارة ..ومن صراع جيهد الدولة اجلامعة والبلد املنفصل معا .
69
وكان إدريس بن عبد هللا بن احلسني هو ( قائد حركة االنفصال عن دولة العباسيني يف املغرب
األقصى )
وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويني يف إشعال ثورة احلجاز ضد العباسيني ،لكن
الثورة فشلت ،وأمخدت فهرب إدريس إىل بالد املغرب ،وهناك استطاع أن جيمع حوله بعض قبائل
الرببر ،وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوايل قرنني من الزمان ..وكان ذلك يف مطلع القرن
الثالث اهلجري ..أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركيت الرستميني يف اجلزائر واألغالبة يف
تونس .
وقد جنح اخلليفة العباسي هارون الرشيد يف أن يدس على إدريس من يدس له السم يف العسل ،
وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله " إن هلل جنودا من عسل " ألنه عمه بواسطة العسل .
وقد ترك إدريس زوجته حامال فولدت بعد موته ذكرا التف الرببر حوله وابيعوه ابسم إدريس
الثاين .ويف عهد إدريس الثاين هذا حاول العباسيون بواسطة والء األغالبة املوجودين يف تونس هلم ،
حاولوا القضاء على األدارسة ..لكنهم فشلوا ..وركن العباسيون إىل السكوت ..واستمرت الدولة
اإلدريسية ـ كما ذكران ـ قرنني من الزمان .
وكان من أعظم حكام األدارسة حيىي الرابع بن إدريس الذي حكم مثاين عشرة سنة ( 141ـ
121هـ ) وازدهر املغرب األقصى يف حكمه أميا ازدهار .
كما بلغت مدينة فاس عاصمة األدارسة ذروة جمدها ،وأصبحت مركزا هاما من مراكز احلضارة
اإلسالمية يف أحناء املغرب العريب .وأيضا قد ساعد األدارسة على رسوخ قدم اإلسالم يف بلد املغرب
بني الرببر ،وانتشر اإلسالم بواسطة الرببر يف أفريقيا الغربية .
وكانت جامعة القرويني اليت قامت بدور ابرز يف نشر وإمناء الثقافة اإلسالمية من أهم آاثر
األدارسة يف املغرب اإلسالمي ،وقد قامت يف املغرب مبا قام به األزهر ـ أو على حنو قريب منه ـ يف
املشرق العريب .
70
لقد كان األدارسة أول دولة هلا هذا الطابع يف التاريخ وفيما نعتقد مل تكن دولتهم شيعية إال
مبقدار حب آل البيت والوالء هلم ..وهي صفة يشرتك فيها السنة والشيعة معا ..فحب آل البيت
من حب الرسول عليه الصالة والسالم ما كانوا قائمني على كتاب هللا وسنة رسوله ..أما إذا خالف
أحدهم كتاب هللا وسنة رسوله ...فإنه يقف من هللا موقف أي إنسان " اي فاطمة بنت حممد اعملي
فإين ال أغين عنك من هللا شيئا " هكذا قال الرسول عليه الصالة والسالم !! .
وهلذا الوضوح يف دولة األدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت هبم ،وكانت القبائل الرببرية السنية
يف املغرب حاميتهم وعماد دولتهم .
وهلذا السبب عاشت دولة األدارسة حنوا من قرنني من الزمان وأدت دورا حضاراي ال أبس به يف
املغرب اإلسالمي .
بيد أهنا كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مربر الوجود والبقاء ..فظلت على الرغم من " قرنيها
" جمرد حركة انفصالية .ومل تستطع ـ ال جغرافيا وال فكراي ـ أن تزيد على حدودها اليت ضمها إدريس
األول شيئا ذا ابل .
وقد وقعت كذلك بني عديد من القوى الراغبة يف االبتالع ..وقعت بني األمويني يف األندلس ،
الذين كثريا ما سددوا إليها الطعنات ..وبني مصر اليت انتقلت إىل الفاطميني منذ سنة 144هـ ..
فوجهوا إىل األدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة املذهبية ..
وال ميكن إغفال ضرابت القبائل الرببرية الراغبة يف حكم نفسها ،ال سيما قبائل زانتة وهوارة.
وقد أدى ذلك كله على غروب مشس األدارسة عام 174هـ .
فانتهت إحدى احلركات االنفصالية يف اترخينا اإلسالمي ..ألن السقوط ـ وإن كثرت املقوايت
واملساعدات ـ هو مصري كل احلركات االنفصالية .
71
بعد قرنني من فتح املسلمني لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 121هـ كان كل شيء
يؤذن ابألفول ..كانت األندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت املفكك أمام
زحف املرابطني بقيادة رجلهم املؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن اتشفني .
وكانت اجلزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية اهلمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون
تعقل .
وكانت مصر قد ذهبت نضارهتا على يد الفاطميني الذين كانوا قد فقدوا نضارهتم كذلك ،بل
كانت مصر اليت حيكمها اخلليفة املستنصر تعاين من جماعات غريبة لعلها مل حتدث يف اترخيها ابملرة
لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت حلوم الكالب يف األسواق .
كان هذا هو اجلو احمليط بصقلية األغلبية اإلسالمية ..اجلو الذي يطلق عليه مؤرخوان عبارة "
احلالة اإلسالمية يف النصف الثاين من القرن اخلامس اهلجري"!!!
لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة اإلسالم إىل اليوم ..لقد كان مثة
سبب آخر أشد وأقوى .
كان هناك اهلزمية الداخلية اليت هي الباب الوحيد اليت تدلف منه كل اهلزائم الواردة ..كان هناك
لصوص املناصب وهواة الزعامات واملتمسحون يف أجمادهم العائلية .
كانت صقلية قد فقدت أمثال فاحتها العظيم أسد بن الفرات القاضي والفقيه والقائد والشهيد
الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية .
وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر إبعجاب إىل اجلنوب األورويب ،وإىل
تقاليد العدو الواقف ابلباب ..وعندما حلت اهلزمية الداخلية على هذا النحو ..كان من السهل أن
يدخل روجار جبيوشه ،وأن تتحول صقلية إىل اليوم قلعة صليبية تكيد لإلسالم .
72
كان روجار قائد النورمان املستوطنني ابلغرب الفرنسي واإليطايل يرتقب فرصة الوثوب على
اجلزائر وتونس ..فضال عن صقلية ،وكما هي العادة يف اترخينا مل يستطع روجار أن يدخل إىل
صقلية إال من خالل أهلها ،من خالل اهلزمية الداخلية ..فمبدأ اجلهاد قد وقاان شر األعداء
اخلارجيني ،أما حني تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو يف الولوج ممتطيا أحد األصنام
الباحثني عن امللك حتت أي شعار .
ويف معركة من املعارك الداخلية بني لصوص احلكم هزم أحدهم ..ويسمى ابن الثمنة ..ومل جيد
هذا الرجل غضاضة يف أن يطلب الوصول إىل احلكم عن طريق االستعانة ابلنورمان املتحينني للفرصة
فذهب إليهم يستعني هبم ويطلعهم على خفااي اجلزيرة ،وميدهم ابلعون إذا هم حاولوا االستيالء عليها
.
وبدأ من يومها الغزو النورماين لصقلية ..ومل تكن القوى اإلسالمية املفككة احمليطة بصقلية
بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء ..ابلرغم من أن تونس قد حاولت تقدمي املساعدة .
وتساقطت كأوراق الشجر يف اخلريف مدن اإلسالم الزاهرة يف هذه اجلزيرة اليت قدمت لإلسالم
واحلضارة اإلسالمية عديدا من األبطال يف كل اجملاالت .
سقطت " مسنة " ..وسقطت " بلرم " العاصمة " .وماذر " .
وبعد جهاد طويل من أحد شباب اإلسالم الذين يظهرون كوهجة الشمس قبل املغيب " ابن
عباد " سقطت سرقوسة ،مث خرجت وحلقت هبا ضراينة فنوطس ،وسجلت سنة 909هـ 2142م
السقوط الكبري لصقلية يف يد عصاابت النورمان..
وكما متثلت اهلزمية األوىل ـ يف بداية اهلزمية ـ ..كما قدمتها ـ يف شخص ابن الثمنة ـ كذلك متثلت
اهلزمية هنا يف صورتني :
73
يف صورة ابن محود حاكم قصراينة إحدى املدن الصقلية اليت سقطت وكان هذا الرجل يزعم
النسب إىل العلويني ..لدرجة جعلت أحد املؤرخني األوروبيني يصفه ( ابلعلوي الدينء الرخيص )
مسلما بقضية علويته ،ولرمبا كانت صحيحة ،فكثري من دعاة العلوية كانوا خونة !!
وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط املسلمني يف اجلزيرة كلها.
ومل ينته أمر هذا اخلائن ألمته إال ابلنهاية الطبيعية ،إال أنه حرصا على مزيد من اجلاه لدى
روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إىل إيطاليا ليقضي بقية حياته هادائ آمنا ،وذهب
اخلائن ،ومع ذهاب اإلسالم من أعماقه وأعماق أمثاله من املنهارين ذهبت صقلية ..والصورة الثانية
..تقدمها لنا صفحات التاريخ يف شكل رسالة بعث هبا املسمى اخلليفة الفاطمي يف مصر إىل روجار
حتمل تشفيا وهتنئة ابلنصر املسيحي ،وبعد أن يوافق خليفة املسلمني العظيم روجار على كل أوصافه
للزعماء املسلمني يف اجلزيرة ،تلك اليت وردت يف رسالته وكيف أهنم جانبوا طريق اخلربات واجرتءوا يف
الطغيان ،واستعملوا الظلم ،ومتادوا يف الغي .
بعد ذلك ينهي رسالته أبن من كانت هذه حاله حقيق أبن تكون الرمحة انئية عنه ،خليق أبن
أيخذه هللا من مأمنه أخذة رابية .
وهذا الكالم ..صحيح .بيد أنه لن يغفر للخليفة املنهار يف مصر املتمسح ـ كذاب ـ يف شرف
النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة اإلسالم ـ اتبعا حلكمه ـ دون أن حيرك ساكنا ..مث خيرج علينا
بشعارات منمقة ال قيمة هلا .
ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة يف قصره بيد الوزراء العظام ،ويف ظل أحط
جماعات عرفتها مصر اإلسالمية ،وإنه بدوره كان حلقة يف سلسلة مصائبنا الكثرية .
وقد زار ابن جبري الرحالة املسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوال أهلها حتت احلكم
النصراين ،مبا جيعلها قريبة من أحوال أهل األندلس ،فقد ضربوا عليهم إاتوة يؤدوهنا يف فصلني من
العام ،وحالوا بينهم وبني سعة األرض ،وال مجعة هلم يؤدوهنا بسبب اخلطبة احملظورة عليهم ،ويصلون
74
األعياد خبطبة يدعون فيها للعباس ،وهلم هبا قاض وجامع ..
مث خيتم ابن جبري حديثه عن أحوال املسلمني يف صقلية بقوله :
" وابجلملة فهم غرابء عن إخواهنم املسلمني حتت ذمة الكفار ،وال أمن هلم يف أمواهلم وال يف
حرميهم وال يف أبنائهم . " ..
وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم اخلونة ،وسادهتم الفاطميون املارقون ..
واملهم :
سقطت صقلية اإلسالمية !!
بدأت دولة املرابطني ابملغرب العربية بداية طيبة قوية ..كانت هذه الدولة حبق انبثاقة فكرة
إسالمية عظيمة األثر يف حياة الدعوة اإلسالمية ..هذه الفكرة تقوم على إبراز دور حمدد قيادي
للمسجد اإلسالمي ،فاملسجد ليس جمرد دار ألداء صلوات مخس مبتوتة الصلة ابحلياة ،وإمنا
املسجد اإلسالمي دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها يف كل مرافق احلياة ..فهو إىل جانب كونه
دار عبادة هو كذلك دار علم ،وهو دار قضاء وهو مكتبة ،وهو جملس شورى ..أي أن املسجد يف
احلقيقة منوذج لكل الوزارات والدواوين اليت تقود شؤون الناس وتوجه مصاحلهم ،وعلى هذا األساس
قامت فكرة األربطة اليت أنشأها املرابطون واليت من خالهلا تكونت طليعة إسالمية استطاعت أن
تنشئ دولة املرابطني اليت محت املغرب اإلسالمي واألندلس قرابة قرن من الزمان .
ومضت فرتة القوة يف هذه الدولة عندما مات أكرب شخصية مرابطة هي شخصية يوسف بن
اتشفني على رأس املائة اخلامسة ،وابلتحديد سنة 411من اهلجرة .
وبعد يوسف ،ومع اجلهود الضخمة اليت بذهلا خليفته وابنه علي بن يوسف بدأت دولة املرابطني
تدخل طور األفول .
75
وكان ذلك بتأثري سبب قوي غريب ..كان ذلك ألن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن
شؤون احلكم إىل حد كبري ،ومل يتحرك إال يف مرات قليلة مل تكن كافية لسد الثغرات اليت فتحت على
الدولة يف املغرب واألندلس ،وراح هذا األمري املرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإمهاله
لشؤون دولته فهما مغلوطا لإلسالم بل إنه وقع يف خطأ كبري ..حني وقع حتت أتثري جمموعة كبار
الفقهاء البارزين يف دولته ،وكان ال يزيد عن كونه لعبة صغرية يف أيديهم .
ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا ،وانصراف الفقهاء إىل تكفري الناس ومجع الثروات ،بدأت
مظاهر التحلل تسود قطاعات كبرية من الدولة .
كانت اخلمر تباع علنا يف األسواق ،وكان النبيذ يشرب دون حرج ،وكانت اخلنازير مترح يف
األسواق كاألغنام ،واستوىل أكابر املرابطني على إقطاعات كبرية وذهبوا إىل االستبداد فيها ،واستوىل
النساء على األحوال " وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب مخر
وماخور " .
وكان مثة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد اخللفاء الضعاف املرابطني ..هذا
املظهر هو حتجب الرجال ،حىت إن الرجل ال تبدو منه إال عينه ،وبروز النساء وظهورهن يف
األسواق العامة سافرات ،واختالطهن ابلرجال .لكن مفتاح املصائب الكربى على املرابطني كانوا هم
الفقهاء
لقد ذهبوا إىل تكفري كل من حياول أتييد القواعد واألصول الشرعية ،ال سيما العقائد أبدلة
عقلية .وقد يكونون على خطأ أو على صواب ،فلسنا نعرض آلرائهم أو آلراء غريهم ،وإمنا الذي
نقصده أن نظرية التكفري هي داللة إفالس وحتجر ،وليس من حق أحد أن يتعجل فريمي الناس
ابلكفر ..إذ ليس من حق أحد أن يتعجل فريمي الناس ابلكفر ..إذ ليس الكفر مفتاحا ميلكه
الناس ما مل تظهر أدلته املادية اليت ال تقبل الشك ..أما اخلالف على رأي فليس جمال تكفري.
وقد ذهب هؤالء الفقهاء يف اسرتساهلم التكفريي هذا إىل تكفري أعظم شخصية إسالمية أجنبها
76
القرن اخلامس والسادس اهلجري ..وهي شخصية اإلمام " أيب حامد الغزايل " املعروف حبجة اإلسالم
بل إهنم ذهبوا يف غلوائهم أبعد مذهب ،فحرصا على امتيازاهتم اليت يكتسبوهنا من جدلياهتم يف علوم
الفقه اليت متثل الفروع ..أفتوا إبحراق كتب اإلمام الغزايل ال سيما كتابه الشهري " إحياء علوم الدين "
وكانت حجتهم يف ذلك اشتمال الكتاب على بعض املسائل الفلسفية الكالمية ..مما اضطر
السلطان علي بن يوسف اخلاضع لتأثريهم إىل إصدار أمره بوجوب إحراق الكتاب " إحياء علوم
الدين " يف مجيع أحناء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء ،مث أنذر ابلوعيد الشديد ...بل ابلقتل
واستالب مال كل من يوجد عنده الكتاب !! .
وكان هذا احلادث أبرز ألوان اجلمود والتحجر واخلوف على االمتيازات الشخصية اليت أظهرها
الفقهاء .
وقد بلغ احلنق ابإلمام الغزايل مبلغه ،فدعا على علي بن يوسف بن اتشفني املرابطي أن ميزق هللا
ملكه ..حني علم ابألمر ! .
لقد كان منهج الفقه الذين تصدروا شؤون الدولة املرابطية يقوم على االبتعاد عن املصدرين
الرئيسيني للتشريع ومها القرآن والسنة ،والتمسك الشديد آبراء الفقهاء ..حىت ولو مل يعرفوا هلا سندا
من الكتاب والسنة ..وقد بلغ األمر هبم يف هذا األمر مبلغه ،حىت أن أحد الناس قال لرجل ومها يف
الطريق :إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول كذا ..فرد عليه اآلخر ..لكين أعتقد أن اإلمام
مالكا يقول كذا ( !! ) وهكذا ذهبت آراء الفقهاء يف نظرهم مذهب التقديس والغلو املبالغ فيه .
وقد أمات الفقهاء واجب " احلسبة " ..وهي األمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،فلم يقوموا
بتغيري نواحي التحلل اليت ظهرت يف الدولة ،وكان إبمكاهنم لتمكنهم من احلكم أن يقوموا على
تغيريها ..لكنهم جاروا العامة يف غرائزها وحبثوا عن أنفسهم ،بل قاوموا املخلصني الذين حاولوا
التغيري ورموهم ابلتكفري واملروق .
بقي أن نقول :إن الفقيه أاب القاسم بن محدين زعيم الفقهاء يف هذه الفوضى ..وأكرب املكفرين
لإلمام الغزايل ،بل املكفر لكل من قرأ كتاب اإلحياء كان ميثل منوذجا لكثري من الدجالني املتاجرين
ابإلسالم ،واإلسالم منهم براء .
77
ومع ألسنة النار املندلعة من نسخ كتاب اإلحياء اليت أحرقت يف مشهد علي جبامع قرطبة ،
كانت ألسنة نريان حركة التاريخ اليت تقودها سنة هللا اليت ال تتخلف ،أتكل دولة املرابطني اليت تركت
أمرها جملموعة من ضيقي األفق ومرتزقة الكلمة ،هؤالء الذين ال يفهمون أصول اإلسالم وال روح
اإلسالم ..وال أصول احلكم يف اإلسالم ..وال روح احلكومة اإلسالمية احلقيقية ...
عندما رحل الفاطميون إىل مصر سنة 111هـ ،بعد أن أسسوا دولتهم ابملغرب العريب وعاشوا
فيها أكثر من نصف قرن ،خلفوا وراءهم قبيلة بربرية كربى تدعى صنهاجة كي حتكم املغرب العريب (
تونس واجلزائر ) نيابة عنهم وابعمهم.
لقد كان انتقال الفاطميني إىل مصر وتسليمهم األمور هلذه القبيلة الرببرية الكربى حدا فاصال يف
أحداث املغرب العريب ،إذ كان إعالان ببداية عهد حيكم فيه الرببر أنفسهم ويستقلون حبكم بالدهم ،
يف ظل اعرتاف بسلطة الدولة الفاطمية وهو اعرتاف من النوع الذي ميكن نقضه ،ألنه ال تساعده
قوى متمركزة عسكرية ،وال والء مجاهريي عقائدي ،وابلتايل فقد اعترب هذا احلدث بداية عهد "
حكم الرببر للرببر " !! .
وقد نشأت بعد رحيل الفاطميني أول دولة بربرية كربى يف اجلزائر وتونس هي " دولة الصنهاجيني
" اليت عرفت ابسم " دولة بين زيري " نسبة إىل أول حكامها " بلكني بن زيري الصنهاجي " ،وقد
جنح بلكني هذا يف أن يقضي على الفنت الداخلية وعلى الثورات القبائلية اجملاورة على حدود البالد ،
وحقق استقرارا كبريا ابلبالد إىل أن مات سنة 171هـ ( 409م ) فخلفه ابنه املنصور بن بلكني ،
وكان من أعدل بين زيري ،فاستعمل السياسة والعنف معا ،وجنح يف تصفية خصومه ابللني واحلكمة
والرتهيب كذلك .
وقد ملس الفاطميون النية لدى حكام بين زيري يف االستقالل ،فحاولوا وضع العراقيل يف وجه
78
املنصور ،إال أن سياسته قد امتصت حماوالهتم .
وعندما مات سنة 107هـ خلفه ابنه ابديس بن املنصور فسار على سياسة أبيه ،وجنح يف
حتقيق االستقرار للدولة .حىت مات سنة 911هجرية ( 2124م ) .
لقد توىل األمر بعد ابديس أعظم ملوك بين زيري على اإلطالق " املعز بن ابديس " ولقد واجه
املعز بن ابديس وضعني جديدين كان هلما أتثري كبري يف مستقبل الدولة :أما الوضع األول ...فهو
قيام حركة انشقاق يف الدولة قادها أحد أعمام أبيه ويدعى " محادا " وكانت قد بدأت منذ عهد أبيه
واستنفذت من طاقة أبيه الكثري!! وأما الوضع الثاين فهو ميول املعز نفسه ،إذا كان املعز قد ترىب
على يد رجال من رجاالت السنة املالكية ،ونشأ حمبا للمالكية والسنة .وقد حاول منذ ويل تغيري
مذهب الدولة ،ففي سنة 917تغاضي ،بل أوعز بطريقة غري مباشرة ،بقتل عدد كبري من خمالفي
السنة واجلماعة يف مذحبة كبرية .
لقد كان ابن ابديس واقعيا مع ظروفه وظروف دولته ،وابلتايل فقد قبل انشقاق جزء من دولته
يف ظل سيادته ،هذا يف اجلانب األول .
ويف اجلانب الثاين كان واقعيا مع ظروفه كذلك ،فتمهل يف األمور ،ومل يقم بتغيري املذهب
الشيعي ،حيث كانت دولة الفاطميني يف القاهرة قوية تستطيع أتليب القوى عليه من داخل بالده
وخارجها .
ولقد عا املعز حيكم دولته يف هدوء ،قريبا من مخس وثالثني سنة ،أي إىل سنة 992هـ ..
ويف السنة األخرية اليت كان حاكم الدولة الفاطمية فيها هو املستنصر ،أعلن انفصاله عن دولة
الفاطميني ،إذ كان املستنصر يعاين من تدهور كبري يف األوضاع ،وكان املعز يعيش فرتة أتلق شديد .
لكن الفاطميني يف مصر مل يستسلموا للضربة اليت سددها إليهم املعز ،وهم يف الوقت نفسه ،
كانوا عاجزين عن توجيه ضربة مقابلة له ،خضوعا لظروفهم اليت كانت جتنح إىل التدين والسقوط
واألزمات االقتصادية الشديدة .
79
ومل يعدم املستنصر الفاطمي ـ أطول خلفاء اإلسالم بقاء يف احلكم وسيلة يضرب هبا املعز .
وكانت الوسيلة اليت رآها هي إطالق القبائل العربية " اهلاللية " كي تزحف على املغرب العريب ،
وقد استدعى رؤساءهم وأقنعهم مبحاولة امتالك املغرب وأرسل إىل املعز خطااب بذلك .
وكانت هذه القبائل حجازية استوطنت مصر ،وتعيش بطريقة شبه فوضوية ،وقد تقدمت حنو
املغرب يف أعداد كبرية يبالغ بعض املؤرخني فيزعمون أهنا تتجاوز املليون .
لقد أتيح للمعز بن ابديس فرصة ترويض هذه القبائل ولكنه مل يوفق إىل هذا النهج وكانت هذه
أكرب أخطائه .وابلتايل فقد تقدمت هذه القبائل هتلك احلرث والنسل وخترب املدن والقرى ،حىت
قضت على حضارة القريوان العظيمة .
كما أن املعز مل يوفق يف إعالن مواجهة حضارية يف مقابل غزوة حضارية ولقد كانت وشيجة
اإلسالم كفيلة برتويض هذه القبائل وابستغالهلا ،وابلتايل إبحباط اهلدف الذي سعى إليه املستنصر ،
يف إيثار اجلماعة والسنة .
وعندما يفشل املغزوون حضاراي يف إحداث غزو حضاري مضاد ـ ال سيما وأن هذه القبائل
كانت جتنح إىل ما جنح إليه املغرب العريب ـ يفقدون عنصر القدرة على البقاء .
إن الغزو احلضاري ال يقاوم مبجرد املقاومة ،بل ال بد من امتصاصه بغزو حضاري مضاد .
وهذه القاعدة قد غابت عن ذهن بين زيري يف تونس ،فتهاووا وهتاوت حضارهتم ،ولألسف
الشديد فإن هذه القاعدة ال تزال غائبة عن ذهن كثري من املخدوعني واملهزومني .
ال يلد االنفصال إال انفصاال ،والسري ضد سنة هللا حماولة انتحارية ومن عمات حركة التطور
البشري أن الروح العامة تؤدي دورا مهما يف عملية السري التارخيي .
80
فإذا كانت الروح العامة متجهة إىل اخلري تسابق الناس إىل اخلري ،وهكذا تقدمت حركات
اإلصالح ،وهكذا استقطبت أجياال يف أايمها ،واألمر نفسه ينطبق على الشر ،ومل متت األمم إال
ابلروح الشريرة العامة اليت جعلت التحلل " مودة " والتفسخ اخللقي " فضيلة " ،والسقوط تقدمية ..
وهكذا حتللت األمة اإلسالمية يف فرتات تداعيها ..فمن انفصال إىل خالفات كربى ثالث ( عباسية
ببغداد ،أموية ابألندلس ،فاطمية يف مصر ) وإىل انفصال آخر يف األندلس بني ملوك الطوائف،
ويف املشرق بني الشام ومصر واليمن ،وهكذا ،ويف املغرب العريب بني بين زيري يف تونس وزانتة مث
املرابطني يف املغرب األقصى ،وبين محاد يف اجلزائر .
ولقد كانت السنوات األوىل من القرن اخلامس اهلجري " احلادي عشر امليالدي " مسرحا ملعارك
طويلة دارت بني بين زيري الذين حيكمون تونس ،وبين محاد الذين أحبوا تكوين إمارة مستقلة هبم يف
اجلزائر ،بعد أن كان بنو زيري حيكمون تونس واجلزائر معا .
وعرب حروب طويلة خاضها محاد مؤسس الدولة مع بين زيري يف انحية ..ومع زانتة يف املغرب
األقصى من انحية أخرى ،عرب هذه احلروب استطاع محاد مبساعدة ظروف كثرية منها عنصر
املصادفة ...أن يستقل جبزء كبري من أرض اجلزائر اإلسالمية وكان ذلك سنة 910هـ ( 2121م )
حني جنح يف عقد صلح مع املعز بن ابديس حاكم تونس 914 ( -ـ 949م ) وأصبح الرجل األول
يف اجلزائر .
ولقد عاشت هذه الدولة قريبا من مائة وأربعني سنة وتعاور احلكم فيها تسعة من امللوك كان من
أشهرهم محاد نفسه ( 910ـ 924هـ ) والقائد بن محاد (910ـ 911هـ ) والناصر بن علناس (
949ـ 902هـ ) واملنصور بن الناصر ( 902ـ 940هـ ) .
إىل أن وصل احلكم ليحىي بن العزيز الذي حكم ما بني ( 424ـ 497هـ ) فكان سلوكه
وجمموعة ظروف أخرى من أسباب سقوط الدولة على يد املوحدين سنة 497هـ 2241م .
لقد كانت دولة بين محاد انفصاال من انفصال ..وسارت يف طريقها فكان طريقها على امتداده
81
زاخرا ابملشاكل ،وعلى امتداد هذا التاريخ كانت احلروب شبه دائمة بني احلماديني وقبيلة زانتة وبين
زيري .
مضافا إىل ذلك أن هذه الدولة مل تكن هلا أهداف حمددة ،اللهم إال هدف البقاء والسيطرة .
وكان كثري من ملوكها ميتازون ابلقسوة الشديدة ،بل إن مؤسسها محادا نفسه استعمل أسلوب
الدم كي يبين دعائم دولته .
ولقد دمر مدان وقرى أمنت لعهده ووثقت يف كلماته ،وكان مكروها من جنوده ،وقد تتابع هذا
النهج يف كثري من أحفاده كبلقني بن حممد ،وابديس ،وبعض أايم حيىي آخر األمراء .
لقد كان حيىي بن عبد العزيز ( آخر األمراء احلماديني ) عابثا الهيا ،ورمبا كان هلوه وجمونه هذا
هو السبب املباشر لسقوط الدولة .
وأيضا من احملتمل أن بروز قوة كربى يف املغرب وهي قوة دولة املوحدين بقيادة حممد بن تومرت
مث خليفته " عبد املؤمن بن علي " حيتمل أن يكون هذا كذلك هو السبب املباشر يف السقوط ..
لكن مع ذلك يبقى أن كل هذا مل يكن إال املرحلة األخرية يف السقوط وهي تلك املرحلة اليت تركبها
عجالت التاريخ لتقفز هبا قفزهتا األخرية ..أما األسباب احلقيقية لسقوط الدولة فتتلخص يف سياسة
الدولة اخلارجية اليت كانت أكرب عار يف اترخيها وأكرب لطمة يف وجهتها إىل نفسها .
فلقد انتهجت هذه الدولة هنجا سياسيا ذاتيا يعتمد على البحث عن النفس حىت ولو سقط
العامل اإلسالمي كله .
وسقطت تكريت ،وسقطت رودس ،وسقطت صقلية وعاصمتها العظيمة " بلرم " ،وسقطت
املهدية عاصمة أبناء عمومتهم يف تونس .
سقط كل هذا فلم تتحرك عواطف زعماء هذه الدولة ،بل إهنم كانوا يعقدون معاهدات صداقة
مع املسيحيني .ظنا منهم أن للصليبيني عهدا أو شرفا أو أمانة ،وانسني قوله تعاىل " ولن ترضى
عنك اليهود وال النصارى حىت تتبع ملتهم " .
82
ولقد أثبت هلم الصليبيون صدق منطق القرآن فهامجوهم ابلرغم من معاهداهتم معهم سنة 419
هـ وهامجوهم يف املهدية سنة 414هـ .
وسقطت دولة احلماديني ،ألن كلمة التاريخ اليت هي جزء من سنة هللا تقول :
إن الدول كاألفراد ،تتآكل ابلتدريج ما مل تبحث عن مشلها املبعثر ،أو كما يقول املثل العريب
الصادق " :إمنا أكلت يوم أكل الثور األبيض " .
وسقطت دولة احلماديني سنة 497هـ على يد قوة إسالمية جديدة .
واملوحدون ........يسقطون
إنك تستطيع أن تنتصر يف معركة ،وأن تقهر عدوك وأن حتكم ابملوت على مدينة بريئة ،وقد
يكون ذلك انتصارا لك وميد التاريخ يف عمرك عدة سنوات !!.
لكن ..أن تصنع حضارة وأن تبين دولة تبقى ..أن متد التاريخ بصناع مبدعني ..أن تفعل
ذلك وأكثر منه ،فهناك طريق آخر ..طريق ليس " الدم " من معامله ،بل هو أبرز صخوره وعوائقه .
هذه حقيقة من حقائق احلضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ !! .
لكن هذه احلقيقة غابت عن بناة دولة املوحدين اليت قامت يف املغرب واألندلس قرابة قرن
ونصف القرن ( 419ـ 110هـ ) .
ومنذ أتسيس هذه الدولة سواء فكراي " أيديلوجيا " على يد زعيمها الروحي " حممد بن تومرت "
أو زعيمها السياسي والعسكري " عبد املؤمن بن علي " وأسلوب الدم هو أبرز األساليب اليت
اعتمدت عليها هذه الدولة يف إرساء دعائمها .
لقد كانت دولة املرابطني هي أبرز الدول اليت قامت على أنقاضها هذه الدولة املوحدية .وقد
83
استعمل املوحدون أقسى الوسائل الدموية يف تصفية دولة املرابطني اليت مل تكن أكثر من دولة مسلمة
،مهما قيل عن حكامها األخريين ،وقد أخذوا الناس جبرائر احلكام وقتلوا مع احملاربني والنساء
والشيوخ ،وحكموا على مدن أبكملها ابملوت ..هكذا فعلوا يف " وهران " فقد قتل املوحدون فيها
كل من وجدوهم مع املرابطني ،وعندما التجأت مجاعات مرابطية على حصن من احلصون قطع
املوحدون عنهم املاء فلجأ املرابطون إىل التسليم بعد ثالثة أايم ،ومع أهنم استسلموا فقد قتلهم
املوحدون كبارا وصغارا ،وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 414هـ !! .
والشيء نفسه أو قريب منه قام به املوحدون عند استيالئهم على مدينة " مراكش" ،فعندما
سقطت املدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل املوحدون من أبناء املدينة من اجلنود واملدنيني
على حد سواء نيفا وسبعني ألف رجل ،ومل يكتفوا هبذا العدد من الرجال ،بل إهنم استباحوا املدينة
ثالثة أايم فاستحر برجاهلا القتل الذريع هذه األايم الثالثة الكئيبة ،مل ينج من أهلها إال من استطاع
االختفاء يف سرب أو غريه ،وقد قيل إنه عند االنتهاء األايم الثالثة وإعالن العفو عن الباقني من
األحياء من أهلها مل يظهر حيا إال سبعون رجال !! وابعهم املوحدون بني أسارى املشركني .
وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة اخلاطئة لدولة املوحدين اليت جنحت يف إنقاذ األندلس يف
موقعة " األرك " سنة 442هجرية من التداعي وقامت على حنو انجح بتوحيد املغرب العريب
واألندلس ..ومع ذلك بقيت لعنة " الدم " وراءها لقد بقي قانون هللا يطالب ابلقصاص العادل ،
قوانني هللا أكرب من أن حييط هبا هذا اإلنسان احملدود التصور والرؤية ،لقد قضى هللا بعقوبة هذه
الدولة من داخلها ،لقد حتول أسلوب " الدم " إىل وسيلة داخلية قتل هبا املوحدون بعضهم بعضا ..
وخضعوا ـ بذلك ـ لقانون هللا الذي ال يتخلف .
ومل مير على انتصار املوحدين اخلالد يف موقعة األرك أكثر من مثانية عشر عاما حىت انتكس
املوحدون نكستهم اليت كانت من أسباب حتطيم الوجود اإلسالمي يف األندلس كلها ،وكان ذلك
سنة 114هجرية حني هزموا شر هزمية يف " العقاب " اليت أبيدت فيها جيو املوحدين ،وسحق
نفوذهم يف األندلس من جرائها ،ومنذ هذا الوقت وصرح املوحدين يتداعى حتت ضرابت " الدم "
وعلى امتداد مخسني سنة ( 114ـ 110هـ ) واملوحدون يقضون على أنفسهم أبيديهم يف معارك
84
أهلية داخلية ..فاملأمون " اخلليفة " املوحدي العاشر ـ والرشيد " احلادي عشر " وحيىي املعتصم "
التاسع " ويوسف املنتصر " اخلامس " وغريهم قد استنفدت قواهم يف قتال داخلي أابد كثريا من
عناصر املوحدين بل إن جهاز الدولة ،والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل اخللفاء يف اآلونة
األخرية ..فتم قتل اخلليفة املوحدي " أيب حممد ،عبد الواحد الرشيد " واخلليفة العادل " ،بل إن
اخلليفة املأمون قتل أشياخ املوحدين الذين خالفوه ،وكانوا أكثر من مائة ،فقضى هبذا األسلوب
الدموي على خالصة الزعامة املوحدية .
ومن خلف مسرية الدم والعنف بقي قانون هللا يف القصاص عربة للذين يعتربون ،فالدم هو طريق
الدم ..أما الذين حياولون صنع اإلنسان أو صنع حضارة فلهم طريق آخر ..طريق آخر كرمي ونظيف
.
85
القسم الرابع :سقوطنا يف العصر احلديث
عندما تتشقق احلضارة تتحول إىل ذرات متناثرة متنافرة ،شأهنا شأن اجلدار املتداعي الذي
أصابه التآكل فتحولت لبناته إىل لبنات منفصلة تسقط عقب بعضها لبنة لبنة .
وأيخذ االهنيار يف العملية احلضارية شكال غريبا .وبدال من االنسجام الذي كان عمة احلضارة
الناهضة تتنافر أجزاء احلضارة الساقطة أو السائرة يف طريق السقوط ،ويكاد ينطبق على عملية
السقوط التارخيي قول هللا ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حىت إذا اداركوا فيها مجيعا قالت أخراهم
ألوالهم ربنا هؤالء أضلوان فآهتم عذااب ضعفا من النار ) .
وعجيب كل العجب أمر هذا العصر ،وليس العجب يف هذا العصر كثرة ما بليت به األمة
اإلسالمية من هزائم أو انتكاسات .وليس العجب كذلك أن األمة أصبحت تطلب دواءها من
عدوها ،وترفض " الصيدلية والطبيب " احلقيقيني ،كذلك ليس العجب يف إصرار عناصر من هذه
األمة ـ بيدهم األمر ـ على أن يتجنبوا الصواب ـ ويلهثوا وراء طريق الفناء والدمار .
نعم :ليس أمر كل هذا بعجيب ..فعملية السقوط التارخيي تشهد مثل هذه االنقالابت يف
املعايري .
تشهد انقالب احلق ـ يف العقول ـ إىل ابطل ،وانقالب املعروف ـ يف السلوك ـ إىل منكر ،
وانقالب السفلة إىل قادة ،وارتفاع السخافة واخنفاض العلم والنور ..نعم :ليس كل هذا بعجيب يف
العملية التارخيية .
86
وإمنا العجيب أن تتنكر أمة لليد الكرمية اليت أنقذهتا ،وأن تبحث جادة عن نفسها ،عن طريق
لعن الذين أنقذوها ملدة مخس قرون ،كأهنا كانت تريد الغرق من قدمي ..وبدال من البحث عن
حلول عملية ،وشكر الذين وقفوا معها يف دوراهنا التارخيي والذين تربطهم هبا صالت عقيدة واتريخ
وحضارة .
بدال من هذا حترف اترخيا لتلعنهم ،وتزيف احلقائق لتحيل إليهم وحدهم أسباب ختلفها ..مع
أهنا مل تستطع بعدهم أن تتقدم شيئا .بل وقعت يف أحابيل أشرار البشر .
كان هذا ابلتحديد هو موقف بعض العرب من الدولة العثمانية ،اليت محت احلضارة اإلسالمية
والعرب مخسة قرون من الزمان !!
يرجع نسب األتراك العثمانيني إىل قبائل الغزو الرتكية يف بالد تركستان ،وعندما اجتاح املغول
تركستان جلأت هذه القبيلة الرتكية إىل جنوب القوقاز حيث تويف زعيمها " سليمان " وتسلم القيادة
بعده ابنه ( أرطغول ) الذي أجنب عثمان بن ( أرطغول ) الذي تنتسب الدولة إليه .
وعلى يد عثمان هذا حتولت اجلماعات العثمانية من أسلوهبا القبلي إىل أسلوب " الدولة " على
حساب أمالك الدولة البيزنطية ،وخلف عثمان ابنه " أورخان " سنة 711هـ واستمر ملوكها
يتتابعون " مراد األول " ابيزيد ابنه ،حممد بن ابيزيد ،مراد الثاين بن ابيزيد ،حممد الثاين " ( وحممد
الثاين هذا هو املعروف يف التاريخ مبحمد الفاتح الذي ويل األمور سنة 049هـ ( 2942م ) والذي
جنح يف االستيالء على القسطنطينية وقتل اإلمرباطور البيزنطي " قسطنطني احلادي عشر " سنة
2941م فقضى بذلك على اإلمرباطورية البيزنطية ) .
يف ذلك الوقت كان املماليك يف البالد العربية يف حالة اجرتار ماضيهم ومل يعد لديهم ما ميكن
أن يعطوه للوجود اإلسالمي ،وكان رأس الرجاء الصاحل قد اكتشف ،وبدأت مصر تفقد جزءا كبريا
من أمهيتها ،كما أن قانصوه الغوري مل يستطع إيقاف الربتغاليني الذين بدأوا يسيطرون على البحر
األبيض املتوسط عند حدود احرتام األمة اإلسالمية .
87
ويف عهد سليم األول سنة 2421م ـ 411هـ " وزحف على مصر وقتل قانصوه الغوري ( حتت
سنابك اخليول ) وشنق طومان ابي ـ على ابب زويلة ـ بعد أن هزمه سليم يف موقعة الريدانية ..
واستوىل على مصر والشام .
ومل يتوان سلطان احلجاز ،فأرسل مفاتيح الكعبة للسلطان سليم ،وحكم احلجاز ابسم
العثمانيني ..ويف عهد خليفة سليم األول ( سليمان القانوين ) دخلت معظم البالد العربية ( اليمن ـ
اجلزائر ـ تونس ،مراكش ـ العراق ـ ليبيا ) يف حوزة العثمانيني .
ومل متض أكثر من عشرين سنة على اجتاه العثمانيني حنو البالد العربية حىت كان املشرق العريب
كله خاضعا هلم ،نعم :املشرق العريب الذي كان آيال للسقوط ومفكك الوصال يف مطلع العصر
احلديث وبداية النهضة األوروبية ،والذي لوال ظهور العثمانيني الذين كانوا خييفون أورواب ويتقدمون
يف أراضيها ،لوال ظهورهم هذا لتحول املشرق العريب إىل أرض بكر ملغامرات الغرب األورويب اخلارج
من أوحال العصور الوسطى كما فعل بعد ذلك أبربعة قرون بعد أن أسقط اخلالفة العثمانية ..أو
بعد أن انتهى مما كان يسميه هتويال ألمره وخوفا منه " :املسألة الشرقية " .
ملدة مخسة قرون ظلت اخلالفة العثماين تؤدي الدور األول والوحيد يف محاية املسلمني والعرب .
والغريب أن هذه القرون املمتدة من القرن اخلامس عشر حىت مشارف القرن العشرين مل حتظ من
املؤرخني ابهتمام كاف ،بل إهنا ووجهت بتفسريات غريبة عنصرية أو جدلية مادية أو شعوبية متطرفة
.ومل حيدثنا هؤالء املتطرفون عن حالة العرب مثال لو مل تكن هناك دولة عثمانية .أو مل يكن من
احملتم أن تقع الدولة اإلسالمية ـ والعربية ـ حتت براثن الغزو الصلييب قبل وقوعها املعروف هبذه القرون ؟
!!
لقد كان األوروبيون قد سيطروا على البحر األبيض املتوسط ،وقد جنحوا يف إخفاء صوت
88
الشرق ،وبدأ النهضة تنطلق من أورواب ..من مصانعها ،ومن تطور وسائل التقنية هبا ،وتقدم
الفكر االجتماعي والسياسي .
ومل يكن بقدرة العروبة النائمة ،واليت مل تستطع إىل اآلن أن تستيقظ اليقظة املرجوة ـ أن تقف يف
وجه هذا الزحف .وعلى الرغم من ختلف العثمانيني يف بعض النواحي ـ كما هو معلوم ـ فقد كانت
قوهتم العسكرية تدوي يف أورواب ،وكانت هذه القوة ابلنسبة لألوربيني هي القوة اليت ال تغلب وال هتزم
،حىت إن أورواب مل جتتمع على مسألة إال على اجتماعها على املسألة الشرقية أو مسألة التهام الرجل
املريض ( اخلالفة العثمانية ) .وابلطبع فإن العثمانيني مل يستطيعوا ـ شأهنم شأن العامل الذي كان قد
بدأ يدخل يف طور عملية انقالب داخلية جديدة ـ متهيدا مليالد جديد ـ مل يستطع العثمانيون ـ بدورهم
ـ أن يواجهوا هذه الثورة العلمية الزاحفة .
وكما هي عادة املتخلف حضاراي ،واملتقدم عنصراي وعشائراي ..ذهب العرب ..وذهب غريهم
.إىل رمي اخلالفة العثمانية ـ حاميتهم ـ أبهنا املسئولة عن ختلفهم الذريع .وعندما ماتت هذه اخلالفة
موهتا احلضاري قبل موهتا التارخيي سرعان ما سقط هؤالء يف وهدة الغزو الصلييب ومل تنفعهم
عنصريتهم القومية ،ومع ذلك ال يزالون يكيلون للخالفة العثمانية الطعنات .
لقد كانت الدولة العثمانية قوية بال شك طيلة القرون اليت حكمت فيها وإيل بداية اضمحالهلا ،
فلما بدأت سنوات االضمحالل حتولت أسباب قوهتا إىل أسباب ضعف .وهذا هو الشأن يف قوانني
احلضارة ..إن عوامل القوة تتحول براتبتها وعدم جتديدها لنفسها إىل عالة على حركة التطور ،ولقد
أصبحت اإلنكشارية ،وأصبحت وسائل احلرب التقليدية عالة على حركة التقدم العثماين ،وانقلبت
العسكرية العثمانية اليت قدمت ما قدمت للحضارة اإلسالمية إىل عبء تنوء به الدولة .ويف ظل
قرون القوة اليت عاشتها الدولة متتعت أبنظمة ممتازة من حكومة مركزية ،إىل جملس وزراء يرأسه الصدر
األعظم ،إىل ديوان سلطاين مكون من الوزراء وكبار املوظفني ،على القضاء الذي يرأسه شيخ
اإلسالم ،على نواب عن اجليش .أما يف الوالايت فكان يتوىل أمر كل والية وايل ( الباشا ) الذي
يعني من قبل اخلليفة ،ويعاونه يف أعمال إدارة الوالية ( الديوان ) .أما القضاء فكان يتواله قاضي
القضاة ( قاضي العسكري ) .وقد قسمت الوالايت إداراي إىل سناجق ،عني على كل منها حاكم
89
عمي ابلسنجق ،مهمته اإلشراف على شئون األقاليم واحلفاظ على األمن ،ومجع الضرائب ،ويف كل
والية كان يوجد حاكم عسكري وحامية عسكرية تساعد الباشا على حفظ النظام واألمن ...
كانت هذه هي خالصة تنظيمات الدولة ،وكانت هذه التنظيمات وسائل قوة ،فلما انقلبت
دفة احلضارة ،وظهر أن حركة التاريخ مل تكن يف صف الدولة العثمانية حتولت هذه التنظيمات من
أدوات قوة إىل أدوات ضعف ..وقد ساعد هذا الضعف على حتقيق أغراضه يف تعجيز الدولة عن
محاية األراضي اخلاضعة هلا عدة عوامل :
وكان أكرب عوامل جناح اليهود والصليبيني يف ضرب اخلالفة العثمانية اإلسالمية ..هو بعثهم ملا
يسمى ابلنزعات العنصرية .القومية ،الطورانية للرتك ،والقومية الكردية ،والرببرية وعشرات القوميات
املعروفة األخرى .
وجروا هؤالء مجيعا إىل ترك اخلالفة العثمانية يف حمنتها ،بل جروا إىل ضرب اخلالفة والتجمع
ضدها حتت قيادات قومية عميلة للجمعيات اليهودية ،وقد جنح بعض أفراد هذه القيادات جناحا
كبريا يف تبوؤ مناصب كربى ،وابلتايل يف ضرب العثمانيني واإلسالم يف الصميم .
90
تعترب قصة سقوط الدولة العثمانية من القصص الغامضة اليت ال زالت حتتاج إىل الدرس العميق
والتمحيص املوضوعي ..وحناول إمجال أبرز عناصر هذه القصة يف هذه السطور .....يف خالل
القرن الثامن عشر كانت أورواب تكتل أحقادها لالنقضاض على اخلالفة العثمانية واقتسام أمالك "
الرجل املريض " تركيا ـ وأطلقت على هذه النزعة اسم " املسألة الشرقية " ابعتبار تركيا العقبة " الشرقية
" الوحيدة اليت تشكل خطرا على الصليبية الدولية .ومحاية حقيقية لبالد اإلسالم املتناثرة .
ومل يكد ينتهي هذا القرن حىت كانت القوى الصليبية الكربى يف ذلك الوقت " بريطانيا وفرنسا
والروسيا " حتاول الوصول إىل صيغة مالئمة لالنقضاض واقتسام الغنائم .ال سيما وقد اكتشفوا
ضعف اجلانب الرتكي يف معركة " سان جواتر " وعلى أبواب " فيينا " عموما ..عندما ظهر ختلف
العسكرية العثمانية .
ويف سنة 2740م كان صيب الثورة الفرنسية اليت وقف اليهود وراء مبادئها " انبليون بوانبرت "
يزحف على مصر ليلقنها مبدافعه وخيوله وحتويله األزهر الشريف إىل إسطبل خليوله ،وتدمريه القرى
واملدن على امتداد الطريق بني القاهرة واإلسكندرية ..يلقنها هبذه الوسائل وبغريها من الوسائل
اهلمجية األوروبية كاخلمور والتحلل اخللقي وإغراء اخلادمات املصرايت ..يلقن مصر والعامل اإلسالمي
أو دروس القومية ،واملدنية واملبادئ الثالثة املاسونية املزيفة اليت رفعتها الثورة الفرنسية !!
ومل يكد ميضي على ذلك احلادث أكثر من ست سنوات حىت كانت بريطانيا حتاول غزو العامل
العريب مستهلة وجودها فيه بغزو مصر سنة 2017فيما يسمى حبملة فريزر " ..وبني هذه السنوات
،وابلتحديد يف سنة 2011جنح عميل فرنسي يف أن يصل إىل احلكم ،ويعلن أكرب حماولة
لالنفصال عن الدولة العثمانية ..وكان هذا العميل الفرنسي " حممد علي ابشا " صدى ابهتا رديئا
للغزو النابليوين ملصر ..وكما أهان انبليون بوانبرت األزهر ـ بدل إيقاظه لو كان قائد ثورة ،كذلك
أهان حممد علي ـ األزهر وعلماءه ـ وعلى الرغم من أن حممد علي كان جمرد " عبد " مملوك ال ينتمي
إىل الدم العريب ،إال أنه رفع راية القومية ابعتبارها السالح الرباق الذي ميكن به ضرب الوحدة
اإلسالمية والشعور ابملصري اإلسالمي الواحد ..مث يتبع ذلك وضع العرب على انفراد ـ كما حدث
فعال ـ ،ولعل بعث " حممد علي " غري العريب للفتنة القومية لضرب اخلالفة العثمانية ـ ملصلحة فرنسا ـ
أكرب دليل على حقيقة جذور هذه اللعبة اليت اخرتعها تطور الفكر األورويب يف عصر النهضة ،لكي
91
يقضي على الشعوب ذات الوحدة األيديولوجية كي تنفرد أورواب ابلتقدم وحدها ،بينما تضيع الدول
واأليديولوجيات األخرى يف زمحة االنشقاقات القومية واجلنسية ،وهذا ما حدث !!
وبعد أن كانت دولة اخلالفة املسكينة تقف على ختوم القرن التاسع عشر حتاول أن تفيق من
سكرة لقائها املفاجئ ملنتجات احلضارة الصناعية ،وحتاول أن تبحث عن حل حضاري مضاد ..
وجدت دولة اخلالفة نفسها متخمة ابملشاكل العنصرية اليت أاثرها عمالء الغرب ..هؤالء العمالء
الذين أهنكوا قواها ،وحاولوا أن يفرضوا عليها الدواء األورويب لعالج أمراضها دون تبصر حبقيقة
أمراضها .وحبقيقة اختالف بنائها املادي واملعنوي ،ودون وعي ابلعالج احلضاري الناجع!
وامتدادا للخروج الشاذ الذي أعلنه اململوك اآلبق " حممد علي " ظهرت حماوالت أخرى للخروج
وقام هبا " بشري الشهايب " يف لبنان ،وحركات يف املغرب العريب ،بل وحركات داخل تركيا نفسها
ترفع القومية الطورانية .
هذا فضال عن حركات اخلروج اليت سبقت حركة " حممد علي " حتت أتثري دوافع انفصالية
خمتلفة ،كحركة علي بك الكبري سنة 2771م يف مصر ،وحركة الشيخ ضاهر العمر سنة 2774م
يف فلسطني ،وفخر الدين املعىن يف لبنان قبل سنة 2114م ....وهكذا ..كانت الدولة العثمانية
تعاين من الداخل أشد املعاانة ،وتواجه من اخلارج بتحدايت صليبية غربية ..ففقدت على الطريق ـ
ابلتايل ـ أمالكها يف أورواب " هنغاراي ،وبلغراد ،وألبانيا ،واليوانن ،ورومانيا وصربية ،وبلغاراي " .
وأكرب الظن أن بعض أتباع " لورانس " يف ذلك الوقت قد فرحوا لسقوط هذه البالد من يد
اإلمرباطورية اإلسالمية الكربى .
فهذا هو اهلدف احلقيقي الذي ساقهم إليه أسيادهم من الصليبيني واملاسون ! ..
92
سقطوا حني ساعدوا على سقوطها :
يدرج بعض الكتاب يف العامل العريب على وصف احلركات املناهضة للدولة العثمانية ( ابحلركات
االستقاللية ) !! ..
وهذا التعبري يوازي بني حركات االستقالل عن االستعمار اإلجنليزي والفرنسي مثال وبني حركات
التمرد على اخلالفة العثمانية .ويف تصور أصحاب هذا التعبري أن الدولة العثمانية ال تعدو أن تكون
استعمارا .متاما كاالستعمار اإلجنليزي ،وابلتايل يعترب االنفصال عنها استقالال ،واالنشقاق عنها
حتررا دون أية تفرقة بينها وبني االستعمار األورويب .
وهؤالء الكتاب الذي يفرضون هذه الروح على دراسة ( اخلالفة اإلسالمية العثمانية ) يتعمدون
الوقوع يف عدة أخطاء !
أوهلا :التجاهل التام لوشيجة ( اإلسالم ) اليت تربط العثمانيني ابلعرب ،وهي وشيجة غري
متوفرة يف االستعمار األوريب .
اثنيها :ويتجاهل هؤالء كذلك أربعة قرون ( أربعة أمخاس ) ويذكرون قران واحدا هو فرتة وقوف
الدولة العثمانية يف موقف الدفاع عن حياهتا ،وتعلقها يف سبيل ذلك أبي خيط ،وختبطها ختبط
املشرف على الغرق !!
اثلثها :وهؤالء يتجاهلون كذلك أن االنفصال عن العثمانيني كان حلساب االستعمار األورويب
،وأنه هو الذي كان يقوده مغذاي يف العرب روح االنفصال ملصلحته !! وأن الوعي الديين والقومي
الصحيح لو كان موجودا ألوجب التمسك ابخلالفة وقيادهتا يف هذه املرحلة على األقل كضربة
لالستعمار األوريب !!
لقد قدمت حركات االنفصال هذه أكرب خدمة لالستعمار األوريب ،ويف الوقت نفسه جرت
على األمة العربية أكرب الويالت .وكان أكرب ويالهتا مأساة فلسطني مث ما تبعها من هزمية سنة
2417م .
93
ومل يقف أمر خطأ هذه احلركات عند هذا احلد ،بل إهنا وقعت يف خطأ ( أيديولوجي ) آخر ،
فرتكيا اإلسالمية مل تكن أبدا حني بدءوا ينشقون عنها يف مرحلة ( استعمار ) فاالستعمار مرحلة
اترخيية معينة حبسب تعريفهم له ،تقف يف قمة اهلرم الرأعمايل أي أهنا مرحلة اقتصادية تعين توفر
رءوس األموال لدرجة تتطلب فتح أسواق جديدة وتوفري أيد عاملة ومواد خام ،فهل كان العثمانيون
يعيشون ( مرحلة االستعمار ) هذه ؟ أم أهنم كانوا حباجة إىل جمرد إصالح اقتصادي بداخل تركيا
نفسها ؟
إن كثريا من املصلحني مل تفتهم هذه احلقيقة وعلى رأسهم " :الزعيم مصطفى كامل ـ يف مصر ،
وعبد العزيز جاويش ،وحممد فريد ،وغريهم ،بل إنين أشك كثريا يف أن أكثر الزعماء اإلسالميني
اإلصالحيني كجمال الدين األفغاين والشيخ حممد عبده ..أشك يف أن هذه احلقيقة فاتتهم .وما
كانت دعوة هؤالء دعوة انفصالية عن اخلالفة ،وإمنا كانت دعوة إىل إصالح أمر اخلالفة الذي كان
مييل إىل التداعي بفعل مؤثرات خارجية كثرية ،ومؤثرات أخرى داخلية .
فمنذ أواخر القرن التاسع عشر أخذت احلركة الصهيونية اليت بدأت أتخذ شكال تنظيميا واضحا
مرتكزا على األيديلوجية " الصهيونية " حماولة الوصول إىل أهدافها يف إقامة دولة يهودية .
ويف سنة 2047م ( والسلطان عبد احلميد رمحه هللا ـ هو احلاكم ) عقد املؤمتر الصهيوين بزعامة
هرتزل يف مدينة " ابل " بسويسرا وهو املؤمتر املعروف ابسم " مؤمتر ابل " ووضعت خطة إنشاء وطن
قومي يهودي يف فلسطني .
وقد حاول الصهاينة بقيادة هرتزل إقناع ( السلطان عبد احلميد ) العثماين عدو القوميني العرب ـ
ابلسماح هلم ابهلجرة إىل فلسطني ..فرفض السلطان رفضا قاطعا ومل يكتف هبذا ،بل وأصدر قانوان
مبنع اهلجرة اليهودية ومبنع إقامة مستعمرات لليهود يف فلسطني .
94
وكان هذا هو ( قشة البعري ) كما يقولون اليت قصمت ظهر الرجل املظلوم ،فقد حرك الصهاينة
..حركات التحرر واحلركات القومية ،واالستعمار اإلجنليزي ،ووجدت اإلمرباطورية العثمانية نفسها
أمام طوفان من املشاكل ال ينتهي ،كان أشدها وأبعدها أثرا حركات التمرد الداخلي ،ومن الغريب
جدا أن يكون مشعلو الثورات ضد اخلالفة اإلسالمية يف داخل البلدان العربية من الطوائف اإلسالمية
أو اإلسالمية املتطرفة اليت حتركها أيديولوجيا وحركيا ـ أيد أجنبية ،لكن مع ذلك ،وبتأثري شعارات
براقة صنعها اليهود ،بتأثري هذا وغريه من الوسائل اندمج يف هذه التجمعات املضادة للخالفة بعض
العناصر اإلسالمية .
ومل أتت سنة 2420م إال وكان السلطان عبد احلميد املظلوم قد سقط ،ووقعت مجيع األٌقطار
العربية كمناطق نفوذ لربيطانيا وفرنسا ..وأيضا صدر ( وعد بلفور ) املشئوم يف 1نوفمرب 2427م ،
وبدأت فلسطني تقع حتت الظروف املمهدة للزوال ،وكانت أوىل اخلطوات يف ذلك وقوعها حتت
االنتداب الربيطاين يف عام 2411م .
وبني احلربني العامليتني " 2420م ـ 2414م " كان التطبيق العملي للمؤامرة العاملية ،وأيضا يف
اجلانب اآلخر احلركات الداخلية املمتصة للطاقة واملبددة هلا والصارفة عن اخلط احلقيقي الستهالكها
..كان ذلك كله يعمل على سقوط اخلالفة
كان رفض السلطان العظيم " عبد احلميد " هتويد فلسطني لطمة مل ينس اليهود أن يردوها
للخالفة ردا سخيا مل يكن بوسع السلطان عبداحلميد أن يتخيله !2
فإىل جانب ما ذكرانه من حتريك للقوى املناوئة للدولة ،ومن غرس لبذور الفكرة العنصرية
احملاربة للراية اإلسالمية املوحدة لربع البشر !!
إىل جانب هذا ..هجم اليهود من الداخل على الدولة العثمانية بواسطة األسلحة نفسها اليت
استعملوها يف كل بلدان العامل اإلسالمي ،وهي أسلحة العنصرية والتحضرية ،واحلرية ،واإلخاء ،
95
واملساواة ..وهلم جرا من الشعارات اليت اصطنعها املاسون ،وروجوا هلا ،واستعملوا بعض املخدوعني
إلذاعتها وتفتيت راية األمة وقبلتها وأهدافها !!
وكانت مجاعة تركيا الفتاة مث االحتاد والرتقي مها األداتني اللتني سخرمها اليهود وطوعومها هلذا
الغرض .وكانت الكاتبة " خالدة أديب " إحدى املروجات على املستوى األديب والفكري لفكرة
القومية الطورانية ،بينما كان زعماء تركيا الفتاة هم املنفذون على املستوايت األخرى لعملية إحداث
االنقالب حنو ختلي تركيا عن هويتها ورسالتها اإلسالمية ..
وقد أقحم هؤالء تركيا يف احلرب العاملية األوىل دون مربر معقول أو سبب يتعلق هبا .فلما هزم
األملان ،أذعنت تركيا للهزمية بنفسها ،وسجل رعميا سقوط الكرامة العثمانية اإلسالمية هبدنة رودس
يف 2420م .
وقد غادر زعماء تركيا الفتاة البالد ،فقصد أحدهم " أنور ابشا " روسيا ،وقصد " طلعت ابشا
" أملانيا ،ولقد شاء هللا أن يقتص منهم قصاصا دنيواي عاجال ،فلم يلبث " أنور ابشا " أن قتل
اغتياال يف تركستان ،وأن يصرع طلعت يف برلني ،ويغتال مجال يف تفليس " أما الكاتبة خالدة أديب
..اليت طال هبا العمر فرتة ..فلم تلبث أن طردت شر طردة ،من تركيا بعد خالف حاد بينها وبني
الزعيم اليهودي الكبري مصطفى كمال أاتتورك !!
ومل تكد احلرب العاملية األوىل توشك على االنتهاء حىت كانت الدول األوروبية قد أمتت املسرحية
اهلزلية ..القتسام أمالك اخلالفة اإلسالمية األخرية ،وإلبراز رجل ينفذ خمططاهتم وأطماعهم حبذافريها
..وعلى الرغم من أن الكتاابت االستشراقية والكتاابت الصليبية واليهودية والشيوعية جتمع على
إخفاء هذه احلقيقة ،فإن األحداث بطبيعة تطورها تثبت هذه احلقيقة ،ويكاد يصرح هبذه احلقيقة
املستشرق " كارل بروكلمان " على الرغم من ذكائه احلاد يف تطويع احلقائق ،وبرتها وإضفاء جو
إنشائي محاسي عليها ،نعم ،يكاد يصرح هبذا يف كتابه الشهري " اتريخ الشعوب اإلسالمية ـ الدولة
اإلسالمية بعد احلرب العاملية األوىل " وهو يقول " :عند ذلك ..هيأت الدول احلليفة لرتكيا ـ الحظ
احلليفة ـ الفرصة الساحنة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركية احلديثة ـ يقصد اليهودي الدومني أاتتورك ـ
" ولنا أن نتساءل :أي دول حليفة لرتكيا تلك اليت حولتها من زعيمة روحية ـ على األقل ـ لربع
96
البشرية إىل دولة هزيلة تعيش بال ماض وبال حاضر وبال مستقبل ؟ وأي دول هذه اليت ساعدت هذا
اليهودي على إلغاء احلروف العربية ،وإزالة األوقاف ،وإغالق املساجد ،وقصر علماء الدين على
ثالمثائة واعظ يف طول البالد وعرضها ،وحتويل مسجد " أايصوفيا " الشهري إىل متحف ،ومسجد
حممد الفاتح إىل مستودع ،وإلغاء الشريعة اإلسالمية ،واستبدال القبعة بلباس الرأس الوطين السابق "
الطربو " وفرض اللباس األوريب ابلقوة ،وحذف اللغة العربية واللغة الفارسية من مناهج التعليم ابملرة
،وبيع الكتب واملخطوطات العربية أبخبس األمثان ،فضال عن التعليم العلماين األورويب ،ليس يف
اجملال التقين كما جيب أن يكون ،بل ـ فقط ـ يف اجملال اإلنساين واألديب والديين ! .
إن إلغاء اخلالفة اإلسالمية وإعالن اجلمهورية الرتكية يف 14أكتوبر سنة 2411م ،وانتخاب
مصطفى كمال أاتتورك من قبل مجعية لقبت نفسها " ابجلمعية الوطنية " ،إن هذا كله مل يكن يعين
سقوط تركيا اإلسالمية يف احلقيقة ،فكم من شعارات براقة زائفة ترفع مث ال تلبث أن تزول .لكن
متكن األاتتوركي " الغازي " من السيطرة على البالد ،مبساعد ( الدول احلليفة لرتكيا ) كما يقول
بروكلمان وأمثاله ،مث االجراءات اخلطرية اليت ذكرانها واليت اختذها أاتتورك بعد ذلك .
هذه يف احلقيقة كانت اإللغاء احلقيقي لرتكيا اإلسالمية وللخالفة العثمانية .
ومل يكن اخلليفة العثماين حممد السادس الذي عاصر هذا االنقالب ،كما مل يكن اخلليفة الذي
وضعه االنقالبيون مكانه عبد اجمليد بن عبد العزيز " مل يكن هذا وذاك أكثر من حتفتني اترخييتني ..
حتمالن معامل صورة هزيلة مهتزة ،حلقيقة كانت ـ يوما ما ـ عظيمة قوية ترعب أوراب كلها .
ومع ذلك فلقد أدرك مصطفى كمال الدومني اليهودي أن البقاء الرمزي الصوري هلذه احلقيقة
القوية العظيمة يشكل يف حد ذاته خطرا على خمططاته الصهيونية ..ولذا فلم يكد ميلك السلطة يف
يده ويرتبع بتؤدة على عر السيطرة ملدة مخسة أشهر ،حىت أعلن إلغاء اخلالفة اإلسالمية ،مث طرد
آخر خليفة للمسلمني من البالد يف اليوم الثالث من مارس سنة 2419م .
ولعل العقالء وحدهم هم الذين يسألون :ماذا استفادت تركيا من هذه اخلطوة ؟ وماذا كان
ميكن أن تكسب لو أهنا مضت يف طريق اإلصالح مبقية على مركزها كزعيمة روحية إذا كانت هناك
97
نية إصالح حقيقية ؟ .
ولعل هذا وذاك يفسران للعقالء وحدهم أن هناك أمرا كان مبيتا ،وأن العامل اإلسالمي والعامل
العريب كاان من األهداف الرئيسية لضرب اخلالفة اإلسالمية ،ومل تكن أبدا تركيا هي املقصودة وحدها
.
وفعال تداعت تركيا وسقطت ،فلم تقم هلا قائمة حىت اليوم وتداعى بعدها ومعها العامل
اإلسالمي بلدا بلدا ،وفكت أواصر احلب والوحدة ..وانل العرب حظهم من كل ما أصاب العامل
اإلسالمي ..ولعل األقدار قد لقنتهم أقسى الدروس ،حني زرعت يف قلبهم شوكة الصهيونية .
تؤرق مضجعهم ،وتنتقم للخالفة اإلسالمية وتطلعهم جبالء على حقيقة كمال أاتتورك ،وحقيقة
خمططاته ..وأيضا على حقيقة الذين ساروا على هدى أاتتورك يف فلسطني العربية وفق انقالابت
يقف وراءها اليهود مسترتين يف كلمات الشيوعية أو احلرية أو " القومية " ..ليزرعوا يف القلب العريب
أشواكا أخرى !!.
98
سقوط القومية العربية
بعد سقوط آل عثمان على يد مجعية االحتاد والرتقي وسادهتا اليهود ـ يهود الدومنا ـ تفككت
أوصال العامل اإلسالمي ..وجنح ساطع احلصري ـ وهو رجل أعجمي ال يستطيع الكالم ابلفصحى
ويضمر عداء شديد لإلسالم بتأثري تربيته الصهيونية ـ جنح هذا الرجل يف نشر فكرة القومية مبفهومها
العلماين اإلحلادي املعادي لإلسالم بني العرب .
وكانت إجنلرتا ـ سيدة العامل آنذاك ـ قد ساعدت على إنشاء ما يسمى جبامعة الدول العربية ،
وهي مؤسسة مل ير منها العرب خريا ،ومل تسهم يف حل أية مشكلة ،أو يف حتقيق أي تقدم للعرب
يف حاضرهم األسيف ،وحسبها أهنا فصلت العرب ـ رعميا ـ عن العامل اإلسالمي وأشعرهتم بكيان
مستقل ومهي .
ويف ظالل املد العريب ـ على يد حفنة من الثوريني واملقامرين الشبان ـ خسر العرب جزءا كبريا من
أرضهم ،وساحت يف بالدهم دويلة يهودية ،ودرعها الغرب أبحدث األسلحة ..واملعارف ..
واخلبائث األخالقية .
وأما هذه الدويلة اهلزيلة اليت ال يزيد سكاهنا عن 14 / 2من سكان العرب ـ سقط القوميون
العرب أبشع سقوط ..
وكان املقدمة الطبيعية لنجاح هذه الدويلة أهنا ساعدت هؤالء القوميني الثوريني وحدهم على
الصعود إىل احلكم ،ألن وجودهم هو وحده الكفيل بتحقيق ما تريد إسرائيل من ضماانت بقائها اليت
أمهها :
- 2إبعاد العرب عن عقيدة جامعة روحية تقاوم اليهودية اليت يتسلحون هبا .
- 1ضمان إبقاء األمة العربية يف حالة استرياد دائم ،ألن الذين ال عقيدة هلم ال يستطيعون
إبداع شيء ذاي .
- 1ضمان تفكك العرب ،تفككا دائما ،ألن هؤالء القوميني والثوريني جمرد شبان مغامرين ،
ال رصيد هلم من عقيدة أو أصلة أو وعي اترخيي ،ومن السهل تلقينهم بعض شعارات ..أو (
شعارات مضادة ) يصرخون هبا ،وتضيع معها عقوهلم وعقول اجلماهري اليت يقودوهنا .
99
وقد قامت هذه القوى احلاكمة الثورية ابلواجب حنو العرب وإسرائيل على النحو املرسوم هلا :
- 2فصادرت حرايت املواطنني وإرادهتم ،حبيث مل يعد للشعوب العربية من األمر شيء
وأصبحت هذه الشعوب نسبة عددية مهيأة تقوم ابملوافقة للحكام على كل شيء بنسبة (
) %444.44وهي تقوم ابلتصفيق احلاد لكل خطيب ،وتؤيد كل القرارات .
- 1أعلنت هذه احلكومات احلرب على اإلسالم وقد جنحت هذه القوى يف إبعاد اإلسالم عن
جمال التأثري متاما ..على األقل يف مستوى توجيه األمور وقيادهتا .
ففي عصر الطاغية مجال عبد الناصر ،أمكن من جعل الصالة شبهة ،وقراءة القرآن من طالب
جامعي أمرا يضعه يف القائمة السوداء ،وأمكن نشر الرعب ،وفرض الشيوعية ،حىت قضى هللا عليه
،وخلص البالد من شروره ،بعد أن خلف تركة أخالقية ومادية وهزائم حتتاج ألجيال طويلة كي تزال
آاثرها ..وهيهات !!
وملا جاء خلفه أمكن حتوير األسلوب بعض الشيء ،ووضع على رأس العمل اإلسالمي املتصوفة
والدجالني وحدهم ،كما ظل اخلط الراعي للتحلل األخالقي يف طريقه ،وعومل اإلسالميون وحدهم
بقوانني استثنائية وعسكرية .
ـ أما حزب البعث جبناحيه السوري والعراقي فعداؤه لإلسالم وتنكيله أبهله وفقا لتوجيهات
الصلييب احلاقد ميشيل عفلق ـ أمر مقرر كجزء من سياسة احلزب وأساسياته الفكرية واحلركية .
- 1جنحت أساليب هذه النظم يف الوصول إىل النتيجة الطبيعية ،ويف إقرار قواعد إسرائيل
عسكراي وسياسيا ،كدولة ذات سيادة تفصل العامل العريب عن بعضه البعض ،وتقف ابملرصاد ألية
ابدرة هنضة حقيقية سواء يف جمال البعث اإلسالمي والوحدة العربية اإلسالمية .
وأصبحت إسرائيل بفضل هذه النظم ،اليت قتلت شعوهبا وشلت قواها ـ كابوسا ثقيال يؤمن أكثر
أبناء هذا اجليل ـ ابستثناء املؤمنني منهم ـ أبن زواله أمر شبه مستحيل .
وكان هذا هو حصاد التخطيط العاملي الصلييب الصهيوين الشيوعي الثوري ..القومي املشرتك !!
وألهنم بال عقيدة ..
100
وألن القومية شعار ال يصلح لصناعة حضارة وال إلجياد وحدة جامعة شاملة .
وألن التبعية الفكرية أوسع أبواب التبعية العامة اليت تفرض اهلزمية والذل .
هلذا ولغريه أصبح العرب أشبه بدول عظمى ،الوحدة بني الدول العربية واألخرى أصعب من
الوحدة بني الدولة العربية وإسرائيل ،أو الوحدة بني بعضها وأمريكا ..أو روسيا ..كما هو قائم فعال
.
لقد أصبح معظم العامل العريب دوال متقطعة األوصال ،أسرية نظم ميينية وأخرى يسارية وليس
لإلسالم نصيب فيها سياسيا أو إداراي .وقد متزقت وسائل التوحيد كلها ،فال تكامل اقتصادي ،وال
تكامل اجتماعي ،وال تنسيق سياسي ،أو إعالمي ،وهلم جرا .
وهم كأسالفهم ساللة " أيب جهل " يتقاتلون ألتفه األسباب ،ويقطعون العالقات بال مربر
كاف ،ويسريون يف طريقهم دون مشورة وتكامل ،بل كل حسب مصاحله وتوجيهات سادته ..وقد
أصبح العريب ال أيمن على نفسه يف أي بلد عريب آخر ،بل أصبحت بالد الغرب هي املثوبة واألمن
،كما أن امللجأ واألمن ألمواهلم هي بنوك اليهود يف أمريكا وأورواب ،واملنتجع لتعليم أبنائهم
والسرتاحاهتم وجوالهتم هي مرفأ األمن واحلرية ..أوراب العظيمة ..وتقوم بينهم احلواجز اجلمركية
وإجراءات الزايرة واإلقامة بدرجة جتعل زايرة الدول األوربية أسهل من زايرة عريب دولة عربية أخرى .
وقد بلغ االحنطاط ابلعرب إىل أن صنفوا أنفسهم طبقيا على جنسيات خمتلفة تفصل بعضها
بعضا ،فبعض دول اخلليج تصنف الشعوب العربية على هذا النحو :
- 2خليجي درجة أوىل ( وله سائر احلقوق السياسية واملادية ) .
- 1خليجي درجة اثنية ( وله احلقوق املادية فقط )
- 1إيراين ( وله حق احلصول على اجلنسية بعد فرتة وجيزة ) .
- 9عراقي
- 4سوري
- 1فلسطيين وأردين
- 7مصري ..وهكذا !!
101
..وهكذا ..تتواىل التصنيفات اليت تتبعها حقوق مادية غري متكافئة ،ابلرغم من تساوي املؤهل
واخلربة ،كما يتبعها احرتام بقدر الدرجة الطبقية احملددة .
لقد احنطت القومية العربية ابلعرب إىل أسفل سافلني ،ومن الغريب أهنم على الرغم من درس
لبنان ،ومن درس فلسطني ،ومن الدروس املتكررة اليت يلقنها هلم االستعمار وال يتعلمون ،فإهنم إذا
ختاصموا ال يلجئون إىل العالج إال إباثرة النعرة اإلقليمية الوطنية الضيقة ( ..مصر للمصريني ـ اهلالل
اخلصيب ـ وحدة املغرب العريب ) ..فبدال من أن يبحثوا عن دين يغري نفوسهم وأخالقهم ،وبدال من
البحث عن مركز آخر للوحدة يف عصر " الوحدات الكربى " ـ ( األمريكتان ـ السوق األوربية املشرتكة
ـ دول حلف وارسو ـ الكتلة الشرقية ـ الكتلة الغربية ) ..بدال من هذا ينزوي كل منهم كأطفال ،
مكتفيا بلعبة الوطنية ..ممزقا مشل العرب متزيقا جديدا .
وعلى أية حال ..فكما سقطت النزعة الوطنية ،وأقام االستعمار النزعة القومية بديال للوحدة
اإلسالمية اليت دعا إليها السلطان عبداحلميد .وكاد يقضي هبا على خمططات االستعمار وينقذ العامل
اإلسالمي كله ،حىت جاء " مجاعة االحتاد والرتقي " وأعواهنم من املاسون يف العامل العريب ..فقضوا
على اخلليفة اجملاهد العظيم .
أجل ..كما سقطت النزعة الوطنية بعد فرتة اترخيية حالكة ـ نسجل هنا .سقوط القومية العربية
) بعد فرتة اترخيية ثورية ال تقل حلكة وظالما عن الفرتة االستعمارية !!
102